بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 ديسمبر 2020

الإلحاد والإيمان والانتحار

 

 

 

يصنع الإلحاد في العالم العربي محيطاً جاذباً للعقول الحائرة، والنفوس الضائعة. ويشكّل الكبت الاجتماعي المتلازم مع البيئة العربية النمطية دافعاً حماسيا للإنسان التائق لامتلاك قراراته وخياراته، ولا عجبَ أن يحاول العقلُ الفردي المستقل الهروب من الدين إن كان علماؤه يعبدون الدنيا، والسلاطين، والسلطات، بل وربما يتناقضون علانيةً ويمالئون الظالمين، ومن لم يتخذ مقاربة نقدية ليستقل عن العقول المتحكمة بسلوك الدين تجاه المجتمع والدول فإن خيار الإلحاد جاذبٌ مبدئيا، وقد يكون آسرا لاحقا، يُلحد الإنسان لأسباب فكرية وفلسفية تقصير علماء الدين في الصدق أحدها، والأسباب النفسية سبب ثانٍ، وهذه ليست كل الأسباب، بعضها متعلق بنرجسية الفرد وعبادته لشهواته، أو رغبته في إزاحة الكابح الذي يمنعه من البطش بالبشر، أو السرقة، أو استعباد الآخرين، أو تأليه نفسه.

لا يختلف الإلحاد عن الدين في كونه مدرسة فكرية لها أركانُها، ومثلما هو حال المؤمن بالفطرة، والمؤمن بالتلقين كذلك للإلحاد دوافع داخلية أو خارجية. لدعايات الإلحاد مغناطيسية مُقنعة لأي حائر، ولأي إنسان لم يقتنع بعقيدته أو تعرض للإساءة الجسيمة بسببها. لا يحدث ذلك في محيط بريء دائما يعطي للإنسان حق الخيار و التفكير، لا يخلو الإلحاد من الإمّعيّة التي يصنعها الملحد الداعية، صناعة الأتباع شيء مشترك بين التيار اللاديني، والتيارات الدينية أو المذهبية، هُناك ملحد أصيل، تبنى نظرياته المادية وأنكر الإله ومن أبرز ملامح الملحد تكوينه لنظرياته الخاصَّة به، أو على الأقل اتباعه لنموذج إنساني وأخلاقي، من السخف أيضا أن نقول أن الملحد بلا أخلاق، فالمؤمن والملحد يتفقان في أن الأخلاقَ والقيم الإنسانية متعلقة بتكوين الإنسان مبدئا ومن ثم تكمل الطبيعة والمحيط الاجتماعي عملهما، مؤمن رديء يخدع الناس يدعو الشباب للموت وهو يأكل كالجمل ويعيش هناءة الدنيا، وكذلك الملحد الداعية الذي يصنع فريقا من الأتباع من ذوي أنصاف العقول الذي يمكنه أن يلقن الدين نهارا فيؤمن، وأن يلقن اللادين ليلا فيلحد، المؤمن والملحد يعدوان إلى ما هو غير مرئي ومحسوس، والفارق بينهما في زاوية النظر، المؤمن يقسم بالإله الذي يؤمن به ويقول أن لله في خلقه شؤون، وبالتالي فإن الفهم التراكمي للدين ولا سيما للأديان السماوية هو الذي يحدد ماهية الجمعيّ، جماعة المؤمنين، ولسنا بحاجة لشرح الدين كثيرا، الملحد يبشّر ويكون نظريات دامغة ومادية ضد الروح والدين، ولا يمكن لأحد في هذه الدنيا أن يتقين من كلام ملحد، ويفصل الموت نظريا بين نظريات المؤمن والحقيقة، وهُنا الذي يجتمع عليه الطرفان، أن الموت حقيقة حتمية تجمع كل إنسان مهما طال به العُمر، يميل الدين لأن يلقي بثقل أكبر لتعويض الحياة بعد الموت، أما الملحد فلا ينادي بما بعد الموت، الحياة الدنيا شغله الشاغل وهمّه الرئيسي، وهذه السمات العامة تختلف من معتنق للدين واللادين، لكنها خصائص يمكن رصدها ببداهة حين نقارن بين ملحد ومؤمن، أيهما يؤمن بحياة بعد الموت؟ وبخالق يحاسب البشر؟ وبأن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يوجد صدفة؟ وبأن الكون له موجد وهذا الموجد وضع سنن الكون؟ المؤمن يقول بذلك؟ أما الملحد فلديه مختلف أنواع التكهنات الكبيرة عن الكون الذي يتوهم أنه مركزه الوحيد، الكون مركز عقله، وحواسه هي المرجعية الأولى والأخيرة، ولا مانع من بعض النظريات العلمية التي تثبت تعقيد الكون والحياة لكنها لا تكفيه لينسب كل ذلك إلى خالقٍ واعٍ كما يسميه. هذا الملحد الأصيل، الذي نزع كليا فكرة وجود إلهٍ [واعٍ] حسب زعمه وبالتالي صرنا نتكلم عن مدرسة فكرية، اعتنقها أو زُفّت إليه ضمن تيار الإلحاد الموجود أزليا، لا أقول أن الإلحاد ظاهرة سيئة فهو رغم ما يتضمنه من قلق وجودي ومن تعاسة وغُربة إلا أنه يقدم هدايا نقدية ثمينة للعلوم الدينية التي بسبب التيار اللاديني تتعلمُ النظر للعالم بمنظور أوسع من القدماء، وما توصلوا إليه من علوم وما وصلوا إليه من خلاصات حول الكون والكوكب البشري.

