بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 24 يونيو 2022

القتلةُ الذين يعيشون بيننا!

 

 

يُصدمُ الإنسانُ اليوتيوبي، ذلك المشغول بمعايير الكمال، والمثالية عندما يعلمُ أن قتلةً وإرهابيين يعيشونُ حياةً عاديةً في مجتمعٍ طبيعي. إزهاقُ النفس البشرية نهايةٌ لإزهاقٍ نفسٍ أخرى، نفس القاتل التي استمرأت لغةَ الموت، فلم يعد يعبأ من الذي يموت على يديه. وتشيعُ في هذه الحياة صورٌ مختلفةٌ لأشكال القتلِ والدمار، منها ذلك الذي يقوده الغضب المؤقت، وفقدان الأعصاب، وحتى هذه لا تأتي بلا مقدمات، إنها نفسٌ تركت حتى تراكمَ عماها عن الواقع، وتأزمت رؤيتها للحياة، وفقدت الأمل، والحب، وتحولت إلى قنبلة موقوتة ستنفجر لا محالة إن وضعت في الظروف المناسب، وعاشت الحصار الذي يعيشه القاتل، الراغب في القتل من أجل القتل.

شكلٌ آخر من أشكال الإرهاب، والذي نعم قد يكون لأسبابٍ دينية، مثل متطرفٍ ساخطٍ يعيش وسط التجمع البشري، ولا يعلمُ الناس الذي يجول في عالمه الداخلي من غضب وشر، وخطط، وخيالات، وأحلام يقظة، وربما متابعةٍ سريةٍ للمواد التي تحرض على العنف والتطرف، قد يكونُ هذا إنساناً في ظاهرِه مدافعا عن الدين، وينسى بعض التفاصيل الرئيسية، مثلاً أن إقامة الحدود ليست شأنا فردياً، سينقل لك الكثير من التبرير والذي سيلف ويدور حتى تصلَ إلى اضطرابِه البيِّن، إنه مشروع قاتل، لا علاقة له بدين ولا بغيره، إن لم يقتل باسم الدين سيقتل غدا فقط لأنَّ أحدا استفزَه زيادة عن اللازم، زناد مسدس، وحادث سيارة بسيط، ولحظة خاطئة، ويصبح الإنسان قاتلا، هذا ليس حدثا بادئا، هذه نهاية متوقعة لكل هؤلاء الذين اتخذوا من الموت والقتل والدمار لغةً للتعامل مع الحياة، قضيةٌ أخرى من القضايا "الحيَّة" التي أساس التعامل معها هو الموت، أو إقامة الحدود باستسهال بالغٍ، فقط لأنَّ شخصية مضطربة رفضت أن تعترف بمشاكلها.

حوادث القتل التي كثرت مؤخرا، من قبلِ رجالٍ قتلوا فتياتٍ بريئات، إرهابٌ فرديٌّ فيه لغة الموت هي التي تتعامل مع الأحياء، لا تختلف في قبحها وفي عنفها وفي شراستها عن الحوادث الشبيهة، لتلك المرأة التي أحرقت خيمة كاملة في عقد قران زوجها من زوجتها الثانية، ولا تختلف عن القتلة الغامضون الذين يرمون ببندقية قناص أناسا أبرياء ويختفون، تتفاقم حالة الإنسان القاتل بعد أن يجرب طعم الدماء، ولكن إلى أن يجربه فهو يعيشُ في دائرةٍ داخليةٍ مليئة بالغضب، وقد يبدو غير مفهومٍ للآخرين، حتى تفوح منه كلمة واحدة تدلُّ على أنَّه قادر على القتل، بل وقادر على الإقدام عليه، اعتادَ عصرُنا الحاضر على وضع القتل الفردي ليكون دائما لأسباب دينية، ولكن لا يوجد منطق يُخرج ذلك ليجعله في يد التدين فقط، هُناك قتلٌ لأسباب وظيفية، عندما يمسك موظف غاضبٌ رشاشَها فيفتك بشركةٍ سابقة كان يعمل بها، وهُناك قتلٌ نتيجة الجهل وتراكم الاضطراب، كأن يؤمن شابٌ أرعن مهووسٌ بالانتحار بأنَّ إقامة الحدود الشرعية أصبح بيديه، وبالتالي فهو المفتي، والجلاد، والمنفذ، والهيئة القضائية، وهو الاستئناف وهو كل شيء، مضطربٌ يظنُّ أن نصا واحدا يكفي لكي يذهب إلى أقصى أقاصي الجريمة، القتل بدمٍ بارد أو فائر، لا فرق فالضحية ستموت بغض النظر عن تبرير قاتلها.

