بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 يونيو 2021

من البريء حقا؟

 

 

 

بدأت أقتنع أن طاقة الشباب المتقد، وعمر والعشرين في جنونه، مع وصفة من الضياع والصداقات الخاطئة هي التي تمنح المواجهات العبثية الكاميكازية مع المجتمع، والأنظمة، والدين صفة القضية الوجودية من شخص يرفض الاعتراف بينه وبين نفسه أنه غاضب أكثر من كونه مظلوم ..

 

ولا أعمم ...

هُناك بشر ليس لديهم خطة، يقودهم الغضب والنقمة أكثر من أي حُلم حياة آخر، يقتحم طوفان القضايا البطولية من أجل البطولة ذاته، الناشط المترف الذي يشبه اليساري القادم من عائلة برجوازية، النشاط من أجل قضية مستحقة ليس بريئا كما يتجلى في اللون الساطع لكلمة حقوق.

ومن هذا البريء من الأنانية والتطلعات لمصالحه الشخصية! هؤلاء دُفنوا تحت التراب الآن، ومن يشبههم في طريقهم للموت، للخلود، القضية تستحق دماءهم وسيمنحونها، من الناس من يأسف لحاله لأنه ليس في دولة محتلة، وليس سجينا، وليس مظلوما، ولا يمانع أن يلبس هذا الدور لهالته البراقة.

إنها مجازفة محسوبة، وهي جزء من صفقات المصالح الضمنية بين الناشط والمجتمع، قليل من النشطاء الذي يمنح نفسه للقضية، لديه خط رجعة، وربما صفقة سرية، وربما أمل لمكانته في عهد قادم أو جديد، من البريء في هذا العالم؟ الحماقة كل الحماقة أن تبكي على عدم نقاء هذه الحياة!

ثمة نشطاء ذهبوا للقضية، يحسبون حساباتهم الدقيقة ويعرفون وقت الخروج منها، وآخرون أتتهم القضية تطرق الباب، اضطروا اضطرارا لهذه الثورة ضد الكيانات الجمعية.

 

أظن أنني من الأحسن أن أكمل كلامي في تدوينة ..

 

ضاق تويتر على ما أريد قوله .. حسنا، إنني الآن هُنا في هذه الساحة البيضاء، أستطيع أن أعرف ما أريد قوله، وربما أن أقوله خارج ذلك الاضطرار التجاري لتويتر وغيره من مواقع التدوين قليلة الكلمات كثيرة الانتشار. أحاولُ أن أطلقَ أحكاماً قاسيةً على سنواتٍ من عُمري، وقد تستوعب هذه الأحكامُ آخرين معها، أيضا يعيشون ذلك الاتقاد الهائج لتسمياتٍ كبيرة مثل [القضية، الحركة، الحراك، التنوير]، يمكنك كعماني أن تستقرئ كل النتائج المخيبة لكل الحراك الذي حدثَ في عمان قبل باسم هذه التسميات المشعَّة. من البريء حقا؟ هل يوجد أبرياء في هذه الساحات المليئة بالمثالية؟ ليت شعري، أليست حماقة عمياء أن تقرأ الواقع آملا أن المثالية هي أساس وصفه والتعامل معه؟ لا تعريف آخر للحماقة يمكن أن يشبهها مثل هذا!

 

لا أعرف الكثير عن هذا الجيل، عشرون عاماً أثير زمني يكفي لأجهلَ عنه معظم ما هو عليه. أعرف عن جيلنا ما يكفي لأطلق أحكامي، على نفسي أولا ثم على ذلك التجمَّع المُرتجل الذي يبالغُ البعض في وصفه بالكبير، والفارق، والتاريخي، والمؤثر، وكأن ذلك الفشل العارم الذي أصاب الضفتين لا يكفي لوصفه بالخيبة؟ كنت في العشرينات الحارقة من العُمر، الوضع العام لم يكن كما هو الوقت الآن، كانت لعبة الإنترنت جديدة وتضغط بكل قوتِها على أدوات المؤسسة المهترئة، مؤسسات منع الكتب والتصريحات وملاحقة الأفكار، المعركة التي حدثت لاحقا عاشت تأسيسها بما يكفي قبل أن تحدث أما العقول التي حملتها فقد كانت تتفق في شيء واحد، تمسك القلم باليد اليمنى والحاسبة باليد اليسرى، من هذا البريء حقا؟ يمكنني أن أسمي ثلاثة أشخاص فقط ذهبوا إلى هذا الجحيم بصدورٍ عارية، ماذا أستطيع أن أقوله عن البقية؟ وما فائدة الخيبات الآن؟ أليست دروس العُمر كلها تأتي من هذه الحسرات؟ من النقيُّ حقاً؟ لا أنقياء في هذا الكوكب، كانت الطفولة آخر فرصنا للنقاء وسنعيش لنهاية العُمر في هذا التكهرب القدري ونحن نتمنى أن نظنَّ بالواقع خيرا، أما الحقيقة فهذه الحياة معركة بين الخير والشر وكل مُحايد بينهما عُملةٌ لأشرار الخير، أو لأخيار الشرور، هذه حقيقة بديهية في هذا العالم المحيِّر.

