بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 يونيو 2021

كلام فوق طاقة تويتر

 

 

عشتُ آخر [16] سنة من حياتي، والتي أصبحت الآن [17] في صراعات لا تتوقف، مع المجتمع، ومع السلطة، ومع الناس، ومع الثقافة، وأخيرا مع كل شيء، عندما توقفت عن الصراع دخلت صراعا مع نفسي، وصرت عدوا لها، وكانت مهزلة كبيرة جدا، أن تتمرد لأنك تتمرد، وعندما تصل لمبتغاك تصاب بالهلع! وربما تجن!

لست عاقلا، ولست مجنونا، أعيش بالمتيسر من البصيرة الذي يكفل لي الاعتناء بالمهم حقا في هذه الحياة، أن أرى أمّي مرتين أسبوعيا أهمُّ لي من أن أكون فيلسوف الفلاسفة المتجول بين القارَّات والجماهير التابعة. أليس من المضحك أن تجد الدهشة في العادي! والنمطي!

سبحان مغير الأحوال!

أتمسَّك بهذه العاديَّة المُدهشة. لست ساخطا على الحياة كما كنت، ولست غاضبا. ولا أعبأ كثيرا بما يقوله الآخر عنّي، يحق لك أن تكرهني لا يحق لي أن أمنعك ومن الغباء أن أحاول إقناعك بالعكس، حقي الذي أتمسك به هو نفس حقك في الحياة، أن أجنبك شرّي، وأن تجنبني شرّك، هذه صفقة عادلة وتكفي.

أجمل حياة في العالم تلك التي يمكنك أن تصاب فيها بالضجر. وليت شعري! لم أتوقع في يوم من الأيام أنني سأقاتل العالم لأعيش هذه الحياة المملة، كنت أظنها لعنة حتى اتضح أن الجحيم يكمن في كل المدهشات، يا لطف الله! لهذا تنطفئ الأحلام، إنها من رحمة الله بالإنسان.

الحياة في عمان صعبة، ولا أقصد ظروف الآلة المدنية، أقصد أن تكون في دولة مجتمع قليلة السكان، الآخر هو الجحيم الحقيقي في عُمان، وإن لم تكن مسكونا بالآخر، ذلك المكان الشاغر في روحك يظنه الآخر مكانه، يا لها من مأساة! محظوظ من يولد في عمان التي عدد سكانها 15 مليون نسمة!

أن تتمردَ في عُمان مسار السجون والتمرد على السلطة أسهل بكثير وبه خط عودة، وأكثر رحمة من التمرد على المجتمع. مسكين الملحد في عُمان، يُحرم حتى من اللجوء إلى من يساعده، ما أكثر المساكين الذين يتربص بهم المجتمع بسلاحه الأقوى، سلطة لسان الغريب. رحمَ الله كل من ظُلم بهذا اللسان.

عندما يهيج المجتمع ويستخدم سلطاته وصلاحياته تجاه الفرد، ياللهول! أي سعار غاضب سيحدث، ومن سيكون في المواجهة! متحمس في العشرين من العمر، استعجل الصدام، قد أستخف وأحتقر الأسماء المستعارة لكنني لا ألومهم، الصدام مع المجتمع العُماني مخيف، ومدمر، ولا خط عودة له، ولا رحمة فيه ولا شفقة.

هل تعرف هؤلاء الذين يعيشون الحياة مفزوعين؟ مكتئبين؟ لا طاقة لهم حتى للغضب! هؤلاء الذين تعب المجموع الكبير من التنكيل بهم، سلطة الغرباء! سلطة لسان الناس، ذلك الحصار الشرس والتأجيج والتأليب وإغراء الغريب بفرد. هذا هو الظلم بعينه، يتوزع وزره بين الجموع فنعجز عن لوم ظالمه! ظلم!

تويتر الذي كان ظاهرة ثقافية نخبوية مليئة بادعاء المثالية أصبح اليوم بيئة واقعية،هذا الذي نكتبه في تويتر يعكس أكثر من الواقع، وأبعد، يعكس النفوس وتأزمها وحزنها ويأسها وغضبها وتواطئها، يقدم لك على طبق من ذهب التطابق التام بين الذي تقرؤه والذي يُعاش في المجتمع الكبير.

تغير الزمان!

لماذا أهذون؟

 

 

مرَّ ما يكفي من العُمر دون أن أسأل هذا السؤال؟ ما الذي يا تُرى يجعلني مهذوناً؟ قبل استرسالي في السرد، والتداعي الهذوني دعني يا عزيزي المتلقي أضع بعض النقاطِ على حروفها. لستُ ألتزم بتفسيرك لهذه الكلمةِ، لديك الحق في تصوراتك المسبقة عن ماهيَّة الهذيان، هذا هو استحقاقك النقدي المقدَّس والذي، بلا شك، تتمسك به بشراسة. الهذونة كلمةٌ تخصُّني، أصفُ بها هذا الذي تقرؤه الآن، والذي تشاهده أحياناً في اليوتيوب، ليس دائما، فقط عندما أنفصل عن كائني الاجتماعي إلى هذا الكائن المعنوي [المهذون] المتمسك بمعناه، وبخياراته.

الهذونة شكلٌ من أشكالِ التدوين، ألا يكون لك هدفٌ براغماتي من كلامِك، أن يكون هدفك هو التعبير عن اضطرابك وحيرتك، وأن تتمسك بحقك في اللامبالاة، وفي السخرية من هذا العالم، وفي الهذيان عنه، في تحويلِه إلى عالم متخيَّل تهاجُم فيه الأشباح التي ترعى في خيالِك أكثر من الأشباحِ التي تَسكن الواقع. الهذونة مسٌّ من الذهان، هو كيان لغوي منظَّم الشكل عبثي المضمون، المهذون هو ذلك الذي يهذي ويبحث عن نور الحكمة في جنونِه، هذه هي الهذونة في تعريفها الخاص بي، أن يكون لك تعريفك الخاص فلا بأس في ذلك، حاول ألا تحشرني في علبة الكبريت التي تبادرت إلى ذهنك عندما ارتطمت عيناك بهذا المصطلح العبثي، وما دمنا قد اتفقنا على أن نختلف، أعود إلى سؤالي غير الإشكاليِّ، لماذا أهذون؟

أهذونُ لأنني أتمردُ عن قصدٍ على نظرية المكانةِ التي ارتبطت بالكتابةِ في هذا الكوكب. لا شيء مميز في أن تكون كاتبا، ولا شيء مهم، أو وضيع في أن تكون كاتبا. هذه الحروف ظلٌّ للكلام، إحدى تجلياته التي استطاعت أن تبقى بعد أعمارنا، نحن نقدُّس إناء الكتابة أكثر من الكتابة نفسها، ولهذا السبب تحديدا أفضل الهذونة، هذا الارتماء الحر في مُطلقِ الكلمات والتصورات، هذه العجينة الذهنية التي تُفلت بعض شعراتها من العجين، شعرة معاوية إن أردت التحذلق، أو فلأقل الخيط الفاصل بين ما هو واقعي، وما هو حتمي. إنه خياري، وقراري، وأحترمُ ابتعادك عنه، ونعم قد تمارس استحقاقك بعيدا عني، ولا بأس في ذلك، لكنك قد تقترب لتفرض عليَّ ما أرفضه وهُنا سأختلفُ معك، سأرد عليك بتهذيب، أو ربما إن كنتُ في إحدى لحظاتي السعيريَّة فسأشدُّ عليك، ولعلنا نتحول  إلى خصوم وربما أعداء، وقد يصبح الأمر شخصيا، هذه من المآسي الذاتية التي أعيشها في هذه الحياة، لا ذنب لك في ذلك، ولا حق لك أن تجعلها قضيتك، فمربعي في الكلام حقِّي كما هو حقّك، وليلتزم كلٌّ منا بحقوقه في الحياة بعيدا عن اعتبار تحيزاتنا المسبقة تجاه الآخر حقا من حقوق القمع والإخراس.

أهذون لأنني أختارُ ذلك، فالكتابة أداةٌ يملك الجميع استخدامها، لها وظائفها الكبيرة في الحياة ولست بصدد تعريف المُعرَّف، أستطيع أن أقول أنني خائف من نفسي، ومن كل التناقضات التي تمزقني، وأنني رغم كثرةِ ما أبوح به للعالمِ ما زلتُ في لحظة الكلام الأولى، تلك الصافية الشعاعية التي تكمن خلف الكلمات، وحتى الذي يشعر بها لا يملك لغةً ليشرح بها ما يشعر به. شعاعٌ هالتنا البشرية الذي ينبلج منه الحدسُ وتشتعل به شموع البصيرة. لا أنتمي لشيء لأنني لا أعرف ما يكفي عن الانتماء لأي شيء. عشتُ هذه الحياة كأنني شجرة جرفها الطوفان، لستُ جافا، لكنني لستُ ثابتا، وأخاف كثيرا أن تكون الأفكار موضوع صدام وصراع. عشتُ هذا الصراع بما يكفي لأفهمَ أن هذه الحياة لا تُعاش مرتين، وأنني لست في العشرين من عُمري غافلا عن وجود البؤس، والشياطين وحتمية وجود الظلم، والظالم والمظلوم. أهذون لأنني لست يائسا ولست مريضا بالأمل.