مشاريع القتلة هؤلاء يعيشون بيننا. بعضهم يرى في لغة الحدود القانونية والدينية تبريرا لكي يقوم بذلك بيده، والبعض الآخر لأزمة عاطفية، وآخر لأزمة نفسية، وأخرى وثالث، وثالثة، ورابع ورابعة لصدفة في غير موضعها. هذه الإنسانية ليست نزهة في المحبة والسلام، العنف جزء من تكوين العنصر البشري في كوكب الأرض، وشئت أم لم تشأ، هؤلاء القتلة يعيشون في كل مكان، بين الناس، لا يفصلهم عن الحدث الأوَّل الذي يقتلون فيه سوى موقف واحد! وبعدها، يتذكر البشرُ حقيقة هذا الكائن البشري، الغامض، والمليء بالشر، والخير، والحب والكراهية في وقت واحد.

 

معاوية الرواحي

الأربعاء، 22 يونيو 2022

حرية التعبير واقع رقابي جديد!

 

 

سنواتٌ من الجدالِ في الواقعِ العُماني، كهنةُ الصمتِ يدافعونَ عن موقفهم، فهم يعتبرون الكلام خطراً، بل ويغالون في وصف المجتمعِ بأنَّه غير جاهز لحرية التعبير، وقد يتشنج فيقول: هذه المجتمعات العربية لا ينفع معها الحرية! وهذا المنطق السقيم مردود عليه، فضلا عن كون قائله غير مُقنع، ولا يخلو مثل هذا المنطق من القبح، والاستعلاء، واحتقار الآخرين، وتجاهل حقوقهم، وأضف إلى ذلك كسل قائله العقلي، وخوفه من الحقائق، وتقديسه للصمت الذي يخفي كل العيوب والسوءات ويسمح بكل أشكال الخطايا في حق العموم، وفي حق الأفراد.

بعدَ سنوات من الحذرِ والتربص تغير واقع إمكانية التعبير عن الرأي، تحسن طفيف للغاية في المؤسسات الإعلامية، وتحسنٌ آخر كبير وملحوظ في وسائط التعبير الإلكترونية. تتخلقُ مع الوقتِ عينُ الرقيب الاجتماعي الفرد، وتصنع واقعا رقابيا ينقلُ الواقع، ويسمحُ للباحث عن الحقيقة، وآراء الناس، وموقفها أن يقرأها مباشرة دون وسطاء. على الجانب الآخر هُنالك حالةٌ من الهلعِ تتجلى في بعض الذين مهام عملهم تتعلق بالشؤون العامَّة، فهم أوَّل من يمارس دور كهنة الصمت، فهو الذي يحميهم من النقد، مُخفيا أخطاءهم، ومحارباً في سبيل تعزيزهم الوهم الكبير: أنهم يقومون بعملهم على أكمل وجه! وهُنا لبُّ المعضلة.