الموت رابطٌ بين كل البشر، المؤمن يموت وأحيانا يكون الدين سببا في ذلك، الدعايات الداعشيّة أقنعت عشرات الآلاف من الضائعين لتصديق أن خليفة الأمة المليارية هو زعيم عصابة انتحاري يعيش صراعات استخبارية مع الأمة الغربية، كذلك أدى غياب الوازع الديني والطمأنينة تجاه وجود خالق يحاسب الناس إلى تعاسة ملاحدة كثر، بعضهم ارتكب جريمة قتل نفسه ليجد الحقيقة كما فعل بعض المفكرين، فضلا عن أن التيار الإلحادي يمكنه أن يكون غير إنساني في ما يدعو له، الموت والخراب صفات يشترك فيه المؤمن والملحد، وهذا ما يقودنا إلى طباع العنصر البشري واستعداده الفكري والوجداني والذهني لإزهاق الروح، سواء نفس الفرد، أو نفوس الآخرين.

عندما نتحدث عن الانتحار، فنحن نتحدث عن قتل النفس، هل هو وزاع داخلي أم خارجي؟ إن كان خارجي فنحن نتحدث عن جريمة يتشابه فيها المؤمن والملحد، المؤمن يشط كل الشطط ويصبح زعيم عصابة باسم الدين ويدعو مجموعة من المصدقين المتعطشين للموت إلى هذه الجريمة، ويمكن للملحد بنرجسيته الفردية أن يحشد الجمع نفسه من الأتباع، عصابة كبيرة أحيانا على شكل دولة، حياة الإنسان غير مهمة لماذا؟ لأنه كتلة مادية من المواد العضوية أتقنت الحركة نتيجة التطور وبالتالي لا يفرق عاش أو مات، وهذه التناقضات يجتمع عليها الملحد والمؤمن إن كان سبب إزهاق الروح خارجيا.

ماذا لو كان الانتحار لعوامل داخلية؟ العلم الحديث والقديم حارَ في تقديم تعريف للحياة [الطبيعية]، سأسميها [المعيارية] أو المتعارف عليها، تلك التي تواضع حولها الناس واتفقوا نسبيا على أنها حياة تحق للجميع بالحقوق المقبولة منطقيا، المؤمن ينتحر لأسباب داخلية مرضية، والملحد يفعل ذلك أيضا فماذا يلعب الدين أو اللادين من دورٍ في الانتحار؟ هذا هو لب الموضوع الذي أردت الوصول له بعد هذه المقدمة الطويلة.

الجموح نحو الموت لا يعتد به كسلوك طبيعي، حتى هؤلاء الذين يعملون في الجيوش التي تدافع عن الكيانات السياسية لا يدخلون وفق نظرية عامَّة تدعوهم للموت، ربما كانت هناك استثناءات كبيرة، الكاميكازيون في الحرب العالمية الثانية واستعداد اليابان لتقبل الإبادة قبل الهزيمة من الأمريكان، والحشاشون في العصور القديمة، وغيرهم من الذين غسلت أدمغتهم للموت من أجل قضية كبيرة، لا نتحدث عن هؤلاء في هذا المقال، نتحدث عن الذين اتخذوا قرار الموت لغياب الأسباب التي تدفعهم للحياة، غياب هذه الأسباب عاملٌ في صناعة سبب للموت، هُناك من يعيش لأن لديه أسباب تمنعه من الموت مثل خوف المؤمن من النار، وهناك من يموت لأن الأسباب التي تدفع للبقاء في الحياة قد اختفت، فكيف يمكن للانتحار أن يغوي عقل المؤمن والملحد على حد السواء؟