لا أعيش لأهذون، العكس هو الذي يحدث، إنني أهذون لأعيش، لأفهم، لأبتكرَ وسيلة تقرّبني من صراع الشياطين التي تعصف برأسي. لذلك أحاول ألا أنتمي لأي اختيار جماعي من اختيارات الحياة، وياللهول! لا أنسي أنني عربي، وعُماني، الحياةُ بهذين الشرطين لهما اشتراطات كبيرة تعلمتُ مع الوقت أن أتقبلَ الممكن منها، وأن أنحازَ إلى كل ما يمنع الواقع من التدخل في خياراتي. لست في حالةٍ تجعلني أخافُ مما أؤمن به، مطمئنٌ إلى عاديَّتي المفرطة في النزوع إلى الحياة المتعارف عليها، لم أعد متمرداً لأنني تمردت على التمرد، ولست تابعا، وليس لي أتباع، أي حياة أكثر منطقية من حياة المهذون؟ لهذا السبب أهذون، لأنني لست جنديا في معركة، ولست طاغيةً يوزع أوامره ونواهيه على أتباعه، لستُ أكثر من إنسانٍ يعيشُ في دوَّامة أسئلته دون أن يرهق العالم بها. أهذون لأنني أضعف من أن أعيش دون الكتابة، وأقوى من أن أعيش لأجلها. وجدت نفسي في قصَّة غريبة أعيشها كأنني شخص آخر، عشت من الجحيم الاجتماعي ما يكفيني لأتجنبَ لعبة التأثير في الناس، أو التأثر بهم. رحمني الله بهذه البداية الجديدة وأتمسك بالحفاظ عليها، وياللغرابة أي سخرية قدرية تجعلك تدافعُ عن العاديِّ في حياتك؟ أن تكون عاديا يعني أن تعيشَ حياة جميلة، لست مرهقا بتلك الامتيازات الوهمية التي تؤججها الذات، والتي يشكل فيها الآخر شرطا لازما لتكونها، ماذا عساه أن يريد الآخر منّي ولستُ أتدخل في أي شيء يخصَّه! وأنت عزيزي المتلقي ألن تغضب وترعد وتزبد إذا تدخلت في شبر من مساحتك! لذلك أهذون، لأقي هذه الورقة البيضاء من خطر الآخر، الغريب، ولأنني عُماني فهذا الآخر له سلطة كبيرة، واشتراطات كثيرة، ومزايا واسعة إن انضممت إلى قانونه الضمني، أن تكون معه ومن خلاياه المناعية، وأن تصمتَ عندما يفتري الغريب على غيرك، وأن تحمد الله أن ذلك الذي يُجلد بالسياط ليس أنت. أن تكون عُمانيا فهذا شيء جَميل، أن تكون كاتبا عُمانيا فهذه معركة صعبة، الناسُ هُنا في حالة النشأة، والمدنية والثقافة الاجتماعية في حالة النشأة، وزاد العصر المعلوماتي الجديد صعوبة الخيارات، هل عرفتَ لماذا أهذون؟ لأنني لا أريدُ أن أحدد للآخر ماهية الصواب والخطأ، لأنني أختار أن أكتبَ لأنني أحب الكتابة، لأن الأفكار ليس أداة، لأنني لا أريد أن أكون طرفا في صراعٍ غير منصف، ولعبة من ألاعيب الشيطنة، لأنني أخاف من نفسي، لأنني متناقض حزين مصاب باليأس من أن يفعل شيئا في محيط الجموع، لأنني لا أريد أن أكون سجين التعبيَّة، ولا أريد قطيعا من الإمَّعات أفكر نيابة عنه، أهذون لأنني أحب هذا الذي يحدث الآن، قشعريرة الصفاء مع النفس، واكتشاف النداء الغامض الذي يجعلني أكتب، هذا يكفي، يكفي كثيراً لأختار خياري، لأنعزل، لأبتعدَ عن لعبة الأثر، والإقناع، والتأثير، لأحمد الله على عودتي إلى مربعي الخاص، وعلى نهاية عصر مريرٍ من سلطة الغريب على خياراتي وحياتي. لم أعد ساخطا على الحياة، ولست غاضبا ولا متحسرا، آمنت أن الله أقدرُ على كف شر مخلوقاته. في الكتابة قوَّة لكنها أيضا فخ من فخاخ النفس، أن تشعر بقوتك فهذا أخطر عليك من أن تكتب وأنت ضعيف، شيطان النفس البشرية، وخطاياها السبع التي لا تُفلت أحدا من براثنها، أن تهذون يعني أنك لست ضعيفا، وفي الوقت نفسه أن ترفض استخدام العنف اللغوي، وإن رحمك الله ولم تضطر لاستخدامه في الدفاع عن نفسك فأنت في خير كبير، ونعمة تستحق الشكر. وراء أمر [اقرأ] من يكتب، وسبحان الله العلي العظيم.

 

 

 

 

 

مأساة الفرد الغاضب!

 

 

 

أن تكون عُمان مجتمع أسري محافظ هذا لا يعني أن الجميع عليه أن يكون محافظا، وأن يكونَ عائلي التوجه، هذه الحياة أقسى بكثير من أن تمنح الجميع عائلات صالحة، البعض يتمرد مضطرا، ويجدُ حياته تنساق في مواجهات لم يخترها، سيضطر للقتال، وللمواجهة، فليس لديه سوى ذلك ليعيش دون أن يُفترس.

قد تكون عشتَ في كنف عائلة صالحة، أبوك ليس سكيرا يعود للمنزل ليصفّع أمَّك أمام عينيك، لم تعيش يتيما في منزل زوجة الأب التي عقّدتك، لم تهرب أو تُطرد من المنزل. هؤلاء الذين مرَّوا بهذه الظروف لا يمكن لهم العودة ليعيشوا حياتك أنت، بكل اقترابها من المثالية والنمطية.

المجتمع الكبير وطريقة حياته ثقافة تحمل قوة الشيوع والتكرار. المتمرد في عُمان يواجه طبقات دفاع كثيرة، إن أراد أن يغيّر فأمامه عمره من النضال ولعله يكون محقا، ولعله ينتصر ويرفع الظلم عن نفسه وعن غيره.

المجتمع الكبير في عمان ليس عادلا بالضرورة ليضمن حق الجميع في الحياة كما يحب.

القانون المفزع في عُمان هو قانون الصمت. أن تختلف عن النمطي قد تعيش وتكمل حياتك كما تحب وتشاء، قانون الصمت هو الشرط، هكذا يعيش الملحد في عمان، وهكذا يعيش كثيرون، والغربة هي نصيب الذي يقف في صف المجتمع المحافظ، والذي سيستنفر وسائله للدفاع عن ما يألفه من ثقافة للعيش، وأسلوب للحياة.

وثمة مجال معقول للمواجهة في عُمان، تستطيع أن تدافعَ عن حقك الشخصي ونمط حياتك ما دام الغريب يتدخل فيها بلا مبرر. الغرباء هم الجحيم الحقيقي في عُمان، هم طاعون التفكير، كنت محافظا، أو لبيراليا، أو مؤمنا، أو ملحدا، أو معارضا، أو مواليا، سلطة الغرباء في عُمان كبيرة جدا،وقاسية، وظالمة.

وثمة مساحة للحياة في عُمان، إلا عندما تُرفع عنك الحصانة ويهاجمك الغرباء، سلطة الغرباء في عُمان مهولة والخوف من [كلام الناس] مبرر جدا، البعض يتعايش معها بالعزلة، والبعض يعيش بوجهين، والبعض يفعل الأمرين معا، أقسى كارثة تحدث للفرد في عُمان أن تشتعل تجاهه نقمة الغرباء، فيصبح عبرة!

ولا رحمةَ بعد هذه الحرب، الفرد المتمرد الذي يشاكسُ الشروط الضمنية للحياة في المجتمع العُماني سينال درسا قاسيا من الصعب أن ينجو منه وهو بكامل سلامته العقلية، إنها حرب تدمير، وتشنيع، وتحطيم، وتقطيع، وبتر كامل، استقواء عنجهي وتنمر جماعي، وصناعة إنسان قتيل اجتماعيا ميّت الأمل والفرص.

قانون الصمت، وقانون الستر، هذه مقدساتٌ اجتماعيةٌ محاطة بالغموض في المبررات، إنها تحدث لأنها تحدث، الخوف من كلام الناس ومن سلطة لسان الغرباء شرط من شروط الحياة في عمان، وكل دولة قليلة السكان لديها هذا الذعر، فخياراتك في الحياة مهددة ما دمت تشاكل سلطة المجتمع، وأدواته، وغربائه.

ولذلك يحتفي الناس بمتنمر، مع أنه يتدخل في حق الآخرين، وفي خصوصيتهم، يحتفي به البعض لأن الوقوف في وجهه يعني إبطال سلطة الغرباء، ولذلك يفتك البعض جماعيا بفرد، لأنه تجرأ أن يقولَ ما لا يناسبُ التوجه الاجتماعي العام، قانون [اخرس] واحتفظ برأيك لنفسك، حتميات الفزع الاجتماعي العماني.

تستمر حياة الفرد ما دام ملتزما بهذا القانون السري الذي يربطه بالمجتمع في عمان، مهما كانت خطيئته الاجتماعية فذلك شأنه الخاص حتى يصاب بالجنون ويجابه هذا الطوفان الاجتماعي بكل أدواته وخطاباته وثقافته، خلايا مناعية تلقائية التفعيل عندما يتعلق الأمر بشكل المجتمع النمطي، وثوابته.

صدامٌ أزليُّ، يستثمره البعضُ لتحقيق مصالح اجتماعية، والبعض للظهور، والبعض لأنه يتعلم وذلك يروي فضوله، من هو عاطفي بلا أفكار، والعقلاني بلا عواطف. فوضى حقيقية من بذور النشأة، وصراع الثقافات والحضارات، هذه الحياة قاسية وغير عادلة، سنعرف ذلك عاجلا أم آجلا.

أصعب مسار ممكن في عمان هو أن تكون غاضبا، الغضب أداة في المجتمعات قليلة السكان، أداة موجهة، ونادرا ما يحدث لظروف طبيعية، أصعب حياة ممكنة في عمان هي أن تكون غاضبا، ومتمردا، وساذجا في بداية عُمرك، وغافلا عن شياطين العالم البشري، شياطين الفضيلة الذين ينصرونها بالفتك بالضعفاء.

وهكذا تحدث القصص الحزينة. عندما يجد الغرباء ضحيتهم القادمة، أين ستهرب وقتها؟ إما للجنون، أو للهرب من الهرب، إلى أمنية أن تعيش شبه حياة في هذه العالم. هذه القسوة الباذخة في إيجاد المبررات هي أعمارنا التي تمضي، وكل أخطائنا التي نجونا منها لنحكي شبه حكاية، عن شبه حياة!

 

 

 

من البريء حقا؟

 

 

 

بدأت أقتنع أن طاقة الشباب المتقد، وعمر والعشرين في جنونه، مع وصفة من الضياع والصداقات الخاطئة هي التي تمنح المواجهات العبثية الكاميكازية مع المجتمع، والأنظمة، والدين صفة القضية الوجودية من شخص يرفض الاعتراف بينه وبين نفسه أنه غاضب أكثر من كونه مظلوم ..

 

ولا أعمم ...

هُناك بشر ليس لديهم خطة، يقودهم الغضب والنقمة أكثر من أي حُلم حياة آخر، يقتحم طوفان القضايا البطولية من أجل البطولة ذاته، الناشط المترف الذي يشبه اليساري القادم من عائلة برجوازية، النشاط من أجل قضية مستحقة ليس بريئا كما يتجلى في اللون الساطع لكلمة حقوق.

