بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 ديسمبر 2020

أن تكتئب لتكتئب!

 

 

 

اخترتُ أشياء كثيرة في هذه الحياة، أن أكون مدوناً، أن أدخل عالم الإدمان من أوسع أبوابِه، أن أعيش راهباً، عازفا عن الحياة، أن أتعلم القليل من كل شيء، أن أقرأ حتى أنسى الحياة حولي، اخترتُ أن أتصعلك، اخترتُ أن أهاجر، اخترتُ أن أعود، اخترتُ الأصدقاء النرجسيين الذين يروق لهم أن أحقّر وأجلد ذاتي أمامهم، اخترتُ العداوات، اخترت الشقاء بدلاً من الراحة، اخترتُ أن أكسر كل علاقاتي السياسية المؤذية، اخترتُ الجنون ثم اخترت العودة الصعبة منه، اخترت الإيمان بالله كما اخترت الإلحاد، اخترت تغيير ذاتي من مدمن مخدرات بائس يائس إلى إنسانٍ مختلف، اخترت أن أحب الرياضة، أن أعشق الحركة، اخترتُ أن أسحب معي إلى عالم الحياة بلا إدمان كثيرين، كتبتُ، صرت ــ كما يسميني البعض ــ مشهوراً، اخترتُ أن أتعايش مع هذه الحياة، مع كل هؤلاء الذين ينظرون إلى جنوني بفضول أو يفهمون شقائي بتفهم، اخترت كل شيء تقريبا ما عدا أن أكون ثنائي القطب، هُنا لم أختر أي شيء، لم أختر نوباتي، لم أختر مواجهاتي العبثية مع السلطان رحمه الله، الإنسان الذي أحترمه وأحبه كثيرا، لم أختر نوباتي، ولم أختر كل ما يتعلق بها من جنونٍ واضطراب وسعادةٍ بلا سبب واكتئابٍ حادٍ يفقدني كل شيء، لم أختر هذا وصفقة الحياة تستمر بدوني.

أعترفُ أنني متعب. منهك بأثر رجعي، سنوات طويلة مرَّت عليَّ وأنا في ساحةِ معركة عبثيةٍ تحدث لكي تحدث، لقد غدر بي من ظننتهم أصدقاء عشتُ نصف حياتي معهم، أصدقاء يكرهونني ويحسدونني على ما لا أشعر به، ذلك التأثير الكاريزيمي الذي وصل إلى مجتمع بلادٍ بأسرِها، أن تكون حديث الناس وأن تحلل أفعالك وأنت مضطرب، تنسب لنفسك ما لم تفعله، تدين نفسك بجرائم لم ترتكبها، تحقّر نفسك لتتجنب الأذى ممن يحسدك على ما لا صفة له أبرز من [لعنة] لن تفهم وطأة تأثيرها عليك حتى تصاب بها، لم أختر نوبات اكتئابي، ولم أختر نوبات هوسي، ولم أهتم يوما ما بأي شيء في الحياة سوى حياةٍ هادئة طبيعية فات الأوان أن أعيشها، لقد انكسرت عميقا في داخلي، تشظّت ذاتي التي كنت أحاول الحفاظ عليها ووقعت أسيرا لكل أخطائي، لكل صداقاتي مع مرضى النرجسية الذين يحلمون أن يكون لهم بعض ما تربطني من علاقة مع الكلمات، أحدهم قالَها بغلٍّ بالغ يوما ما: إن الكلمات طيّعة لدى أصابع معاوية، قالها أم كتبها لها ذلك التأثير العَميق، هذا الإنسان من الصعب أن تنافسه في الكلمات!

يا له من أحمق! ألا يعلم أن الكلمات هي درب الخاسرين؟ هؤلاء الذين ضاعت أعمارهم وذهبت زهرة شبابهم غارقين في مهارةٍ عمياء تصطف فيها الكلمات تلقائيا أمام أعينهم وهم ساهمين بعيدا عن الحياة؟ يا له من أحمق أن يحسدني على لعنةٍ استولت على حياتي، تلك الحياة التي يعيشها بأريحيةٍ، بعيدا عن الغرباء وضغوطهم الكبيرة، وبعيدا عن الأصدقاء المزيفين الذين يريدون قطعة من فتات الحياة الذي لا أعبأ به؟ أنا مكتئب بشدة في هذه اللحظة؟ من الذي يمكنه أن يقنعني أن هذه الحياة لها طعم، أو لون، أو رائحة؟ من الذي يمكنه أن يعيد لي كل تلك السنوات التي انفرطت من عقد العمر بلا فائدة ولا معنى؟ يا إلهي كم أنا متعب!

من الذي معي في هذه اللحظة؟ كل هؤلاء الذين يحزنون لانطفائي، الذين يحبونني حقا! يا لهم من مساكين! إلى أي مدى يحزنون لحزني؟ أعلم أن حزني عميقٌ للغاية، ولا وسيلة لأفكر بها سوى الكتابة، إعاقة عقلية أخرى تمنعُ وجداني من الشعور بكل ما في الحياة من مغريات، مضاد الاكتئاب يعمل ببطء شديد، الحسرة التي تغلف قلبي تعمل بوطأة أشد من هذه الكيمياء الحمقاء التي صرت معتادا على تأثيرها على دماغي، الطبيب يقول لي: إنها نوبة اكتئاب! أقول في نفسي: إنها نوبة حياة يا معاوية! نوبة إدراك لا أكثر لإنسان خسر كل شيء حتى أصبح كل ربح لا يساوي أي شيء أمام هذه الحسرة الكبيرة التي صارت إليها حياتي، ماذا لدي في هذه الحياة سوى الكلمات؟ لا شيء إلاها، ولا شيء بعدها، ولا شيء قبلها، خسارةٌ في خسارةٌ والمأساة أن هُناك من يحسدني على مأساتي؟

لقد تعبتُ من كل شيء، من كوني معاوية الرواحي! من يكون هذا الكائن الغريب؟ أليس شخصا يثير الفضول؟ اللعنة على كل السنوات التي قضيتها وأنا أسامحُ من يؤذيني، من يسممني، من يحلو له أن يعتبرني تابعا غبيا ممسوخ العقل وإمعة من الإمعات يخدم مشروعا نرجسيا لكائن لا يعبأ أن يكذب حتى أعمق أعماقه على نفسه وغيره، من أجل ماذا؟ من أجل شيء من الأشياء التي أتركها على رفوفي المنسية! لم أرد يوما ما أن أكون شخصا مؤثرا، أو مشهوراً، كانت أحلامي بسيطة للغاية وكلها تتعلق بمربع صغير أكتب فيه دون أن يطمع في مربعي الشخصي إنسان! كل ما حدث كان عكس ما تمنيت وامتلأت حياتي بالغرباء الذين أجنَّ لأعيش بطولة التضحية لأجله بأي شيء، حتى تحول ذلك إلى مرضٍ جديد من أمراضي، مرض السعي للبطولة، مرض الوهم، دون كيشوت الرواحي الذي ملأ بلادَه قليلة السكان شغبا وصخبا وجنونا، معاوية الرواحي، بمطولاته الكتابية التي تخرّف أحيانا، وتصيب كبد الحقيقة أحيانا، كنت أهذون في حالي وحال سبيلي في دارسيت قبل أن تحدث قصة العُمر التي تثقلني بالحزن والحسرة، هل حقا يمكن للأصدقاء أن يفعلوا كل هذا؟ أي أذى تعرضت له قبل أن أصبح متوحشا؟ أي ألمٍ عشتُه قبل أن أبدأ برد الكيل، ورد الصاع لمن وزنه! إلى أي مدى يذهب من كان صديقا في ألاعيبه! ومن أجل ماذا؟ من أجل بعض الأكاذيب الممنهجة التي يريد طرف بعيد أن أنثرها في ركام الكلمات الذي أنثره في عبث الحياة، عن عبث الحياة؟ وحدث كل شيء؟ لأتفه سبب ممكن، لأن وضعا كاملا يحرك خلاياه المناعية ضد جسده، لأن حالةً من العدائية تجاه الكلمات أصبحت جزءا من الهوية التي يجب أن تنصاع لها، أن تخاف حتى وإن كنت تزيف الخوف، أن تطيع حتى وإن كنت تزيف الطاعة، أن تزعم بكلامك ما لا تؤمن به لأن الجميع يفعل ذلك! أي عبث هذا! ألا يعلم كهنة الظلام أن الكلمات هي الحياة؟ وأن كل حياة ممكنة لأي جمعٍ وقومٍ لن تكون بدون كلمات؟ وأننا في الطريق لغدها مهما حاول تأخير يومه السامي أي كائن بشري تحت أي حجة كانت! ليت قومي يعلمون!

ها هو عبء حياتي يثقل كتفي مرَّة أخرى، أخشى الاعتراف أنني متعب، وأخشى أن أقر أمام نفسي أن صبري قد مل من الصبر. مكتئب، وأتذكر أيامي في الهجرة، ذلك الضياع الموغل في الضياع، ألاعيب السياسة القذرة التي كانت تلاحقني حتى وأنا في بُعدي عن كل شيء، الأصدقاء! لا أصدقاء في هذه الحديقة! الأعداء! لا أعداء في هذا الكون، الذات هي الصديق والعدو وهي كل تجليات الوجود المرير الذي أعيشه كما لو كنت أنفذ حكما بالمؤبد في جريمة لم أرتكبها، ياااااه إنني متعب من التعب!

أعيشُ كأنني في مباراةٍ أؤدي دوري فيها لكيلا أخسره فقط. أمضي مع شروط اللعبة، لا أشعر بما نجحت فيه، أشعر بما خسرته فقط، أدين بالفضل في حياتي لتلك البؤرة من البصيرة التي جمعتني بالله مرة أخرى، عدا ذلك لا أشعر بشيء سوى الألم، سوى الحسرة التي تغلف روحي وتؤجج جمرها الحارق في صدري، لقد تعب قلبي من الحرقة، تعب عقلي من ذاكرتي، تعبت كلماتي من سطورها، وتعبت حروفي من كلماتها، متى ينتهي كل هذا الألم؟ متى أنعتقُ من حياةٍ لا توصف سوى بالمأساة؟

كنت يوما ما طيبا، وساذجا، عشت أجمل سنوات العمر غافلا ولكن السكاكين لا تعلمك الغفلة، تعلمك الحذر، وها قد امتلأت محازمي بالسكاكين، وضاعت سنواتٌ أخرى من الهدر الفادح الجزافي، الغضب، والعدائية، والحزن العميق على ما كان أملا، وها هو الاكتئاب الآن قد حل كأي ضيف ثقيل على النفس ليطلق أسرار البصيرة مجددا، ليخبرني إلى أي مدى أسرفت في حق الحياة، وإلى أي مدى يمكن إصلاح أو إتلاف أي شيء بما في ذلك الإنسان.

