بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 يونيو 2018

يوميات اليوم الشاحب



 كغراءٍ وطحين، هكذا اللغة في وعي لحظة الكتابة هذه. بدأت قصتي مع الكتابة مبكرا ولم تكن الحكاية جميلة في البداية، ساعات متتالية، وساعات، وساعات من نحت الجمل بالكلمات، والكلمات بالحروف لأصل في النهاية إلى ثلاث ورقات كنت أظن أنها ستحتوي رواية. ساعد خطي السيء للغاية حياتي الأولى في الكتابة على التعاسة؛ لذلك لجأت للشعر، فهو من بين كل أنواع الكتابة لا يحتاج إلى سرعة، وكذلك فإن طبيعة الشعر أن يعيد صياغة نفسه بسبب الوزن على الأقل، وإن لم يكن الوزن فبسبب التعديلات الكثيرة التي تغلب على لحظات كتابة الشعر. اليوم يوم كتابة، ولا أعرف كيف سيكون، فمن جهة سئمت من إعادة تفسير الماضي، ماضي حياتي الشخصية، وقد لا يفهم كثيرون الأسباب التي تدفعني إلى فعل ما أفعله، البعض يختار التفسير المرضي كحل نهائي ومنها يحاول علاج مرض ما في الكلمات، والمرض لا يصيب الكلمات، يصيب الأسلوب، ويصيب منهج التفكير والطرح، ولكن الكلمات بريئة من الأمراض، إنها أدوات الفكرة الرئيسية، وكذلك نواقل الشعور الأولى، وهي مسببات للفرح والتعاسة، لكن أن تكون الكلمات نفسها مريضة! أشعر بالحزن عندما يجزم أحدهم بهذه كحقيقة! ومن جهة ثانية البعض الآخر يتولى [الحساب] والعقاب لي باستخدام الكتابة، أو غير ذلك، وهناك غالبا يتفاجأ بردة فعل هائجة دون أن يفهم، ما هو السر الذي يكمن وراء كل هذه الحكاية.
أعلم أسراري جيدا؛ لذلك لست مهتما كثيرا بالحياة الاجتماعية كانت أول القمصان التي أحرقتها استجابة لنداء غامض في الذات أصبح الآن واضحا مثل الكلمات التي أؤمن بها. في بداية الدرب، لم أكن مدونا. كنت أحد هؤلاء الذين يحبون خياطة الكلمات الجميلة لستر عورات الواقع الرديء. لم تكن القضايا الكبرى في منظوري قضايا تُخْدَم وإنما قضايا تُفهم. القضايا الكبرى مثل الحرية، أو الكتابة، أو حقوق الإنسان، وأخرى مثل الوطن القوي، أو المجتمع السوي هي أحلام كبرى تُستحق أن تُعاش؛ ولكن هل كل الأحلام الكبرى تستحق حياتها؟! هنا يأتي السؤال بعلامتيه، واللحظة الراهنة هي آخر ما يهتم به الإنسان، لذلك، ولأنني أعلم نداءاتي الغامضة جيدا، عرفتُ أخيرا المصير متأخرا، في الرابعة والثلاثين تبدأ الحياة. والكتابة ليست الآن محاولة لستر عورات أي شيء، وأي شخص، وأي فكرة، تبقى الكلمات هي الوسيط الصافي لهذه الأفكار والنداءات الخفية التي تحفل بها النفس البشرية، هذا سؤال يستحق الحياة من أجله لا الوطنية العمياء التي تقود للكوارث وكذلك لخسارة الذات وإنهائها.
ماذا سأكتب بعد؟ منذ عشرين سنة وأنا أقول لنفسي، الكتابة تبدأ اليوم وهذا خطأ كبير! الكتابة تبدأ الآن، تبدأ من اللحظة التي تقرر فيها التوقف عن الوقت الميت لتتحول إلى هذه الحالة الوجودية التي هي وراء الوقت وأقوى منه نظريا. ملاحقة الخلود أحد أوهام الكاتب السخيفة الكبرى، فما هو الخلود؟ الخلود هو أن تبقى مختلفا حولك للأبد ويصنع الخلود حقا الخصوم لا الحلفاء، فالحليف موضوع حياة أما الخصم فهو موضوع موت، لذلك لا أفهم عندما يخرج البعض الكتابة العربية من هذا السياق التاريخي القديم، لكي يعيدها إلى المهمة اليومية، أو المهمات الزمنية البسيطة مثل هذا الذي يكتب فقط لأنه يدرس تخصصا ما، ويجب عليه أن يكتب. وجوب الكتابة الوظيفية يفيد الكلمات، فأنت ربما كطالب في تخصص ما تستفيد من إلزامك بالكتابة هذا إن لم تكن مهووسا بها، ومهووسا بالكلمات،  وبالتالي فإن الحياة لا تعني لك شيئا كبيرا، لكن إن لم تكن من هؤلاء، يبقى أنك تمارس كتابة ما لن تعرف كيف ستؤثر على النداءات الغامضة التي بك. الكلمات لا نهاية لها، مثل الأفكار، مثل حياة البشر في هذا الكوكب منذ أن بدأت اللغة في لعب دورها الغامض بين الشعوب والحضارات بعدما أدت [هذه الأسماء كلها] عملها مع الفرد ونفسه الغامضة.