إن خطابا سلبيا، مُنقصا من كل شيء سيء مثل الخطاب المبالغ في الوردية، والذي يعتبر كل شيء قد وصل لحدود الكمال، وأنَّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، كما تقول العبارة/العلكة الشائعة! أما الواقعُ الجديد والذي يمكن رصده عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد استفادَ من التجربة الماضية في السنوات الأخيرة، وبدأ يتجلى الدور التنظيمي للقانون، الذي اختلفنا معه، أو اتفقنا فهو ينطبق على الجميع، وخارجَ بعض الحوادث القليلة، نستطيع أن نقول أن لسان الرقيب الاجتماعي، ومنصاته الفردية قد بدأت في صنع ظاهرة العقل النقدي الاجتماعي، وهذا التبلور الذي تتراكم خبراته مع الوقت يقودُ إلى نحت مفاهيم جديدة في العلاقة بين الفرد ومجتمعه، وإلى صناعةِ بقعة ضوء تمنع كثيرين من استغلال مظلة الصمت لإخفاء أخطائهم، وخيباتهم، بغض النظر عن نوعية هذه الخيبة، حتى وإن كانت متعلقةً بمشروع تجاري، أو بحديقة عامَّة وغيرها من الشؤون الشعبية، لقد أصبحت الشركات تحسب ألف حساب قبل أن تقدم خدمات احتكارية سيئة، أو قبل أن تتهور في تسريح عدد من الموظفين العُمانيين، نعم قد يقول قائل: هُناك ثغرات تسمح لهم بذلك، ولكن في المقابل هُناك رفعٌ لسقف الحوار، ويحدث ذلك في العموم الكبير، العموم الاجتماعي إن لم يكن ضمن سياقات أخرى.

ينشغل كثيرون بتقييم واقع الحريات التعبيرية، وفق معطيات سياسية، أو قانونية أو حقوقية، وينتبه البعض الآخر إلى القيمة الاجتماعية لهذا الجهد الذهني العام، فأمام عدسة الرقيب الاجتماعي، ووسائله، وميادينه، وصوته الهادر، وفيضان الكلام، والمشاعر التي يمكن الإحساس بها في يوم الرأي العام العُماني، كُل شيء يمضي إلى طريقٍ أجمل، ولن يحدث ذلك دون منغصات أو أخطاء، ولكن ما دمنا كعمانيين نتعلمُ من كل تجاربنا، فإن اللغة ستنصفنا كلنا، وعندما تكون عُمان هي المُحتكم الكبير، والرغبة في الخير للمجتمع، وللناس هي أساس الكتابة، نستطيع أن نقول: شكرا للرقيب الاجتماعي الذي جعل مهمة المخطئين أكثر صعوبة، والذي يصنع كل يوم ستار حماية ضد الاستهتار، والإهمال، وربما ما قد يكون خطايا أخرى أشد وطأة من أن يتصدى لها هذا الرقيب وحده.

 

معاوية الرواحي

تويتر في عُمان!

 

 

خيرُ وصفٍ يمكن أن نسمي به آلة التغريدِ الإلكترونية هذه هو وصف [المؤسسة التعويضية الأولى في عُمان]. لهذا الموقع الإلكترونية خواص ساحرة وجاذبة، فإضافة إلى بساطته، وبداهته، ومُباشرته، صنع لنا موقع التدوينات النصية القصيرة هذا مكانا مُشتركاً يسمح لنا بالعودةِ إليه عدة مرات في اليوم. فعلى عكس اليوتيوب الذي يحتاج إلى اشتراكٍ، وبياناتٍ ووقت، وتركيزٍ، وعلى عكس الفيس بوك الذي يمكنُ أن يسبب لك الحرج مع أصدقائك إن دخلتَه دخول الكرام، قليل المكوث، سريع الرحيل، يأتي هذا الموقع مع تطبيقه بارزاً في الذاكرة البشرية، فهو منصة نشر، وتعبير، ونقاش، وتواصل اجتماعي، ومنصة تجارية، وفي عُمان حُمَّل واجباتٍ أخرى تتعلقُ بالنقاش الاجتماعي، والقضايا العُمانية، والشؤون العامَّة.