آخر عهدي بنفسي كنتُ قد أصبحت رياضيا، أقود دراجتي إلى آفاق لم أكن أستطيعها وأنا في عمر العشرين المليء بالحيوية والشباب، أعالج مرضي بالحركة، وأعود محملا بالسعادة والأمل مع كل مرة أكمل فيها مشواراً طويلا، أحقن جوفي بالسكريات، وأعلم قلبي الخفقان، خطأ ساذجٌ يكلفني الكثير، كسر في الكتف، وقطع من الحديد أصبحت تثبت كسوري وسقطت أسلحتي أمام إعاقتي الذهنية التي لم أخترها، أكتئب لأكتئب، لا أستطيع الحركة ولا فعل أي شيء سوى مضغ الوقتي بدماغ تساقطت أسنانه الطاحنة مع الفراغ، يصيبني هذا الرماد الذهني بالجنون. لقد مللت من الملل، وسئمت من كوني أنا، أنا أعرف من أكون، وما أكون وأعلمُ أنني صرت إلى الذواء المبكر، من الذي يحدث له كل هذا الحزن والخسران ويستطيع أن يصيب نفسه بلعنة الأمل مجددا! يا إلهي! هل أنا الذي يكتب هذا الكلام أم شيطان الاكتئاب مجددا أحال نظرتي للحياة إلى هذه السوداوية؟ لا أدري! الذي أعرفه أن هذا هو ما أشعر به في هذه اللحظة، وأنني إن شاء الله أن أعيش خارج كوكب الحزن المرير هذا قد أقرأ هذا الكلام وأقول منبهرا: إلى أي مدى كنتَ مكتئبا يا ماريو!

 

معاوية

ديسمبر 2020

في بقعة ما في الخوير

الاثنين، 21 ديسمبر 2020

ما الذي يحدثُ في عمان؟

 

 

 

أخذتُ وقتا ليس بالقليل منذ عودتي لأرض الوطن الطاهرة لأتقبل حقيقة أنني عدتُ إلى أرض الميدان، ميدان الكتابة النابض بالقلق والمفعم بالتوجس، الميدان المتربص بما فيه من رقباء، وحكماء، بمجتمعِه سريع التكهرب. أخذت وقتا لأعتادَ على الخطاب الجمعي ونظرية [غزيَّة] المنغمسة في نخاعِ النخاعِ العُماني، إنها أرض الميدان حيثُ بدأت كلماتي، وحيث ولدتُ وعشتُ وانتميت ولاحقا حيث اخترتُ أن أكمل رحلةَ الحياة. تناسيتُ لشهورٍ من الفرحِ الغامر الهموم العمانية العامَّة، ربما لشعوري بالخجل الشديد الذي رافقني أيام هجرتي المؤقتة، التي تحولت لاحقا إلى تجربةٍ أخرى من تجارب الشباب، وكأنني غريب ويجب أن أكون أديبا مرَّت عليَّ الشهور وأنا أراقبُ ما يحدث كأنني لستُ من هذا المكان، كأنني لست في أرض الميدان، كأنني لا أستحقُ شجاعةَ الكلمات ولا إقدام ابن البلاد. يا له من شعور مرير أن تشعر أنك لا تستحق الكلمات في وطنِك!

تلاشى هذا الشعور مع الوقت، كان آخر عهدي بالتعبير عن رأي في قضايا عُمان أيام معركتي العبثيَّة وارتيابي الهائل الذي ولله الحمد استطاعت عُمان أن تدمره شرَّ تدمير، لم تخن أجهزة الدولة وصية السلطان قابوس، لم يخن السلطان قابوس عُمان، أكمل رسالته وسلمها ليدٍ أمينة، كنت وقتها أغوص في أغوار الزمهرير في برمنجهام في المملكة المتحدة أنا ودراجاتي الخمس، أراقب المشهد العُماني بحسرة وأنظر لكل هؤلاء الذين يمسكون راية القلم والكتابة والرأي الحر بحسرة ولوعة، أي شجاعة للكلمات وأنت بعيد؟ العزاء الوحيد هو تلك الشجاعة الأدبية، والعدالة الشعرية، ولكن هل خلق الله الكلمات لتُسجن في الأدبياتِ النمطية الكلاسيكية، لتضخّم في الكلام الكبير عن الحرية، والديمقراطية، وما يقوله الشعب وما يجب عليه وما يتوقَّع منه؟

تعيشُ ساحات التعبير عن الرأي الفردي حالةً من التعافي بعدً سنواتٍ من الحيطة المبالغِ فيها، ضرائب باهظة أدت إلى تراجع الحماسة في الكتابة عن الشؤون العمانية العامَّة، ولم يتغير شيء بالطبع في مؤسسات الإعلام في عمان، فالحكومية منها التي تدفع رواتبها مخصصة للدولة وما تريدُه الحكومة أن يصل للناس وللعالم، وتلك الخاصَّة منشغلة برأسمالية الإعلام في العصر الحديث ولا أظنُّ أنها ستقحم نفسها في احتدامات العلاقة بين الشعب والحكومة؛ فهو مجال عامرٌ بالخسارات الماديَّة ولا يخلو من الأخطار المقلقة التي قد تهدمُ المؤسسة الإعلامية على رأس رئيس تحريرها، ولذلك ينشغل الإعلامُ الخاص في مواويله التجاريَّة دون أن ينسى ذر الرماد على العقول والبصائر عندما يموج المجتمع وتتحرك أداته الإعلامية الكُبرى في العَمل. عندما يتحرك الواتساب في عمان وتتبادل المجموعات الإلكترونية النقاش فاعلم أن عُمان دخلت في حالة رأي عام، وتأتي الأداة الثانية ضمن قائمة التفضيلات الإعلامية العُمانية لتكون منصة تويتر الإلكترونية، وإن اشتعلت المنصتان بالآراء والنقاشات فهذا معناه أن خطبا جللا يحدثُ ويتعلق بعموم المجتمع العُماني، قضية كبيرة كما يحلو للبعض أن يسميها.

لم تعد المرحلةُ العمانية معنية كثيرا بهموم النشأة والتأسيس، لقد تكفل الراحل السلطان قابوس بن سعيد رحمة الله عليه بفعل ذلك، أدى رسالته بأمانة وسلم البلاد ليد السلطان هيثم بن طارق في انتقال سلمي وسلس للسلطة، لم تختلف عائلة آل سعيد الحاكمة ولم تنقسم البلاد، وكان مشهدا حضاريا يوطّن الفخر والاعتزاز بالوطن العُماني، مرَّت مرحلة تأبين المرحوم السلطان قابوس بن سعيد وبعدها بدأت الخطابات السلطانية المبشرة واحدا تلو الآخر، والسلطان هيثم بن طارق قليل الكلام كثير العمل، ما أن يُعلن خطابُه السامي حتى تدخل البلاد بأكملها حالة التنفيذ، ورصعت خطاباته بنجماتٍ من الكلمات، [المراجعة، المحاسبة، المساءلة، الإنصات لصوت الشباب، وأن تكون عمان بسقف طموح العُمانيين]، كان الاقتصاد العُماني هو المستهدف من عمل الحكومة في المرحلة الحالية، تعزيز مصادر الدخل، وإعادة النظر في الاستثمارات الحكومية والشركات المملوكة للحكومة، التخصيص، ومساهمة المواطن العُماني في رؤية عمان 2040 الطموحة. شاءت أقدار الله أن يتولى السلطان هيثم بن طارق الحكمَ في حالةٍ عالميةٍ غير مسبوقة، وباء كورونا الذي صعَّب على الزخم العماني القادم أن يبدأ بكل طاقته، الاقتصاد متأثر، والشركات الصغيرة والمتوسطة تُعاني من آثار الوباء وساهمت الإجراءات الاحترازية الضرورية في تغيير الحياة الاجتماعية وفي تعطيل أرباح الكثير من المؤسسات التي تصب ضرائبها في الاقتصاد العام، وضع السلطان هيثم الاقتصاد العُماني نصب عينيه، جهاز الاستثمار العُماني، ثم جهاز الضرائب، وأخيرا بدأنا نقرأ كعمانيين أخبارا عن الرقابة، وبدأت المرحلة العُمانية لتأخذ طريقها إلى التفاؤل الحذر رغم تقلبات أسعار النفط العالمية والظروف الاقتصادية العُمانية وتقلبات السوق. لم يزل القلق العماني كليَّا، ثمَّة قلق شعبي وترقّب لما ستؤدي إليه هذه الإجراءات، تناثرت الأخبار عن سياسة اقتصادية جديدة وأصبحت الإجراءات المالية الجديدة تميل إلى توفير النفقات، وحملة من التقاعدات وبدايات لتغيير آليات العمل الحكومية وتحديد واضح وتجديد إداري لمساهمة الموظف الحكومي في البلاد، عدل مؤخرا قانون التقاعد، وبدأت البلاد تأخذ توجهها السوقي، انتهت تقريبا حكاية أن الوظيفة الحكومية هي الطريق الوحيد للدخل المضمون والتقاعد المريح، وبالمنطق الاقتصادي كما يحلل الخبراء تتجه عُمان إلى بلادٍ تتوازن فيها الوظائف بين الحكومة والقطاع الخاص، وهذا هو التوجه الذي يمكن استنتاجه من القرارات الأخيرة، انتعاشٌ في القطاع الخاص، وتوظيفٌ متوازن بين الحكومة. بدأت في الآونة الأخيرة إجراءات لرفع الدعم الحكومي عن بعض الخدمات، قبل سنوات كان ذلك في الوقود الأحفوري الذي يشكل رافدا رئيسيا للاقتصاد العُماني، وقبل يوم من تاريخ هذه التدوينة نشرت الجرائد تسعيرات الكهرباء والمياه، واشتعل مجددا الرأي العام العُماني في النقاشات وفي الجدال، فريق يقول بأن الإجراءات الحكومية في محلها وتقود البلاد إلى اقتصاد متوازن وتستثمر رأس المال البشري في رفد الاقتصاد، فريقٌ آخر دشن الوسوم في تويتر ممانعا التكاليف الإضافية التي ستترتب على القرارات الجديدة، وتبادلت الأقلام النقاش، ولست بصدد تفنيد أيهما أفضل للاقتصاد العُماني عزيزي القارئ لأنني لست خبيرا اقتصاديا، أقصى اهتمامي هو رصد الخطابات وتحليلها، ولعل أبرز ظاهره تحدث في عمان الآن هي ظاهرة التعبير عن الرأي ومساهمة الفرد في النقاش عن شؤون عُمان المدنية، وما يتعلق بالخدمات وغير ذلك من انفراجٍ في مجال التعبير عن الرأي، أو بالأحرى عودة المياه لمجاريها، عودة فيوض الكتابة والحروف لتكتب حبَّها وقلقها ولتساهم بأفكارها في العصف الذهني الجمعي العُماني العام، أين وصلنا إلى هذه اللحظة؟