ومن هذا البريء من الأنانية والتطلعات لمصالحه الشخصية! هؤلاء دُفنوا تحت التراب الآن، ومن يشبههم في طريقهم للموت، للخلود، القضية تستحق دماءهم وسيمنحونها، من الناس من يأسف لحاله لأنه ليس في دولة محتلة، وليس سجينا، وليس مظلوما، ولا يمانع أن يلبس هذا الدور لهالته البراقة.

إنها مجازفة محسوبة، وهي جزء من صفقات المصالح الضمنية بين الناشط والمجتمع، قليل من النشطاء الذي يمنح نفسه للقضية، لديه خط رجعة، وربما صفقة سرية، وربما أمل لمكانته في عهد قادم أو جديد، من البريء في هذا العالم؟ الحماقة كل الحماقة أن تبكي على عدم نقاء هذه الحياة!

ثمة نشطاء ذهبوا للقضية، يحسبون حساباتهم الدقيقة ويعرفون وقت الخروج منها، وآخرون أتتهم القضية تطرق الباب، اضطروا اضطرارا لهذه الثورة ضد الكيانات الجمعية.

 

أظن أنني من الأحسن أن أكمل كلامي في تدوينة ..

 

ضاق تويتر على ما أريد قوله .. حسنا، إنني الآن هُنا في هذه الساحة البيضاء، أستطيع أن أعرف ما أريد قوله، وربما أن أقوله خارج ذلك الاضطرار التجاري لتويتر وغيره من مواقع التدوين قليلة الكلمات كثيرة الانتشار. أحاولُ أن أطلقَ أحكاماً قاسيةً على سنواتٍ من عُمري، وقد تستوعب هذه الأحكامُ آخرين معها، أيضا يعيشون ذلك الاتقاد الهائج لتسمياتٍ كبيرة مثل [القضية، الحركة، الحراك، التنوير]، يمكنك كعماني أن تستقرئ كل النتائج المخيبة لكل الحراك الذي حدثَ في عمان قبل باسم هذه التسميات المشعَّة. من البريء حقا؟ هل يوجد أبرياء في هذه الساحات المليئة بالمثالية؟ ليت شعري، أليست حماقة عمياء أن تقرأ الواقع آملا أن المثالية هي أساس وصفه والتعامل معه؟ لا تعريف آخر للحماقة يمكن أن يشبهها مثل هذا!

 

لا أعرف الكثير عن هذا الجيل، عشرون عاماً أثير زمني يكفي لأجهلَ عنه معظم ما هو عليه. أعرف عن جيلنا ما يكفي لأطلق أحكامي، على نفسي أولا ثم على ذلك التجمَّع المُرتجل الذي يبالغُ البعض في وصفه بالكبير، والفارق، والتاريخي، والمؤثر، وكأن ذلك الفشل العارم الذي أصاب الضفتين لا يكفي لوصفه بالخيبة؟ كنت في العشرينات الحارقة من العُمر، الوضع العام لم يكن كما هو الوقت الآن، كانت لعبة الإنترنت جديدة وتضغط بكل قوتِها على أدوات المؤسسة المهترئة، مؤسسات منع الكتب والتصريحات وملاحقة الأفكار، المعركة التي حدثت لاحقا عاشت تأسيسها بما يكفي قبل أن تحدث أما العقول التي حملتها فقد كانت تتفق في شيء واحد، تمسك القلم باليد اليمنى والحاسبة باليد اليسرى، من هذا البريء حقا؟ يمكنني أن أسمي ثلاثة أشخاص فقط ذهبوا إلى هذا الجحيم بصدورٍ عارية، ماذا أستطيع أن أقوله عن البقية؟ وما فائدة الخيبات الآن؟ أليست دروس العُمر كلها تأتي من هذه الحسرات؟ من النقيُّ حقاً؟ لا أنقياء في هذا الكوكب، كانت الطفولة آخر فرصنا للنقاء وسنعيش لنهاية العُمر في هذا التكهرب القدري ونحن نتمنى أن نظنَّ بالواقع خيرا، أما الحقيقة فهذه الحياة معركة بين الخير والشر وكل مُحايد بينهما عُملةٌ لأشرار الخير، أو لأخيار الشرور، هذه حقيقة بديهية في هذا العالم المحيِّر.

 

علمتني الحياة ألا أثق بأي حراك جماعي، ولا سيما إن كانت له قيادةٌ ارتجالية تتشنج في سرد المطلقات الحيوية وتتولى الحديث باسم الجَميع، الديمقراطية التي لم تتأسس في المجتمع العربي لم تتأسس أيضا في مجتمعه الثقافي ولذلك أستطيع أن أقف أمام أخطائي في الماضي كما أقف أمام أخطاء المرحلة، ما دام هُناك خط عودة للناشط فلا تحسب حساباً لما يفعله بهذه القضية التي يتناهشها نشطاء المثالية، وشرطة النقاء، المجانين فقط لا حسابات لهم أما العقلاء فلديهم من الذكاء الاجتماعي ما يكفي ليكونوا نشطاء في وجه الناس ووسطاء في اجتماعاتهم الخفية مع الحكومة، إن كان ثمة أزمة للقضايا في العالم العربي وفي عمان تحديدا فهم هؤلاء الذي يعلمون كيفية اللعب على الممكن والمعقول ويمارسون السياسة بتعريفها الأقدم والأشهر [فن الممكن]، أن تكون ناشطا، وأن تُقنع الناس أنك تنتمي إلى ذلك الحراك النبيل الذي قد يوصلهم إلى حقوقهم، وأن تكون صوتهم وفي الوقت نفسه أن تطيع تعهداتك السريَّة التي حَسمت سقف أفعالك قبل أن تحدث. عندما يتعلق الأمر بالشعوب فإن القوَّة التي تتحدث، لقد نجحت الثورات في تغيير رؤساء الأنظمة لكنها لم تستطع اجتثاث المعضلة الثقافية الأقدم، عندما يذهب الاستبداد الفرديُّ تحكم الثقافة العالم، المؤسسات العلمية، والأكاديمية هدف السلطات العربية الأوَّل لماذا؟ لأن مسار التاريخ يأخذك إلى نهاية التسلط الفردي وبالتالي إلى بداية قوة الوعي، قوة الثقافة وجميع الدول العربية وأنظمتها تدرك هذا الدرس، وتعلم جيدا أنَّ تعطيل هذا الجسر هو الضامن الرئيسي لخط العودة، للثورات المضادة، وهكذا دواليك تستمر حركة التاريخ بانتظار الجسر البشري الذي سيمهد بجثثه الميتة وبعقوله المُضحيَّة وسيوصل القطعة الناقصة بين الجموع والوعي، عندما يصبح الفردَ مدافعا عن الجمع ويصبح الجمع ضامنا لحق الفرد، هكذا حدثت الديمقراطية وتفاوتت الأمم والشعوب في العقد الذي يضمن استمراريتها. ولست بصدد مديح الديمقراطية كونها نهاية التاريخ والتطور الأسمى، الثقافة هي الأعنفُ في هذه المعادلة المتناقضة، ولذلك نبقى في محيطنا العربي متسائلين عن السبب الذي يجعل الغرب غربَ العلم، والحضارة، والحقوق، والقانون، ويجعل الشرق شرق الاستبداد والتسلط وصناعة الطغيان، المعضلة ليست سياسية، إنها معضلة الجسر الناقص بين الجموع وحقها الطبيعي في تكوين ثقافتها بعيدا عن الأدلجة والتوجيه القسري، وأظن أن الأزمة السورية وبقاء الأسد رئيسا بعد كل ذلك الدمار يكفي ليخبرنا ماهية المراهنات التي تستمرئ الأنظمة العربية ذات الديمقراطية المزيفة اتخاذها، لماذا أكتب كأنني في العشرين من عُمري أعيد طرح أسئلتي تجاه الحتمي من الحقائق في عالمي العربيِّ، ربما لأنني أكتب عن هذا الموضوع، موضوع النشاط والحماسة وتواتر الخيبات.

أتابعُ ما يحدثُ في الساحة العُمانية، أعيد طرح كل ما يحدث على ذاكرتي ومن ثم أحاول تطبيق رؤية نقدية تجعلني محايدا، هذا الوهم النقدي الأقرب للنفس عندما تكتب، وأنت تشعرُ أنَّك لا تنتمي لأي طرف. لن أقول أن الثورات والنشاط الحقوقي لن ينجح، تلك الانتصارات البسيطة التي تكسر ممنوعا هي التي تبقى أما الصورة النهائية والكلية فما أن تصل إلى مقارعة النظام فتأكد أن تكون جاهزا للنتائج، على الأقل أن تكون محصنا من تلك الحرب الشكليَّة التي تكون فيها ناشطاً قد عقد صفقته من قبل، هذه كانت آفة الجيل الذي انتميت له وهل أبرئ نفسي، من المؤكد أنني لا أبرئ نفسي. هل يعلم هذا الجيل هذه الحقائق؟ هل يعلم ما وراء الأسماء اللامعة من تناقضات، بما في ذلك هذا الذي يكتب هذه السطور؟ هل يعلم نهايات الحركات المنظمة والجماعية؟ وهل يعلم النشطاء أي مصير يتربص بهم من رفاقهم في النضال؟ كل هذا يحتاج أن يحدث وأن تقع الفؤوس على الرؤوس لكي يخرج لنا من هذا الجيل المطعَّم بحريات المعلومة وليتعلم دروسَه المستحقة من تناقضات النفس البشرية، إنه موضوع وقت وانتصارات وهزائم. الوقت سيمضي ليتعب البعض ويسلَّم الشارة لغيره، والانتصارت ستحدث عندما ينجحُ المجتمع في الوصول إلى حقوق جديدة، والهزائم ستحدث عندما يحل مشهد الطمع، ولا أتحدث عن بيع القضية فهذا الكلام أكبر بكثير مما يحدث، أتحدث عن اليوم الذي يختار فيها الإنسان سلامته ومصالحه ويسلَّم عمل سنين من [النشاط] إلى العدم، هذا الذي ينهزم ويتوقف أنبل بكثير من ذلك الذي اختارَ أن ينضم للخصم، أو على الأقل اختار أن يقتات على أيام الزمان الفائت عندما كان بطلا، وكان مصارعا للاستبداد، وكان أيضا ناشطا لامعا يظن به الناس خيرا، من النقي حقا في هذا الزمان؟ الأنقياء يموتون في هذا الكوكب أما أصحاب الحسابات المزدوجة فهم الذين يبقون في النهاية، يعرفون الصفقة التي يختارونها ويعرفون وقت التوهج ووقت الاعتزال، يعرف متى يتكلم، ويعرف متى يصمت، ولعل قضية النسوية التي تحدث هذه الأيام هي خير مثال، أين اختفت فلانةُ الفلانيات الآن؟ لقد انشغلت عن قضيتها بالصمت، لماذا؟ لأن الوضع العام لا يحتملُ أن تكون مع رفيقاتها المناضلات، الجو العام كله الآن مشحون ضد النسوية، فالذي يُستفزُ من المرأة بشكل عام أيضا يقتحم هذا المجال، هل هي حرب ضد النسويات؟ أم ضد المرأة؟ لا يهم، المهم أن يعبر عن ارتباكه الوجداني تجاه قضية المرأة، والنساء يعلمن قضيتهن جيدا، بوصلة القمع الاجتماعي، والقمع المنظم تتجه الآن لقضية النسوية وسوف يحدث الكثير في قادمِ الأيام، إنه موضوع وقت قبل أن نرى المشهد يتكرر، فلانة تتوب عن النسوية فتغري العالم بنسوية ماسونية مدعومة من الغرب وشياطين الغموض، وأخرى متحمسة حقيقية سوف تكتشف الدرس بالطريقة المرَّة، أنها لم تعرف بعد ما الذي يحدث في هذه النشاطات الجمعية، ستعرف درسا عن اشتراطات الحياة في الدول العربية وعسى أن تتعلمه دون أن يضيع ويفلت غدها عن يدها، انظر للتاريخ كيف يتكرر واحزن قليلا، هذه الحياة تكرر نفسها، وليس عليك سوى أن تتأمل، الوعي لا يكفي لإيقاف أي مأساة فردية في هذه الحياة، الحذر والخوف أكثر ذكاء في إيقاف المآسي، ولذلك يعيش الجبناء حياة أطول.