مزايا تويتر كثيرة، سهولة الانتشار، والفردية المفرطة في إعطاء صاحب المنبرِ حريته. قوانينه لا تخلو من التحيز، ولم يمض وقتٌ طويلٌ على منع حساب رئيس دولة الحريات الكُبرى في العالم! حسب زعم البعض! ورغم ذلك، لتويتر بيئة جميلة إن استطاع المرء أن يتجاهلَ الخلطَ الذي به، فهو بيئة رائعة إن اخترتَ من تتابعه بعناية، مع ذلك، لن تسلم من شرور [الخط الزمني/التايملاين] وستجد نفسك مجبراً على خطابات السميَّة، والكراهية، وقتال وصدام الرأي العام. عالمٌ من المعلومة السريعة وللأسف الشديد مُفسدٌ كبير للكتابة، كيف يمكنك أن تحترمَ اللغة التي تكتبها في تويتر، وهو من الأساس أعطاها عمراً افتراضيا لا يتجاوز الساعات القليلة! حتى زجاجة الحليب تعيش مدة أطولَ من تويتر، الذي يتفنن في إعادة تدوير فنون الساعة حتى لو كان ذلك على حساب تغريدة كُتبت قبل عشر سنوات! لتويتر ما له، وعليه ما عليه! ولكن ماذا عن الواقع؟

مرَّت سنواتٌ على عُمان وللكلام موجات عالية وأخرى منخفضة. هو حتى هذه اللحظة الخيار اللغوي الأخير الذي اختارته الجموع العُمانية، وبعد تراجع سطوة الفيس بوك [ميتا حاليا] نشأت المؤسسة التعويضية، الإعلامية، والثقافية العُمانية بشكل مرتجل عبرَ التفاعل الإلكتروني. هُناك جانبٌ بسيطة من ما هو مرئي، وما هو تدويني، ولكنه في المقام الأوَّل موقع اللحظة، موقع لحظة الساعة، ورجل الساعة، وقضية الساعة، ومأساة وكارثة الساعة. نراه تارةً جبلاً من المحبة والتضامن كما كان في أيام الإعصار شاهين، ونراه طوفانا من التضامن كما يحدث في التعاطف مع فلسطين المحتلة، ونجده مزبلةً تحفل بالقذارة عندما يمتلئ بالكراهية، والسموم، وفي حالات نادرة قليلة الفتن المذهبية أو الخطابات المشوهة. في تويتر طيف بشري من كل الأنواع، فهناك البسيط العادي الذي يكتب عن أيامه، وهُناك المعقَّد العدمي، والمتباهي بحبه للحياة، والمتعالي عن الناس، والمنتمي والمنحاز لقضايا الناس، وهناك المسخ البائس والشبح الخفي، وهُناك الأداة، وهُناك الفردي، وهُناك الدعائي، كل هؤلاء في موقع إلكتروني واحد لم يصمم لكي يحتوي مؤسسة تقوم بفعل النشر، ابتداءً، مؤسسة إلكترونية مرتجلة كان حريا بها أن تكون لإعادة نشرِ فعل المؤسسة الأولى، الغائبة، تلك التي حتى هذه اللحظة لم تتكون بما يكفي لكي تحمل على كتفيها عبء الحوار الفكري، والشعبي، والمجتمعي، ولن أقول السياسي لأن هذه منطقة لا أريد الخوض فيها لأسباب أجدها وجيهة.