مرَّت عمان بمراحل اقتصادية عديدة، لا أفقه أرقامها لأقدم جديدا، ولكن إذا نصبت عيني على متابعة التغيرات الاجتماعية يمكنني أن أقول أن عمان تتجه إلى ثقافة حياةٍ جديدة، الحلم العماني المتمثل في أن راتبا حكوميا يكفي لشراء سيارة، ولمهر زوجة، ولبناء بيت وبقرض واحد أصبح الآن مختلفا في عصر عُمان كبيرة السكان، الوباء فعل فعلته كذلك في الاقتصاد، تراكمات التصرفات الإدارية والمالية وما تعاني منه بعض المؤسسات من ترهل أو من تضارب في اتخاذ القرارات ألقى بضلاله على الاقتصاد، وبدأ يؤثر في المجتمع، وليتني أمتلك عقلا خارقا يمكنه أن يخرج بحلول أمام هذه المنظومات المعقدة، أقصى ما أستطيع فعله في هذه التدوينة أن أتأمل تغيرات عمان الثقافية والاجتماعية، وكيف تتغير عمان تدريجيا على صعيد مشاركة الفرد العماني في شؤون بلاده، وكذلك كيف تتغير قرارات الحياة وما تفعله الأجيال الجديدة وما تغيره أيضا من ثقافةٍ سابقة كان قوامها الاتكاء الكليَّ على ما تصنعه الحكومة من وظائف وعلى ما يمكن للقطاع الخاص أن يقدمه للعمانيين من فرص، يغرق سوق العمل في عمان بالعمالة الوافدة التي توفر التكاليف التشغيلية والتي تحقق أرباحا فلكية في بعض القطاعات، تظهر مطالباتٌ عديدة وخطابات عدائية مع الوافدين، ويغالي بعض اليمينين في عمان في هذا الخطاب مطالبا بطرد الوافد ليحل محله العماني وكأن الأمر عملية استيلاء مباشرة، وكأن مبادئ الاقتصاد الحر تسير بهذا الشكل، على الجانب الآخر تبادر بعض العقول الناصحة باقتراح تغييرات، ولكن لم تتغير الثقافة السائدة كليا، انتظار الحكومة شيمة تعودت عليها من أبناء جيلي والجيل الذي قبلي، أما عن الأجيال الجديدة فقد أصبحت تفكِّر بطريقة مختلفة عن السابق.

ينتابني قدرٌ من الأمل في هذه البدايات الجديدة في عمان، لأسباب ثقافية واجتماعية. تؤثر الإجراءات الجديدة على ثقافة متراكمة وعلى نمط حياة وقرارات العيش في عمان، وتؤثر على حرية التعبير كذلك، كلما ساهم المواطنُ في دفع الضرائب صُنعت السانحة التي تسمح له بمشاركة أكبر في الشؤون العامَّة، لا أقول هذا مؤيدا للقرارات الجديدة ولا معارضا، أقول ذلك محللا فقط، كلما وضعت الحكومة ثقلا على دخل المواطن جاء من الجانب الآخر استحقاق معنوي جديد على عُمان، فالإنصات إلى المواطنين امتدادٌ لمدرسة السلطان قابوس، وواصل السلطان هيثم بن طارق هذه المدرسة، يتكلم العمانيون اليوم، ويساهمون بالرأي ومنبرهم الرئيسي المتمثل في مجلس الشورى له وعليه، لا توجد حالة كبيرة من الرضى الشعبي على مجلس الشورى ولكن في الوقت نفسه ثمَّة تطور ملموس في عمل هذا المجلس، لم يوفق المجلس في تفاعله مع المجتمع وصب جل اهتمامه على توجيه الخطابات الكلاسيكية للحكومة، أما المجتمع فصنع منابره الفردية وأصبحت السمة الغالبة على التعبير عن الرأي الجمعي، لم يتوقف الحس الجمعي في الكتابة العمانية، ولم تخرج الثقافة العمانية كليا عن سياسة الحزب المعنوي وغزيَّة الثقافة الصغرى، أما على صعيد الخطاب بين الشعب والشعب فقد ظهرت الآن ظاهرة المؤثر الفرد أو من يسمون في العرف الشعبي [المشاهير]، ويمكن رصد ذلك بسهولةٍ من خلال قيام بعض المغردين في تويتر بإعداد وتهيئة جموع الناس للقرارات الجديدة باستخدام أداة التلميح شبه الصريح، ويمكنك مراجعة وسم #يوم_الأحد في منصة تويتر لتجد أن التفاعل بالرأي قد اشتعل اشتعال النار في الهشيم حتى نشرت الجرائد أخبار التسعيرات الجديدة، وبدأنا مرحلة عُمان القادمة، الضرائب ستكون جزءا من المعادلة والاستثمار الحكومي أصبح أداةً مهمة للاقتصاد، وكل هذا يحدث بينما وباء كورونا يعطل كوكب الأرض ويحطم المزيد من الزخم العالمي ويضرب الرأسمالية العالمية في مقتل، الزخم الاستهلاكي، والرفاهية، والضريبة التي تُدفع في الدول الغربية وانتخاب ترامب وظهور اليمين وغير ذلك من مشكلات سياسية في الخليج، عُمان بعيدة والحمد لله عن الاشتباك السياسي المباشر مع كل هذه الظروف ولكنها كحال أي دولة أخرى تأثرت بوضع الكوكب الآن.

أي محاسن يمكن أن تذكر للضريبة؟ إنها الكابوس الحقيقي الذي يمكن أن يفزع أي إنسان، سيتم اقتطاع جزء من دخله ليذهب للحكومة وبأي مقابل؟ الواقع النظري يقول أن المساهمة تأتي مع امتيازات جديدة، وهي امتيازات معنوية حتى هذه اللحظة، حتى يتحسن الاقتصاد العُماني وتبدأ الإجراءات الجديدة في تثبيت مفهوم الرخاء الذي أصبح جزءا من النشيد الوطني العماني، تدفع ضرائبك يرتفع سقف حرية التعبير لديك، هذا ما فهمته من الحرية في بلاد الغرب وبالتحدي في بريطانيا؟ لماذا يمكنك أن تقول أي شيء تقريبا؟ لأن الحكومة والمؤسسات تنزع ضرائبها منك شئت أو أبيت، مقابل حقوقك السياسية، والإنسانية، والقانونية أنت تدفع إلى المال العام من دخلك، والجميع يدفع والتهرب من الضريبة جريمة كبيرة في بلاد الغرب، ولكن لا تطبق بلاد الغرب الضريبة بشكل أهوج لقد انهارت أنظمة غالت في الضرائب حتى افترست الفرد وأدى ذلك إلى خلل اجتماعي جسيم وبعدها إلى خلل سياسي عطَّل البلاد كلها تقريبا، قانون مثل [للجميع سقف] يطبق بنجاح في دولةٍ مثل المملكة المتحدة، ليس لديك وظيفة؟ ستسجل في مركز البحث عن الوظائف وسيصرف لك راتب يكفيك لتأكل وتشرب أما عن البيت فتمنح بيتا متواضعا من الحكومة أيضا يكفيك لتجد سقفا، حياة الكفاف فقط ولا يذهب بالك بعيدا، ما أن تعمل ستقوم الحكومة بحساب كل جنيه ذهب إليك، وستبدأ في دفع ضرائبك بالميللجرام، وهذا ما كنت أعيشه شخصيا في المملكة المتحدة عندما بدأت العمل في اليوتيوب وكنت أدفع لجهاز ضرائب ملكة بريطانيا مساهمتي قبل أن أستلمها، يحدث ذلك عبر رقم الضمان الاجتماعي الذي ينظم حقوق كل مواطن بريطاني وكل مقيمٍ بصفة قانونية. ما وجه المقارنة بين الذي يحدث في عمان والذي يحدث حول العالم؟

 

ما أظنُّه ويمكن أن أكون مخطئا أن عمان تتجه لأن تكون دولة سوقيَّة رأسمالية، وأن ثقافة الحياة وأنماط العيش على وشك التغيّر، لقد صعدت المهارة لتكون في سلم أولويات مصادر الوظائف للفرد، لم يعد مهما للغاية ترصيع السيرة الذاتية بشهادةٍ من أجل الشهادة، ولم تعد عمان تعاني من شحٍّ في الوظائف التقنية الكبرى، دخلنا إلى محيط الانتخاب الطبيعي والتنافس والبقاء للأفضل للسوق، وهذا ما يحدث حاليا في الجيل العماني الجديد، جيل المهارة، لم يكن في عصرنا من يتوقع أن مهارات إبداعية، أو مهارات فنيَّة ستكون مصدر دخل، ولكن أليست الحاجة أم الابتكار، والاختراع؟ إنها أيضا أم التأقلم، ما يحدث من تأقلم في أنماط العيش في عمان يظهر جليا من توجهات الحكومة وقراراتها، تحاول عُمان أن تدخل السوق العالمي، أن تكون لديها مؤسسات اقتصادية مربحة، وأن تتولى هذه المؤسسات صناعة الوظائف وبالتالي أن يستقر المجتمع وأن يقل عدد الباحثين عن عمل وبالتالي يستمر الحلم العُماني، وظيفة في القطاع الخاص أصبحت تشبه الوظيفة الحكومية، قلت الفوارق، تشابهت الامتيازات، قانون التقاعد يشير إلى هذا التوجه، فما الذي سيحدث في عمان في المرحلة الحالية؟