 

 

 

 

الاثنين، 28 يونيو 2021

كسر الرابط المقدّس

 

 

 

يشتعلُ المجتمعُ العُماني اليومَ نقاشا ومجادلات، وصدامات، واتهامات، وتكهنات، ويلعب الارتياب، والمنطق، والتحليل في ساحةٍ واحدةٍ. منهم من يبحث عن الحقيقة باسم الفضول، ومنهم من يجيّرها باسم انتمائه السابق. مهرجانٌ من عواصف الرأي، والرأي المضاد، وألعابٌ لا تتوقف من ذوي الأجندات الذين يسعون في أرض الكلمات، هذا يسوِّق الخوف والظن، وذلك يجابه القمع الجمعيّ، وذلك الذي يدين الضحية، وتلك التي تتبرأ من كلِّ شيء باسم التعميم الشاسع، والحزازة الذاتية، وهذا المتخشبُ عاطفيا الذي يحلل كل شيء مجردا من زخمه العاطفي كما يفعلُ كاتب السطور في خطيئته التي يقترفها في هذه اللحظة.

توفيت في عُمان فتاةٌ في عُمر الزهور، كيف؟ لا أعرف! وما الأسباب! لا أعلم. خرجَ الأمر من يدي أصحابِه إلى ساحةِ الارتياب والتكهنات الكُبرى، الرأي العام الإلكتروني بما له وما عليه من استحقاقات عامَّة وخاصَّة. تولى فريق الذاتية المفعمة بالاستحقاق إما تهييج القضية، أو تحويلها لمعركة دعاية، أو المتاجرة بها باسم حقوق المرأة، أو باسم التوعية الدينية، بل وحتى السياسية والاجتماعية، كل هذا حدث ولم يكن لعائلتها أي تصريحٍ أو توضيحٍ. لم تكن العائلة مُلزمة لأي تصريح لكنها اضطرت لذلك فعُمان دولة مجتمع قبل أي شيء آخر، وهذا المجتمع ـ قميص عُثمان الأكبر ـ عندما يهيجُ فإن من أفرادِه من ينسى الحقوق الشخصيَّة من أجل تلك الحزمة الغامضة من المفاهيم المبنية على حق الفردِ في مجابهة المجتمع، لا يمانع البعض أن يحمل رفات ميِّت في مواجهته للأحياء، من أجل ماذا؟ من أجل الحياة! والتصورات المثالية، وكل شيء ممكن في حروب الدعاية، والدعاية المضادة وصراعات الشيطنة الرائجة في محيطنا العُماني، والخليجي، والعربيّ. بقيت قضية الفقيدة خارج الضوء حتى نبش الغرباءُ في المأساة، همزَ من همزَ العائلة، ولمز من لمزَ الدين، وتناثر لعاب المتحمسين من مدافعي العدالة الاجتماعية، أو مناهضي القمع الديني، أو ثوار الأسماء المستعارة الذين يُشعلون حرائق اللغة بعيدا عن أسمائهم، وحياتهم، وهوياتهم، وحقائقهم الوجودية البسيطة، لقد بدأ مهرجانٌ لا نهايةُ له من التخمين والتكهن، وأصبح الارتياب سيد الموقف، وجاء كاتب هذا السطور بكل تخشبه العاطفي ووقاحته الفكرية ليصفَ، وليحلل مخالفا بذلك كل انتمائه العاطفي الذي يؤمن أن خيرَ ما يُفعل هو الصمت وترك أهل الدمِ ليتحدثوا عن دمهم، وما أبرئ نفسي وما هذه النفس الأمارة بالسوء إلا الجامع المشترك بين الجميع، كل إنسان، وكل عقل، وكل صاحب فكرٍ وحرفٍ وبيان.

ثمَّة من نكأ حكايةَ الموتِ، ذلك الغامضُ الذي لا تُعرف ظروفُه، وظهرت بعض الأخبارِ المؤكدة من لسانِ أصحاب الشأن، فلا غيرهم له الحق في إبلاغِ هذه الساحة المسعورة بالظلم، والتنمر، والتدخل، والفضول بما حدثَ، عائلة الفقيدة التي تعرضت للهمز، واللمز، والمتاجرة بدماء فقيدتهم تتحدثُ أخيرا، ليشتعلَ الموقف مرَّة أخرى، وليخرجَ الأمر عن حزنه الشخصي إلى جمود العقل المحض، وألعاب الجموع والدعاية، وحروب أهل اليمين مع ذوي اليسار، ومجددا تَدخل هذه العائلةُ المنكوبة معضلة التكهنات، الغريب باسمِه المُستعار يتفنن في كيِّها، واتهامها بالتقصير، ينكأ الجرح الكبير من أجل حزازته الفكرية الخاليةِ من التعاطف البشري، فتعاطفه مع الفقيدة التي لم يكن يعرفها، وربما لم يعلم عنها حتى خبر وفاتها يسمحُ له أن يدافع عن فتاةٍ توفَّت في ظروف غامضة، لا يعلمُ عنها، ولشهور ولا علمَ يقين عن هذه الحادثة يأتي من ينكؤها، من يعيدها للسطح، من يلعب لعبة الأفكار حيث تجب العواطف، ومن يرفع قمصانَ الفكر في وجه الحق الشخصي، والخصوصية التي تقدَّس في عُمان إلا عندما يتعلق الأمر بسعار الغرباء وحق الأسماء المستعارة في هذا الزمن الجديد في تلبس أزياء الحقيقة، ومعطف المحاماةِ الوجودي في الدفاع عن ظُلم فقيدة أصبحت فجأة ضحية العائلة والقمع والعنف الأسري، وكأن الأولوية الآن هي إيجاد الجلَّاد الكبير الذي قاد لهذه الخسارة الفادحة، ومن غيرها؟ من غير العائلة ليلومَها الجاهل الغافل الجبانُ باسمه المُستعار؟ أما المجتمع الكبير وأفرادُه الغامضون وعصابات الأسماء المُستعارة فلا تُلام، فمن يلوم الأشباح على أحداث الحقيقة؟ المُلامُ هو التكئة الأسهل لدى ربابنة التفكير الإمَّعي الوضيع، المُلام هي العائلة التي فقدت ابنتها، والنتيجة صراع دعائي، ومعركة دفاعٍ مستحقة من أهل الحق الأقرب للحقيقة أمام أشباحِ الغموضِ المتجنية بكل ارتيابها المعلَّب وتحيّزاتها المسبقة، وتوقعاتها التي رجمت بالظن وجعلته موضع الحقيقة، فلا نامت أعين الجبناء!

لا شيء يُلزم العائلة بالتبرير أو التوضيح، وما أقبحَ من جعل المرض النفسيَّ العذرَ الذي يهمزُ به هذه العائلة ليؤطر مصابها ويبرر حزنها ويشمت فيه بحجة التقصير! وكأن أزمات النفس المرعبة التي تقود خُمس من يعانون من بعض أزماتها إلى الموت سؤال يجيب عليه من فقدوا ابنتهم في واحدةٍ من هذه المصائب الغامضة، والتي وإن عُرف بعض أسبابها فقد ضاع باقيها في غياب الموت، أصبح على العائلة المنكوبة بالفقد أن تبرر أزمات النفس الغامضة التي عجزَ العالم عن حلِّها، وعجز المجتمع البشري عن فهمها، وأصبحت هي المقصرة الأولى في حالةٍ من حالات الموت، فهم يلامون على عدم معرفتهم ببواطن النفوس، ويلامون على تقصيرهم في قراءة الغامض الوجودي في النفس البشري، والغامض الفردي في الفقيدة، وهم يُلامون على قصورهم في معرفة الغيب، ما أسهلَ أن تلومَ أهل المصابَ وهو ليس حزنك، وليس مصابك، وليس ألمك، وليس جرحك! ما أسهل عمل الجبناء في هذا العصر الجديد، وما أبخس هذه القضية التي تناست كل الحقوق الفردية لأهل المصاب من أجل أجندات الدعاية وكل المحاربين من أجل العدالة الاجتماعية الذين يروق لهم نسف حق الآخر في الخصوصية، والاحترام البديهي من أجل حزازاتهم الشخصية وتحيزاتهم المعلّبة، لا شيء يُلزم هذه العائلة بالتصريح أو التوضيح، والفضول ليس عذرا لدفعهم لذلك، وبعد أن حدث ما حدث اضطرت للدفاع عن نفسها، ولتوضيح بعض الحقائق أمام سيلٍ من الاتهاماتِ المروّعة، والشماتة القبيحة والبشعة، والكراهية التي يقودها الغريب الذي لم ينقذ الضحية ولم يعنها ولم يساعدها  في وجه القريب الذي لم تجف دمعته ولم يتوقف جرحه عن النزيف، فلا نامت أعين الجبناء!

