بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 مارس 2023

المرضى النفسيون: علاج المنطقة الرمادية!

 

 

 

 

لا يختلفُ حال الذين يعانون من الأمراض العقلية في عُمان، عن حالِهم في باقي الدولِ العربية، أو باقي دول العالم بشكلٍ عام. يتفقُ الجميعُ بشكلٍ ما أو بآخر أنَّه إنسان، يحق له العلاج، وأن يُعاملَ وفقَ آخر ما توصل إليه العلمُ التجريبي من حلول، ويتفقُ المجتمع أنَّه من حقِّه أن يُحمى من نفسِه، ومن غيرِه، وتتفاوت الأنظمةُ الطبية في العالم في المُتاحِ من خدماتٍ علاجية، أو دعم اجتماعي.

 

التعامل مع المرض النفسي، أو العقلي، قرارٌ فلسفيٌّ قبل أن يكون إجراءً. يجب أن نحدد هدفنا من هذا العلاج، فهذه الكلمة المُلتبسة لها رسمٌ واحد، ولها ألفُ معنى. هل نُعالجُ المرضى عقليا، ونفسيا لأجلهم؟ لتهيئة ظروف حياة مُنتجة، تسمح له بالنجاح، وبالدراسة، والعمل، والانخراط مع الناس؟ أم نقوم فعليا [بتحييدهم]؟ ما يُقال في عوالم المثالية الرومانسية شيء، وما يحدث في الواقع شيء آخر، والطريق طويلٌ للغايةِ في شأن حقوق المصابين بالأمراض العقلية.

إلا من رحمَ ربِّي، أن تكون مصابا بمرض عقلي في عُمان فأنت تكادُ أن تحصل على حكمِ إعدامٍ اجتماعي يؤطر حياتك ربما للأبد بهذه الوصمة. مريض! مجنون! خبلة! أهبل! وغيرها من الصفات التي جعلت آلة بناء الأساطير الاجتماعية تفضِّل ابتكار حكايات تعوِّض هذا. فالذي لديه ذهان أو فصام، ولديه خيالات، ويتكلم فجأة من عُمق اللاوعي بجملة من اللغة الملبارية تسربت من ذاكرته العميقة المطلقة إلى انتباه الوعي من الأفضل أن يقال عنه: "لبسته جنيَّة" نعم! في هذا القرن، وفي هذه الحياة المُعاصرة، وفي عصر الذكاء الصناعي، التصالح مع فكرة أن فُلانا محسود، وفلان أصيب بمس من الجن وغيرها من الخرافات أفضل بكثير من حقائق المنطق.

طيف الأمراض النفسي واسعٌ وشاسع. بعض الأمراض لا شفاء منها، وأقصى آمال عائلة المصاب بها هو التأهيل، والأمل الدائم باقتراب حالةِ المصاب لأقربِ النماذج النمطيَّة للحياة، كالمصابين بالتخلف العقلي، أو هؤلاء الذين حدثت لهم حالاتهم العقلية المرضية لأسباب عضوية، أو حوادث، أو جلطات، أو غيرها من الأسباب الطارئة. في عُمان لديك عوائل كاملة مصابة بالمرض نفسه تكمل حياتَها بدون علاج، ولماذا؟ هذه الوصمة الاجتماعية، وهذا عملٌ طويلٌ وشاقٌّ يحتاج إلى ضخٍّ دائم للمعلومات، والمجادلة، وهي مُرافعةٌ يُضطرُ من يعيشُ تحت ابتلائها إلى شقِّ طريقِه في الصخر، وكاتب هذا المقال أحد هؤلاء الذين يعانون من اختلال عقلي أثَّر على حياته الاجتماعية، ويؤذيه في حياته الداخلية والوجدانية. لا عجب أن يصاب القارئ بصاعقة بعد قليل ويقول: "مستحيل! شخص يكتب بهذه الصورة المرتبة مريض عقليا! مستحيل"

 

لأن الانطباع غير الدقيق عن الأمراض النفسية جعلنا رهن صور الرسوم المتحركة عن عالم الجنون، فهذا أسهل على الجميع من العمل الشاق، لماذا تجتهد؟ وتمايز؟ وتفرق بين طيف أمراض القلق، والرهاب، وأمراض الغدد، وثنائية القطب، واضرابات الشخصية، واضطرابات الاكتئاب، فضلا عن تداخل كل هذا مع التوحد، وغيرها من الحالات الوراثية والمكتسبة؟ كلمة [مجنون] تكفي أليس كذلك؟ لأنَّ أنانية الحياة تدفعنا أحيانا لذلك. لا يعلمُ هذه الحُرقة إلا من عاشَها من العوائلِ التي أصيبت بالصدمةِ الكبيرة. شابٌ في العشرين من العُمر، يدرسُ في بعثة دراسيةٍ، يصاب بأول نوبةٍ مرضية، وينتهي به الحال إلى كارثة. تُقطع البعثة، ويعود إلى كنف عائلة مصابة بالذعر، وبدلا من دخولِه حالة فهم وضعِه، والتعلم الذاتي عن كيفية الحياة والتعايش، يجدُ نفسه في عدة تحديات في وقت واحد، وما هي النهاية الاعتيادية؟ نهايةُ مستقبل إنسان لأنَّ قانون [السلامة أولا] وقانون [نمشي على المضمون] هو السائد، من الأفضل أن يعيش في شبه سجنٍ في المنزل، على أن يكمل مسيرة تعليمية تتوافق مع موهبة نادرة في مجال البرمجة أو التصميم! هذا ما يحدث في عمان، وفي غير عُمان وباقي الدول العربية ومئات العقول تخسر مستقبلا مُثمرا ومنتجا فقط نتيجة هذا الذعر، الذعر من كلام الناس، والذعر من وصمة المرض النفسي، أن تكون ممسوسا من الجن والعفاريت خيرا لك من الاعتراف أنك تعاني من الفصام، أو الاضطراب ثنائي القطب، أو غيرها من الأمراض.

إن أخطرَ فكرة تواجه حقوق المصابين بالأمراض العقلية هي نزع أهليتهم عنهم. في حالات قليلة جدا يمكن أن نعتبر المصاب بمرض عقلي منزوع الأهلية، وهذا لا يتم بهوى المذعورين من عالم الجنون، والجاهلين بماهيته، ولا يتم بمزاج المنحازين، والمثاليين، والمصابين بالتعالي على الآخرين، هذا يتم بحكم قضائي وبلجنة طبية كاملة، لا عجبَ أن يخاف موظفٌ على نفسِه من أن يعترف بإصابته بمرض عقلي، ودع عنك المرض العقلي، حتى ذلك العارض النفسي الطارئ الذي قد يصيب إنسانٍ بعد وفاة والدته، الاكتئاب، والقلق، كلها تقع ضمن هذا الطيف الذي يخاف الناس من الاعتراف به. يعيش الإنسان تلك المنطقة الرمادية التي يحتاج لها للتعافي في وسط ساحة المعركة، وسط الناس، وشؤونهم، وكل هذه التجاذبات في الرأي والرأي الآخر، والوهم، والوهم المضاد!

 

العلاجُ للمرض النفسي المتداولُ في عُمان خياراتُه معدودة. العلاج الدوائي [الطبي] هذا هو المُتاح، وحتى إن أحسن الله إليك وكتبَ لك الوصول للطبيب المؤهل، الواعي، الفاهم، تبقى مقاربة الحياة ونمط حياة المريض شيئاً بيد عائلته فقط، أو بيد معيله أو ولي أمره. وهُناك منطقة رمادية غائبة، يقوم الطبيب بعمله، ومن ثمَّ أين الأخصائي النفسي الذي يتولى الإشراف طويل المدى على حالة كل مريض نفسي على حدة؟ هُنا الوعي الغائب بأهمية تخصص علم النفس، من جانبه الإكلينيكي، والتعقيدات الكثيرة المتعلقة بفهم وظيفة هذا الأخصائي، ودوره، ومساهمته في تأهيل [الحالة] لتكون ضمن سياق العدالة الاجتماعية، أن يكون له الحق مثل غيره في تحقيق ذاته، والسعي للنجاح، والعمل، والتعايش مع التحديات التي يعيشها بسبب ظروف مرضه النفسي، وفي الوقت نفسه التدخل في الوقت المناسب إن تدهورت حالته. الوضع المثالي يقول إن الطبيب بعد أن يقوم بواجب التشخيص، وتحديد الأدوية فإن الذي يجب أن يتولى المتابعة، والتوثيق، وتأهيل وتثقيف كل حالة على حدة، وكل مريض على حدة هو المُعالج النفسي [Clinical psychologist]، وهناك خلطٌ كبيرٌ في عُمان في شأن هذه القضية، فالمعالج النفسي هو خريج تخصص إنساني، ليس من الطاقم الطبي المُعالِج بالأدوية، وإنما هو مُعالج بالتوعية الإدراكية، وبالقياسات السيكوميترية ومئات الأدوات التي تمكّن عائلةً مذعورة من التعايش مع طالبٍ جامعي تم تشخيصه بمرض عقلي جسيم، مرض قد يمنعه من الحياة لأسابيع، كل عدة سنين، ولكنه أيضا لا يعيقه أن يدرس وأن يعمل، المُتابعة في حالة المرضى النفسيين أهم من التشخيص، كل ما يحدث بعد التشخيص هو عمل طويل المدى، وجزءٌ منه يحدث في تلك المنطقة الرمادية الغائبة في عُمان.