انتهى موضوع [شح] العقول في عمان، دخلت العقول حالة التنافس مع بعضها البعض، يحفز هذا التنافس سوق الجامعات، ومن ثم يحفز سوق الكفاءات، وبدأ مفهوم الموظف الذكي يظهر في الفلسفة الإدارية العُمانية، انتهى عصرُ أن العماني يملأ خانةً لأنه عماني، عدد السكان يفوق الوافدين، هل ستقوم الحكومة بتغييرات جذرية لقانون الكفالة؟ أظن أنها ستفعل، متى لا أدري! ما زلنا في مرحلة صناعة دولة رأسمالية، والنفط صمام الأمان الأكبر في عمان أصبح الآن أداة لتقوية الاقتصاد، بعد التقاعدات التي طرأت على جسد الحكومة، وتغيير قانون التقاعد، والآن بداية عصر الضريبة بدأ المجتمع يستشعر تغييرا في مصدر الدخل، وبالتالي سيحدث تغيير في نمط العيش، الذي أستطيع قولَه أن هذه التغييرات سيكتب لها النجاح إن ساهمت في إنعاش الاقتصاد وبدء زخمه الكبير، وأقصد بالزخم الكبير أن تكون عُمان على مستوى طموحات شعبها، موانئ تعمل بكفاءة، وشركات تتكاثر، وظائف جديدة، وعلى الجانب الاجتماعي التنافسية للأكثر كفاءة، ربما حان الوقت في عمان لتغيير سياسة التعليم بناء على سوق العَمل، وقد أشطح في التفاؤل إن نجحت كل الإجراءات الأخيرة في صناعة زخم عمان الاقتصادي الكبير، عمان دولة ثرية وكل ما تحتاجه هو ترتيب الأوراق، ولست بصدد كيل المديح للحكومة أو كيل الذم، أتحدث عن أمنياتي، أقول أن محاسنَ الضريبة تأتي مع الشراكة والمساهمة وبالتالي سقف حرية أكبر للتعبير عن الرأي، أتوهم أن هذا سيقنع المجتمع العُماني بأهمية مجلس الشورى وعسى أن يلتفت الناس إلى دوره المعنوي الكبير في تنظيم التفاعل بين الحكومة والشعب، إن كانت أوهامي وأمنياتي الكبيرة ستتحقق وتحسن وضع الاقتصاد، وانتهى عصر كورونا واكتسبت البلاد الزخم الاجتماعي وعادت الشركات للعمل، فإن إعادة النظر في استجلاب المزيد من الوافدين ربما سيحدث، وماذا بعد أيها المهذون الحالم؟ هذا كلّه في حال نجاح كل هذه الأوراق التي يعاد ترتيبها، ثمَّة ضريبة ستحدث للحكومة، وأخرى على الناس، فأما الحكومة فهي تجهّز نفسها لتراقب، وتسائل، وتنظم، وتنتظر النجاح الذي يصب في خزائن الدولة مالا ربحيا صافيا من الاقتصاد، وأما الناس فينتظرون نجاح هذه السياسة لينجح الاقتصاد وبالتالي تتكاثر فرص العَمل ويقل تسريح الموظفين الذي أصبح ظاهرةً اجتماعية يعبر المجتمع بشفافية عن امتعاضه منها، الجدال بين الناس والحكومة ليس بحجم الجدال المرير بين الناس والقطاع الخاص، لست بصدد استخدام الخطاب العاطفي عن جشع التجار، وعن طمعهم وعن استفادتهم من مال الحكومة وغيرها من الشعارات الرنانة، ما أريد قوله هو أن جدالا عمانيا كبيرا ينشأ الآن، وقد تكون له نتائج صحية للغاية على الصعيد الثقافي، أما على صعيد نمط العيش فإن الجميع سواسية أمام قراراتٍ شخصية نتيجة الوضع العام، وصف ما يحدث في عمان بأنَّه تغيير هو الوصف الأنسب، التوجه نحو دفع الضريبة يفيد الدولة، والمأمول أن يفيد الدولة إلى أن تتمكن من تثبيت مفهوم الرخاء للمجتمع، والجدال العماني كله يدور حول هذا المفهوم الفلسفي العُماني، هل ستنجح الحكومة في مساعيها ونرى الاقتصاد وقد قام كالمارد على قدميه ونرى عُمان بعد سنوات قد قامت كما فعلت دول الخليج الأخرى؟ أم نحن أمام عصر مغاير؟ مزيد من الضرائب بلا نتائج؟ هذا ما سيحسمه الوقت، لست خبيرا اقتصاديا لأؤكد أن هذه الإجراءات ستنجح أو ستفشل، لكنني أستطيع أن أقول بصفاء ذهني تام أن زخما اجتماعيا تنافسيا قيد النشأة يحدث في عمان الآن، وأن عصر المهارة قادم إلى عُمان، وأن التعليم وخيارات التعليم الكلاسيكية في عمان قد بدأت بالتغير، وأن الفردَ سيجد تحديات أصعب مع الوقت، سيجد تنافساً أكثر حدة، وهُنا تأتي خسارات الفرد من أجل القضية الكبيرة، فإن ذهبت إلى اقتصادٍ ينجحُ ويقوم كالمارد فإن كل تلك الأعباء تستحق، أما إن تأجل عصر عمان الاقتصادي لسنوات أطول فربما نكون أمام سنوات من الإحباط والقلق، مع وباء كورونا أصبح من الصعب توقع أي شيء، ما أتمناه هو أن تحدث يقظة عمانية عامَّة، وأن نذهب إلى عمان الغد باقتصاد قوي قادر على رفد المجتمع بالوظائف، ورفد خزينة الدولة بالضرائب، رفع الدعم عن الخدمات لن يكون بداية الدرب، إن عصف الاقتصاد عواصفه سيرتفع دخل الفرد ولكن سترتفع مع الضرائب، وهكذا قامَت الدول الصناعية الكبرى بهذه الفلسفة، الضريبة مقابل الحرية الفردية، هل تتجه عمان إلى ذلك؟ ربما! لم نعد في عصر ثقافة التأسيس، ولا عصر الاتكاء الكلي على وظائف الحكومية، الكرة كلها في ملعب القطاع الخاص، والرأسمالية العادلة المنصف قد تكون حلا لمشكلات اجتماعية عويصة، فهل ستنجح في مساعيها؟ إنه الوقت فقط من سيثبت ذلك.

أمنيتي أن أرى عمان وقد عصف اقتصادها عصفا مبينا، أن تتحقق نظرية الرخاء، وأن يستثمر مال النفط في الاقتصاد العماني دون أن يصبح صنبورا للرواتب في دولة قليلة السكان تعاني من نقص العمالة الوطنية ونقص الشهادات، عصر المهارة، والتدريب، وتقليل جلب الوافدين، وربما تغييرات في قانون العمل، كل هذا متوقع الحدوث، متى؟ يعلم الله ذلك، الأمل باقٍ ورغم صعوبة التحديات أتذكر كيف قامت هذه البلاد على قدميها في أصعب الظروف، ماذا بعد هذه المرحلة التغييرية، أنتظرُ حالي حال الجميع لأعرف. حفظ الله عمان من كل شر، وحفظ الله جلالة السلطان وأنار بصيرته لكل ما فيه خير لعمان وشعبها الوفي.

 

معاوية الرواحي

السبت، 19 ديسمبر 2020

الإلحاد والإيمان والانتحار

 

 

 

يصنع الإلحاد في العالم العربي محيطاً جاذباً للعقول الحائرة، والنفوس الضائعة. ويشكّل الكبت الاجتماعي المتلازم مع البيئة العربية النمطية دافعاً حماسيا للإنسان التائق لامتلاك قراراته وخياراته، ولا عجبَ أن يحاول العقلُ الفردي المستقل الهروب من الدين إن كان علماؤه يعبدون الدنيا، والسلاطين، والسلطات، بل وربما يتناقضون علانيةً ويمالئون الظالمين، ومن لم يتخذ مقاربة نقدية ليستقل عن العقول المتحكمة بسلوك الدين تجاه المجتمع والدول فإن خيار الإلحاد جاذبٌ مبدئيا، وقد يكون آسرا لاحقا، يُلحد الإنسان لأسباب فكرية وفلسفية تقصير علماء الدين في الصدق أحدها، والأسباب النفسية سبب ثانٍ، وهذه ليست كل الأسباب، بعضها متعلق بنرجسية الفرد وعبادته لشهواته، أو رغبته في إزاحة الكابح الذي يمنعه من البطش بالبشر، أو السرقة، أو استعباد الآخرين، أو تأليه نفسه.

لا يختلف الإلحاد عن الدين في كونه مدرسة فكرية لها أركانُها، ومثلما هو حال المؤمن بالفطرة، والمؤمن بالتلقين كذلك للإلحاد دوافع داخلية أو خارجية. لدعايات الإلحاد مغناطيسية مُقنعة لأي حائر، ولأي إنسان لم يقتنع بعقيدته أو تعرض للإساءة الجسيمة بسببها. لا يحدث ذلك في محيط بريء دائما يعطي للإنسان حق الخيار و التفكير، لا يخلو الإلحاد من الإمّعيّة التي يصنعها الملحد الداعية، صناعة الأتباع شيء مشترك بين التيار اللاديني، والتيارات الدينية أو المذهبية، هُناك ملحد أصيل، تبنى نظرياته المادية وأنكر الإله ومن أبرز ملامح الملحد تكوينه لنظرياته الخاصَّة به، أو على الأقل اتباعه لنموذج إنساني وأخلاقي، من السخف أيضا أن نقول أن الملحد بلا أخلاق، فالمؤمن والملحد يتفقان في أن الأخلاقَ والقيم الإنسانية متعلقة بتكوين الإنسان مبدئا ومن ثم تكمل الطبيعة والمحيط الاجتماعي عملهما، مؤمن رديء يخدع الناس يدعو الشباب للموت وهو يأكل كالجمل ويعيش هناءة الدنيا، وكذلك الملحد الداعية الذي يصنع فريقا من الأتباع من ذوي أنصاف العقول الذي يمكنه أن يلقن الدين نهارا فيؤمن، وأن يلقن اللادين ليلا فيلحد، المؤمن والملحد يعدوان إلى ما هو غير مرئي ومحسوس، والفارق بينهما في زاوية النظر، المؤمن يقسم بالإله الذي يؤمن به ويقول أن لله في خلقه شؤون، وبالتالي فإن الفهم التراكمي للدين ولا سيما للأديان السماوية هو الذي يحدد ماهية الجمعيّ، جماعة المؤمنين، ولسنا بحاجة لشرح الدين كثيرا، الملحد يبشّر ويكون نظريات دامغة ومادية ضد الروح والدين، ولا يمكن لأحد في هذه الدنيا أن يتقين من كلام ملحد، ويفصل الموت نظريا بين نظريات المؤمن والحقيقة، وهُنا الذي يجتمع عليه الطرفان، أن الموت حقيقة حتمية تجمع كل إنسان مهما طال به العُمر، يميل الدين لأن يلقي بثقل أكبر لتعويض الحياة بعد الموت، أما الملحد فلا ينادي بما بعد الموت، الحياة الدنيا شغله الشاغل وهمّه الرئيسي، وهذه السمات العامة تختلف من معتنق للدين واللادين، لكنها خصائص يمكن رصدها ببداهة حين نقارن بين ملحد ومؤمن، أيهما يؤمن بحياة بعد الموت؟ وبخالق يحاسب البشر؟ وبأن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يوجد صدفة؟ وبأن الكون له موجد وهذا الموجد وضع سنن الكون؟ المؤمن يقول بذلك؟ أما الملحد فلديه مختلف أنواع التكهنات الكبيرة عن الكون الذي يتوهم أنه مركزه الوحيد، الكون مركز عقله، وحواسه هي المرجعية الأولى والأخيرة، ولا مانع من بعض النظريات العلمية التي تثبت تعقيد الكون والحياة لكنها لا تكفيه لينسب كل ذلك إلى خالقٍ واعٍ كما يسميه. هذا الملحد الأصيل، الذي نزع كليا فكرة وجود إلهٍ [واعٍ] حسب زعمه وبالتالي صرنا نتكلم عن مدرسة فكرية، اعتنقها أو زُفّت إليه ضمن تيار الإلحاد الموجود أزليا، لا أقول أن الإلحاد ظاهرة سيئة فهو رغم ما يتضمنه من قلق وجودي ومن تعاسة وغُربة إلا أنه يقدم هدايا نقدية ثمينة للعلوم الدينية التي بسبب التيار اللاديني تتعلمُ النظر للعالم بمنظور أوسع من القدماء، وما توصلوا إليه من علوم وما وصلوا إليه من خلاصات حول الكون والكوكب البشري.