جاء بيانُ العائلة الاضطراري بالحقائق الدامغة، والتقمت بعض الأفواه حجراً. محبو النشاط الجماعي، ومجندي الجنود في الصراع الكبير ظهر دورهم. والتقمَ مجندي الجندِ في الزمن الجديد جلمودا من الصخر، ها هي العائلة تكشفُ وجود دور للغرباء وكأننا لم نعلم قبح هذا العالم بما يكفي؟ فالخيار الشخصيُّ مبرر حتى يموت الإنسان، وبعدها يجب البحث عن من يُنصب على المشنقة، وهذه المرَّة هي العائلة التي تُلامُ، أما هؤلاء الأشباح الذين لعبوا من وراء الستار فهم حركة العدالة والحرية، وهل تهم الفقيدة لهم؟ كلا، سوف ينسب إلى موتها ما يكفي من الإثارة والأكاذيب، أما تلك الفتاة التي ماتت في مقتبل العمر فلا تهم حقيقتها، المهم هو المعركة الأزلية، وصراعُ كسر الارتباط العائلي، وصناعةُ عصابات الوهم، الأمر الذي تفعله السياسة، ويفعله الدين، ويفعله الملاحدة، ويفعله المحافظون واليساريون على حد السواء، ألا تعبأ بحياة الإنسان وخياراته وأن تكسر ارتباطه وأن تعزز ارتيابَه وأن تستغل أزمته الداخلية ليخدمك، وليخدم أجندتك، وهذا ما كشفته العائلة بعد شهورٍ من الصمت، وبعد اضطرار مؤلمٍ، وبعد أن ولغ الغرباء في حكاية الفقيدة حتى فقدت الحكاية كما فقدت الفقيدة.

ظهرت الحقيقة، ثمة من كان يستغلُ شابة في مقتبل العُمر، من يعزز ويكسر بشكل متعمد رابطها الأسري الأقدر على حمايتها، ثمَّة من يستغل هشاشتها ليحولها إلى جندي في معركة أكبر من وجودها، بل وأكبر من الوجود نفسه، ألا يفعل الإرهابيون ذلك؟ ألا يكسرون الرابط بين الأبناء والآباء؟ ألا يقولون له أن أبويه كفَّار؟ ألا يفعل السياسي ذلك؟ ألا يقول لك أن النظام هو الأب؟ والقائد الحكيم يقتل الناس ويبطش بهم ويرميهم في السجون من أجل فضيلة عظيمة؟ من أجل الشعب الأبيَّ؟ ألا يفعل الملحد ذلك؟ ألا يستقطب صغار السن، يرمي ذات الله بالشتائم، ويزلزل وجدان كل من تجعله هشاشته عُرضة للتأثر؟ نعم كل هذا يحدث، ولكن لا بد من جلّاد، وجود هذا الشيطان المتربص بالآخرين وهم؟ أليس كذلك؟ ألا يفعل السياسيُّ ذلك؟ ألا يفعل المثقف الكبير ذلك؟ ألا يستقطب من مريديه وأتباعه جنودا في ثورته الورقية؟ ألا يدخلون السجون ويموتون في الميادين؟ ألا يعقد المثقف بعد ذلك صفقته مع النظام ويعود لينضم إليه؟ نعم يحدث ذلك، ألا يقود الداعية الجبان المترفُ بأموال السلطة المخدوعين به إلى الموتِ من أجل دولة خرافية؟ نعم يفعلون ذلك، وأنت تعلم أنهم يفعلون ذلك، ولكن لماذا ألوم هذا العالم الشيطاني؟ ألا تغري الأنظمة أبناء الشعب للخوض في مسارات مظلمة؟ ألا يموت من يموت ويُسجن من يُسجن من أجل الحزب الوطني؟ ورسالته المقدسة الخالدة؟ ألم يذهب السياسي، والمتدين، والمتطرف، واليساري، واليميني بالغافلين في المهالك؟ نعم يفعلون ذلك، وهذه شيمة الجبناء الذين يقدمون غيرهم للمهالك بحجة هذه القيم المطلقة العظيمة، والصراع الكبير، وحل أزمات الوجود بإتلاف كل من به هشاشة، نعم يفعلون ذلك، وها هي عائلة الفقيدة تكشف الأوراق، فماذا فعل جنود الأسماء المستعارة؟ كشروا عن أنيابهم القبيحة وتناسوا صاحب الرواية الأوحد وعارف الحقيقة وصاحب الخسارة ليتم شيطنة العائلة التي خسرت فتاة في مقتبل العُمر تموت هي وغيرها هذا الموت غير المتوقع، كان يجب على الفقيدة أن تُظهر بهذا الشكل، فالذي استغل هشاشتها بعيد يضرب الأخماس في الأسداس متجنبا لوم ذاته، يواصل حربه العمياء بلا اسم وبلا هوية، يجنّد من استطاع في حراكه الكبير، منشغل بالمجد الكرتوني المزيَّف، فهي شهيدة معركة هو قائدها، وهي ضحية المجتمع الأسري، وهي، وهي ، كل شيء إلا ما هي عليه، قدر محزن من أقدار الله كسر ارتباطه الأقدس والأقدر على حمايته فاعلٌ أهوج من جبناء التحريض والدعاية والتجنيد.

ما الذي بيد هؤلاء [الفردانيين] المفرطين في الفردية ليقولوه الآن؟ أن التجنيد الأعمى، وحشد الأتباع، واستغلال ذوي الأزمات الداخلية كان [خطأ محزنا]، هل حياة الفقيدة الآن مجرد خطأ تكتيكي؟ ألا تقول أنك فردي فرداني؟ مالك ومال تجييش الجموع وتجنيد الغافلين الأبرياء؟ ألست فرديا؟ لماذا تلعب بأسس اللعبة التي يقوم بها الجمْعِيُّون؟ ماذا لديك لتقوله الآن أمام هذه العائلة التي كسرتَ ارتباطَا مقدسا كان أقدر على حمايةِ الفقيدة منك أنت، وأسمائك المستعارة وحراكك المستعار من الخارج، ماذا ستقول الآن وأنت تبتكر الأزمات غير الموجودة؟ ماذا عساك أن تقول وأنت من صنع الضحية ولست من أنقذها؟ هل لديك ما تواجه به نفسك أيها الصامد في [قضيتك]، في تخشبك الذهني، في اعتبارك حياة الآخرين مجرد مزرعة من مزارع العقل المحض ومجادلات الأفكار، وصراعات تحقيق الذات وصنع القادة والجنود! ليس بيدك يا جبان سوى أن تلوم عائلتها، هذا ما أنت جدير به، أن تنكأ جروحهم وكأنك أشد حزنا، أن تجرف بهم في ألسنة الناس، لأنك جبان وضيع، لم يكفك اسمك المستعار لتكمله بأفكارٍ مستعارة، هؤلاء الذين يرحلون، ويُسجنون، ويموتون، هؤلاء الذين يتأزمون ويتألمون من الداخل لا يعلم بحالهم ومأساتهم من يستطيع إنقاذهم، فأنت منقذهم من خطرٍ أشد، أليس كذلك؟ ألست المنقذ؟ ألستَ المنظِّر الأكبر والأوحد لما تظنه حركة من حركات الحياة؟ حياتك أنت، الحياة التي عجزت عن تقبلها فلم تجد حلا سوى أن تجند غيرك ليغيرها من أجلك، كان يمكنك أن تبقى في محيط فرديتك دون أن تذهب بالآخرين للجحيم، لكنك جبان، تعلم أنك أجبن عن الموت وحدك في هذه المعركة فاخترتَ من يموت معك، من يخسر معك، من تُزخرفُ له حياة النضال ولا تعلمُ أي نضالٍ داخلي صعب يمرُّ به، فلا نامت أعين الجبناء!

كلنا نعلم أن بهذا العالم شياطين من الإنس، ونظنهم أبعد إلينا، ونظن أن ذلك يحدث للآخرين فقط، لقد خسرت عائلة عُمانية ابنتها، أما أصحاب الأجندة الدعائية فلم يجدوا غير هذه العائلة لنصبها في الميدان العام، ميدان الأسماء المستعارة، وتجيير الحقائق وترجيح كفة الارتياب، ها هي العائلة تجدُ من وجدته من أدلة دامغة، أنَّ فتاة تعاني من الهشاشة، والضعف، والألم الداخلي قد قاست أيضا من الذين لا يعنيهم كل ذلك، يهمهم تحويل ذلك الألم إلى غضب، يهمهم توجيه ذلك الغضب إلى مسار حركيٍّ، يهمهم كسر الارتباط الذي قد يحل تلك الأزمة فهي أزمة مفيدة لجبناء الدعاية، وإمَّعات الأفكار المعلَّبة، وصناع الضحايا. ماذا لديك لتقوله الآن أيها الجبانُ؟ هل ستزعم أنك [لم تكن تعلمُ أنها تعاني؟] أن ألمَها شديد؟ أنها ذهبت لبارئها نتيجة أزمة يموت بسببها آلاف مؤلفة من الناس لم يجدوا علاجهم ولا من ينقذهم؟ ماذا لديك لتقوله بعدما كسرت ارتباطها الأقدس والأقدر على إنقاذها؟ ماذا تقول الآن؟ ستخترع وهم الضحية المعنَّفة، وستهاجم عائلة لا تعلم عنها شيئا، لأنك جبان، لأنك تظن أن الأفكار ليست عنيفة في هذه الحياة، لأنك تعتقد أن الحقيقة ليست متعددة الوجوه، وأن الطريق لها بعدد خلايا دماغ كل إنسان في هذا الكوكب، نعم ستصل لتفسيرك الجبان وتركن إليه كما يبرك الجَمل على كومة قش، ستخترع كل ما يجنبك الشعور بالذنب، أن ما تظنه نظرية حياة قد أصبح سبب موت، لا تختلف عن الإرهابي الذي يرى ضحيته في الجنة، وعن السياسي الذي يرى جنود الحزب الوطني يموتونَ في حرب عبثية، ولا تختلف عن الشيوعي الذي مات من ثواره الآلاف ليموت تحت أحذية من عاش منهم الملايين، أنت لا تختلف سوى أنك شبح جبان باسم مستعار، داعية تجنيد خفيٍّ تظن أن حياة الناس لعبة، وأن أزماتهم الداخلية سلاحٌ يمكن توجيهه، وأن الغضب والاكتئاب والهشاشة مشاعر طبيعية والحل لديك، الحل هو تلك القضية التي بسببها تعيش، ولأجلها يموت كل إنسان آخر غيرك أنت، القابع وراء سجون ذاتيتك، وتخشبك العاطفي، وتجاهلك لآلامٍ صرت تنسبها لنفسك، وتتخذ منها ذريعةً وترفع بها قميص عثمان في واجه هذا العالم الظالم. أنت هو الظالم، والجبان، والوضيع في كل هذه المعادلة لكنك ستجدُ حلا لكي لا تلوم نفسك، ستبتكرُ تجارةً رائجة من بضاعة الوهم وستصنع من تبريراتك ومشاعر المؤامرة سببا لتسرق الخسارة من خاسريها، والفقيدة من فاقديها، ولتجعل من ضحيتك ضحيتهم، ومن جريمتك جريمتهم، ومن فشلك فشلهم. اسأل نفسك لمرة واحدةٍ لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟ لماذا لم تنقذها من أزمتها؟ لماذا لعبت لعبة كسر الروابط الخطرة؟ لماذا عندما سعيتَ بدعايتك في الأرض اخترت هذه الضحية الهشَّة؟ لأنك جبان، وجاهل، وكل ما حدث ليس أكثر من طريق مبدئي لتتحول بعده إلى كل ما كنت تحاربُه، ستصبح أنت عدوك، وستنسى يوما ما أنك جئت في معركة عادلة، ما أقبح أن تبقى على قيد الحياة في معركة مات فيها الآخرون لأجلك، وبسببك، وسواء انتصرت أم هُزمتَ أنت في طريقك لتصبح العدو، وستفعل فعله، وستكذب مثله على نفسك وعلى غيرك، لأنك عندما آمنت بفكرة لم تحشد لها الكلمات، لقد لجأت إلى عمل العصابات، وظننت أن مجتمعك هذا يقود للحياة ولكن وياللمفارقة! لقد قاد بريئا واحدا للموت، فتنصل من جريمتك أيها الجبان، تنصل، ستتشنج في دعايتك حد سرقة الفقد من فاقديه.