 

وجود المصحات النفسية في عُمان شائعٌ فقط في حالةِ علاج الإدمان. وهؤلاء من مساكين الله في الأرض، الوصمة التي ضدهم ليست فقط وصمة المرض، فوق ذلك هُناك وصمة الغل الاجتماعي، والتشفي، وكلمة [يستاهل، وحده راح يدمن!] هذه حقيقة مريرة من حقائق التعاطف في عُمان، ولست بصدد تفنيد أسباب ذلك، لهذا مقال آخر لهذا المقام. يتفقُ الناسُ فقط في حالة المدمنين على ضرورة المنطقة الرمادية، ومع أن بين المدمنين كثر يعانون من حالات نفسية، وأمراض عقلية، وربما خلل وظيفي قبل الإدمان وبعده، يتفق الناس بشكل مفاجئ على ضرورة وجود [المنطقة الرمادية]، المصحة التي يقضي فيها المريض وقتا تأهيليا قبل انخراطِه في المجتمع.

 

عندما يخذلك عقلك سيدهشك كم يفكر الناس في أنفسهم فقط. العقل! مناط التكليف! وأيضا المدافع الوحيد عن حقوقك. كم هي مؤسفة الحياة عندما ترى هؤلاء الذين يفقدون سيطرتهم على عقولهم مؤقتا، أو بشكل دائم وقد أصبحوا رهنَ تصورات نمطية لبشر تعدُّهم من العقلاء، فإذا بهم من أكبر الظالمين لحياة إنسان، ولطموحِه. في حالة المدمنين، التعافي المبهر والأمل الذي يبثه بعض كبار المتعافين في عمان يصنع نمطا عظيما يستحقُ الدعم، والعناية، والرعاية، وهؤلاء التحدي الذي يعيشونه داخلي يتمثل في النضال المستمر، وخارجي يتمثل في صناعة العلاقات الاجتماعية، وصناعة التأثير، والعمل الفكري، والتوعوي، والثقافي، متى يحتاجون للمنطقة الرمادية؟ بعد الشفاء من الإدمان كيماويا، وبداية التحديات النفسية، وهُنا نرى المتوفر؟ مجدداً منطقة لا تحتاج إلى سقف طبِّي، ولا تحتاج إلى عدد كبير من الأطباء، ولا يجب إنفاق المال العام في هذه الحالات التي كل ما تحتاجه هو [المكان لا غير].

وزارة الصحة تعاني لسنوات من هذا الحال، وكاتب هذا المقال عاشَ التنويمات في المصحات النفسية، من ابن سينا، إلى المسرة، ومستشفى الجامعة. يختلطُ في أقسام وزارة الصحة ذلك الذي لا يحتاج لعناية طبية وكل ما يحتاجه هو [سرير وإشراف معيشي] مع هذا الذي يحتاج للعناية الطبية، لماذا تنفق سريراً من الأسرة وكل ما تحتاجه في حالةٍ ما هو [سرير ومعيشة] هُنا المنطقة الرمادية الغائبة في عُمان، المصحة النفسية التي تكون هي الوسيط لكل من يعاني من مرض نفسي، يُعالج، يذهب لمصحة متخصصة، ثم يندمج مع المجتمع، ويتم كسر دائرة النكسات بهذه الطريقة.

 

المصحات النفسية ليست مشاريع حكومية، وإنما هي مشاريع وطنية، اجتماعية، تطوعية. توفير منطقة رمادية من الحياة لكل من لم يعد يستطيع أن يعيش في كنف عائلته أو يعيش بين الناس. هناك الحالات الميؤوس منها، هل الحل هو أن يعيش في جدران المستشفى؟ علما أن المستشفى غير مهيأ للإعاشة، وإنما للحماية، وللحالات العويصة، ولا ننسى أن بعالم الأمراض النفسية خطر العنف، وخطر الانتحار، المستشفى ليس مكانا تقضي فيه سنوات الشيخوخة، أو للأسف الشديد عندما ترمي بعض العائلات أبناءها [المجانين] وتتخلص منهم ليعيش لسنوات في جناح الطب السلوكي، وزارة الصحة ليست مسؤولة عن ذلك، هي لديها مبنى مجهز للتعامل مع الحالات التي تحتاج لتهدئة، الإعاشة مسؤولية مجتمع كامل.

وجود مصحة نفسية في عُمان ليس من شؤون العلاج، إنه من شؤون المجتمع. وزارة الصحة لن تحتاج لإرسال طاقم دائم لهذه المنطقة الرمادية، الذي يحتاج لإشراف طبي سيبقونه بينهم حتى يُشفى، وما أن يخرج من منطقة العلاج أين يذهب؟ هُنا يتلف مستقبل مئات الشباب، وتضيع حقوق آلاف المصابين بالمرض النفسي، وينتهي بهم الحال مسجونين في غرف عوائلهم خوفا من العار. هذه المصحة هي المنطقة الرمادية التي يتعلم فيها هؤلاء الذين خذلتهم عقولهم بعض فنون الحياة، يتجاوزون الصدمات في حالة كان التشخيص جديدا عليهم وعلى ذويهم، ويتجنبون النكسات ويعيشون بعيدا عن الناس، في بعض الحالات.

المصحات النفسية التي تبنيها المجتمعات لأبنائها المرهقين تقع في مزارع شاسعة، محاطة بسياج يحمي من فيها، يعيشُ فيها هؤلاء الذين إما يحتاجون لفترة مؤقتة للحياة في محيط [يشبه كثيرا الحياة خارج السياج] ومع أنشطة رياضية، وتوعوية، وثقافية. هي مدينة تطوعية، ينشغلُ بها الجميع، ويساهم فيها الشعب، والحكومة، والناس، وتتلقى التبرعات، وتقام فيها الأنشطة، منطقة فسيحة، بها المزارع، وبها الحيوانات الأليفة، وبها الشؤون المعيشية والإسكانية، والغرف، وبها المدمن المتعافي يكمل شهورَه ويتعلم الحياة شبه الطبيعية، هذه المنطقة الرمادية الغائبة هي التي تقود لحالات سيئة جدا من الاستغلال التجاري، والتربح على حساب المرضى النفسيين، وتقود للهدر المالي لأموال الدولة نتيجة حجز سرير لحالةٍ تحتاج لإشراف اجتماعي أكثر من إشراف طبي، وتقود للنكسات السريعة لهؤلاء الذين لا يتمكنون من الاندماج سريعا مع المجتمع.

 

إن مشروع مصحة نفسية متكاملة الأركان، في كل محافظة من محافظات عُمان قد أصبح ضرورة إنسانية ملحة. هؤلاء لهم حقوق، وقد يجهلها ذووهم فهل يجهلها المجتمع مع ذويهم؟ قد يجادلُ مجادلٌ عن الحالات النفسية الخطرة، والتي بها العنف، أو الانحرافات الجنسية، ونعم هذا موجود وله سياق علاجي وقانوني، ولكن ماذا عن الحالات التي لا ينطبق عليها؟ ماذا عن المرأة التي [تصرخُ] فجأة في عملها، ماذا عن هذا الذي يصاب بالتوتر فيتبول لا إراديا على نفسه؟ ماذا عن كثيرين كان يمكن إنقاذهم من حياة مليئة بالعزلة، وبالخوف من الناس بحياة تدريبية في مثل هذه المصحة؟ إن فكرةَ اعتبار أن هذه مهمة الحكومة فقط ستضعنا تحت رحمة الاعتمادات المالية، والميزانيات، هذا ليس مشروع حكومة فقط، هذا مشروع مجتمع كامل، ومشروع وطن كامل، وآن الأوان في عُمان لسد هذه الثغرة، ولتغطية هذا النقص وللبدء في مشروع وطني وتكاتف شعبي، وحكومي، ومنح هذه المساحة الرمادية لمن يستحقونها.

قد يقضي إنسان في هذه المصحة خمسة أسابيع في العام، وقد يقضي البعض سنوات متتالية، وبين خيار الحبسِ في المنزل، أو خيار الحبس في جناح الأمراض النفسي في مستشفى المسرة هُناك منطقة رمادية، تسمح له بالحياة في قرية صغيرة، بها مزارع، وحيوانات أليفة، ومتطوعون، ومشرفون على السكن، منظمة تتلقى التبرعات من وزارة التنمية، وربما تشرف عليها وزارة التنمية نفسها، خارج ميزانيتها. كم آملُ أن يعتنق أحدهم هذا المشروع، وبقوته، وبطاقته، وبالمال الذي ينفقه، وبالتصريحات الحكومية، وبمعونة وزارة الصحة، وزارة التنمية، وديوان البلاط السلطاني، وكل من يمكنه أن يجعل ذلك ممكنا، كم أتمنى أن يفعل أحدهم شيئا ما، قد يحرمُ الله إنسانا من عقله، فهل نأتي نحن ونحرمُه من دعمنا؟ بحياة اجتماعية أوسع.

إن نماذج المصحات العقلية حول العالم كلها تشبه القرى الصغيرة. تسمح لعوائل غير المستقرين نفسيا بزيارتهم، وتسمح لهم بإشرافٍ طبي معقول، وسواء كانوا مدمنين متعافين، أو مصابين بأمراض مزمنة لا شفاء لها، أو من المصابين بالتخلف العقلي وقد تخلى عنهم أهلهم، أو فقدان الذاكرة، أو الزهايمر، نبذ الذين سقطت عنهم السيطرة على عقولهم في سجونٍ في غرف صغيرة ليس من الإنسانية في شيء. مثل هذا المشروع لا يحتاج لأكثر من عقلٍ إداري مبادر، وبعدها ستحدث الأشياء، وقد حان الوقت في عُمان لسد هذا النقص القديم والذي لن يسده سوى مشروع وطني يتذكر الذين خذلتهم عقولهم، ولا يجب أن نخذلهم نحن أيضا!