الموت رابطٌ بين كل البشر، المؤمن يموت وأحيانا يكون الدين سببا في ذلك، الدعايات الداعشيّة أقنعت عشرات الآلاف من الضائعين لتصديق أن خليفة الأمة المليارية هو زعيم عصابة انتحاري يعيش صراعات استخبارية مع الأمة الغربية، كذلك أدى غياب الوازع الديني والطمأنينة تجاه وجود خالق يحاسب الناس إلى تعاسة ملاحدة كثر، بعضهم ارتكب جريمة قتل نفسه ليجد الحقيقة كما فعل بعض المفكرين، فضلا عن أن التيار الإلحادي يمكنه أن يكون غير إنساني في ما يدعو له، الموت والخراب صفات يشترك فيه المؤمن والملحد، وهذا ما يقودنا إلى طباع العنصر البشري واستعداده الفكري والوجداني والذهني لإزهاق الروح، سواء نفس الفرد، أو نفوس الآخرين.

عندما نتحدث عن الانتحار، فنحن نتحدث عن قتل النفس، هل هو وزاع داخلي أم خارجي؟ إن كان خارجي فنحن نتحدث عن جريمة يتشابه فيها المؤمن والملحد، المؤمن يشط كل الشطط ويصبح زعيم عصابة باسم الدين ويدعو مجموعة من المصدقين المتعطشين للموت إلى هذه الجريمة، ويمكن للملحد بنرجسيته الفردية أن يحشد الجمع نفسه من الأتباع، عصابة كبيرة أحيانا على شكل دولة، حياة الإنسان غير مهمة لماذا؟ لأنه كتلة مادية من المواد العضوية أتقنت الحركة نتيجة التطور وبالتالي لا يفرق عاش أو مات، وهذه التناقضات يجتمع عليها الملحد والمؤمن إن كان سبب إزهاق الروح خارجيا.

ماذا لو كان الانتحار لعوامل داخلية؟ العلم الحديث والقديم حارَ في تقديم تعريف للحياة [الطبيعية]، سأسميها [المعيارية] أو المتعارف عليها، تلك التي تواضع حولها الناس واتفقوا نسبيا على أنها حياة تحق للجميع بالحقوق المقبولة منطقيا، المؤمن ينتحر لأسباب داخلية مرضية، والملحد يفعل ذلك أيضا فماذا يلعب الدين أو اللادين من دورٍ في الانتحار؟ هذا هو لب الموضوع الذي أردت الوصول له بعد هذه المقدمة الطويلة.

الجموح نحو الموت لا يعتد به كسلوك طبيعي، حتى هؤلاء الذين يعملون في الجيوش التي تدافع عن الكيانات السياسية لا يدخلون وفق نظرية عامَّة تدعوهم للموت، ربما كانت هناك استثناءات كبيرة، الكاميكازيون في الحرب العالمية الثانية واستعداد اليابان لتقبل الإبادة قبل الهزيمة من الأمريكان، والحشاشون في العصور القديمة، وغيرهم من الذين غسلت أدمغتهم للموت من أجل قضية كبيرة، لا نتحدث عن هؤلاء في هذا المقال، نتحدث عن الذين اتخذوا قرار الموت لغياب الأسباب التي تدفعهم للحياة، غياب هذه الأسباب عاملٌ في صناعة سبب للموت، هُناك من يعيش لأن لديه أسباب تمنعه من الموت مثل خوف المؤمن من النار، وهناك من يموت لأن الأسباب التي تدفع للبقاء في الحياة قد اختفت، فكيف يمكن للانتحار أن يغوي عقل المؤمن والملحد على حد السواء؟

لكل منتحر حكاية تختلف عن غيره، ولكن الاكتئاب والرغبة في الموت وفي الأخير فعل الموت نفسه يحتاج إلى مجموعة من المقدمات قبل أن يحدث، الاستعداد الكامن للموت قد يؤدي بمراهقٍ تعيس إلى إلقاء نفسه في سكة القطار، وهذه حالة لحظية يمكنها أن تحدث بدون توقع، هُناك حالات أخرى حب الحياة الذي بها يحتاج إلى عمل مرضيّ دؤوب ليتحقق الموت، إن كنا نتحدث عن ملحد منتحر فإن العدمية، وسوداوية الحياة أحد الدوافع، بل وربما يعتنق ملحد الدين فقط لينتحر، ليموت وفق رهان أن موته سيكسبه الحياة الآخرة، بالتالي سنجد أن الدين دعاه للموت، أو لأكون أكثر دقة سنجد أن خياره الشخصي باعتناق الدين كان فقط لأنه يريد أن يموت لكنه لا يريد الموت دون قضية، سيختار الموت، وسيعتنق دينا وسيموت من أجل ذلك الدين، في الجانب الآخر من المعادلة المتشابهة يفعل المؤمن ما يشجعه على الموت، المرض يفعل ذلك، ما نسميه نحن في وهمنا كأشخاص طبيعيين معياريين نحب الحياة ونريد أن نعيش ولا نريد أن نموت، نسمي ذلك مرضا، وهذا المرض عندما يستبد بمؤمن ينزع عنه مع الوقت وسائل البقاء، ومن ضمنها الأفكار التي تمنعه عن الموت، النفس شيطان قديم، إن لم تسمها النفس فلنقل الذهن، إن لم نسمه الذهن فلنقل الأفكار، أو فلنقل الوجدان، أيا ما كانت التسميات، وسائل الموت عندما تنبجس من الداخل تغير الحقائق التي يؤمن بها الفرد، وسواء كان ملحدا تربى في بيئة إلحادية لا دينية فلا تستغرب أن يميل المنتحر لاعتناق الدين كوسيلة للموت وحدث ذلك لكثيرين من أوروبا عندما غادر مدمن مخدرات عتيد دياره الأوروبية المسكونة بالحرية الفردية ليموت في انفجار مفخخة في وجه العراقيين، أو العكس، الدافع الداخلي هو الحكم في قضيتنا، والمؤمن الذي يخسر إيمانه لا يفعل ذلك بالضرورة لأن الإيمان لا يقنعه، أو أن الوجود الإلهي لا يصل إلى وجدانه، إنها حيلة من حيل المرض، الذهاني، أو الاكتئابي أو اضطرابات الشخصية، أو عدم القدرة على التعايش وغيرها من الطيوف الواسعة التي تخرج الفرد من المعيارية النمطية ليصبح منتحرا.

هناك علاقة بين الانتحار، والدين، والإلحاد، كلاهما يمكنه أن يكون أداة للعقل المريض، وهذا العقل وما يعاني منه مما يسمى بالمرض النفسي لا يفرّق بين التعليم السابق وقراره، إنها معركة داخلية من الصعب أن يدخل فيها الآخر، ليست متوقعة وليس لها شروط للحدوث أو لعدم الحدوث، إنها حالات بشرية كثيرة وتركت مؤشرات تاريخية على ما فعلته بنفسها، أن يزهق الإنسان روحه فهذا حدث حزين لكن الأفكار هُنا ليست أكثر من أدوات، والمبادئ الدينية ليست أكثر من وسائل، الذي يريد الموت سيموت إن انهزم في معركته الداخلية، وهُنا سيحلو للفلسفة تزيين ذلك بحجة أن خيار الفرد في الموت حق أصيل من حقوق حريته، وسيحلو لجماعة الدين إقحام هذا في الجنة وإقحام ذلك في النار، الحقيقة في المنتحر المؤمن والملحد تكمن في السر الذي لا يعرفه الآخرون، وربما السر الذي خفي عن بصيرته، لحظة واحدة ويموت إنسان بريء فتك به شيطان المرض، من السهل لوم البشر والمحيط الذي به وقتها ولكن الصعب والقضية التي يجب أن تفهم هو أن هذا يمكن أن يحدث لأي إنسان إن اتفقت كل ظروف المأساة على حدوثها، سنتأمل ونحلل، ولكن أن نعرف؟ يا له من زعم وقح وظالم، للموتى والأحياء والملاحدة والمؤمنين على حد السواء. سواء آمنت بالشيطان أو لم تؤمن به، الإنسان الطبيعي هو نتاج توازن داخلي بين دوافع متناقضة، وانتصار شيطانه الداخلي عليه نتيجة مرض أو إملاء ممكن الحدوث، ولا علاقة لكونك مؤمنا أو ملحدا بذلك، كل الطرق تؤدي إلى الموت بما في ذلك طريق الحياة!

 

معاوية الرواحي

 

عن المرض النفسي

 

 

فهم الحالات النفسية التي تحولت إلى المرضية عملية معقدة، بالنسبة لمن يعاني منها، ومن حوله، وأخيرا لما تسببه من معضلات في علاقته مع عائلته، والمقربين، والمجتمع، والبشر. اكتشافها ليس سهلا، وعلاجها ليس سريعا، وتفاقمها وتحولها إلى مأساة ليس متوقعا، ولا يمكن اختصار مشكلة إنسان في جملة.

الأمراض النفسية الشهيرة المتعارف عليها أكثر حظا في الانتباه لعلاجها، ولكن تلك السلوكية، المرتبطة بالارتياب، أو مجهولة السبب والتي لها علاقة بالتلف الدماغي، أو الخلل في الشخصية، أو التي لها نزعة للعنف فهذه تحتاج إلى رعاية أطول وأكبر، وبعيدة المنال أحيانا وصعبة على المريض وأقاربه.

الوصول إلى سبب واحد أدى إلى مأساة هذا ظُلم للحقيقة، هل يعرف المريض حالته؟ أم يتخبط في داخلِه المتأزم ويصرخ بنداءات صامتة أو صادحة معبرا عن ألمه؟ لوم الذات، أو إيجاد قربان ليس حلاً، إن المأساة مجموعة محكمة من الظروف التي لا يمكن تجنبها، ولذلك حدثت، ولم يوقفها أحد لأنها غير متوقعة.

بعد حدوث المأساة، أنبل ما يمكن فعله أن يتعظ الإنسان، أما أن يساهم الغريب في استخدامها لأجل خدمة أجندة دنيوية، هذا تصرفٌ ظالمٌ من يفعله، مرضى نفسيون كثر عرضوا أنفسهم للخطر، بعضهم أزهق روحه، وبعضهم أزهق روح غيره، بعد حدوث المأساة، أنبل ما يمكن فعله هو التعاطف الواعي والمنطقي.

المرض النفسي محكوم بالوصمة، كلمة مريض نفسي تستخدم كسبّة حتى هذه اللحظة في العالم بأجمعه، التعامل مع المرض النفسي صعب بكل معاني الكلمة، لمن يعاني منه ولمن حوله، ونحن لا نتكلم عن أبيض وأسود واضح المعالم، إنها أوسع منطقة رمادية في العرف البشري، تحديد الطبيعي والمريض نفسيا وعقليا!

