فهم
الحالات النفسية التي تحولت إلى المرضية عملية معقدة، بالنسبة لمن يعاني منها، ومن
حوله، وأخيرا لما تسببه من معضلات في علاقته مع عائلته، والمقربين، والمجتمع،
والبشر. اكتشافها ليس سهلا، وعلاجها ليس سريعا، وتفاقمها وتحولها إلى مأساة ليس
متوقعا، ولا يمكن اختصار مشكلة إنسان في جملة.
الأمراض
النفسية الشهيرة المتعارف عليها أكثر حظا في الانتباه لعلاجها، ولكن تلك السلوكية،
المرتبطة بالارتياب، أو مجهولة السبب والتي لها علاقة بالتلف الدماغي، أو الخلل في
الشخصية، أو التي لها نزعة للعنف فهذه تحتاج إلى رعاية أطول وأكبر، وبعيدة المنال
أحيانا وصعبة على المريض وأقاربه.
الوصول
إلى سبب واحد أدى إلى مأساة هذا ظُلم للحقيقة، هل يعرف المريض حالته؟ أم يتخبط في
داخلِه المتأزم ويصرخ بنداءات صامتة أو صادحة معبرا عن ألمه؟ لوم الذات، أو إيجاد
قربان ليس حلاً، إن المأساة مجموعة محكمة من الظروف التي لا يمكن تجنبها، ولذلك
حدثت، ولم يوقفها أحد لأنها غير متوقعة.
بعد
حدوث المأساة، أنبل ما يمكن فعله أن يتعظ الإنسان، أما أن يساهم الغريب في
استخدامها لأجل خدمة أجندة دنيوية، هذا تصرفٌ ظالمٌ من يفعله، مرضى نفسيون كثر
عرضوا أنفسهم للخطر، بعضهم أزهق روحه، وبعضهم أزهق روح غيره، بعد حدوث المأساة،
أنبل ما يمكن فعله هو التعاطف الواعي والمنطقي.
المرض
النفسي محكوم بالوصمة، كلمة مريض نفسي تستخدم كسبّة حتى هذه اللحظة في العالم
بأجمعه، التعامل مع المرض النفسي صعب بكل معاني الكلمة، لمن يعاني منه ولمن حوله،
ونحن لا نتكلم عن أبيض وأسود واضح المعالم، إنها أوسع منطقة رمادية في العرف البشري،
تحديد الطبيعي والمريض نفسيا وعقليا!
وأي
شيء أصعب على النفس من أن تتيقن أن بك علة نفسية، بعقلك، أو ربما في وظائف دماغك،
أن بك اختلال يمنعك بشكل مزمن أن تعيش مثل باقي الناس المعياريين؟ صعب على كل
الأطراف، بما في ذلك المعالجين الذين لديهم أطراف حقائق، ورغبة من قبل كل الأطراف
في الحلول السحرية السريعة.
يضرب
المرضى النفسيون، بعضهم يكبل بالسلاسل، يطمس بعضهم نتيجة ما يتعرضون له من خيالات
وأوهام، يسجنون بقسوة نتيجة كلمة أفلتت منهم في نوبة، ينهش فيهم المجتمع نهشا،
مدير المدرسة المحترم الذي أصابته نوبة وتخيل أنه يشاهد الجن يصبح أضحوكة المجتمع،
ويسمى [مجنوناً] أي ظلم هذا؟ أي ظلم؟
والمقاربة
العربية الاعتياديةللتعامل مع المرضى! إما الكبت والحجر والقسوة، أو التخلي
والتنصل، كم من مريض في عمان يجول في الشوارع؟ يرمى بالحصى؟ وربما يحدث له ما هو
أسوا؟ كم من مريض تم التخلي عنه؟ ورمي في مستشفى المسرة ولم يعاوده أهله منذ عشر
سنوات؟ رأيت ذلك بعيني! فلا تقل لي لا يحدث
ولكل
مريض عائلة لها نصيبها من الفهم، ومهما كانت متعلمة فما يدريهم بأنواع الأمراض
النفسية وعلاجها، المحظوظ منهم الذي يُذهب به لمستشفى ومحترفين، أما التعساء والمساكين
فيتجاذبهم مجاذيب الدجل والخرافة، يشربون عقاقير وهمية، ويضربون ويربطون، ويخرجون
منهم الجان والعفاريت مع أموال أهلهم.