معاوية الرواحي


الثلاثاء، 21 مارس 2023

مُعضلة المثقف رقيباً!

 

 

معاوية الرواحي

 

في مثل هذه المقالات العويصة، ونظرا لجسامة الموضوع، وتجاوزه حجمي الفكري، والمعرفي، والعلمي، لا بُدَّ من بادئة أقحمُ فيها عنوة اسم [جرامشي] وتعريفه للمثقف العضوي، وسأذهبُ مع الاقتباس للنهاية، وأتحول إلى أحدِ كُتابِ [قرأتُ لكم]، ويتحول المكتوب إلى صراعِ اقتباسات، وشروحاتٍ وسيكون مادة تثقيفية ظريفة للغاية، تُشبه البرامج التلفازية الثقافية والتي تغدق علينا كل ما قالَه المنظرون الكبار في عوالمهم المجردة والمنفصلة عن الواقع الذي أعيش به. يمكنني فعل ذلك، أو يمكنني المجازفة بمحاولةِ صناعةِ المعنى الضئيل الذي يشبهني، وفق حجمي، [وعلى قدِّي] كما يقول المصريون. سأتحدث بشكل عام عن المثقف الرقيب في العالم العربي، وتداعيات ذلك عليه، وعلى الثقافة، وعلى السلطة التي جعلته رقيبا.

 

من المثقف؟ لعل الشعرية هي الإجابة التي توصلُ المعنى، خارجَ المحاولات العقلية المضنية لإحاطة تلابيب مصطلح ما بتعريف مُحكم. هل سأقول: ذلك الذي يعرفُ أشياء الكلام والمعنى، ويتصرفُ على ضوء معارفه وخبراته في محيط تأثير؟

تعريفُ يتفق عليه الجميع شعرياً، وشعوريا، ويصلهم [معنى التعريف] أكثر مما يفتح لهم بابا للتخصيص. لعله هذا أفضل من لطمِ الكبار ببعضهم، والدخول في دوَّامة المثقف العضوي، والتخصصي، ومثقف السلطة، والمثقف الديني، وغيرها من الكلمات المتداولة في سياق المعنى الاجتماعي، وكما اتفقنا من قبل، الحديث في عالم المجرَّد الفلسفي أسهل بكثير من ربط كل هذه المعارف النظرية بالواقع، تفاعل المعارف مع الواقع عملية مغايرة للتفاعل معها في مكتبٍ مغلقٍ، أو في صندوقٍ ذهني يتفاعل مع الذات الفردية، هذا هو التحدي الجسيم الذي جعل مقدمة هذا المقال مقالا في حد ذاتِه.

سأشبه المعنى بالمادة الإشعاعية، مادة خام موجودة في الطبيعة. هذه المادة هي المعرفة البشرية المجردة والصافية والخالية من تدخل البشر، الكامنة في تراكم النفوس وسجلاتها الجينية، وسأشبه فعل الثقافة، بالمفاعل النووي بكل ما يتعلق به من مهنٍ مساندة. الجميع متفق على استخراجِ الطاقة، وأنَّ عملية آمنة ذات معايير وخطوات مدروسة يجب أن تحدث لكي تتحول في النهاية إلى تلك الطاقة. أين هو المثقف؟ هو كل من له علاقة بالتنظير لذهاب تلك الطاقة؟ كل من يعمل في المفاعل النووية ينحتُ فعلا ثقافيا، وما هي الثقافة؟ هي تلك الترددات التي تسبب النور في بيوت الناس، وهذا النور سأسميه الوعي، ولا فرقَ بين الوعي المفيد، أو الوعي الضار حسب تصنيفات عقودنا الاجتماعية، ستنير تلك الطاقة غرفةً لمجرمٍ يصنع المخدرات، وستنير غرفة عمليات في مستشفى، المعرفة البشرية التراكمية، ومرورها عبر مرشحات [فلاتر] العقول المثقفة تُشبه إلى حد كبير هذه العملية، ولا داعي لتفصيل التشبيه، إنني أريد به إيصال المعنى الذي في عقلي، وأظن أنه وصل لك عزيزي القارئ، ولا داعي أن نناقش التشبيه، ولنناقش المعنى.

المثقف صانع معنى. هذه الكلمة نضع تحتها ألف خط، فالمعنى أزلي وقديم، يسبغ عليه المثقف قيمته [واسمه] بقدر تأثيره في محيط البشر، وببصمته اللغوية، وأسلوبه الذي يشبه جيناتِ ما أنتجه من معنى. هو عادةً في السياق التنظيري ذهنٌ متفاعلٌ مع محيط الناس، سواءً هؤلاء الذين يلاحق بهم الخلود، ويتمنى أن يتأثروا به ويخلدوه، أو هؤلاء الذين يعيش معهم لحظتهم وأيامهم، ويريد منهم حضور محاضراته، وأمسياته، ومعارضه، وحفلاته، وندواتِه الدينية. ونعم، أضفت عامل الدين لفكرة [الثقافة] بشكلٍ عام، أفعل ذلك متعمدا لأنني أبقى ضمن سياق هذا التعريف، الذي أنحته لغرض اجتماعي في دولة عدد سكانها أقل من عشرة ملايين لم تتعدد بما يكفي لتتمايز مؤسساته الثقافية الضمنية فنصنع لكل حقلٍ ثقافيٍّ تعريفاته الخاصة بناء على توجهات الجمع المتفق ضمنيا على نداء غامض تلزمه به خصوصية معارفه واختياراته الفردية، وتأثرها بالاختيارات الجمعية.

 

ضمنَ تجليات هذه الظاهرة الثقافية الكبيرة، الأزلية، والبشرية، يظهر على الجانب مجموعةٌ من ضابطي الإيقاع الثقافي، وهؤلاء اتفق الجميع على تسميتهم [الرقيب]، وهذا هو نكدُ الدنيا على المرء، قد يكون نافعاً، ومفيدا، وصالحاً عندما يكتسب عمله الرقابية صفة البطولة، فيحمي المؤسسات من الفساد، ويحمي الناس من الخديعة والكذب، ويفند، ويقوم بدور الناقد، ويستخدم لائحة قانونية واضحة المعالم، ويضع في اعتبارِه أن تصرفه من تصرفات الضرورة، وهدفه الأوَّل والأخير هو الصالح الكبير للمجتمع الذي يعيش فيه. القوَّةُ/ السُلطة هي التي تُعطي الرقيب صلاحياته، والضمير، والمنهج النقدي الذي نُسجت به لوائح الرقابة، وقوانينها هي التي تحدد إن كان دور الرقيب لضبط إيقاع المعنى، والتأكد من إنتاجيته ونفعه، أو لقمع فئة دون أخرى، وحصر المسموح به ليكون ضمن الدعاية الكبيرة للسلطة، أو للفئة الدينية، أو لليسار الثقافي الليبرالي، أو للتيار المحافظ كما يحدث الآن في صراع العالم الغربي من أجل تحديد قيم الوجود والحقيقة وماهية حق الفرد، وحق الإنسان، وحق البشر ككل في الاختيار.

هذا هو الرقيب في تعريفه الكلاسيكي، ذلك الإنسان، الذي لديه لائحة يقوم بتطبيقها. يستخدم أدوات الرصد في كشفِ المعنى الذي خرجَ عن السياق الذي حددته السلطة ويتدخل بعدها حسبَ نوعية المجتمع الذي يعيش فيه، رقيب يكتفي بتعديل كلمة في جريدة، ورقيب يمنع أغنية من التداول، ورقيب في كوريا الشمالية يذهب بمقال به خطأ غير مقصود لينسف حياة كاتبه للأبد، مهنة ككل المهن في هذه الحياة مهمتها التأكد من موافقة المعنى للسلطة، هل يذهب الرقيب لما هو أبعد؟ نعم، ولعل نماذج مثل جوبلز في ألمانيا النازية تكفي لكي تقول لنا خطر الرقيب، عندما تُصبُّ كل الجهود الرقابية لطمس المعنى، وإفراغ المجتمع من قيمته، وصناعة مجتمع موجَّه بالقسر والمنع والقمع والإجبار بدلا من القيام بالدور الصعبِ وهو الجدال، والإقناع، والتأثير بالحجة، واستخدام العدسة الكبيرة لتوضيحِ أسباب السلطة لفعل ما تفعله.

ما يحدث لدينا في الدول العربية يكفي لكي نفهم أسباب ارتباط عمل الرقابة الضروري، بالسلطة وبالإكراه الذي يتعرض له المرء بمجردِ اضطراره للتعامل مع رقيب يشبه الآلة، وهذا هو أفضل الرقباء، والتعامل معهم أسهل، فهو يتبع لائحة، ويمكنك التعايش مع تلك اللائحة دون الحاجة إلى التعامل مع الرقيب شخصيا. يقول لك [هذه الجملة بها تعدٍ صريح على المؤسسة الدينية] فتقوم بتغيير الصياغة، وينشر مقالك في مجلةٍ ثقافية في دولة تغلِّب الثقافة الدينية على شيء آخر، والعكس صحيح عندما يكون التوجه العام ليبراليا، فيضطر إمام مسجدٍ لتغيير مقطع من خطبته لكي يتمكن من إلقائها للحصول على التصريح المناسب، هذه أمثلة عامَّة عن الرقيب كفعل سابق.