دون حبر، هذه مدونتي الآن. ستحمل حياتي في الغربة، وسأودع فيه أثمن الأفكار التي كنت أتمنى لو أستطيع نشرها في كتب ورقية، فات ذلك الزمان الذي كنت فيه كاتبا في بلادي، وأقابل فيها قرائي سنويا في معرض الكتاب، هذه أكبر الخسارات التي حملتها معي إلى أرض الحرية، والحرية للأسف حتى مع معانيها العظيمة ليست أكثر من قانون وضعه البشر، ويحميه البشر، ويطبقه البشر؛ فبهذا المنطق الشاحب، أحمل كلماتي هنا دون حبرها، [لا بدونه] .. وإلى أن يحدث ذلك، لدي الكثير من المختبرات الكتابية، وكذلك التدوينات العدائية التي سوف أرسلها نوازل على أشخاص محددين، فاللعبة التي عشت فيها لا أستطيع الخروج منها، وحتى عندما أحاول الخروج، يقفز لك هؤلاء الذين يذكروك بالمعارك الكتابية، ومعارك الرأي العام. مضحك كل هذا المشهد الشاحب، أمارسه وراء لوحة مفاتيح متسلحا بأدواتي، يمارسه الآخر هناك متسلحا بمنظومة كاملة من الأفكار الاجتماعية، والآن أين المجتمع وورقته من ألعاب الخصوم! هنا يظهر لنا الفارق الهائل بين كاتب الأفكار،  وكاتب الأحداث، وكاتب الشخوص، كاتب الأفكار لا يمكنه أن يهرب من الاثنين اللاحقين، وكاتب الشخوص إن لم يلتزم بطرح منطقي، سيتحول لموضوع إلى جلد موجع. ولكن هل هناك أي جلد صار يجدي؟
كنت أكتب بحس شاعر، وعشت أجمل سنوات حياتي وأنا أكتب بحس الشاعر، أفكر يوميا بالكلمات حتى ربما صرت أجده صعبا للغاية أن أفكر بدون صوت الأزرار الذي يصنع الكتابة أمامي. الآن، لست أعرف بالضبط مقدار [المسخية] التي تحولت لها، لكن كحقيقة بديهية أولى، لم أعد صاحب رحمة، أو تقدير، أو حتى تفاهم أو تآلف اجتماعي بسيط. جئت من حياة تختلف عن حياة الكثيرين الذين عاشوا خوفا من الخطأ الأول، وجميعنا نعرف أن عمان ليست بلاد الفرصة الثانية، لذلك، أتساءل كيف سيكون وقع الكلمات والكتابة، وهي الأقوى والأخطر من كل الهراء المرئي الذي يفيد ويثقف ويعلّم المرسل والمستقبل على حد السواء. الأمر أكثر شراسة بكثير الآن، وأصبح من ضمن الأيام العادية وجود سجين صديق، أو وجود كاتب الكتروني آخر في ورطة، أو أن يموت حسن البشام في السجن.
يموتون ويعيشون وهم يكتبون، أجمل حياة وأكثر موت صعب على النفس، مثل هذه العودة الشاحبة للكلمات، بعد أن أصبح كل شيء مرهقا ومتبعا، وبعد فصول طويلة ختمت بأقبح بشكل ممكن من أشكال الانفصال والتبرؤ، يموتون ويعيشون وهم يكتبون ومعهم في نفس الحياة كائنات عدوة لحريتها، عدوة لنفسها، عدوة لحقيقتها ورافضة لنفسها، مثل أي كاتب يكتب باسم مستعار في عمان، يقول أنه ينتصر لذاته لكنه يكفر أول ما يكفر بكلماته، كل من يخون الكلمات لا أمان له، وكل من يخون الكتابة سيبقى بلا أصدقاء، هذه الصفقة المرة للحقيقة والكلمات، ولا ألوم أي شخص يترجل عن حصانه ليمشي مطأطئا رأسها للأبد لأي شمس حارقة، أو أي عاصفة رملية، هؤلاء أيضا يعيشون الهزيمة، بعضهم نبلاء ويعيش هزيمته لوحده، وبعضهم لؤماء ويلزمون غيرهم بهزائمهم.
يموتون ويعيشون وهم يكتبون. لا أعرف كيف سأجمع كل هذه الأفكار التي صارت جزئا من كياني، كانت مشاعر ذات يوم لكنها عندما جفت كما تجف الشموع في قوالبها، أصبحت أفكارا واضحة المعالم، لا رحمة فيها، لا قلب، لا وجدان، لا مشاعر، لا نفس، لا روح، لا شيء سوى الكائن الذي يحاول التنصل من نفسه لأقصى حد وفي أسرع وقت ممكن. عامٌ مضى، بكل ما فيه ولم تفعل الكلمات فيه شيئا، كانت لعبة أحداث وشخوص، والآن، عندما جاءت الكلمات، أتفهم لماذا تشكل رعبا للكاتب وللقارئ، لا شيء بدأ الآن، لا الحرية والحياة، بدأت الكتابة، وكما قال سعيد الهاشمي ذات يوم [لا تجعلوهم ينتصروا مرتين] ..

وكل إنسان في العالم، يحق له الدفاع عن ذاكرته، وحقيقته، هذا هو الشيء الذي لن يفهمه أي إنسان ينظر للحرية كشي ترفي جانبي، أو ينظر للكتابة كشيء من أشياء الحياة. الحياة مجرد شيء من أشياء الكتابة، والكاتب الحقيقي هو فقط من يفهم ذلك، ويؤمن به، ويلتزم به، ويقبل خساراته، فأهلا، أهلا، أهلا، أهلا أيتها الكلمات.

ماريو الرواحي