وأي شيء أصعب على النفس من أن تتيقن أن بك علة نفسية، بعقلك، أو ربما في وظائف دماغك، أن بك اختلال يمنعك بشكل مزمن أن تعيش مثل باقي الناس المعياريين؟ صعب على كل الأطراف، بما في ذلك المعالجين الذين لديهم أطراف حقائق، ورغبة من قبل كل الأطراف في الحلول السحرية السريعة.

يضرب المرضى النفسيون، بعضهم يكبل بالسلاسل، يطمس بعضهم نتيجة ما يتعرضون له من خيالات وأوهام، يسجنون بقسوة نتيجة كلمة أفلتت منهم في نوبة، ينهش فيهم المجتمع نهشا، مدير المدرسة المحترم الذي أصابته نوبة وتخيل أنه يشاهد الجن يصبح أضحوكة المجتمع، ويسمى [مجنوناً] أي ظلم هذا؟ أي ظلم؟

والمقاربة العربية الاعتياديةللتعامل مع المرضى! إما الكبت والحجر والقسوة، أو التخلي والتنصل، كم من مريض في عمان يجول في الشوارع؟ يرمى بالحصى؟ وربما يحدث له ما هو أسوا؟ كم من مريض تم التخلي عنه؟ ورمي في مستشفى المسرة ولم يعاوده أهله منذ عشر سنوات؟ رأيت ذلك بعيني! فلا تقل لي لا يحدث

ولكل مريض عائلة لها نصيبها من الفهم، ومهما كانت متعلمة فما يدريهم بأنواع الأمراض النفسية وعلاجها، المحظوظ منهم الذي يُذهب به لمستشفى ومحترفين، أما التعساء والمساكين فيتجاذبهم مجاذيب الدجل والخرافة، يشربون عقاقير وهمية، ويضربون ويربطون، ويخرجون منهم الجان والعفاريت مع أموال أهلهم.

وإن كان المريض المستقر الذي يعالج ويستلم أدويته ولديه تشخيص سليم ودقيق تطرأ عليه الانتكاسات، هذا وهو يعلم مرضه وعلته ودواءه، فماذا عن هؤلاء الذين تراكمت مشاكلهم سنوات وسنوات، حتى أصبحت مشاكلهم مركّبة، تحتاج إلى فريق كامل غير موجود في المجتمع أو في دور الرعاية الصحية!

لهم الله!

يُبتلى المريض، وعائلته، ومن يحبه بمرضِه، ويعاني معهم ويعانون معهم ويأتي دور [الناس/ المجتمع] ليكمل المعاناة ويزيدها، كم شخص تنمّر على مريض في أشد لحظات مرضِه؟ الشخص نفسه الذي يداري الشعور بالعار أن قريبا له [خبلة/أهبل/ مجنون/مريض/مختلف/معتل] وغيرها من الوصمات الظالمة.

ويذهب هؤلاء المرضى ضحية هذا الإهمال، وهذا التواطؤ العام ضدهم، يقتل منهم من يقتل، ويذهب بعضهم ضحية لتجار البشر، أو يغتصب، أو يصبح عاملا في مجال الدعارة، أو تتلقفه عصابة تحول منه قاتلا أو تاجر مخدرات أو روحا خاسرة تنتهي إلى السجن المؤبد ولا يعرف أحد عن ما أحاق به من ظلم وإهمال.

ما أقوله عن تجربة حقيقية مع المرض النفسي، لا تظنن أنه سيزول بالتنصل عنه، أو بالتنمر عليه، إنها مشكلة جسيمة وستتفاقم بإهمالك، وربما ستتفاقم برعايتك، وربما ستتفاقم في كل الأحوال حتى وإن كانت في يد المحترفين، المرض النفسي لغز غامض لا يقل صعوبة عن أسئلة الوجود، وتدهوره وارد جدا.

عشتُ في هذه الحياة عاقلا، ومجنونا، ذكيا ومريضا. وحالتي التي توصف بالطفيفة أمام الأمراض الكُبرى الجسيمة شكّلت معاناة كبيرة لعائلتي ولي ماذا عساي أن أقول عن هؤلاء الذين حالاتهم دخلت طريق اللاعودة؟ الذين لا يعودون من عالم المرض؟ الذين تمكن المرض منهم وأفقدهم حياتهم للأبد!

المريض النفسي يمكنه أن يكون ضحية مجتمع، ويمكنه أن يكون ضحية زوج جاهل، أو زوجة جاهلة، أو عائلة أرادت مساعدته. المريض النفسي يمكن أن يكون ضحية الظروف، والأقدار، وكل الاحتمالات واردة ومن ضمنها سوء فعل الآخر الخارجي وسوء فهمه. وصمة العار التي تلاحق المرضى النفسيين لن تزول مطلقا.

وضع المرضى النفسيين لن يحل بالوعظ، ولا بالتوعية، يحل فقط بتطبيق منهج قانوني يعطي للمريض حقه في الحياة، وفي العلاج، حقه ألا يحرم من حقوقه المنطقية، حقه أن يعود لصحته، وأن يُحمى من الاستغلال، وألا يعرض إلى ما يُفاقم مرضه، وأن يشرف على استمرارية حياته الطبيعية محترفون كل في مجاله.

وللأسف هي حقيقة مرّة في المجتمع العربي، أن المريض يُعالج فقط بعد أن يتدهور شر تدهور، بعد أن يقترب من الجنون أو الجريمة، بعد أن يؤذي نفسه أو غيره، بعد أن يفتك به المرض، أما المريض المُستَغل، منتهك الحقوق، المكتئب، التعيس، فهذا مريض لا يزعج المجتمع المنشغل بصورته المثالية.

المريض النفسي الذي يُعجب المجتمع هو ذلك الغارق في مأساته، الخاسر حياته، الهائم في داخله، وإن تفاقم حاله ودخل حالة اللاعودة فإن المريض النفسي المثالي هو ذلك الذي يسهل السيطرة عليه، يُنزع منه حقه في الحياة، والعمل، والكلام، والخروج ربما، بل وحتى حقه في الزواج ويعامل كميت.

وأسوأ مريض نفسي للمجتمع هو ذلك الذي يتكلم، الذي لديه وعي حاد وجارح، ذلك الذي يصدح بألمه، ذلك الذي يكشف عن ربكته الداخلية للخارج، هذا هو المريض الذي يهاجم، ويطمس، ويمنع حتى من أن يصرخ طلبا للمساعدة، أن يعبر عن مشاكله لأن الوصمة الاجتماعية أهم من الحياة الطبيعية التي خسرها وخسرته.

ويتساءلُ الناس، ما سر المجرم الذي يعود للجريمة؟ ما سر المريض الذي يحاول الانتحار مرارا؟ الحل دائما في العقاب، والسجن، والشراسة في التعامل، وكلها مشاكل ستتفاقم حتى تقود للمأساة، إلى قاتل، أو منتحر، إلى شخص يخسر حقوقه لأن مجتمعا صغيرا أو كبيرا ينادي بإعانة الضعفاء على الموت.

أي تجربة قاسية وأي ذاكرة تعيسة تلك التي عشتها في المصحات النفسية؟ ظننت أن حياتي كانت قاسية! ويحي! وهؤلاء الذين تخلت عنهم الحياة والناس والعوائل وتُركوا حتى فتك بهم المرض، والجنون، والذهان، والنوبات؟ لهم الله ولا سواه. أية قسوة مورست على كثيرين لا نعلم عنهم تخلى عنهم البشر أجمعين.

المرض النفسي لن يعالج نفسه، سيتفاقم، وإن تجاهلته في بدايته سيعود لك في نهايته بأزمة أكبر مما بدأ عليها. المجرم سيعاود الجريمة، المريض سيعاود إيذاء ذاته، المُستغل سيعود لم استغله، ومن يتلقف هؤلاء جاهز ومتربص، الجانب القبيح من المرضى النفسيين جاهز لتلقف الجانب الضعيف.

وكما أن هناك مريض ضعيف، هناك مريض قوي. الذهاني المكسور، والنرجسي المجرم، ويحدث أن يصنع المرضى عالمهم الخاص، مكسورون في المصحات النفسية، أو مجرمون في عصابة، أو في وظيفة رسمية، مرضى يشخصهم علم النفس ببداهة ووضوح، مرضى يستغلون مرضى، ويسيؤون لمرضى، ومأساة تتفاعل مع نفسها.

علاج خاطئ، مكان خاطئ، مجتمع ظالم، عصابة، عائلة تؤمن بالباصر أكثر من الأطباء، أو أقارب كل همهم الذهاب للطبيب ليجد حلا سحريا لمشكلة نفسية مزمنة، تشخيصات تافهة، وقصور في الرعاية الطبية، وتأثير الأقران، والانهيار الداخلي، وغياب الخيارات، والكبت، والقمع. نافورة تقذف بالمرضى للحياة.

وكما عجز الطب عن علاج فيروسات، عجز عن علاج أمراض، وفشل المتخصصون في إنقاذ أرواح اختطفها المرض، تعجز الظروف عن أن تقدم النهاية السعيدة للجميع، البعض يذهب للجنون ولا يعود منه، والذين عادوا من الجنون لا كلمات لديهم لوصف ما كانوا فيه، إنها أقدار الله، ومشيئته وحكمه.

المرض يصيب الجميع، الظروف قد تصنع مريضا، قد تفعّل مرضا مطويا في جنبات النفس، المؤمن والملحد يمرضان، المتدين وغير المتدين، حاله حال المرض الجسدي، الجنون لا يعرف دينا، ولا مذهبا، ولا طائفة، ولا مجتمعا، والمرض يستشري في الجميع وقد يزهق روح أي أحد إن تكاملت أركان الظروف لتصنع مأساتها

وآخر كلامي، عدد المرضى لا يقل عن 4 من كل مائة شخص حولنا، وربما أكثر، عددهم كبير جدا، التعامل معهم كجزء من المجتمع هو الحل، والتعايش مع ظروفهم، وإصلاحهم إن أجرموا، وحمايتهم إن أجرم في حقهم أحد هو واجب الجماعة/المجتمع، واجب كل من له واجب ورسالة وإنسانية أولا وأخيرا.

عن الأحياء والموتى

 

 

 

عاشق الحياة، المتمرغ في الافتتان بها، أسير زخرفها يعظُ الموتى، والأحياء، ولا يجد غضاضة أن يتناثر لعابه حبا فيها، فهي [الحياة]، كل ما يتعلق بأمنياته، وإن كان ثمّة شيء هو مستعد أن يموت من أجله، مجددا فسيموت من أجل الحياة، من أجل ثانية يقضيها في اللهو، واللغو ثانية لا يتنازل عنها.

بعد الموت لا تهم الأسباب كثيرا للميت، إنّه حيث هو يعرفُ الحقيقة التي غابت عنه في حياته، أما الأحياء، فتثور ثائرة استحقاقهم للحياة، والمزيد منها، لإدمانهم على الخوف من الموت، لرغبتهم في المزيد من الحب الجم الملهوف ليعيشون، ولذلك، لن يفهم عشاق الدنيا معنى فقدان الأمل في الحياة.