 

تبدع الدول العربية في مفهوم الرقابة، وعلى صعيد المعنى [الثقافة] وشؤونها، وأشيائها الكثيرة هناك خلط طبيعي جدا بين مفهوم [السلطة] ومفهوم [الرقابة]، فالرقيب ليس سلطةً، ولكنه يحدثُ أحياناً أن يلبس ملابس السلطة، ويتشبه بها حتى يتحوَّل إلى غولٍ يحارب المعاني في عقول الآخرين. هذا هو المثقف الرقيب الأكثر خطرا على الحرية، والأكثر تحييدا للثقافة، والأكثر تسبيبا للمشاكلِ للسلطة التي يريد من الأساس خدمتها.

عندما تكون النظرية الرقابية واضحة المعالم، ولا سيما في الدول العربية، تتحول الثقافة النقدية والتحليلية من كيانٍ معارض للسلطة، ومحرض للناس إلى كيانٍ يشمل الجميع. الرقيب النافع يتبع القانون، وهذا الأخير [القانون] هو موضوع حضاري بحت، لا توجد أمَّة بدون قوانين، تطبيق القانون موضوع حضاري، وتغييره هذا أيضا موضوع حضاري، واجتماعي، وأنت وحظك في الحالة الجغرافية التي تعيش فيها، برلمانية، أم دكتاتورية، أم دولة العادل المستبد، أم دولة من الفوضى وصراع الأحزاب، أو ما هو أسوأ في دولةٍ تفتك بها الصراعات المسلحة ويسيل الدماءُ في شوارعِها.

نأتي الآن إلى صديقنا الإشكالي. [المثقف الرقيب]. قبل أن يصبح المثقف رقيبا نتذكرُ أنَّه كان جزءا من الفريق المقابل، من صنَّاع المعنى، والمشتغلين عليه، جزء من الحركة الثقافية التي تسعى دائما إلى أنسنة الطموحات، وهي بالفطرة نازعة للشؤون الكبيرة في الفكر، على رأس الهرم مجموعة المنظرين والفلاسفة، ويأتي بعدهم النقاد والأكاديميون، ثم تأتي باقي موجودات الثقافة [وموجوديها]، كالشعراء والكتاب والأدباء والعازفين ورسامي الكاركتير والكوميديين والمسرحيين، وفي الأخير يأتي الموجود الأهم لكل هذا الجهد الثقافي وهو المتلقي. على جانب هذا المفهوم الكبير [الثقافة كمعنى] نستطيع أن نشقَّ نموذجين منافسين، يحاولان استحواذ المعنى بفطرة النموذج. السُلطة كقوَّة مهيمنة، والدين كعاملٍ مسيطر، هُنا تختلف الدول كلها في تمازج هذه النماذج ولكنها لا تختلفُ في أن طريقة وصفها واحدة، ومن هنا تُنحت كلمة [مثقف ديني] أو كلمة [مثقف سلطة] وكلنا نعرفُ معنى ذلك، هل نستطيع كلنا كتابة آرائنا بسلاسة ويسرٍ تقبله النخبة الثقافية؟ لا نستطيع ذلك كلنا، ولكننا كبشر يحق لنا أن نحاول.

يصنع المثقف الرقيب معناه في عالمِ الثقافة، يشتغل بمهاراتٍ مرتبطة بالمعنى، وصياغته، وتحليله، والتنظير له، وقد يكون ظاهرة علمية، أو اجتماعية مؤثرة، كيف يمكن للسلطة أن تجتبي مثقفاً وتأمن جانبه إن لم يكن من الأساس صاحب قيمة في حقلِه الذي يعملُ فيه. هُنا نصلُ إلى الحالة النهائيةِ التي يتوقف فيها المثقفُ عن نموه وتطوره، نماذجُ قليلة تتحول إلى طاقة تنويرية في جسد السلطة، تصنعُ لها المزيد من القبول، والإقناع، تتسابق لتطبيق القيم الثقافية [قيم المعنى] وتعطي خطاب السلطة معنى [إنسانيا] واجتماعيا وفكريا، وهذا ما يحدثُ في استثناءات نادرة يواصل فيها الرقيب رسالته الثقافية ويحاول فعل العسير بالتوفيق بين رؤاه المستنيرة والسلطة التي هي عبارة عن مجموعة مغايرة من المعاني والتي لا تخلو من الخوف، والريبة وقد يصل بها الحال للقمع، والإخراس، والإسكات وفي حالة بعض الدول [سيبيريا] ثقافية، والنفي. المثقف الرقيب لم يصنع نفسَه في دوائر السلطة، وإنما حافظ على [حبله السري] فهو ينمو في محيط، ويستمدُّ قيمه السلطوية والرقابية في محيطٍ آخر، ولذلك لا عجبَ مُطلقا أن يكون الرقيب القادمِ من عالم الثقافة أشد خطراً على الإبداع والثقافة من ذلك الرقيب النافع، والذي يطبق لائحةً وقانونا ويقول لك دائما: الأمر غير شخصي!

لماذا يتدهور حال المثقف عندما يصبح رقيبا؟ ماذا نتوقع من الذي يخسرُ معناه؟ ويتحول إلى صنم جافٍّ، ويكونُ من الأساس أكثر حماسة لكي يثبت موقعه من السُلطة. آخر من يعترف بالمثقف الرقيب، هو المثقف نفسه، فهذا [الزميل] السابق له قد أصبح اليوم تحت سلطته وسطوته، والمثقف بطبيعته صاحبُ رأي، وهذا هو الخطرُ في مهنة الرقابة بشكل عام، سواء كان رقيبا أكاديميا يحدد من يحصل على رسالة الدكتوراة أو لا، كرئيس قسمٍ لمنظومة أكاديمية متأثرة بالسلطة، أو كان في أي موقعٍ آخر، صاحب الرأي هذا هو أشد ضررا على مهنة الرقابة، وهو عالم تهييجٍ كبير لكل من يؤمن بحريته أو على الأقل بحقه القانوني في رأيه.

يغالي المثقف الرقيب في الشخصنة؟ لأن الأمر من الأساس متعلق بالمعنى الذي فقدَه، ولذلك تراهُ يجمع حوله كل من يمكن أن [يُجنَّد] في أجندته، إنسانٌ فقد معناه، وتحول إلى لائحة ولكنه بعد أن تبادل الأماكن وأصبح يعيشُ في الوسط الذي كان يربطه [حبل سري]، تتغير أحواله ويتوق إلى الاتصال [بحبله العلني] فلا تعجب أن ترى رئيس تحرير جريدة السلطة الأولى وهو يحضر حفلا غنائيا ومسدسه معلقٌ بجانبه، يحضره ببزته العسكرية ويصفق لمطربةٍ محبوبة من قبل الشعب وكل من حولَه يشيد بتواضعه، وطيبته ويشكره شكرا كبيرا لأنه: لم يقتل أحدا تلك الليلة!

هذه هي الحالة التي يضطر المثقف الرقيب للتعايش معها. مع مضي الوقت، يفقد معناه الرئيسي، ويتجمَّد وتقل فرصه للعودة لحياتِه السابقة، ويخسر المجتمع عقلا فّذا قد يكون من أبرز العقول إنتاجا وتأثيرا قبل أن يدخل في هذه الحالة من الوجود في الرحمِ الأمِّ الذي ترعرع فيه. هُنا تأتي اللوثات الكبيرة للرقيب المثقف؟

ماذا يحدث لك إن تحولت إلى رقيب مثقف؟

 

قد يفقد المثقف معناه، لكنه لا يفقد حماسته، وذلك المثقف الذي أصبح رقيبا لم يفقد معناه كليا، لكن حماسته أصبحت الآن مدعومة من سلطةٍ قادرةٍ على حشد الأتباع، فضلا عن وجود ظهر شعبي واجتماعي جاهز للفتك بمن يعارضها علنا. تتفاوت السلطات في السماح بالرأي المخالف لها في الوجود، وقد تكون السلطة أكثر تساهلا من المثقف الرقيب الذي يعرف نهايات هذه الحماسة، والتي بترت السلطة نهايتها الكلاسيكية وحولتها إلى قطعةٍ قوية من الخشب، قادرة على تحطيم القوارب الصغيرة، وتحييدها.