 

علمتني الحياة ألا أثق بأي حراك جماعي، ولا سيما إن كانت له قيادةٌ ارتجالية تتشنج في سرد المطلقات الحيوية وتتولى الحديث باسم الجَميع، الديمقراطية التي لم تتأسس في المجتمع العربي لم تتأسس أيضا في مجتمعه الثقافي ولذلك أستطيع أن أقف أمام أخطائي في الماضي كما أقف أمام أخطاء المرحلة، ما دام هُناك خط عودة للناشط فلا تحسب حساباً لما يفعله بهذه القضية التي يتناهشها نشطاء المثالية، وشرطة النقاء، المجانين فقط لا حسابات لهم أما العقلاء فلديهم من الذكاء الاجتماعي ما يكفي ليكونوا نشطاء في وجه الناس ووسطاء في اجتماعاتهم الخفية مع الحكومة، إن كان ثمة أزمة للقضايا في العالم العربي وفي عمان تحديدا فهم هؤلاء الذي يعلمون كيفية اللعب على الممكن والمعقول ويمارسون السياسة بتعريفها الأقدم والأشهر [فن الممكن]، أن تكون ناشطا، وأن تُقنع الناس أنك تنتمي إلى ذلك الحراك النبيل الذي قد يوصلهم إلى حقوقهم، وأن تكون صوتهم وفي الوقت نفسه أن تطيع تعهداتك السريَّة التي حَسمت سقف أفعالك قبل أن تحدث. عندما يتعلق الأمر بالشعوب فإن القوَّة التي تتحدث، لقد نجحت الثورات في تغيير رؤساء الأنظمة لكنها لم تستطع اجتثاث المعضلة الثقافية الأقدم، عندما يذهب الاستبداد الفرديُّ تحكم الثقافة العالم، المؤسسات العلمية، والأكاديمية هدف السلطات العربية الأوَّل لماذا؟ لأن مسار التاريخ يأخذك إلى نهاية التسلط الفردي وبالتالي إلى بداية قوة الوعي، قوة الثقافة وجميع الدول العربية وأنظمتها تدرك هذا الدرس، وتعلم جيدا أنَّ تعطيل هذا الجسر هو الضامن الرئيسي لخط العودة، للثورات المضادة، وهكذا دواليك تستمر حركة التاريخ بانتظار الجسر البشري الذي سيمهد بجثثه الميتة وبعقوله المُضحيَّة وسيوصل القطعة الناقصة بين الجموع والوعي، عندما يصبح الفردَ مدافعا عن الجمع ويصبح الجمع ضامنا لحق الفرد، هكذا حدثت الديمقراطية وتفاوتت الأمم والشعوب في العقد الذي يضمن استمراريتها. ولست بصدد مديح الديمقراطية كونها نهاية التاريخ والتطور الأسمى، الثقافة هي الأعنفُ في هذه المعادلة المتناقضة، ولذلك نبقى في محيطنا العربي متسائلين عن السبب الذي يجعل الغرب غربَ العلم، والحضارة، والحقوق، والقانون، ويجعل الشرق شرق الاستبداد والتسلط وصناعة الطغيان، المعضلة ليست سياسية، إنها معضلة الجسر الناقص بين الجموع وحقها الطبيعي في تكوين ثقافتها بعيدا عن الأدلجة والتوجيه القسري، وأظن أن الأزمة السورية وبقاء الأسد رئيسا بعد كل ذلك الدمار يكفي ليخبرنا ماهية المراهنات التي تستمرئ الأنظمة العربية ذات الديمقراطية المزيفة اتخاذها، لماذا أكتب كأنني في العشرين من عُمري أعيد طرح أسئلتي تجاه الحتمي من الحقائق في عالمي العربيِّ، ربما لأنني أكتب عن هذا الموضوع، موضوع النشاط والحماسة وتواتر الخيبات.