لقد قام تويتر بواجبه، في عصر الصمت والخوف من الكلام، وفي عصر السقف الجديد، وإمكانية الكلام المعقولة، على الأقل في الشؤون الاجتماعية العامَّة، واصل تويتر حمل راية التكوّن لهذا الخطاب العام، واليوم يمكن أن نسميه بالمنصة الأولى، لنشر الخبر، وللبحث عن تفاصيله، ولمعرفة الجديد الذي يدور في عالمِ عُمان الاجتماعي. قام تويتر بواجبه حتى أصبح الآن يُحمَّل ما لا يُحتمل، جهودٌ هائلة من ذوي العقل والأفكار والآراء تصبُّ قطراتها في نهر اللغة العُماني، لماذا؟ لأنَّه حتى هذه اللحظة هُناك تراجع في مأسسة الخطاب الفكري والثقافي، ودورٌ لن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني فحسب، واجبٌ يجب أن تتظافر فيه جهودٌ بادئة، ستحتاج إلى وقت ليس بالقصير حتى تكافئ مهارة، ومرونة، وسرعة، وفاعلية تويتر الذي لا يعيبه سوى اختلاط الخطاب الانفعالي والمنطقي به، والذي يعيبه أيضا أنَّه يوصل الكاتب إلى طريق مسدود بعد أن يتمرَّن قليلا على فتنة النص القصير، وعلى سرعة الوصول للآخر.

حان الوقت لكي نقسمَ من تويتر بعض وقتنا، نمنحه لكتابة المقال، ولصناعة الندوات، فهو حتى في هذا الجانب يصنع لنا مؤسسات مُرتجلة، مساحاتٍ صوتية، وبينما العقول القلقة تمضغ الخوف عن أثرها على هذا المجتمع، وغير ذلك من صناعة المخاوف، نأتي إلى ضفة الرماد، تلك التي لم تبدأ تفاعلها مع المجتمع الكبير في صيغة مؤسسية معقولة، تسمح بالحوار، وتضع النقاط على حروفِه، وتفتح باباً للاستفادة من كل هذه الجهود التي من الخسارة الكبيرة أن تذهب في خط زمني رقمي، عمر صلاحيته قليل، وفائدته طويلة المدى موجودة، ولكنه لم تدوَّن بما يكفي لنطمئن أنَّها باقية. حان الوقت لمأسسة كل هذه الجهود، وسيبقى تويتر كما هو عليه، منصة للنشر، ولكن هذه المرة، لنشر ما تمَّ قبله، لا لنشر ما حدث فيه.

 

معاوية الرواحي

الخميس، 16 يونيو 2022

ذهول وحنين

 

 

أحنُّ، إلى أيَّامي الميتة

جرحُ فيروز في الفؤاد

دمعةٌ يابسة

ورسالة لم تصل

تحت الماء، وفوق التراب

أحنُّ إلى بساطتي

وحسن ظني بالناس

وقلبي المنهمرُ بالمحبّة

والتصديق.

أحنُّ إلى أيام الرفاق

وبهجةِ المعنى

وضحكات الهازئين

بالكلمات، تُسند اللغةُ

سخفهم الوجودي

يصهره ذهب اللغة

كالتبر في بركانٍ مؤجل.

أحنُّ إلى أصدقائي

وهم لا يظهرون عداوتهم

وهم لا يبيعون ظلِّي

للنارِ في الهشم.

أحنُّ إلى ليل الخوض

وأنا أعبره بلا جروح

طيِّبا كما ولدتني أمِّي

خالياً من الخلَّان

ممتلئا بالشوقِ

لذكرى سأصنعها غداً

وحكايةُ جنون طار بها النسر للغيوم

حتى عاد بلا ريش

أحنُّ إلى نعومة أظافري

التي أحكُّ بها الأوراق

وأكتبُ بها القصائد

وأعزفُ بها الوتر

بلا هذه المخالب الهائجة

والأنياب الجائعة

والنفس الكظيمة

وتلك النار

والقسوة

والروح التي اكتشفت شوك الوردة

ورائحة البارود

وذبابة السيف

والنفس التي أدمت حنَّاء اللغة

ولطخت نقوشها بالجروح

أحنُّ إلى عزلتي

وما فاتَ من العُمر

في الكهف الزجاجي

الذي يرى الجميعُ

مرآة جدرانه

ولا يعلمون

أنَّه شفاف من الداخل!