يتمسك المثقف الرقيب بسلطاته بهوسٍ وبجنون، وعندما يلاحظُ تراجع تأثيره الشخصي، والاجتماعي يقف حائرا، ويتساءل؟ لماذا ينقلب أصدقاؤه عليه؟ وما هو المستفز [في السلطة] بالتحديد؟ وهُنا يبدأ بصياغة الأوهام واحدا تلو الآخر. كل من ينتقده يحسده، وكل من لا يرضى عن عمله هو في الحقيقة يتحدى السلطة، وقليل من المثقفين الرقباء تجاوزوا هذه اللوثة النفسية والتي يعلمُ الجميع عنها، ويلاحظها إلا صاحبها الذي "وإن خالها تخفى عن الناس تُعلمِ" ذلك الإنسان النوراني، المستنير، المتنور الذي يبث طاقة الأفكار، والمعاني، وحماسة النقد، وقوة المنطق يفقد كل يومٍ غذاءَه الذي كان في محيطه السابق، يعيشُ في بيئة جديدة تمدُّه بغذاء مختلف، من الطاعة، والخضوع، ويدركُ كم كان بخير في محيطه السابق، وهُنا يمدُّ حباله العلنية، يبحث عن الحلفاء، ويبحث عن الأتباع ويحاول إطالة الأمد الذي يبقيه بأنسجته السابقة، ويتواطأ معه البعض الذي يشبهه، والذي ربما تكون لديه حبالٌ سريةٌ مشابهة، ولا يستبعد أن يكون منافسا، أو مشروعا للإطاحة به. المثقف الرقيب يعلم جيدا خطورة الدخول في عالم السلطة، والسلطة نفسها تعلمُ كيف تسيطر على أتباعها وتصنع الصراعات بينهم، فوجود سلطة متفقة في حزب واحد خطر على السلطة.

هذا السلوكُ للمثقف الرقيب يتحول إلى المأساة الدائمة. العقل النبيه، الفذ الذي يُراهن عليه الجميع يتحول إلى كتلةٍ بغيضٍ من العفن، والحسد، والحقد، وعندما تُكمل السلطات بذكاء وعندما تُكمل السلطات بدهاء إفقاده معناه لا يعود معه سوى التعلق بطريقتها في العمل، لا غرابةَ أن ترى المثقف الرقيب يبرر للموت، وللقتل، ويخفي أنباء المجازر الجماعية، سيفعل ذلك لأنه يتحول كل يوم إلى [آلةٍ] وخوارزمية، ومجموعة من النصوص ذات الشروطُ الكثيرة، والمعايير الواضحة. على صعيده الشخصي كمثقف يخسر كل يوم عودتَه، وفي حالة المثقف الرقيب في الدول العربية يصنع حالة من الغل والكراهية تجاه السلطة نفسها، فهو لا يعمل وفق مصلحة السلطة، والتي تقتضي جانبا إنسانا وحفاظا معقولا على الحريات، العامل الشخصي حاضر، فذلك الوسط الذي أصبح يقمعه ويتدخل فيه هو [وسطه الشخصي]، وهُنا تأتي ألاعبي النفس البشرية لتكمل مسار المثقف الرقيب.

يتوهم المثقف الرقيب أن له عودةً كبيرة للوسط الذي نشأ فيه، وهذا قد يحدثُ للرقيب الذي يتولى رئاسة قسمٍ في جامعة من جامعات السلطة، أو رئيس تحرير لجريدة الحزب الحاكم، أربع سنين ثم يعود. لن يعود كمشروع يراهن عليه الوسط الثقافي من أجل التغيير للأحسن، سيعود لكي يعاود نشأته السابقة، تليفت أنسجته بعض الشيء، لكنه قادر على حماية ما تبقى منها بوجوده مع جماعته الأولى، وهُنا ينجو، وتراه ناقدا ينشر الكتب، وينظِّرُ ويا للعجب! قد يكون مثقفا منتجاً عرفَ ما في داخل السلطة، وعرف ما في خارجِها وأصبح يتعايشُ مع ماهية دوره السابق، المثقف الرقيب سابقاً يعود إلى حالةٍ منتجة بشكل جيد للغاية، ما لم تتليف جميع أنسجته ويعود لعالمِه السابق مثل [الزومبي] الذي لم يتبق له من الحياة في المعنى سوى الجسد، والإناء، وقليل من التاريخ الذي حاول الحفاظ عليه، هل تتخيل عودةَ رقيب مثقفٍ لعالم الثقافة بعد أن قضى عشر سنوات في تمجيد مجازر السلطة؟ وإخفائها؟ والتبليغ على كل إنسان قال بعفوية تامَّة: أرجو أن يتوقف القتلُ في بلادي!

أين ذهب هذا الذي قال ذلك؟ ذهب في زنزانة بيد المثقف الرقيب لأن الحقيقة [الأكذوبة] التي يدافع عنها هي: لا يوجد قتل ولا مجازر في بلادنا! هذا عدو للوطن! وتكمل جوقة المتواطئين، والممالئين، والإمَّعات التصفيق لحقائق الوطن الغفور، والقائد الهمام الذي لا مجازر جماعية في شوارع عاصمته، ولم تتفتت بلادُه باحتلال أجنبي، أو بعمالة للخارج، أو بفقدان تام للشراعية، المثقف الرقيب يجيد العمل في هذه الظروف، وهو وحظَّه، هل هو في دولةٍ تسفك الدماء، أم في دولة تنسف أعمار العقول من أجل العقل الجمعي الكبير؟

 

معضلة المثقف الرقيب هي معضلة عربية بامتياز. وهو الخطأ الدائم الذي تقع فيه السلطات. الرقابة شرٌّ لا بدَّ منه بالنسبة لجانب الثقافة، ولكن بالنسبة لجانب السلطة فالثقافة هي شرٌّ لا بُدَّ منه. والحلُ الوحيد لهذا التوازن هو القانون المُنصف الخالي من المناطق الرمادية، ذلك الذي يعطي لكل ذي حق حقَّه، ويقوده حبذا [الرقيب المثقف]، لا المثقف الرقيب، وثمة فارق بين الأمرين.

المثقف الرقيب يتحول من الثقافة إلى الرقابة، فيصبح كابوسا نرجسيا منافساً لوسطه السابق وقامعا له، وهذا بالذات لا ينفع السلطة في شيء ويجلب لها البغضاء والكراهية ويجعل محيط الثقافة كارها للسلطة، محاربا لها، والثقافة في كل مكان لها فطرةُ تحدي السلطات. الرقيبُ المثقف حالةٌ مغايرة، هذا موظف بيروقراطي لا علاقة له بالتنظير الكبير، يتحول مع الوقت من كائن آلي، يعيش في قلب السلطة من البداية، لم يلبس ملابس الثقافة، ولم يتزين بأناقتها الخارجية، يستمد المعنى من اتصاله بحقل المعنى، ومع الوقت يصبحُ هو الرقيب الذي يحبُّه الناس، وتتصالح معه الثقافة.

النماذج على ذلك كثيرة في العالم العربي، ويتعايشُ المثقفون مع هذا الرقيب البيروقراطي حسبَ مرونة اللائحة والقانون الذي يشتغل فيه، وتجده يتسابقُ لإثباتِ نفسه، ولخدمة السلطة، ولتحويل السلطة لخدمة الناس، وبالتالي يعود بالشعبية والإقناع للسلطة نفسها. هذا ما يحدث عندما تحدث عملية الانتقال من [الرقابة] إلى [الثقافة]. والنماذج كثيرة وهائلة في العالم العربي تحديدا، كما هي النماذج المزرية والمؤسفة لما آل إليها حال مثقفون كبار بعد أن تورطوا في عالم السلطة.

المثقف ليس ظاهرة سلطوية، ومن ذكاء السلطة أنَّها رغم جمودِه وقسوتها تحاول دائما أن تكسب الناس. لا تمانع بعض السلطات أن ترسل الجنود لقتل الناس في الشارع، إن استولى على البلاد حزب دموي يمارس التطهير العرقي، هذه السلطات محكومٌ عليها بالاستمرار تحت وطأة الحروب، والصراعات، والانقسامات، والشقاق، وهذه هي مسيرة الدم في أي مجتمع.

السلطةُ التي تعيش هدوءا سياسيا تسعى لكسب الناس، إن استشرى فيها الفساد وساءت أحوال المجتمع الذي تدير شؤونه، يستبد المثقف في إخفاء هذه الحقيقة، وإن تحسن وضعها فإنَّ المثقف الرقيب يتحول إلى حالةٍ معاكسة من حالات المصلحة السياسية، فبينما السلطة تعاود مد يدي السلام للمجتمع، وبالذات للثقافة، يبقى هو في حالةِ ذعرٍ كأي إنسان فقد معناه، وتبدأ تصرفاته [الشخصية] النابعة من نرجسيته، وذاتيته بجلب الأذى للسلطة، وبإيقاع الفتن بينها وبين الثقافة، هُنا يضمن أنه ضغط على السلطة بما يكفي لكي لا يفقد مكانه، وسلطته، وضغط على الثقافة بما يكفي ليضمن لنفسه عودةً تشبه سلطته السابقة، مع مجموعة من مشاريع المثقفين الرقباء، على الأقل سيحافظ على الوجاهة الاجتماعية بمجلس أدبي، أو بمجموعة من النقاد الذين سيؤلفون الكتب عن النظرية الرقابية التي مضى عليها والتي أخرجت الكون من الظلمات للنور، وكما أوردنا أعلاه، هو وحظه، هل يعود لعالم الثقافة متليفا، بلا نسيج حياة ليعيش منبوذا، ويبقى طوال عمره لصيقا بالسلطة التي ستحميه، وتحافظ عليه، لتطمئن البقية الذين مضوا في طريقها أنها لن تتخلى عنهم، وفي الوقت نفسه هي جاهزةٌ للفتك فهم إن أصابتهم لوثة فقدان السلطة، وتحركوا ضدها، وهذا سياق آخر مغاير ضمن نهايات أي سلطوي.