أتابعُ ما يحدثُ في الساحة العُمانية، أعيد طرح كل ما يحدث على ذاكرتي ومن ثم أحاول تطبيق رؤية نقدية تجعلني محايدا، هذا الوهم النقدي الأقرب للنفس عندما تكتب، وأنت تشعرُ أنَّك لا تنتمي لأي طرف. لن أقول أن الثورات والنشاط الحقوقي لن ينجح، تلك الانتصارات البسيطة التي تكسر ممنوعا هي التي تبقى أما الصورة النهائية والكلية فما أن تصل إلى مقارعة النظام فتأكد أن تكون جاهزا للنتائج، على الأقل أن تكون محصنا من تلك الحرب الشكليَّة التي تكون فيها ناشطاً قد عقد صفقته من قبل، هذه كانت آفة الجيل الذي انتميت له وهل أبرئ نفسي، من المؤكد أنني لا أبرئ نفسي. هل يعلم هذا الجيل هذه الحقائق؟ هل يعلم ما وراء الأسماء اللامعة من تناقضات، بما في ذلك هذا الذي يكتب هذه السطور؟ هل يعلم نهايات الحركات المنظمة والجماعية؟ وهل يعلم النشطاء أي مصير يتربص بهم من رفاقهم في النضال؟ كل هذا يحتاج أن يحدث وأن تقع الفؤوس على الرؤوس لكي يخرج لنا من هذا الجيل المطعَّم بحريات المعلومة وليتعلم دروسَه المستحقة من تناقضات النفس البشرية، إنه موضوع وقت وانتصارات وهزائم. الوقت سيمضي ليتعب البعض ويسلَّم الشارة لغيره، والانتصارت ستحدث عندما ينجحُ المجتمع في الوصول إلى حقوق جديدة، والهزائم ستحدث عندما يحل مشهد الطمع، ولا أتحدث عن بيع القضية فهذا الكلام أكبر بكثير مما يحدث، أتحدث عن اليوم الذي يختار فيها الإنسان سلامته ومصالحه ويسلَّم عمل سنين من [النشاط] إلى العدم، هذا الذي ينهزم ويتوقف أنبل بكثير من ذلك الذي اختارَ أن ينضم للخصم، أو على الأقل اختار أن يقتات على أيام الزمان الفائت عندما كان بطلا، وكان مصارعا للاستبداد، وكان أيضا ناشطا لامعا يظن به الناس خيرا، من النقي حقا في هذا الزمان؟ الأنقياء يموتون في هذا الكوكب أما أصحاب الحسابات المزدوجة فهم الذين يبقون في النهاية، يعرفون الصفقة التي يختارونها ويعرفون وقت التوهج ووقت الاعتزال، يعرف متى يتكلم، ويعرف متى يصمت، ولعل قضية النسوية التي تحدث هذه الأيام هي خير مثال، أين اختفت فلانةُ الفلانيات الآن؟ لقد انشغلت عن قضيتها بالصمت، لماذا؟ لأن الوضع العام لا يحتملُ أن تكون مع رفيقاتها المناضلات، الجو العام كله الآن مشحون ضد النسوية، فالذي يُستفزُ من المرأة بشكل عام أيضا يقتحم هذا المجال، هل هي حرب ضد النسويات؟ أم ضد المرأة؟ لا يهم، المهم أن يعبر عن ارتباكه الوجداني تجاه قضية المرأة، والنساء يعلمن قضيتهن جيدا، بوصلة القمع الاجتماعي، والقمع المنظم تتجه الآن لقضية النسوية وسوف يحدث الكثير في قادمِ الأيام، إنه موضوع وقت قبل أن نرى المشهد يتكرر، فلانة تتوب عن النسوية فتغري العالم بنسوية ماسونية مدعومة من الغرب وشياطين الغموض، وأخرى متحمسة حقيقية سوف تكتشف الدرس بالطريقة المرَّة، أنها لم تعرف بعد ما الذي يحدث في هذه النشاطات الجمعية، ستعرف درسا عن اشتراطات الحياة في الدول العربية وعسى أن تتعلمه دون أن يضيع ويفلت غدها عن يدها، انظر للتاريخ كيف يتكرر واحزن قليلا، هذه الحياة تكرر نفسها، وليس عليك سوى أن تتأمل، الوعي لا يكفي لإيقاف أي مأساة فردية في هذه الحياة، الحذر والخوف أكثر ذكاء في إيقاف المآسي، ولذلك يعيش الجبناء حياة أطول.