أحنُّ إلى جفون بصيرتي

وغشاوة القلب عن الشر

وسذاجة الأمس

وشدَّة الظلم والحسرات

ونقاءً لن يعود

وأياما ضاع عنها الطريق إلى الطريق

والسماء

والأوتار

التي صارت تقطعها هذه المخالب

وهي تحاول العزف

مرةً تلو الأخرى

أحنُّ إلى هذه القصيدة

التي تغلق بوجهي الباب

في سطرها الأخير!

 

معاوية الرواحي

الأحد، 12 يونيو 2022

غذاء الروح في الزمن الجديد!

 

 

نلومُ زماننا! ومن هذا الذي لا يلومُ زمانَه! قد يتحاذقُ مُجادلٌ ليرميكَ بالسهمِ الميِّت الاعتيادي: لم نفسَك، لا تلم زمانَك. هل هذا يعفي الزمانُ من اللوم؟ هل اتخاذ موقفٍ يائس أو غاضبٍ تجاه تعاليم الزمن الجديد، وابتكاراته النفسية فعلٌ خارج المنطق؟ لا أعتقدُ ولا أظن، هذا الزمان بحاجةٍ للكثير من اللوم.

في مرحلةٍ زمنية سابقةٍ كانَ الموسيقى تُسمى غذاء الروح. انغرست حفلات أمُّ كلثوم في ذاكرة الأجيال، ويتردد صوتُ المعجب الخارقِ [للست] في عقولنا. [عظمة على عظمة على عظمة يا ست!] نعم، عظمة على عظمة. يمكن أن نطلق صفة غذاء الروح على أغنيات كوكب الشرق، التي أيضا كانت تستحق أن تُسمى كوكباً. في زمانٍ كذلك، ماذا كان يفعلُ الإنسانُ؟ قبلَ هذا الطوفان من الخيارات المرئية، وما جلبته الشاشاتُ من دهشةٍ، وفتنةٍ للزمن الجديد؟ كان يقرأ، وهو غذاء لعقله، وكان يسمع الكثير من الأغنيات، وقتَها يشتكي الشاكون من ضحالةِ المقروء، بل ووصل الحال ببعضهم إلى اعتبار أنيس منصور مثلا [ثرثارا] لا يستحق أن يُقرأ له، ماذا عساه أن يقولَ الذي يعيشُ في زماننا، هذا الزمنُ [التويتريِّ، اليوتيوبيُّ، التُكْتُكيِّ، السنابيِّ، الانستاجراميِّ]. لا تلم الإناء على ما فيه، وما ألومه الآن هو ما في الإناء، وقبل أن يقفز لي متحاذقٌ آخر ليقول لي المقولة المقرفة الضحلة التي يُبدأ بها النقاش (لا تُعمم) سأقطع إطلاق التعميم، وسأقول: لا أعمم.

بماذا تُغذى الروحُ في هذا الزمن الجديد؟ بالكثير من الأنا، والاستحقاق. هذا هو الرائج الآن، والفرديةُ الفلسفيةُ التي كانت في يومٍ من الأيَّام حلم يقظةٍ لأجيال خلت، أصبحت الآن إحدى شروط البداهة الرائجة، الجميع فرديٌّ في هذه الأيَّام، ويا عجبَ الدُنيا، ما كانَ [مَحلوماً] به أصبح [منطوقاً]، ومكتوبا، [ومسنوباً] ومُتَكْتَكاً. ثقافة الاكتئاب الوجودي والبحث عن الحقيقة تحولت بخوارزمية عارفٍ إلى تعزيزٍ يوميٍّ لانحيازاتك المُسبَقة، لم يعد عليك أن تبحثَ كالسابق، عن إحدى تناثراتك النفسية، والشعرية، والعقلية، كُل شيء يعملُ الآن في صالحِ مشاكلك المُسبقة، ولا يهمُّ، أن تكون سيئا، أو مُقرفا، أو مريضاً، أو متهافتا، أو مصيبةً تمشي على قدمين، هُناك مصيبة تُشبهك في منصةٍ من المنصات الإلكترونية وسوف تتولى تغذيتك على طريقة الزمن الجديد، كُن سيئا، ولكن اشعر أنَّك طبيعي، لا تغيِّر نفسك، العالم هو الذي عليه أن يتغير من أجلك، والأهم عليك أن تستعد للتخلي عن كُل الذي لا يعجبك، فالافتتان بالذات بكل خطاياها إحدى سنن هذا العصر الجديد، هو وعلفه الذهني الذي لا تتوقف فيوضُه عن الانهمار!