المثقف لا يصلح لدور الرقابة، والأعباء التي يسببها على المجتمع، والثقافة، والسلطة تجعل الأمر غير منطقي. وهذا المثقف نفسه عليه أن يعي ذلك جيدا، فله دور نافع في المجتمع، وقد يكون رسالةَ وعي، وسلام وعليه أن يسعى جاهدا إلى النأي بنفسه عن دور الرقيب. وجود مهنة الرقابة المنضبطة تصنع نهايات أجمل، ذلك الرقيب الذي أصبح شاعراً، أو مبدعا، أو كاتباً، هذه نهاية تنفع السلطة أفضل من مثقف يشيع البغضاء والفتن ويكون عمله منصبا على تدمير وسطه السابق، هذه اللوثة أقوى من أي إنسان، هي لوثة السلطة الفلسفية، وبينما يعلم قادة السلطة هذه الحقيقة، ويحافظون على ملمح إنساني، وعلى [المعنى] في طيّات وجودهم، ينفق المثقف الرقيب معناه، وينثره بجنون، وإسراف، كسادنٍ وككاهنٍ للسلطة، حتى نصل لتلك النهايات المريرة، لإنسان تحول إلى صنم ذهب إلى السلطة مليئا بالنور، وعاد منها مثل الفرعون المحنط، فلا هو بخلود الفعل الحسن، ولا هو بالثقة الثقافية، ولا هو بأي شيء سوى تلك الحالة من البغضاء التي حولته إلى رمز من رموز الخذلان، والكراهية والفشل الذريع في تطبيق أي رسالة ثقافية كان يحملها قبل أن يدخل عالم السلطة.

 

في الختام، معظم هذا السرد ينطبق على الدول العربية، وما يشبهها من دولٍ توصف [بالنامية] والتي يقود التنظير الفلسفي لشؤونها السياسة والاجتماعية نظريات خارجية. وجود المثقف الرقيب معيقٌ لصناعة الحالة المحليَّة للتنظير الفلسفي، ونعيش في عالم يستخفُّ بدور الأفكار في المجتمع، والمثقف الرقيب يعي ذلك جيدا. وقد تكون السلطة هي التي تريد ذلك، وقد تكون السلطة غير مهتمة من الأساس، تستخدم التفويض والثقة، ليأتي هذا المثقف الذي أصبح رقيبا، والذي إن دخل لساحة الثقافة أفسدها، وعاث فيها خرابا ينوح على خسارة معناه، وكل يوم يمضي يصعب عليه استعادته.

في رأيي، الرقيب الذي يتحول إلى حقل الثقافة، ويكتسب من فنون المعنى هو حالة صحية أفضل، وبغض النظر عن التسميات المتداولة [كالتنكنوقراط] وغيرها من المسميات الأنيقة، أظنُّ أن أخطر شيء يمكن أن يصاب به أي مثقف كان هو أن يتحول إلى رقيب، فلا هو بمعناه، ولا هو بنفعه للسلطة، ولا هو حتى بنموه الشخصي المعرفي، وكم خسرت الساحة الثقافية من عقول فذَّة لأنها ظنت أنها ستجمع المستحيلين جمعاً، الثقافة كفعل اجتماعي، والسلطة كفعلٍ فلسفي. عسى أن نرى الرقيب يتحول إلى مثقف في المنطقة العربية بدلا من المثقف الذي يتفانى ويجن جنونه ليتحول إلى رقيب. انتهى.

الاثنين، 20 مارس 2023

تنظيم مهنة الإعلانات في المنصات الرقمية

 

[مسودة رقم 1]

 

معاوية الرواحي

 

 

عدت قبل قليل من الاجتماع الذي عقدته وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار في مقرِّها بروي. لم يكن اجتماعا إجرائيا أو تنفيذيا بقدر ما كان الهدف هو العصف الذهني، ووضع بعض النقاط على الحروف، ودار الاجتماعي بشكل واضح وودي، وفي هذه التدوينة أريد أن أضع كل الأفكار التي يمكن أن أساهمُ بها في مكانٍ واحدٍ، عسى أن تنفع أحدا ما، أو تفتح مجموعة من الأسئلة، أو تغطي فجوةً معرفية من الخبرة من الجانب الآخر، جانب أصحاب المنصات. هذه التدوينة تفكير بخطء مقروء، وعصف ذهني، ومن كانت لديه ملاحظات فإنني أنوي تطوير هذه المادة وتوسعتها لتشمل الملاحظات القادمة من المستهلك، ومن زملائنا من أصحاب المنصات والمهنة، ومن الوزارة نفسها، ومن أي جهة رقابية مثل حماية المستهلك، هذا هو رقم هاتفي لمن لديه أية إضافات يريد أن يضيفها، وأرجو الرجوع إلى وصلة هذه التدوينة في مدونتي لمتابعة أية تعديلات، سأضع التعديلات في ختام الفقرات وسأكتبها باللون الأزرق لبيان إضافتها في وقت لاحق. رقم هاتفي [79221983] أفضل أن يكون التواصل في تطبيق الواتساب، وأن يكون مكتوبا. وكل هذه العملية تحتاج لتوازن وجمع لكافة الآراء بحيث تجمع فائدة الجميع.

 

1-  فائدة المجتمع من حيث صنع الوظائف، ونمو السوق.

2-  حماية المستهلك من أي عمل تجاري مضر.

3-  تطبيق القانون.

4-  حماية صاحب المشروع التجاري من أصحاب المنصات.

5-  حماية أصحاب المنصات من التعرض للخداع من أصحاب المشاريع التجارية.

 

بادئ ذي بدء، إن تنظيم مهنة الإعلانات في مواقع التواصل الاجتماعي هو موضوع متفق عليه من قبل أصحاب المنصات أنفسهم، ومن قبل الوزارة، وقبل أن نتطرق إلى الجوانب التنفيذية، والإجرائية، واللائحة، وما لها وما عليها، وصاحب المنصة وما له وما عليها دعونا نضع الصورة الكبيرة في الموضوع، ونحدد بعض النقاط المهمة:

-       المصلحة الوطنية الكبيرة حاضرةٌ في هذا التنظيم. صناعةُ سوقٍ جديد، وبالتالي وظائف مساندة، وتحول الإعلانات والترويج في المنصات الرقمية إلى شركات منظمة ينفع أهدافا كثيرة، منها رفد خزانة الدولة بالضرائب، وحماية المستهلك، وحماية المجتمع فكريا وثقافية. إذ أن تحول الساحة الرقمية من بيئة للسخط، والغضب، وتركها لليأس والإساءة قد شكل مشكلةً قديمة من الأساس، ودخول عامل [المهنة] في هذا الجانب سينعكس بالإيجاب على الجيل القادم، وسيصنع سوقا للصناعات الإبداعية، وللنشطاء الاجتماعيين، وبالتالي يصنع حسا بالالتزام والمسؤولية، في هذا الجانب، التنظيم يخدم هذه الأهداف، فضلا عن الرؤية الاقتصادية المتفاعلة، وصناعة السوق الجديد، وتنويع الاستثمار، وصناعة مفهوم الوظائف غير النمطية، ودعم للمشاريع المنزلية والصغيرة، واستثمار للانتشار الرقمي لجميع أصحاب المنصات النشطة كبارا وصغارا.

-       التنظيم الذي يحدثُ هو تنظيم تجاري، والتأكد من موافقة كل شيء للقانون في سلطنة عُمان، لا علاقةَ له بتوجيه المحتوى، أو بالرقابة عليه خارج الاعتبارات القانونية، وقد أوضح المختصون في وزارة التجارة بشكل لا لبس فيه أنَّ القانون هو الحكمُ عند حصول الاختلافات، وسيتم بناء التعديلات تفاعليا بالتواصل مع الوزارة، والتجربة على رأس العمل، وباب الأخذ والرد مفتوح من قبل الوزارة مع الاتفاق على اجتماعات دورية للنظر في آلية سير العَمل.

-       تحول الإعلان في مواقع التواصل الاجتماعي إلى عمل شركات، وبالتالي ينطبق له ما ينطبق للشركات، وينطبق عليه ما ينطبق على الشركات من لوائح وأحكام تجارية، والترخيص سيتم الحصول عليه في النظام الإلكتروني، وتركت مسؤولية البيانات المقدمة، وغيرها على صاحب الترخيص علما أن عملية الرقابة اللاحقة سوف تطبق وخلالها ستكون هُناك جزاءات للمخالفين.

-       سيتم سحب الترخيص في حال المخالفات الجسيمة، مع الأخذ في الاعتبار أن آلية التطبيق ستكون بناء على القانون العُماني النافذ.

-       لن تتدخل الوزارة في العلاقة بين المُعلن وصاحب المنصة إلا في الحالات المنصوص عليها قانونيا، والتي تتعلق بسلامة العملية التجارية من الغش، والتضليل، أو غيرها من المحاذير المتعلقة بسلامة الأفراد الصحية، والضرورات المجتمعية الكبيرة المتعلقة بسلامة الناس.

 

هذه هي النقاط الرئيسية، وقبل أن نبدأ تحليل كل ذلك تفصيليا، دعونا نضع مهنة التنظيم من جانب كل طرفٍ على حدة. ففكرة أن تنظم هذه المهنة بحيث تتوافق وتسهل عملَ طرف دون آخر يعني أننا نقوم بتقييد سوق ناشئ، ونخالف بداهةً فكرة النفع العام، ما ينفع البلاد هو النمو الاقتصادي، والسوق الرقمي هو توجه عالمي شامل، وعُمان جزء من هذا العالم، فالنفعُ المرجو هو ما ينفع البلاد أولا وأخيرا، والأمر الثاني ما يحمي المجتمع ككل، والمستهلك الفرد بشكل خاص.