ولأنها مفارقة لها من صفات الجدلية الكثير، ولأنها جدلية لها صفة مفارقة، ولأنها متناقضة بين المنطق والوهم المنطقي، يحدث الجدال بين الأحياء والموتى، ولا يكون منصفا، أو منطقيا وإنما كتلة من التلوّع والتحسّر، كمن يرى غيره وهو يحرق مالَه في موقد، لماذا تفعل ذلك؟

عندما تجادل ميتا، أنت لا تجادله عن حياته، لا تسبغ صفات النبل والمنطق على فعلك، أنت تجادله عن حياتك، تُسائله عنها، تمارس أقصى استحقاق ممكن لمتعطش لاهث وراء الدنيا أن يفعله، إن كنت تريد أن تفهم ستعترف أن المعطيات التي لديك ليست كافية، لكنك تريد أن تحكم، وهذا سهل عليك دنياك تغويك!

والدنيوي المغالي لا ينتبه إلى ما يفعله عندم يُسائل ميّتا، قد يصلُ افتتانه بدنياه إلى مصادرةِ تلك الميتة، وكأنه يقول للميت: لماذا لم تمت من أجلي؟ إن طرقا كثيرة هُناك لتموت من أجل حياتي، بطلا، منتصرا، ممجدا، لماذا لم تمت من أجلي؟ من أجلنا، عشاق دنيانا الكؤود!

سائل الميّت كما تحب، حاصره كما تشاء، حاكمه كما تريد، هذا لا يزيح عنك المسؤولية الجزئية، أنك أحد أسباب موته، وإن لم تكن، فأنت أحد أسباب غياب من ينقذه، لأنك عاشق للدنيا، ولأحكامك، وكل ما يمكن أن تحاصر به نفسك وغيرك لتفتتن بالدنيا أكثر وأكثر، حتى لو كان ذلك على حساب موت شخص آخر!

أنت يا عاشق الدنيا لا تفهم أنك موهوم بالخلود، وبالرغبة فيه، خائف من الموت، هؤلاء الذين لا يخشون الموت يؤرقونك، فأقصى ما تطالبهم به هو أن يموتوا من أجلك، غير ذلك كل ميتة ذهبت هدراً، لا تخدم عيشَك، ولا تساعد مطلبك تنزع منها استحقاقها، في حياتها، وفي مماتها، أين كنت من قبل؟

وهذا ما يفعله "العقلاء" باستماتة،يطبقون نظرياتهم المعيارية عن ما هو طبيعي وما هو مجنون، إن الحاجة لوهم الحياة الطبيعية جزء من استمرار البشرية، وقد يشط هؤلاء بعشقهم للحياة إلى حد محقهم حياة غيرهم، ليس على المريض حرج إن كان منطق الحياة أنانيا، ومريضا، وظالما، وقاتلا!  ليس عليه حرج!

وقف أيها "العاقل" متباهيا بمنطقك، بوهمك الأزلي في البحث عن الخلود وفي نيل السعادة، أنت لا تفهم الجنون، ولن تفهمه، وأغلال العشق الدنيوي التي تكبّلك تمنعك من الفهم، لكنك لا تمنع نفسك من الأحكام، تطلقها كالرصاص، وما أشجعك أيها العاقل! تطلق رصاصك على ميّت! هنيئا لك هذا الجبن المحمود!

 

معاوية الرواحي

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

عن التغيير

 

 

 

يقول لي البعض: لقد تغيرت كثيرا يا معاوية! لماذا؟ وكيف؟

لماذا؟ لأنني شخص سيء بكل معاني الكلمة، سمحت لأشكال شتى من الأخطاء والانجراف أن يأخذني إلى البعيد، إلى الخسارة، إلى فقدان للمنطق كان يمكنه أن يستمر للنهاية، وكان طريق العودة بعيدا، وصعبا، ومفزعا، ويحتاجُ إلى صدام مع الذات.

عندما تكون شخصا سيئا تكون المشكلة بالجَميع ما عدا أنت، وعندما تضيف إلى ذلك نرجسية شخص مبدع متعدد المواهب فأنت على وعد مع حياة من ابتكار الأوهام، والتبريرات، وأضف إلى ذلك ضغوط، وخصوم، وأصدقاء مؤذين، ونزعة لجلد الذات وللانجذاب إلى الصداقات النرجسية والسامة، تكتمل الخلطة المرعبة.

وهذا ما حدث لي، ونعم كانت لحالتي المرضية، وثنائية القطب مساهمة جزئية في ذلك، هذا لا ينفي أن السلوك، والاستقرار الذهني هو مهمة صاحبه، مهمتي أولا وأخيرا، أنا الذي يفكر، وما يهيجه المرض من أحقاد أو مشاكل خارج موضوع السيطرة على الذات، إنها قضية فكرية، ونفسية، وذاتية وتحتاج لصدام!

لم أستطع الصدام مع ذاتي، كنت أعوض أخطاء نرجسيتي بسلوك خطأ من جلد وإهانة الذات وتحقيرها، نمط معاكس للذي ينسب لنفسه مواهب وذكاء لا يملكه ولكن بشكل معكوس. كانت بداية الصدام مع نفسي خطأ، والمقاربة المبدئية خطأ، ولا تُعامل أخطاءك كشخص نرجسي بتحقير الذات، فهذه أيضا نرجسية مرضية.

تأجل الصدام مع الذات سنوات، شُغلت بمعارك متعددة تظهر من كل حدبٍ وصوب. وأنت مضطرب حائر في من تكون تُبتلى بمن يضربك وأنت مكسور، وكل ثعبان سام نرجسي مستعد للتزلف إلى فئة، أو مؤسسة يجدُ السانحة التي يضربك فيها، تأجل صدامي مع ذاتي لأنني كنت في صدام كبير، كبير للغاية فوق طاقتي!

كانت بداية عودتي للتفكير المنطقي عندما اقتنعت أن مضادات الاكتئاب ليست الدواء المثالي في حالتي، إنها تزيد حالتي سوءا، تشعلني إبداعيا وتضاعف من خيالاتي، وتزيد ذهني توقدا، ولكن على الجانب الآخر كنت سجين الكتابة، لا حياة لي سوى معاوية الكاتب، المدون، الشاعر، ولا حياة غير ذلك.

عندما توقفت عن تناول مضادات الاكتئاب، وعندما حذرني الأطباء من خطرها على حالتي بالتحديد، كان الأوان قد فات، كنت قد دخلت صدامي الكبير، ويا لها من حالة طريفة قدريا، أن تحارب لاستعادة عقلك في تلك الظروف، ثمان سنوات كاملة، والمعركة تجري داخليا وخارجيا، انفرم عقلي بكل معاني الكلمة!

عندما بدأت الإدراكات كنت قد وصلت لعام 2013، في ساحة حرب مشتعلة، وأنا إما أداة أو قربان، ذلك السقوط الذي استغله البعض ليرميني ويتخلى عني، واكتشافات أن قذارة الموالي، والذي يقول لا مُحتملة، وتحدث، وأن الإنكار ليس أفضل ردة فعل تمارسها وقتها. وزاد الإدمان الأمور تعاسة.

بدأت بالهرب من الحياة، الإدمان كان صديقا قذرا لسنوات، ومعه طغمة من الأصدقاء القذرين، أحاول الوقوف على قدمي ولكن قرر أحدهم أنني يجب أن أنطمس، وعملية شاملة للانتقام وتلقيني درسا قد بدأت وتلقيت كل الضربات وعشت ألمها المروّع لسنوات وسنوات، لا علاج دوائي ينفع مع حالة مثل هذه مطلقا!

أحد الذين قاموا بإيذائي لسنوات قال يوما ما: معاوية لو تطعنه بسكين يسامحك، هذا الشخص نادر للغاية وقلبه فعله أبيض! ما أقبحها وأجملها من شهادة من شخص يكرهك، من فرط ما يثق بطبيعتك الطيبة يؤذيك بارتياح، فالذي يفعله من تعفن خلاياه الدماغية مبرر، كان يجب أن ينكسر معاوية، وانكسر حقا.

وهكذا، بدأت أتلقف عقلي تدريجيا، بصعوبة بالغة، أعالج دوائيا، ولكني هُناك الإدمان الذي على الجانب، وارتباك في المشهد الداخلي، بين القريب والصديق، والتصورات المبالغ فيها عنّي، والتي وللطرافة كنت أعمقها لحماية نفسي، أصرخ أن معاوية لم يعد طيبا، أصبح عدائيا، ولم يصدقني أحد!

كان أمامي أحد طريقين، الصدام مع الذات، أو الصدام مع العوامل الخارجية [وما أكثرها!]، ولأنني معاوية، اتخذت القرار الخطأ كالعادة وقمت بالصدامين في وقت واحد، ومن هنا حدثت ظاهرة معاوية الرواحي، الذكي، المرتبك، طاقة الكتابة الهائلة التي تعيش حربا شعواء مجهولة الأطراف معلومة الأسباب.

صدامان مفترسان يحدثان في وقت واحد. دخلت السجن، عولجت قسرا، عدت لدائرة التعساء الذين سميتهم أصدقاء، وعندما منّ الله عليّ بأجمل تجربة في حياتي، سجنت بعيدا عن الحشيش والكحول لعام كامل، وعندما دخلت الحبس الانفرادي، لأول مرة أتفرغ لمعركتي الداخلية دون منغصات خارجية.

تنافس من وثقت بهم في التخلي عني، كان البعض نبلاء وهجروني دون أن يقدموني قربانا، لم تقف معي غير عائلتي التي لم تكن تفهم ما يحدث لي، في السجن الانفرادي خضت معركتي الذاتية، وأنهيت نصفها، بقي النصف الثاني الذي كان سيقتلني لو حدث في تلك الظروف.

لكن الحياة لا تسير كما تشتهي السفن، خرجت من الانفرادي، وذهبت للسجن العام لتقطع أدويتي، وبدأت قصة محاكمتي التي تُختصر في الهاشتاجات التي يشهد عليها تويتر إلى أن يشاء الله. حدثت #براءة_معاوية_الرواحي، وعدت لعمان دائخا، معي نصف معركة مع ذاتي، وعادت الظروف الخارجية للعمل.

أمامي نصف معركة! ماذا أفعل؟ والظروف الخارجية أخذت مسارا مختلفا، من تصدّر ودق صدره في شأني أصبح يتنصل من دورِه، هُناك شيء كبير حدث، ما هو؟ لا أعلم حتى هذه اللحظة، أمامي النصف الباقي من المعركة، ولم يعد معاوية ذلك الطيب جدا الذي يصدق بسهولة أي غريب أو قريب، تغير النصف، وبقي النصف.