من المؤسفِ أن يصلَ الحالُ بالإنسانِ إلى تصديق الخطاب المُحافظ، ذلك الذي يلومُ الأفكار لأنَّها أفكارٌّ في حد ذاتِها. من المُحزنِ أن يصلَ الحالُ بالعقل المثقف، الذي يزعمُ فهماً لا بأس به بظروف العقول في زمنِه، إلى تصديقِ ما يقولُه الضالعون في اليأس، أنَّ الأفكار في حد ذاتِها تشكِّل معضلةً كبيرة، ولها ضحايا، وتيَّار تغذية الذاتية هذا واحدٌ من هذه الأغذية العقلية التي أعُلنُ في هذا المقال البائس يأسي تجاهها. ماذا عساه أن يحدثَ لك وأنت تغرقُ ليل نهار في كل ما يعزز ذاتيتك! أنت تستحق! تغير الزمنُ الجديدُ، ومن كلمة [أريدُ] التي شكَّلت مرتكزاً لحركةِ التحرر الفردي، إلى كلمة [أستحقُ] التي عززت اكتفاء المرء بذاتِه، لقد أصبح من العيب الكبير في الزمن الجديد أن تعترف بخطئك. لا داعي لفعل ذلك، يمكنك أن تعيش سعيدا في وهمك وأن تتبع دجالي دغدغة المشاعر، والمُعلين من شأنِ ذاتيتك حدَّ إدمانِك الجسدي، والهرموني لتلك المنصات التي جعلت منك كائنا شارداً، مُضحكا، مؤذيا، منكفئا على ذاتِه، سعيدا بكل ذلك، وكأن إدماناً جديدا يلوح في الأفق ولكنه هذه المرة لا يلعب على مستقبلات شبيهة في دماغك، إنه ينحتُ مساراته الذهنية في عقلك عبرَ الإقناع اليومي، أنَّك تستحقُ أن تكون سيئا، وأن العالم عليه أن يتعايش مع سوئك، وأنانيتك، والقرف الذي تنثره بكرمٍ بالغٍ على كُل إنسانٍ حقيقي تعرفه. هذا ما وصل إليه حالُ غذاء الروحِ في هذا الزمن الجديد، ولأكون رحيماً بالأفكار التي ألومُها، فإن المشكلة ليست في الإناء، وإنما في الذي وجد هذه الآنية مجالا ليطبخ الحلوى لكل الجائعين روحيا، وكأن السكر المغلي طعامٌ لن يفتك بك في نهاية المطاف، ولكن هل هذا ما تأكله العقول؟ نشوة

 

السُكَّر، ونشاط يوم مُنتج وعودة إلى عزلتك التي تكتفي فيها عن كل ما عداك، كل هذا العلف الإلكتروني يكفي لكي تعود إلى منزلك مشحونا بالوهم، تنتظر اليوم المجيد الذي يرضخُ فيه العالم لاستحقاقِك الهائل، والذي يلوي فيه كل إنسان حولك حياته لتناسبك أنت فقط، لم لا! فهذا العمر لا نهاية له. كان العالم يهزأ بكل الذين يقولون: أنت تستطيع! في هذا الزمن الجديد، هؤلاء أثبتوا نبلهم أمام كل متاجرٍ بالاستحقاق، يقول لك: أنت تستحق! أستحق ماذا؟ ومقابل ماذا؟ هُنا سيصمت الكلام، فالجرعة وصلت إلى عقلك، لا داعي للتفنيد والتحليل، هذه [شُغلةٌ] تسبب القلق، وما الحاجة إلى القلق في هذا الزمن المريح، المليء بالكربوهيدرات العقلية، والسكر المنثور على الأرصفة. أن تستحق أن يحترم أحدٌ عقلك وأن يقول لك: الأمر نسبي، وفي هذا العالم عليك أن تكون منطقياً!