لكل منتحر حكاية تختلف عن غيره، ولكن الاكتئاب والرغبة في الموت وفي الأخير فعل الموت نفسه يحتاج إلى مجموعة من المقدمات قبل أن يحدث، الاستعداد الكامن للموت قد يؤدي بمراهقٍ تعيس إلى إلقاء نفسه في سكة القطار، وهذه حالة لحظية يمكنها أن تحدث بدون توقع، هُناك حالات أخرى حب الحياة الذي بها يحتاج إلى عمل مرضيّ دؤوب ليتحقق الموت، إن كنا نتحدث عن ملحد منتحر فإن العدمية، وسوداوية الحياة أحد الدوافع، بل وربما يعتنق ملحد الدين فقط لينتحر، ليموت وفق رهان أن موته سيكسبه الحياة الآخرة، بالتالي سنجد أن الدين دعاه للموت، أو لأكون أكثر دقة سنجد أن خياره الشخصي باعتناق الدين كان فقط لأنه يريد أن يموت لكنه لا يريد الموت دون قضية، سيختار الموت، وسيعتنق دينا وسيموت من أجل ذلك الدين، في الجانب الآخر من المعادلة المتشابهة يفعل المؤمن ما يشجعه على الموت، المرض يفعل ذلك، ما نسميه نحن في وهمنا كأشخاص طبيعيين معياريين نحب الحياة ونريد أن نعيش ولا نريد أن نموت، نسمي ذلك مرضا، وهذا المرض عندما يستبد بمؤمن ينزع عنه مع الوقت وسائل البقاء، ومن ضمنها الأفكار التي تمنعه عن الموت، النفس شيطان قديم، إن لم تسمها النفس فلنقل الذهن، إن لم نسمه الذهن فلنقل الأفكار، أو فلنقل الوجدان، أيا ما كانت التسميات، وسائل الموت عندما تنبجس من الداخل تغير الحقائق التي يؤمن بها الفرد، وسواء كان ملحدا تربى في بيئة إلحادية لا دينية فلا تستغرب أن يميل المنتحر لاعتناق الدين كوسيلة للموت وحدث ذلك لكثيرين من أوروبا عندما غادر مدمن مخدرات عتيد دياره الأوروبية المسكونة بالحرية الفردية ليموت في انفجار مفخخة في وجه العراقيين، أو العكس، الدافع الداخلي هو الحكم في قضيتنا، والمؤمن الذي يخسر إيمانه لا يفعل ذلك بالضرورة لأن الإيمان لا يقنعه، أو أن الوجود الإلهي لا يصل إلى وجدانه، إنها حيلة من حيل المرض، الذهاني، أو الاكتئابي أو اضطرابات الشخصية، أو عدم القدرة على التعايش وغيرها من الطيوف الواسعة التي تخرج الفرد من المعيارية النمطية ليصبح منتحرا.

هناك علاقة بين الانتحار، والدين، والإلحاد، كلاهما يمكنه أن يكون أداة للعقل المريض، وهذا العقل وما يعاني منه مما يسمى بالمرض النفسي لا يفرّق بين التعليم السابق وقراره، إنها معركة داخلية من الصعب أن يدخل فيها الآخر، ليست متوقعة وليس لها شروط للحدوث أو لعدم الحدوث، إنها حالات بشرية كثيرة وتركت مؤشرات تاريخية على ما فعلته بنفسها، أن يزهق الإنسان روحه فهذا حدث حزين لكن الأفكار هُنا ليست أكثر من أدوات، والمبادئ الدينية ليست أكثر من وسائل، الذي يريد الموت سيموت إن انهزم في معركته الداخلية، وهُنا سيحلو للفلسفة تزيين ذلك بحجة أن خيار الفرد في الموت حق أصيل من حقوق حريته، وسيحلو لجماعة الدين إقحام هذا في الجنة وإقحام ذلك في النار، الحقيقة في المنتحر المؤمن والملحد تكمن في السر الذي لا يعرفه الآخرون، وربما السر الذي خفي عن بصيرته، لحظة واحدة ويموت إنسان بريء فتك به شيطان المرض، من السهل لوم البشر والمحيط الذي به وقتها ولكن الصعب والقضية التي يجب أن تفهم هو أن هذا يمكن أن يحدث لأي إنسان إن اتفقت كل ظروف المأساة على حدوثها، سنتأمل ونحلل، ولكن أن نعرف؟ يا له من زعم وقح وظالم، للموتى والأحياء والملاحدة والمؤمنين على حد السواء. سواء آمنت بالشيطان أو لم تؤمن به، الإنسان الطبيعي هو نتاج توازن داخلي بين دوافع متناقضة، وانتصار شيطانه الداخلي عليه نتيجة مرض أو إملاء ممكن الحدوث، ولا علاقة لكونك مؤمنا أو ملحدا بذلك، كل الطرق تؤدي إلى الموت بما في ذلك طريق الحياة!

 

معاوية الرواحي