وإن
كان المريض المستقر الذي يعالج ويستلم أدويته ولديه تشخيص سليم ودقيق تطرأ عليه
الانتكاسات، هذا وهو يعلم مرضه وعلته ودواءه، فماذا عن هؤلاء الذين تراكمت مشاكلهم
سنوات وسنوات، حتى أصبحت مشاكلهم مركّبة، تحتاج إلى فريق كامل غير موجود في
المجتمع أو في دور الرعاية الصحية!
لهم
الله!
يُبتلى
المريض، وعائلته، ومن يحبه بمرضِه، ويعاني معهم ويعانون معهم ويأتي دور [الناس/
المجتمع] ليكمل المعاناة ويزيدها، كم شخص تنمّر على مريض في أشد لحظات مرضِه؟
الشخص نفسه الذي يداري الشعور بالعار أن قريبا له [خبلة/أهبل/
مجنون/مريض/مختلف/معتل] وغيرها من الوصمات الظالمة.
ويذهب
هؤلاء المرضى ضحية هذا الإهمال، وهذا التواطؤ العام ضدهم، يقتل منهم من يقتل،
ويذهب بعضهم ضحية لتجار البشر، أو يغتصب، أو يصبح عاملا في مجال الدعارة، أو
تتلقفه عصابة تحول منه قاتلا أو تاجر مخدرات أو روحا خاسرة تنتهي إلى السجن المؤبد
ولا يعرف أحد عن ما أحاق به من ظلم وإهمال.
ما
أقوله عن تجربة حقيقية مع المرض النفسي، لا تظنن أنه سيزول بالتنصل عنه، أو بالتنمر
عليه، إنها مشكلة جسيمة وستتفاقم بإهمالك، وربما ستتفاقم برعايتك، وربما ستتفاقم
في كل الأحوال حتى وإن كانت في يد المحترفين، المرض النفسي لغز غامض لا يقل صعوبة
عن أسئلة الوجود، وتدهوره وارد جدا.
عشتُ
في هذه الحياة عاقلا، ومجنونا، ذكيا ومريضا. وحالتي التي توصف بالطفيفة أمام
الأمراض الكُبرى الجسيمة شكّلت معاناة كبيرة لعائلتي ولي ماذا عساي أن أقول عن
هؤلاء الذين حالاتهم دخلت طريق اللاعودة؟ الذين لا يعودون من عالم المرض؟ الذين
تمكن المرض منهم وأفقدهم حياتهم للأبد!
المريض
النفسي يمكنه أن يكون ضحية مجتمع، ويمكنه أن يكون ضحية زوج جاهل، أو زوجة جاهلة،
أو عائلة أرادت مساعدته. المريض النفسي يمكن أن يكون ضحية الظروف، والأقدار، وكل
الاحتمالات واردة ومن ضمنها سوء فعل الآخر الخارجي وسوء فهمه. وصمة العار التي
تلاحق المرضى النفسيين لن تزول مطلقا.
وضع
المرضى النفسيين لن يحل بالوعظ، ولا بالتوعية، يحل فقط بتطبيق منهج قانوني يعطي
للمريض حقه في الحياة، وفي العلاج، حقه ألا يحرم من حقوقه المنطقية، حقه أن يعود
لصحته، وأن يُحمى من الاستغلال، وألا يعرض إلى ما يُفاقم مرضه، وأن يشرف على استمرارية
حياته الطبيعية محترفون كل في مجاله.
وللأسف
هي حقيقة مرّة في المجتمع العربي، أن المريض يُعالج فقط بعد أن يتدهور شر تدهور،
بعد أن يقترب من الجنون أو الجريمة، بعد أن يؤذي نفسه أو غيره، بعد أن يفتك به
المرض، أما المريض المُستَغل، منتهك الحقوق، المكتئب، التعيس، فهذا مريض لا يزعج
المجتمع المنشغل بصورته المثالية.
المريض
النفسي الذي يُعجب المجتمع هو ذلك الغارق في مأساته، الخاسر حياته، الهائم في
داخله، وإن تفاقم حاله ودخل حالة اللاعودة فإن المريض النفسي المثالي هو ذلك الذي
يسهل السيطرة عليه، يُنزع منه حقه في الحياة، والعمل، والكلام، والخروج ربما، بل
وحتى حقه في الزواج ويعامل كميت.