 

فلا نامت أعين الجبناء!

 

 

الأحد، 27 يونيو 2021

أنس الليالي القاسيات

 

 

 

يحترقُ العالمُ، أما أنا ففي خيمتي، لا أبالي فقد احترق كل شيء. أتساءَل من أين لي قوة الاحتمال هذه؟ كيف لسكير، عربيدٍ، حشاش أنفق سنوات من عمره زائغ العينين، متناقضا، يدور في دوامات عسير الخروج منها أن يصبح عاديا بإفراط! ثمة جزالة قدرية في كل ما حدثَ لي، وخزة من شعاعٍ مجهول، ذرة من تراب النجوم احترقت على أطراف أصابعي، وبينما العالم يحترق، ها أنا أكتب!

ما أسوأ ما يمكن أن يحدث لك في دولةٍ عربية؟ أن تكون أضحوكة بين الناس؟ حدث لي ذلك، أن تصطدم مع النظام؟ حدث لي ذلك؟ أن تعيش صراعا عبثيا مع المجتمع؟ حدث ذلك! أن تتمرد، لقد تمردت، أن تعيش أبشع الخسارات التي تسحق مستقبل شابٍ في مقتبل العُمر، حدث ذلك، كل ذلك حدث، وهو جزء من تاريخ مرحلةٍ من حياتي لم أعد أعبأ بإيجاد تفسير لها، كل ما يهمني أنني هُنا، حيث ولدت، وترعرعت وداعبت أناملي الحروف ناعمةً وخشنة. لم عساي أن أبالي بهذا العالم البائد؟ ألا يكفي البؤس الذي عشتُه؟ أي خسارات كانت؟ إنني بحق أتساءل، من أين لي هذه القدرة على الاحتمال؟ لست مُرهقا، إنني فقط لا أعبأ، لقد أعطيت لهذا العالم رأسا صماء، ولا أظن أنني سأهتم لأي شيء يتجاوز هذا المربع الأبيض، هذه الحرية الفردية الخالصة التي أسبر فيها إغواري بما تيسر من الجمل والسطور.

أي أيام قاسية نعيشها، الموت يرفرف بجناحيه حولَ تجمعنا البشري الغافل، كوابيسٌ من المخاط واللعاب تطلقُ خباياها في عروق البائسين، فيروس يلعبُ بكوكب الأرض وبمصير الإنسان، هذا التعيس البائس الذي يبالغ في صنع الأسلحة وبيع الأدوية. قاس هو قدر الإنسان، وتعيس، وعبثي ومع ذلك لنا الصفاقة الشفيفة في حب الحياة، ولا يزعجنا أن نعترف أن وهمنا الأزلي مستمر، ونحب الحياة ونتمنى ألا نموت قريبا! فليحترق هذا العالم، ولأحترق معه، لا شيء يثير دهشتي سوى هذه الحروف الشاحبة، وهذه الروح الكسيرة التي أنا أعلم بجروحها أصبحت صديقة لطيفة تؤنس وحشتي في هذا الغموض الشاسع، يحترق العالم ولا أحترق معه، لا أعبأ، ولا أهتم، ولا أريد أي شيء سوى هذه اللحظة التي تحل نهايتها مع هذه النقطة.

 

 

الجمعة، 25 يونيو 2021

شعور بالتعب!

 

 

 

تعبت من الشعور بكل شيء، وأرهقني الانتباه الزائد لهذا العالم، هذه التفاصيل لا نهاية لها، الجنس البشري لن يتوقف عن جنونه، وسنتجه للنهاية لا محالة، هل أمامنا مائة سنة؟ أم أقل لنخسر ثلاثة أرباع سكان الأرض؟ ربما أقل! ربما أكثر، لا شيء يمكنه أن يقنعك أن عصر الفناء والانقراض النسبي ليس قادما، ألم يعلمنا كورونا حقيقة وضعنا المهتز في هذا الكوكب الغامض؟

أشعر باللغة، أستنجد بها لعلَّها تقول ما أعجز عن فهمه، هذا الضياع البشري مستمر، وهو عام على أكبر محيط يمكن للوعي البشري أن يصل له! هل تُدرك أن هذا الذي يحدث، يحدث! كُتل من المخاط لإنسان غافل تتجول في مقابض الأبواب، وفي سطوح الحمَّامات، وفي مساند الطائرات، الكثير من المخاط والقليل من اللعاب يمهد مصائره المجهولة للغافلين، اللاهثين وراء سرعة هذا العصر، ذوي العيونِ الزائغة من ملاحقة مدنية العالم المتخمة بالاستعجال، وشراء الغد، والمدن، ونكهات القهوة، وأنواع الشامبو، وسلطة نجوم السينما والكرة على بسطاء هذا الكوكب، الذين يحبون الحياة وينتمون لأي شيء خارج هذه العزاءات الذهنية التي تقدمها الفلسفة في طبق بارد.

أشعر باللغة، ولا أشعر بأي جمرة أخرى تلف حول كوكبي الصغير، لا شمس إلا شمس المعنى، والباقي لعبة من الأفلاك، ونيازك الأفكار، والكثير من الحطام الكوني الذي جئت بغباره من السماء. العزاء في أسمى تجلياته الصريحة، أن تترك الحياة لتكتب، هذه الحروف الجامدة تضج بالحياة أكثر مما يحدث في هذا الكوكب الموبوء بالمخاط واللعاب والفيروسات التي تهاجر عبر القارات، وبم عساي أن أشعر إلا باللغة؟ هل سأحمل مجهرا معي وأسبر أغوار السوائل البشرية التي تنشر عدواها؟ هل سأدقق في دماء الآخرين قبل أن أطمئن لهم وأصافحهم! لا مساس! هذا نداء السامري المرير يحدث لكوكب كامل! ونحن ندفع الثمن، كلنا! تخيل! كلنا، لا أحد بخير في هذا الكوكب، الغافل، والحزين، والآمل، والمبالغ في الحماسة كلهم يعيشون صفعة العزلة، ودوخة الجهل بالغد، وتوقع الأسوأ والأجمل، وأمنيات نهاية هذه المرحلة البشرية التعيسة!

يفترسُ كورونا أيامنا، ينذر بالويل والثبور، يهددنا، يعطل المستشفيات، يختطف الممرضين والأطباء، يتربص بدور العجزة، والسجون، والثكنات العسكرية، والمسارح، وحفلات الأعراس، وسهرات نهاية الأسبوع، أين أنت أيها الإنسان؟ أنت في كوكب كورونا، انس أن هذا الأزرق المليء بالمياه كان كوكبك يوما ما. أنت في كوكب كورونا وعليك أن تقبل ذلك أيها الإنسانُ العنيد الغارق في أوهامك وذاتك الفردية وتطلعاتك الحربية، وجيوشك وقنابلك النووية وطائرات الشبح ومناظير الرؤية الليلية، هذا الكوكب ليس كوكبك أيها المغرور!

 

 

الخميس، 24 يونيو 2021

تأملات في عهد كورونا

 

 

 

في هذي الدنيا، أقصى ما عليك فعله إنك تحاول تنفَّذ حياتك.. ولا في الحقيقة، المدنية غيرت سلوكنا البشر إلى الحد اللي أدبنا فيها كورونا، واجد اغترينا بصناديق الكبريت إلى أن جاء اليوم يصلي فيه من سكن الغابة إلى الإله شكرا أنه ليس معنا في هذه المدن العمياء!

وشوف كيف غرورنا البشري! طلعنا القمر! باغيين نروح كوكب ثاني، المدنية علمتنا حيل جيدة لتعزيز سيطرتنا على هذا الكوكب، نسينا أن تكدسنا هو سبب الموت الأكبر، حرب عالمية ثالثة أو فيروس لئيم، كلها واحد! خذ درسك أيها الإنسان المتعالي، أين صناديق الكبريت التي تباهي بمصابيحها؟ هل نفعتك؟

إن الوقت الذي انعزلنا فيه عن طبيعتنا يُسمى عمرا، وسنموت في هذه القطيعة وهذا الانبتات الحاد، لن تأكل من حقلك، لن تعيش في ريفٍ حُر تشرب حليبا وتأكل بيضا وعسلا طبيعيا، كانت هذه حياة الجميع يوما ما، اليوم هي خيار مجموعة الفلاحين القلة الذين يعيشون حياة طبيعية، بمعنى الكلمة!