الناحية الأولى المهمة، حماية الفرد، التنظيمُ يهدف بشكل كبير إلى التصدي إلى ظاهرة الإعلانات الخارجة عن التنظيم، سواء من حيث المهن غير المرخصة، أو تلك التي تبيع المستحضرات غير المعتمدة من وزارة الصحة، حماية المستهلك كان حاضرة في الاجتماع، وشُرحَ للحاضرين عن بعض الحالات، منها التسمم، وبعضها الوفاة، ومنها من أصيب بعاهات دائمة، هذا هو الجانب الحاضر في المسألة عندما نتكلم عن [سبب الحصول على ترخيص] هُنا الفكرة واضحة عن الجميع، ولكن ماذا عن [الإجراء]؟ وكيف نضمن سهولة وسيولة الإعلانات الرقمية، سيأتي الحديث عن ذلك في نهاية هذا المقال.

تم التطرق إلى حالاتٍ كثيرة، وغلبَ الشعور بالتوجس، فكلمة [تنظيم] ارتبطت بشكل ما أو بآخر بالفهم النمطي لمعنى [الرقيب] فمع أننا كنا في اجتماع أساسَه تجاري، غلب على بعض الحاضرين هذا الشعور بالتوجس، الوزارة تريد تنظيم هذه المهنة، والبعض قلقٌ للغاية من تدخل الوزارة في المحتوى نفسه، هُناك وُضِّح بما لا يدع مجال للتأويل أنَّ الأمر يتعلق بالجوانب التجارية، أما ما يخص الرؤى الفكرية للشخص نفسه، أو رأيه الشخصي، فهذا متعلق بنص واضح في النظام الأساسي للدولة، وقوانين أخرى، والوزارة لا علاقة لها بهذا السلوك، ما دامت المنصة لا تخالف القانون، وصاحبها لا يخالف القانون، فوزارة التجارة معنية بالجانب التجاري.

غلبَ على الاجتماع في رأيي الشعور بالتوجس المتبادل، وكان لأصحاب المنصات نصيبٌ كبير في الموضوع. وهُنا لا داعي لفتح أبواب الماضي نظراً لاتفاق الجميع على صياغةٍ مسارٍ لغدٍ أفضل. حمايةُ المستهلك هذه ضرورة أخلاقية قبل أن تكون اجتماعية، وحماية الناس من الغش التجاري هذا واجبٌ تجاري يضمن سلامة العمليات التجارية في المجتمع، وبالتالي فلا خلاف. ثمَّة توجس تجاه أصحاب المنصات نتيجة مخالفات بعضهم، وهذا القانون سيكفل وضع الجميع تحت مظلة إجرائية، ولائحة واضحة، سيفتح لهم المجال لحماية أنفسهم قانونيا، وسيفتح المجال لوزارة التجارة لمعرفة من المخطئ حقا، هل هي الشركة، أم صاحب المنصة، وهذه جزئية تم الاتفاق على قيام الوزارة من جانبها بإرسال المواد التوعوية والتي تساعد صاحب المنصة الفرد على دخول جو العمليات التجارية، ومعرفة أبرز الأخطاء الشائعة والمحاذير.

هُناك بعض القلق من [الإجراء] نفسه. وأظن أن على وزارة التجارة النظر بتفصيل إلى طبيعة وآلية العمل في مواقع التواصل الاجتماعي، وإضافة نصوص أخرى لكي يكون هذا التنظيم نافعا للسوق، وداعيا للنمو. سوق التواصل الاجتماعي سريع للغاية، والقانون العام ينحصر على جانب النشر، بينما هناك جانب آخر في هذا السوق وهو [اللحظية] فهو سريع، وأحيانا نتكلم عن زيارة صاحب المنصة لمشاريع تجارية، ومعارض [مُعتمدة] لذلك يجب النظر باهتمام وإمعان إلى هذا الجانب، إن وضع قيد بيروقراطي دامغ يبطئ هذه العملية التجارية يتعارض مع فكرة التنظيم من أجل النمو، وإنما هُنا دخلنا في تدمير هذا السوق، والتأثير على مصلحة الاقتصاد، وأصحاب المشاريع التجارية، وبهذا نكون قد فعلنا شرَّا بدلا من كل الخير الذي نسعى له، وضع [لحظية] المنصات الرقمية في الاعتبار هو الحل الفكري الأبرز لكي تكون العملية انسيابية وسلسة.

-       إن فكرة وضع كلمة [مادة إعلانية] على كل منشور تختلف مع قواعد الإبلاغ المعمول بها في القانون العُماني، ويمكننا أن نسترشد بالقضاء العُماني العادل وما يفعله، النشر يكون لمرات محدودة، والإبلاغ يكون في الجرائد العامة، وثمة آلية واضحة، سوف يتم إفساد المواد إبداعيا، وبصريا إن كانت هذه المادة الإعلانية في كل منشور على حدة. فما هو الحل: الحل هو أن يُلزم صاحب المنصة بنشر التوضيح لمرة واحدة، في سناب شات، ينشر لمرة واحدة فقط، وبالتالي قام بالإبلاغ اللازم، أو يضع في منصة أخرى شيئا يوضح [تربطني علاقة تجارية مع المؤسسة الفلانية] أما التعامل الجامد مع المنصات الرقمية اللحظية والسريعة فهي فكرة غير قابلة للتنفيذ، وسوف تؤثر على العمل التجاري، وهذا ما لا يريده الجميع، لذلك، الحلُّ هو أن نسترشد بالطريقة التي يعمل بها القضاء العُماني في الإبلاغ، ويقوم المُعلن بوضع ذلك في الحسبان. هكذا تعمل مواقع التواصل الاجتماعي، بطريقة إبداعية، التدخل في العملية الإبداعية إفسادٌ للفكرة لا أصلاح لها ونتذكر أن الهدف المتفق عليه هو تقنين المهنة، وحماية المجتمع والمستهلك، وحماية الشركات، وحماية صاحب المنصة الرقمية نفسه.

-       إجراء حصول كل صاحب مشروع تجاري على تصريح لمادة إعلانية هو إجراء لا يتفق مع طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي، فالمنصات هذه تفاعلية، ومن المستحيل أن يتم استخراج ترخيص لكل مادة على حدة، علما أن بعض الحملات الكبيرة تتعامل مع مئات المغردين على سبيل المثال، أو عشرات الحاضرين، فضلا عن المسابقات، وغيرها، وهذه شؤون قانونية معمول بها، لذلك يكون الحل هو أن يحصل المُعلن على ترخيص [للنشر في المنصات الرقمية] وهذا النشر يكون التفاهم عليه بينه وبين الوزارة، ويمكن للوزارة أن تضيف أداة رقمية، تطبيق، وقاعدة بيانات، وإليكم المثال: جاءني مُعلن، ولكي أطمئن على حصوله على الترخيص، يكون لدي تطبيق تابع للوزارة، أدخل الرقمي السري، ورقم السجل المدني، ويرسل لي وصلة، وبالتالي في نقرة زر أطمئن إلى قانونية إعلانِه، وبهذا حققنا عامل السرعة وحفظنا حقوق الجميع ولم نفسد على أصحاب المنصات الطبيعة الرئيسية لمنصاتهم، هذا يجب أن يؤخذ في الحسبان، إن أي تأثير على ذلك سوف يؤدي إلى نتيجة عكسية.

-       صاحب المنصة يحتاج إلى حماية، وهُنا على الوزارة أن توفر له هذه الحماية، أولاً، يجب أن نقر أن عالم التجارة غابة مليئة بالخبث ولا تخلو من اللؤم والكذب والغش، وكما استطاع بعض التجار خداع الوزارة، فهم لا يعجزون عن خداع مؤثر في المنصات الرقمية وإيقاعِه في أزمة كبيرة، لا يسير العمل التجاري وفق العقود والتعاقدات، لذلك تأتي قيمة القدرات الإدارية والإجرائية للوزارة، وأدواتها التقنية كحل جذري، المُعلن يضع خطته الترويجية، تكون موجودة في صورة رقمية قابلة للتداول السريع، يدخل المُعلن بحسابه في التطبيق أو في الموقع، يتأكد من كل شيء، وهكذا نكون قد حافظنا على حق الجميع، وعززنا قيمة النمو في السوق.

-       تسجيل المنصات الرقمية للمُعلن نفسه، وهذه خطوة عظيمة، ولكن يجب أن تراعي عاملا مُهما. أن يُسمح للشركات التي تعمل في مجال التسويق الرقمي بتسجيل المنصات التي تتعامل معها، وبهذا الشكل، يمكن لمغرد فرد لديه عدد بسيط من المتابعين أن يتعامل مع شركة بدلا من أن يقوم بإنشاء واحدة، إن بناء نظام الإعلانات في السوق الرقمي لكي يخدم كبار المؤثرين فقط هو خطأ كبير في حق المتفق عليه، خدمة السوق من أجل النمو، وصناعة الوظائف للمجتمع، وغيرها، لذلك يمكن أن يأتي الحل على هيئة إعطاء صلاحية لكي يعمل المؤثر الفرد الذي ليس لديه عملا تجاريا تحت مظلة إحدى الشركات، وبهذا الشكل هي تقوم بتسجيله، ويكون معتمدا ويسهل ذلك على صاحب الشركة نفسه ليتعامل بهذا الشكل مع شركة لها خبرة في السوق الرقمي، وقادرة على التعاقد السريع مع أي مغرد. ولا أنصح مطلقاً بتعقيد المسألة، وإنما بصناعة نظام تفاعلي لاحق، بعد دخول اللائحة حيز التنفيذ، وبالاجتماعات الدورية مع نشطاء التواصل الاجتماعي سيتم مع الوقت تجويد وترشيق الإجراءات.