وأسوأ
مريض نفسي للمجتمع هو ذلك الذي يتكلم، الذي لديه وعي حاد وجارح، ذلك الذي يصدح
بألمه، ذلك الذي يكشف عن ربكته الداخلية للخارج، هذا هو المريض الذي يهاجم، ويطمس،
ويمنع حتى من أن يصرخ طلبا للمساعدة، أن يعبر عن مشاكله لأن الوصمة الاجتماعية أهم
من الحياة الطبيعية التي خسرها وخسرته.
ويتساءلُ
الناس، ما سر المجرم الذي يعود للجريمة؟ ما سر المريض الذي يحاول الانتحار مرارا؟
الحل دائما في العقاب، والسجن، والشراسة في التعامل، وكلها مشاكل ستتفاقم حتى تقود
للمأساة، إلى قاتل، أو منتحر، إلى شخص يخسر حقوقه لأن مجتمعا صغيرا أو كبيرا ينادي
بإعانة الضعفاء على الموت.
أي
تجربة قاسية وأي ذاكرة تعيسة تلك التي عشتها في المصحات النفسية؟ ظننت أن حياتي
كانت قاسية! ويحي! وهؤلاء الذين تخلت عنهم الحياة والناس والعوائل وتُركوا حتى فتك
بهم المرض، والجنون، والذهان، والنوبات؟ لهم الله ولا سواه. أية قسوة مورست على
كثيرين لا نعلم عنهم تخلى عنهم البشر أجمعين.
المرض
النفسي لن يعالج نفسه، سيتفاقم، وإن تجاهلته في بدايته سيعود لك في نهايته بأزمة
أكبر مما بدأ عليها. المجرم سيعاود الجريمة، المريض سيعاود إيذاء ذاته، المُستغل
سيعود لم استغله، ومن يتلقف هؤلاء جاهز ومتربص، الجانب القبيح من المرضى النفسيين
جاهز لتلقف الجانب الضعيف.
وكما
أن هناك مريض ضعيف، هناك مريض قوي. الذهاني المكسور، والنرجسي المجرم، ويحدث أن
يصنع المرضى عالمهم الخاص، مكسورون في المصحات النفسية، أو مجرمون في عصابة، أو في
وظيفة رسمية، مرضى يشخصهم علم النفس ببداهة ووضوح، مرضى يستغلون مرضى، ويسيؤون
لمرضى، ومأساة تتفاعل مع نفسها.
علاج
خاطئ، مكان خاطئ، مجتمع ظالم، عصابة، عائلة تؤمن بالباصر أكثر من الأطباء، أو
أقارب كل همهم الذهاب للطبيب ليجد حلا سحريا لمشكلة نفسية مزمنة، تشخيصات تافهة،
وقصور في الرعاية الطبية، وتأثير الأقران، والانهيار الداخلي، وغياب الخيارات،
والكبت، والقمع. نافورة تقذف بالمرضى للحياة.
وكما
عجز الطب عن علاج فيروسات، عجز عن علاج أمراض، وفشل المتخصصون في إنقاذ أرواح
اختطفها المرض، تعجز الظروف عن أن تقدم النهاية السعيدة للجميع، البعض يذهب للجنون
ولا يعود منه، والذين عادوا من الجنون لا كلمات لديهم لوصف ما كانوا فيه، إنها
أقدار الله، ومشيئته وحكمه.
المرض
يصيب الجميع، الظروف قد تصنع مريضا، قد تفعّل مرضا مطويا في جنبات النفس، المؤمن
والملحد يمرضان، المتدين وغير المتدين، حاله حال المرض الجسدي، الجنون لا يعرف
دينا، ولا مذهبا، ولا طائفة، ولا مجتمعا، والمرض يستشري في الجميع وقد يزهق روح أي
أحد إن تكاملت أركان الظروف لتصنع مأساتها
وآخر
كلامي، عدد المرضى لا يقل عن 4 من كل مائة شخص حولنا، وربما أكثر، عددهم كبير جدا،
التعامل معهم كجزء من المجتمع هو الحل، والتعايش مع ظروفهم، وإصلاحهم إن أجرموا،
وحمايتهم إن أجرم في حقهم أحد هو واجب الجماعة/المجتمع، واجب كل من له واجب ورسالة
وإنسانية أولا وأخيرا.