وجالسين نضحك على أنفسنا، إنه هذي الحياة، هذه المدنية، التي لا تتجاوز أن تكون إسمنتا تحسب فيه حساب أسلاك الكهرباء، ومصابيح الليل. لم نعد نعيش في كوكب، إننا نعيش في مدينة، واحات من الإسمنت تمنعك أن تعيش طبيعيا، تزرع، وتصطاد، وتربي عسلا ودجاجا في ريف قليل السكان، تعلب كل شيء!

نحن نعيش عصر الكهرباء، سجناء في زنازين على هيئة مدن، لا نهرَ لك نصيب فيه، ولا أرض يحق لك الصيد فيها، ولا بحر تذهب إليه لتأخذ [راشن] بيتك وتملحه في كهفك أو مزرعتك لأسابيع، الكهرباء تغدق علينا الديمومة، ونزعة البقاء البشري أصبحت تتجلى في سلك من الأسلاك! نحن أبناء عصر الكهرباء!

المدنية لعبة بطاريات وأسلاك، ما تغير شيء منذ عصر الهاتف النقال وغير النقال، بدلا من ارتباطنا بشبكة الكهرباء، أضفنا لصناديقنا من المدن عامل الشبكات، الإنترنت ونواقل البيانات، صرنا ننعزل معناً وأصبح صندوق الحياة مليئا بالبشر، والكل يتسلى بشاشات عصر الكهرباء الفردية! عصر السرعة!

وهذا درس كورونا القاسي، عشان شوية الإنسان يتذكر إنه يتكدس في المدن مضطرا، آلة المال اختطفت طريقة الحياة في هذا الكوكب حتى حدوث الكارثة العالمية القادمة، لم تشتعل الحرب العالمية الثالث بعد، ولكن قد تشتعلُ يوما ما، نتوجع الآن من دروس كورونا قبل أن نحارب بعضنا البعض في الغد!

طال أوان التربص والحروب الباردة، لم تعد الحروب رفع أعلام على ترابٍ بعيد، أصبحت مصالح متشابكة، لم ننقرض بعض لكننا صنعنا كل ما يقربنا للانقراض الحضاري، الذين سيبقون سيعودون إلى الأخطاء نفسها، وسنتكدس إلى الحد الذي تكفي فيه جرثومة لتزلزل ما كنا نسميه حياة طبيعية.

وبينما العالم يستعد للصراع، والجيوش مجهزة، التي تدافع لتدافع، والتي تغزو لتغزو، يزورنا هذا الكائن اللامجهري اللعين! وتبدأ عملية تأديب الجنس البشري، دروس مدتها عامان من التخبط، وتخيل! العالم اللي متخبط! هذي أول مرة نقدر نقول فيها إنه العالم كله ليس على ما يرام!

وكل يوم شغال فيه هذا المؤدب، كوكب كامل متعطل، وأنظمة صحية مرهقة، وتلخبطت كل الأرقام، الحالات، الموتى، الناجين، أخبار متناقضة وهجوم ضد اللقاح، وهجوم مع اللقاح ولعبة خنازير الرأسمالية على أعلى مستوى أممي، والآن المتطورات! كورونا أدبنا بما يكفي! أدب الكوكب بكل احتراف ودقة!

والمؤدب شغال! على أعلى مستوياته، لا ترك مستشفى، ولا سجن، ولا كبير، ولا صغير، حد يسبب له جلطة، وحد يفقده رائحة العطر يومين، كابوس فوضوي عشوائي شرير بمعنى الكلمة ولا يرحم، فيروس صغير شغال يؤدب الجنس البشري كل يوم بدرس، والإنسان مذعور على مدنيته، خائف من فقدان أورامها الشهية.

 

لقد أدبنا هذا اللعين، أوه بالمناسبة عزيزي القارئ إن كنت تستغرب هذه النقلة، كنت أكتب في تويتر حين أدركت أن هذا الدفتر هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يفكر إنسان بالكلمات فيه، أن تكتب يعني أن تفكر، وأنا كنت أكتب، في ضيق تويتر لأجد نفسي الآن في الباحة الواسعة لمدونة مكتوبة، يمكنني أن أعيش ستة أعمار أكتب هُنا ولن يعني هذا أي شيء في زحام الكلمات في الحياة، يعني لي قبل أن يعني لأي شخص آخر.

كيف ستكون الكتابة في عصر كورونا؟ حيث تسبغ الحياة درسا فلسفيا يوميا على أدمغتنا البشرية الموهومة بالقوة والمشحونة بالأمل، نريد أن نؤجل الموت أقصى ما نستطيع، ولكنه يزورنا بكل أسلحته الجرثومية، وما تحت الجرثومية. يؤدبنا كورونا خير تأديب، يسلخ ظهورنا كبشر بكل ما يمكنه من قوة، هل عرفتم من هو الأقوى يا بشر؟ أنتم وأسلحتكم النووية، والجرثومية وبكل ما أعددتموه من أدوات الموت والفناء لبعضكم البعض، بكل ما ابتكرتموه من لغات، ومن حضارات، ومن ثقافات وانتماءات كبيرة، أدبكم هذا اللامجهري، أذاقكم ويلاتٍ ظننتم أنها تحدث فقط في عصور ما قبل التاريخ، أيها الإنسان المفتتن بأشعة أكس، وصناعة اللادائن، وتلهو وتمرح في عصر البطاريات، مر عليك عصر الكهرباء ليعزز أوهامك، ليخرجك من الحياة الطبيعية، والآن تدخل بعدا جديدا من حياتك في الشاشات، بعيدا عن أبقارك وحضائر الماعز، من إنسان طبيعي يصارح للبقاء إلى سائح يعيش حياته في مدينة، والقلة الذين يعودون للحياة الطبيعية، ويتسلقون الجبال، ويهيمون في الوديان، هذا هو غير الطبيعي في تعريفنا! إنه المضروب على رأسِه؟ لقد تطاولت في غرورك كثيرا أيها الكائن البشري، وهذا درسك الوجودي ما زال مستمرا، يلسعك كل يوم بأخبار جديدة، وتحورات تُخجلك أيها العارف بكل شيء، يا إنسان العلم الحديث والأشعة المقطعية وحواسيب تشفير البروتين وتحليله، بكل ما أوتيت من سعة خيالك لم تكن تتوقع أن يفعل بك هذا اللامجهري كل ذلك، غير مجرى التاريخ، أوقف تضخم الورم الرأسمالي وربما إما جنبنا الحرب العالمية الكبرى، أو ربما أجلها لبعض السنوات، من يدري بالغد؟ ألم يحدث كورونا؟ ماذا يمنع حربا عالمية ثالثة؟ ماذا يمنع صداما جديدا؟ لا شيء إلا شرارة أما القش فقد تناثر ما يكفي عبر أيام التاريخ المدني الحديث، نحن نسير في منحدر بشري وقد يكون من المؤسف أن نحرف أن كل ما نحن فيه الآن هو بداية الانحدار الكبير، إما انتصر كورونا بتحوراتها، وجاعت المدنية إلى الحروب، أو انتصر هذا الإنسان ونال فرصة يكمل فيها مدنيته، ليبني جسوره، ويمد أليافه الضوئية ويعزز محطات الشبكات الإلكترونية والأقمار الصناعية، لقد أعجب الإنسان بعصر البطاريات، ويعيشه بحماسة لم يفسدها إلا فايروس، ماذا لو كان كورونا هو أبسط الدروس التي سيلقننا إياها العالم والكوكب في السنوات القادمة؟ هل تتخيل فداحة الكابوس؟ أن هذا الذي نعيشه من زمن كورونا قد يكون أجمل أيامنا! يا إلهي الرحيم! ما الذي سيأتي على هذه البشرية المنهكة؟

 

لقد أدبنا كورونا فأحسن تأديبنا، عرفنا حدودنا كبشر، وإلى أي مدى يمكننا أن نعبث بسلامتنا في هذا الكوكب، أخبرنا الكثير عن سحر المدنية، وحياتها المؤقتة والمقيدة بأسلاك الكهرباء ونواقل البيانات، لقد أدب عصرنا اللاسلكي، عصر البطاريات والشاشات، عصر الإنسان الذي يدخل ليرى نفسه، ويصورها، ويشارك حياته مع مجموعة أخرى من البشر أيضا تعيش نفس مشاعره اللاسلكية، نعيش ونوثق العمر كأداة مجانية، لم تعد تحتاج أن تكون رساما مبدعا، أو ناحتا على الصخر بإزميل لتكتب قصيدة، الكون كله ورقة بيضاء وأنت نقطة في بياضه المشع، لقد أدبنا كورونا وأحسن تأديبنا، أعادنا للعزلة، والقنوط، والشعور بأن قيامة البشر ستكون قاسية وشرسة، وهؤلاء البؤساء الذين يقاومون هذا المؤدب اللامجهري، يحاولون الخروج من عنق الزجاجة، يعلمون أن عصر المجاعات سيبدأ، وأن هذه الصناديق التي كونت المدن قد تخلو من سكانها، وأن بقرةً سمينة قد تصبح أثمن من كل عملات البتكوين الرقمية، كوابيس المبدعين تتحول إلى حقيقةٍ يقترب منها الإنسان كل يوم، لقد أدبنا هذا المجهري، أدبنا وأحسن تأديبنا. والآن عرفت لماذا آثرت أن أعيش لحظة الكتابة هُنا، إنني مشتاقٌ كثيرا لهذا الانطلاق. إلى أن تتحقق مشيئة الفيروس، فلتكن مشيئة اللغة، إما نجونا فكسبنا أياما نحكيها، وإما هلكنا فرحلنا بكل أسئلتنا، عشنا يومنا التعيس، وتلقينا درسنا، وغداً يوم جديد، ممتد من أيام كورونا ودروسه اليومية القاسية. إيه أيها المؤدب! كم صبرت إلى أن قررت التمرد على كوكب الإنسان؟

 

 

معاوية

 

يونيو

2021

 

إنني أكتب

 

 

 

تتدافعُ المقدسات في دمي. إنها لحظة بصيرة، نادرة، عدمية، صافية، تتكلسُ كأنها خيط عنكبوتٍ متسرعةٍ صنعت خيوطها بالجبس المنمنم. لا أعرف لماذا أكتب؟ أي نداء غامض أتقصاه هذه المرَّة، لقد سئمت من لعبة وصف اللاوعي، وكأنها صفقة الاعتراف بيني وبين الغرباء، أن أشرح لهم كيف يعني أن تعيش في غيمة بعيدة في سماء ذهنك، منفصلا عن الواقع، هائما، مهلهل المنطق حاد البصيرة، هذه صفقتي مع العقلاء في هذا العالم، أن أكون كشافهم التجريبي عندما يقترب أحدهم من الجنون، لست حزينا لأنني مجنون، أنا حزين لأنني إنسان!