-       كثرة التراخيص على الصغيرة والكبيرة لا يصلح، وليتم التفريق بين قدرة صاحب المشروع التجاري على الإعلان في منصة رقمية، وعلى نوعية الإعلان، يحصل على ترخيص تفصيلي به [محتوى الترخيص] وآخر يسمح له بالتسويق لهذا الترخيص من الفترة كذا إلى الفترة كذا، وبالتالي يمكنه نشر مواد إعلانية في كل هذه المواقع، بما في ذلك جوجل، وبما في ذلك المواقع الخارجية، وهكذا نضمنُ أنَّ فترة الترخيص شيء، وتسمح له بالحركة بحرية في المحيط الرقمي، ومحتوى الترخيص شيء آخر، وهنا على صاحب المنصة حماية نفسه، وفكرة وجود تطبيق رقمي يتأكد منه كل معلن من سلامة إعلانه ستكفي، وصلة إلكترونية سريعة، ويعرف ما هو المسموح بترويجه، ويستطيع خلال دقيقة أن يكتب التغريدة، أو ينشر [السنابة] وغيرها من شؤون النشر السريع التي تأتي مع طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي وكافة المنصات الرقمية.

-       يجب أن يوضع في الحسبان حماية صاحب المنصة نفسه من التعرض للخداع والتضليل. وأن يكون هذا منصبا من قبل الوزارة في حماية المؤثرين الصغار، حماية حقوقه التجارية أولا، بحيث ألا يكون النظام الموضوع مليئا بالتقييد، ويفقد العملية التجارية رشاقتها، وسرعتها، وأن يسهل على صاحب المشروع التجاري سرعة الإعلان، بعض المهن لديها فعاليات سريعة وتحتاج للإعلان بسرعة، والوزارة تعي ذلك جيدا، لذلك يمكن للوزارة أن تمنح ترخيصا بصيغة ما، مثلا [يسمح لصاحب ملعب ترتان بعقد مباريات، ونشر ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي كإعلان لفعالية]، وهذه النقطة تحتاج إلى توضيح من قبل الوزارة ولم يتم التطرق إليها في الاجتماع بشكل عام، إن فكرة [ترخيص لك لمادة إعلانية] هذه مستحيلة الحدوث، وسوف تؤدي إلى فيضان من طلبات الترخيص، مما يعني تأخير كل شيء، الحل سيأتي من الوزارة بلا شك، ولا أظن أن جانب أصحاب المنصات لديه أكثر من الاقتراح، سنرى ما تفعله الوزارة في هذا الشأن، وسأوافيكم بما يستجد أولا بأول.

-       نقطة الحصول على ترخيص لنشر مادة إعلانية واحدة مهمة جدا جدا، يجب أن يكون الترخيص محددا بفترة زمنية، تسمح لصاحب المشروع بالتواصل مع أكبر عدد من المعلنين صغارا وكبارا، وهنا لن نقيد أحدا، أن يقتصر الإعلان في المنصة على أصحاب الشركات فقط، والمؤثرين الكبار فقط هذا يصنع بيئة احتكارية، وسوف يحطم المواهب الشابة، ويصنع سوقاً يعاني بشدة يتضخم فيه البعض والكبار فقط على حساب الصغار. يجب فعل شيء ما يسمح للمؤثرين الصغار بالعمل تحت مظلة شركة أخرى، أو بتصريح مخصص لهم، أو بمنصة تسجيل مرتبطة بهم وبأسمائهم الشخصية، أو إجراء من هذا القبيل، نتذكر أن الهدف هو تسجيل كل شيء في حال حدوث خطأ، وليس تعقيد كل شيء فقط لأننا نخاف من الخطأ. هذه نقطة يجب على الوزرة إيجاد حل لها، وأظن أن الحل هو أداة رقمية، بحيث يكون لدى صاحب المنصة الرقمية [الصغيرة] وصلة تثبت لكل شركة أنه مدرج، ومسجل، وبهذا يمكن التعاقد معه مع الحفاظ على الطبيعة اللحظية للمنصات الرقمية.

-       الاكتفاء بالإعلان لمرة واحدة لعلاقة مُعلن مع شركة ما يكفي من ناحية قانونية. لا يجب التأثير على الذين يتحدثون عن رأيهم الشخصي في مقهى يحبونه، أو منتج، هي فكرة غير منطقية، وتؤثر على العملية الإبداعية المرتبطة بالإعلان، النشر لمرة واحدة يكفي. أما [ختم] مادة إعلانية في كل إعلان، هذا يتداخل مع طبيعة المنصات العالمية، ويسبب ربكة مع هذه المنصات نفسها. أظن أن يُعلن صاحب المنصة [لمرة واحدة فقط] أنه تربطه [علاقة عمل] مع الشركة الفلانية يكفي. وأظن أن هذه النقطة تحتاج إلى تجربة وتوضيح أكبر، لا يكفي أن نضع قانونا عاما دون حساب كل الاعتبارات الإبداعية الأخرى.

 

الحلول الكبيرة ستكون رقمية، وأقترحُ أن يسعى الجميع للتركيز على [الإجراء] أكثر من التركيز على القيم المجردة، كالرقابة، والتفتيش، وحماية المستهلك، فالجميع متفق على ذلك. الممايزة والاستماع لأصحاب المنصات خطوة مفيدة، ولكن يجب أن يعقبها اجتماعات دورية لإعادة النظر في بعض الجزئيات. فلنتذكر، أن أصحاب المنصات عادةً ليسوا تجارا، ولا يجب أن نجبر الجميع على دخول عالم التجارة، فالبعض يفضل العمل تحت مظلة شركة أخرى، يجب أن تنظر الوزارة إلى هذا الاختيار من قبل البعض، كذلك، يُمكن استخراج شيء اسمه [ترخيص ترويج رقمي] أو غيرها من التسميات، حيث تسمحُ للمعلن الفرد أو المؤثر الصغير باستخدام منصتها للإعلان التجاري، إن بناء التنظيم بأكمله على حزمة صغيرة من كبار المؤثرين [المشاهير كما يسمون] ليس من نية الوزارة، وليس من النفع العام، هؤلاء أيضا لهم حق في دخول هذا السوق الكبير والذي تسيطر عليه شركات أجنبية كبيرة في الظل، وكثيرون لا يعلمون ذلك، ودخول السوق المحتكر هذا من قبل الشباب العُمانيين يحتاج إلى جوانب كثيرة، أبسطها الجانب التوعوي، وصناعة الإجراء بصورة ديناميكية.

 

أحاول التفكير بأي نقطة فاتتني، وعسى أنني وفقت في هذا السرد. من وجهة نظر المُستهلك، يحق له أن يعرفَ بالضبط المادة الإعلانية التي ينشرها، من وجهةِ نظرِ الوزارة يجب عليها أن تمايز بين الخطأ الذي يحدث من قبل صاحب المنصة، والخطأ الذي يحدث من قبل المشروع الذي يطلب الإعلان، وفي المجمل نتذكر الهدف الرئيسي، بناء سوق رقمي، صناعة وظائف، وحماية الجميع، وتطبيق القانون، هذا هو الاتفاق وتوكلنا على الله ندخل المرحلة التجريبية لهذه اللائحة، ونتعاون أجمعين للخروج بما ينفع سوق الصناعات الإبداعية، والمبدعين، وصناع المحتوى، بمهنية، واحترافية، وإنصاف لجميع الأطراف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأحد، 19 مارس 2023

فتنة الضرير!

 

 

 

قال:

انبذوني، لأستريح.

فلتكن البغضاء في قلوبكم

سأنجو من وجوهكم المتشابهة

لأشبه نفسي!

ليشبهني الآخرون

عندما تورق صُرَّةُ البذور

في جيبي

المليء بالماء والنور.

فلأكنْ، لأكون

لأذهبَ للكهفِ

يتبعني المنبوذون الذين

طردهم المؤمنون بالحياة

لئلا يرهق جفونهم المثقلة بالنعاس

ولذة الأحلام

رجفة عين المنبوذ

وطوفان دموعها الجارف

أمام مؤمنٍ ينام على نمارق العيش

منتظراً شروق شمعة الصباح

لتأخذه إلى ضُحاه

وضحاياه

بكامل أناقته.

انبذوني

لأستريح!

انبذوني

لأبصق في عين الشمس

لأسكب ضوء القمرِ

في حفرةِ الغائط

المرمية بجانب فراشي

انبذوني

لكهفي

أنا راهب السمادِ

والعفن

ولتكن بذورَكم نخيلا وأشجاراً

وليسكرني فطري

النور يخرج من عيني

والسماء بحاجةٍ لكم!

انبذوني

لا أحتاج لكم لأعيش!

لا أحتاج لكم لأموت!

انبذوني

ودعوني وشأني

وإن سقط الكهف على رأسي

فلا تحفروا لي قبراً

أريد أن تختبر الأفاعي نعومتي

وهؤلاء الذين ماتوا معي

ابكوا عليهم

كما أبكيتموني ذات نهارٍ تعيس

جعلني أحب الليل

للأبد!