غسلت يدي من معركة الموالين والممانعين، فقدت ثقتي بالطرفين، ولكنني فقدت الثقة بنفسي أيضا، وهُناك بدأت عملية التخدير الشاملة التي أدخلتني المعركة. قررت السفر، ثم الهجرة، لم يكن لدي مجال لأحارب معركتين وأنا متمزق أحارب ذاتي الغامضة عني كل الغموض، سافرت، وبدأت أفكر باستفاضة.

المهذون الذي لقبه بعض أقرب رفاقه "معيوف" تأقلم مع هذه الحقيقة. والنرجسية المعززة بالمخدرات كانت تخديرا موضعيا، تغيرت نصف تغيير، من الداخل فقط، ولكن في الخارج كانت هناك عوامل الإدمان، والاقتناع بالعلاج، وعدت للاضطراب، مع نصف خلاصات ممتازة للتغير، لكن تطبيقها صعب! صعب جدا!

كنت أغلي حقدا، على نفسي، وعلى كل إنسان استغفلني، على كل من قدمني قربانا، على كل من كذب عليّ، بما في ذلك "معاوية" الذي أهرب منه بكل شخصية أدبية ممكنة، كنت غاضبا، بكل معاني الكلمة، وبعد عودتي من السجن، ومحاكمتي مجددا في قضية رفعها شخص أذاني بعمق في محاولته لتغطية خطئه الفني، ثرت.

علمتني الظروف بعض القناعات الجديدة، أنها معركة خارج الميدان، معركة حقائق، وأدلة، وعلمني التدوين السياسي الاحتفاظ بكل ما يثبت جانبي من الحكاية، وسواس سري آخر أدين له بكل الفضل في حمايتي من شرور الجَميع، ولا سيما هؤلاء الأشباح الذين يفعلون السوء ويهربون من عواقب فعلهم وينكرونه.

قررت الهجرة، وهُناك انفلت كل شيء، تعني لي عمان كل شيء تقريبا، وبدأت ثورتي على الظروف الخارجية والعوامل الخارجية بانهيار داخلي استمر لعامٍ كامل تقريبا. غاب العلاج عنِّي، ولكنني بدأت بعلاج نفسي داخليا، كانت المواجهة صعبة وطالما فكرت بالموت وقتها من شدة الألم، ومواجهة الحقائق.

كانت بداية التغيير بدراجة! تخيل! بكل هذه البساطة. وكنت قد أنهيت ثلاثة أرباع معركتي الداخلية، اطمأننت إلى حدوث الربع الباقي بالعلاج والخروج من الإدمان، لم أكن مدمنا محترفا وقتها، دخلت حالة الاستعمال العادي ولكنني كنت مصرا على الخروج نهائيا من كل المؤثرات العقلية بلا استثناء.

عدت لمعركتي مع العوامل الخارجية، وكانت عاصفة حقيقية، قلت جانبي من الحكاية بكل قبحه، وواجهت كل هؤلاء الذين ظن بعضهم أنني غافل عن أذاهم، أنني غافل عن حمايتهم لأخطائهم تجاهي، وانفلتت شخصيتي العدائية من عقالها، كانت كل مؤشرات الحياة تقول أنني مشروع انتقام إغريقي، ونويت ذلك حقا!

بدأت مرحلة رصاص اللغة، هجوم عنيف بكل الأدوات، وضعت عدوي نصب عيني، وكان العدو الصديق يتمادى، كنت أنتظر اللحظة المناسبة، وشاء الله أن يقدرها لي على طبق من ذهب، سبحان الله، يعاقبني الله على ما ظَلمت، وينتصر لي على ما ظُلمت، كان الإيمان بالله هو الذي حسم معركة التغيير نهائيا.

وبدأت المعركة تأخذ مسارا أفضل، لم يعد لدي ما أقوله، ما كان خافيا أصبح معلنا، من كان يزعم الصداقة انكشف ما يفعله، وحالة الحقد الشديد تحولت إلى طاقة مجددا، طاقة نحو الحياة والأمل، ولكنني كنت وقتها لاجئا، لم أعد مدمنا، صرت أعرف الصديق من العدو، وغسلت يدي من الممانعين كليا.

من ضمن أعمق إدراكاتي وقتها، أنني حقا [مهذون]، بقائي في هذه الدائرة الهجلية تضمن لي سلامتي العقلية، عدت للأدوية، وبدأت أستقر ذهنيا، تزامن ذلك مع ملابسات أخرى، ولكن، لم يعد لدي ما أقوله، بقي القليل المختزن في النفس، ولكنه لا يقال علنا، قلته في الختام، وبدأ الانتظار الأعمى.

فور ظهور علامات الاستقرار عليّ، فعّل أحد الحمقى الذين كنت أتربص به حقائقه، خوفه الشديد من أن يُعرف دوره في إيذائي، وأن يتوقف استغلاله لي، وتقديمه لنفسه أمام الناس كصديق مخلص، تجاوز الحدود، وخرجَ وقدّم لي كل ما أريده لأثبت براءتي من أشياء كثيرة، أنا لست بتلك الطيبة، ولا الغباء.

لا إدمان، أعالج نفسي، وعرفت جيدا الكثير من مشاكلي وبدأت معونة المحترفين، كان آخر العوامل مواجهتي مع الحكومة، وياللغرابة! ثمة هدنة صامتة حدثت دون اتفاق، هناك بدأت حياتي مع الدراجة، وأصبح لدي أصدقاء أصفهم بالصالحين، كان أولهم إسماعيل، وأمجد، وأنس، ورامي، وبقية الشلة حفظهم الله.

وجاءت اللحظة الحاسمة، عندما قدمت جانبي من الحكاية بكل ما يثبته، جاء اتصال السفير عبد العزيز الهنائي، وتم إبلاغي بالعفو السامي الكريم! وبدأ حلم اسمه [الحياة في عمان] يظهر أمام عيني بكل ممكناته الإدارية، والقانونية، والسياسية، بل والاجتماعية! سبحان الله والحمد لله.

لم أكابر، أنا سيء وهذا [حكم] ولكنني تجاوزت مرحلة اهتمامي بالأحكام، لم أعد أسعى لحياة مثالية، صار أقصى همي حياة ناجحة، والنجاح يتمثل لي في إيقاف تيار العداوات، ودخول المعارك. تغير معاوية، أصبح غضوبا ويحقد بسهولة، ولم أسامح مطلقا كل من أذاني، أقصى ما أستطيعه اعتزالهم كليا.

وبدأت حقا أتغير، أصبح هذا ملموسا، أصدقائي يشجعونني، لم أعد وحيدا، حتى في تلك الظروف المريرة أيام سفري لبريطانيا، وجدت الصديق الصالح الذي لا يحرمني من جملة [الله يوفقك]، ولمست نتائج لجهدي وصدامي مع نفسي، ولم أعد مدمنا، وصرت أعرف الذي أؤذيه، والذي أسامحه، والذي أعتزله.

تعلمت أن أدين نفسي بمنطقية، وأن أدين الآخر بأقصى ما يمكن من إنصاف، أن أكره بالقدر الذي أوذيت به، لا أكثر، ومطلقا ليس أقل. لم يعد ما حدث لي خافيا، اتضحت معالمه، وقلت وتيرة المواجهات، ظَلمتُ وظُلمتُ، وكانت أول خطواتي الاعتذار لمن كان يقبله، والاعتزال لمن لم يقبل اعتذاري.

وتغيرت حياتي، الخمرة أصبحت عودا أعزفه، والحشيش أصبح دراجة أقودها، وأحاط بي كل هؤلاء الذين يريدون الخير لأنفسهم ولي في وقت واحد، لا تخلو حياتي من المنغصات مع ذلك، لا تصمد أما دروس الحذر التي تعلمتها عبر هذه السنين، وأولها اعتزالي الممانع والموالي كليا، الأذى متساو منهما.

وانتهت حكاية صعلوك مدوّن، عدت للهذونة تدريجيا، وجزاك الله كل خير أيها السلطان هيثم بن طارق، أهديتني حياة طبيعية. والدي وقف في صفي، ومن بقي من أصدقاء تمسكت بهم، وتمسكت بحقي في ألا أكون شخصا سيئا، الأمر لا يتعلق بالأحكام الشخصية، إنها يتعلق بحياة من الحب والسلام والأمل.

أقضي القليل من وقتي متربصا، والكثير من وقتي في تعلم الشفاء من المرحلة المؤلمة التي كنت فيها، أعبأ لما يعزز في داخلي الروحانية، والخيريّة، وأتجنب كل التجنب الذين قد يقودونني لإيذائهم، لم أعد أصادق نرجسيا يتغذى عفنُه بتسميمي، والذي يستثمر مشاكلي ليسيطر علي، أصبحت أؤذيه بشدة.

وأنا كائن مؤذٍ، شديد الأذى معنويا إن اقتربت منه بالأذى المعنوي، ولا أسامح مطلقا الذي يفعل شيئا نيابة عني، أو الذي يريد أن يوجهني لأي مسار، لغم جاهز للانفجار، مع ذلك، راضٍ عن مستوى العدائية المنطقي الذي صار حالي إليه، عداء معنوي! أفضل من معارك قد تمتد عشر سنوات بلا توقف.

وما زالت عملية العلاج والتعافي مستمرة، لم أعد أهتم بالحكم العام، [سيء/ جيد] ولا أهتم للتصورات المثالية، أعززي في نفسي طاقة للتغير، وأن أذهب لاتجاه أفضل، مسالم، ومحب، ومليء بالمودة، وما زال نصفي العدائي متربصا، وجاهزا للدفاع عن حقي في الحياة الطبيعية بكل نصاله الحادة.

وانتهت حكاية صعلوك، عدت للهذونة، ووجدت وظيفة تناسب ظروفي، وسعيت للاستقرار بكل وسائله المتاحة، تزوجت والحمد لله، وأعيش في دائرة مسوّرة بكل ما انكسر في روحي من زجاج. حذر، ومرتاب، وسريع الغضب لا العطب، قلق أكثر من كوني خائف، ومليء بالأمل أكثر من الحماسة، ولم يعد يهمني تغيير العالم.

والحمد لله رب العالمين، أتلقى علاجي، وأواصل النبش في طيّات نفسي المركبة، ومتقبل وجود نواقصي، وأفعل ما بوسعي لأكتشف أين مكمن الخطر والخطأ. لم أسامح نفسي كليا، ولم أسامح من أذاني، لكنني صرت ألقي بثقل معقول من الاهتمام لأسلم ويسلم غيري من شروري، أجتهد وأصيب وأخطئ، وأحاول مجددا.

وهكذا: نهاية صعلوك، وعودة مهذون، وكل الشكر لجلالة السلطان، ووالدي، وعائلتي، وأصدقائي، ثم كل الشكر لماريو الذي كان شاهد كل المراحل والذي يطل عبر حروفي خفيا وجليا ليذكرني أن حق كل إنسان في تغيير سوئه للخير مقدس حاله حقوقه الأخرى في الخطأ، والتجريب، والمجد للحروف، والهجل، والحب.