لماذا أكتب؟ منسابا كقطرة ماء لا خطة لها وهي تسقط للطين، هذا ما أشعر به الآن، في بيتٍ طال مكوثي فيه، في قلب عزلتي، وعدم اهتمامي وتجاهل العالم لي، وتجاهلي العالم، لحظة لا عدو فيها، ولا صديق، عُزلة العُمر الأقرب للقلب، ومضة اللغة وصفائها المقدس في عروقٍ من الحبر، تلك الأنهار الصغيرة التي نتحدى بها مصيرنا البائس بين رفَّات أجنحة الحمام الذي يطوي الأيام. اليوم يمر، وبعده اليوم، والزمن يحمل توابيته المنسيَّة إلى ذكراك، أي مصيبة ظننت أنها ستعيدك لله أعادتك للحياة، وأي حياة؟ هل بعد كل الذي حدث حياة؟ الجروح الشديدة تشفى ببطء شديد، وأنا أكتبُ لأنني أريد أن أكتب، لأقول شيئا ما عن هذه الحياة وأسئلتها الغريبة وإجاباتها الفادحة، أعرف سؤال عمري الكبير، أما هذه الحياة فهي أغرب ما جربت، هدوؤها ليس مخادعا، اللامبالاة ليست حنقا يحترق داخل القلب، لقد أصبحتُ لا مباليا، لا أعبأ بأي شيء في الحياة، لست مقبلا عليها، كم هدمتُ من أجل لحظة الكتابة هذه؟ هل سيهون عليها القليل من العُمر! لم يهن، وعشت قصتي، أقمت في حكايتي بما يكفي لأحكيها دون حزن وغضب، حدث الكثير، وتشظت أيامي بين الغرباء، عُشتُ تجربة أكبر من استيعابها، أكبر من أن أتشكى أنني عشت ولم أجرب شيئا في الحياة، وصلت للحياة الطبيعية حُطاما، أن أكتبَ لكي أكتب، أن أرمم هذا الحطام، لا يضير القليل من الفهم، ولا يمنع الكثير من التذكر، مع مراوغة مسامير الألم التي تحرق الرئتين من الداخل، مع الهرب الطفيف عن الحياة، إلى اللغة، ومعانيها، وعلاقتها الوطيدة بالوجود متعدد الملامح قليل الصفاء، إن كان للزمن لوحة فهي بألوان رمادية، إنني أكتب،  ولا أعرف لماذا، لأهرب من كل الأيام التعيسة التي حدثت حقا، الجروح التي لا تُطاق والألم القاسي في حنايا الروح، شوك يسير في كل فكرة، صراخ داخلي، وكثير من الحسرة والغضب! أيا أيام عشت أيها الصعلوك؟ كل ما حدث قد حدث، وتمزقت لسنواتٍ في جروحك حتى ألفتها، عرفت أنك ستحمل ندباتٍ إلى نهاية عمرك وأن وقتك لتفهم من أنت قد حان، لماذا أكتب؟ لأنني انتهيت من رحلتي الأصعب داخل حواف جمجمتي، لأنني مستعد لسرد ما حدث، لأكتب، متجاهلا الأشكال مؤمنا بالتداعي هاربا من أوعية العرض التي تعرض في فاترينات النخبة، أكتب لأكتب، خارج استعراضات المهارة اللغوية، وألعاب المجاز، وشفافية الشعر في جملة غامضة غامقة، إنها لعبة ذاكرة، وسرد وتذكر، تذكر ذلك وأنت تقفز مجددا إلى عالم الكلمات، فلتكن الحكمة قبل القفزة في المحيط البعيد، حيث تنطق الكلمات بعيدا عنك، لحظة لستَ خطيباً، ولا ثائرا، لحظة من العلاقة الغامضة مع هذه الرسوم الملتوية، حبر اللون الأسود، في شاشة وكلمات تتشكل أمام لوحة المفاتيح، أكتب لأنني غائب، ضعت في سماء المعنى وعدت منه بجرحٍ الزجاج على وجهي، أكتب لأنني تذكرت كل ما أنا عليه، وأن طريقي بدأ بهذه الكلمات وسيذهب إليها مهما كانت الرحلة صعبة، كنت أعلم أنني سأعود إلى هذا الدفتر. أكتب لأنني أشعر بالحزن الخفيف، ما يكفي من القتامة كي أبصر الشمعة في المدى، أكتب لأن الحياة قد تناثرت إلى أيامها العادية، أكتب لأنني هذا الذي عرفته عقدا ونصف من حياتي، ما المهم حقا؟ أن تكتب؟ أن تعيش علاقتك مع اللغة كما تشاء؟ أم أن تهتم بوعاء اللغة المستخدم، لأن الكتابة تتعبك لكنك تحب نتائجها في النهاية، بعد أن تتحول إلى وهم جامدٍ سيقرؤه الأصدقاء في العام القادم وسيقولون لك رأيهم بعد أن عرفت من قرائك كل ردة فعل يمكن أن تنفعك في مسارك القادم مع متاهات الحروف، أنت تكتب لأن هذه اللحظة من العزلة جزء من حدوث الحياة في أيامك، البعد، والمنع عن الحركة، والعزلة، كل هذا ليس جديدا عليك، الجديد عليك أنك عدت إلى كراستك الأثيرة، وأصبحت وثيرة وأنت تنحت الحروف بعيدا عن الحسابات المعقدة، والألعاب الدونكيشوتية العبثية، وصراع الإشارات والخطابات والدعاية، لقد فعلت حسنا بنفسك عندما أرحت رأسك من هذه الحياة المشحونة بالصداع، وأنت تكتب لأنك تحب أن تكتب تعيش الحياة مرتين، تلون أسئلتك بالفهم، وغموض الماضي بالتصور، وستعيش آخرَك كما تعيش الآخر، ستكتفي من النبش في أسرار ذاتك معتمدا على الماضي وتفكر بالقليل من الغد. كلنا سجناء ماضينا، أتبعنا بما يكفي لنتذكره كل يوم، نحن ماضينا وأخطاؤنا التي لم تحدث، كل ما نخاف منه وعليه، في السابعة والثلاثين ولا يعرف لماذا يكتب؟ لأنه يكتب؟ لأن لحظةً قررت ذلك، وكأنك تعتذر لنفسك وتخفي ترفيَّة فعل الكتابة وخموله الحركي الفادح، تُنطق اللغة بالحياة لكنك عالقٌ في دوامة الافتتان الكلمات، تجعل منها صناعةً مضنية من الوسواس والسعي للجماليات، ثمن حياة أخرى من الانهمار والاحتفاء بالذاكرة، أي تناقضات تحفل به آلة اللغة باحتمالاتها غير مدركة النهايات، نعيش لأننا لم نمت بعد، من الغموض وإليه، ويا للطرافة! لدينا أحلام وطموحات وتعلقٍ شديد بحب أيامنا، كيف سيفهم الذي لم يفقد أيامها عبثا هؤلاء الذين عاشوا أيامهم بالتصاقٍ فائق الحماسة بها. أكتب لأنني انعزلت عن لحظتي ولم أعد مثل الآخرين، لستُ آلة في مجتمعٍ، ولستُ في قلقي المستمر على لقمة العيش، أو الصحة، أو المستوى الرياضي! أنا في لحظة لغة، جذبتني وبدأت ألعابها في أناملي، اللغة التي كنت أجس بها نبض الغموض أصبحت تضج بالواضح، واتجهت للسرد، تخمر الشعر حتى اختمر، أما السرد فهي لعبة الوقت، الغياب التأملي الأجدى للذهن في عالم يكرر فيه الإنسان كل شيء، نحن البشر نتشابه إلى درجة مقرفة، واتفاقنا في ماهية الأنانية، والمصلحة، وصناعتنا للممكن المنطقي من كل مدارس الحياة والدول، علبتنا المدنية حتى أضحى من الصعب أن نعترف أننا تحررنا من علب كبريت، الصندوق المدني الكبير الذي نعيش فيه هو ذلك السجن المعقول، الذي تدمج فيه قلق الماء، والمجاري، والمكيف، وربما المدفئة، وكل أشياء القلق المدني الحديث، قلق لا يتوقف لتكمل الحياة، لتتجنب الانزواء والمكوث بعد عاصفة صعقتك حتى جحظت عيناك!

أكتب لأنني وجدت سؤالا جديدا! لأن اللامتوقع في اللغة هي المغامرة الأخطر في الحياة من المكوث في عدة زنازين لوقت قليل من الزمن، أكتب لأنني مصاب بلعنة الكلمات، ولن أستطيع منها فلاتا، وسأعيش كل الحياة ثلاث مرات، مرة حين أتخيلها، ومرة حينا أعيشها، ومرة حين أتذكرها، أي لعنة هذه أن تعيش كل حياتك ثلاث مرات؟ لعنة الحياة التي تنفذها، كأي أسير لموجوداته العقلية تتجه للحياة بما يجب عليك من اللامبالاة.

إنني أكتب، لا لشيء، لأنني شعرت أنني أريد أن أكتب، وفي لحظة قادمة سأعود هنا لأقرأ، لا لشيء، وإنما لأعرف ما الذي كنت أشعر به وقتها، للكتابة وظيفة أهم في حياتي من كل ما ظننته عن الكتابة، إنها وسيلة بقاء، صدامٌ يكفي لتدرس العالم وأنت بعيد عنه، لستُ في معركة، ولا اتجاه لدي، أكتب لأنني أطوف في أفلاك اللغة، بلا خطط، ولا توقعات، أكتب لكي أكتب، وأغوص في هذا الغياب لأعرف ما الذي كنت أقوله لنفسي، ما الذي انسكب من أصابعي، أين يأخذني همي، وإلى أي مدى كنت غافلا عن الألم الشديد الذي يقض مضاجع النفس ولا أراه، ها قد رأت آلامي مفتتة بين الجمل، يمكنني أن أترك هذه التدوينة مع وعدٍ لطيف بالعودة إلى اللغة بسلام.

 

 

معاوية

يونيو: 2021