 


 

 

معاوية الرواحي

حياد الموقف المنهزم!

 جالس أفكَّر من أمس، موه من العباطة التي تجعل شخص يظن إنَّه الجميع محايد مثله؟ هو غير مصطف، قد يكون ضد الطرفين، قد يكون مع الطرفين في شيء واحد: كل حد له رأي، ومن حقه يعبر عنه!

 مثاليات، شاطحة في الشعرية. الواقع الحتمي يقول: عمان بادية ترجع لحالتها الطبيعية. ولعل كل هذا خير!
الحياد حالة تعبيرية، يختلف عن الحالة التأثيرية، التي تُجابه فيها العالم بما تختلف فيه معه. الحياد تلطيف متحاذق لكلمة الموقف المنهزم، وسواء كان سببه التعب، أو اليأس، أو عدم الاقتناع، أو التسليم بالأمر الواقع، هو موقف دفاعي، يحافظ على الرمق الأخير من حريتك في الكلام. لا أكثر!
أمس كان يوم عاطفي مشحون بالعواطف. لكن فاتني شيء، مرَّت ما يقارب من 17 سنة منذ أن كانت الساحة الإلكترونية بهذا التوازن، بين يمين الأذهان، ويسارها، توازنٌ وندِّية تبشر بالخير. ما حدث بالأمس لن يتكرر بالضرورة، لعل الأمل به بقاء. ثمَّة هامش للحوار، ولعله يبدأ بأن يقول كل ما لديه.
هُناك أمل، لعل كل هذا الجهد الفكري سيرتقي يوما ما لحالةٍ نافعة، يوم يجلسُ المختلفون في الرأي في طاولة واحدة، ينحتون لغةً ومفاهيمَ قابلة للتداول، والنقاش، والأخذ، والرد، والاختلاف. هذه كانت الأيام الطبيعية للكلام قبل سنوات. ربما هذه عودتها، ربما! الطبيعي يعود كأنه مدهش وجديد!
ماذا أخذنا من مرحلةٍ طويلةٍ من التوجس؟ خطاباً أساسُه حق الكلام! تخيل أن يكون الكلام مرتهناً بيد متساويين! أليس هذا كله هو الطبيعي؟ وهذا الاختلاف هو أساس الأفكار؟ دهشة العودة للأزلي القديم! وأنَّ العالم منقسمٌ كما خلقه الله، وأنَّ كل هذا هو الحتمي، حدوثا، وحدثا!
كل ما أستخسره، هو ذلك الجهد العظيم من قبل العقول الكبيرة في عمان، كيف آل مآله إلى تويتر! ولكن لعله خير، ما دام حدث في تويتر، لعله في الطريق إلى مكانِه، إلى أي طاولةٍ جانبية، أو هامشية، أياً ما كان، لعل كل هذا طريقٌ إلى واقع فكري مختلف عن سنواتٍ مرَّت عسيرة وصعبة.
وهذا واقعُ الحال. يوم أمس كان جزءاً من ذلك الواقع الكبير. عُمان تعودُ إلى أيامِها العادية، تلك الأيام التي ألفنا فيها القراءة، وتعلمنا فيها الكلام. هذه المرَّة لم يحدث كل هذا في منتدى محدود، حدث في مجتمع كامل وكبير. ولعله خير. الجميع ليس محايدا، ولا خصومة سوى في الأفكار!
وما الذي يُرسمُ في حدود الكلام الجديدة؟ في سقفها القانوني في عُمان؟ السقف السياسي، لم يتغير، والسقف الاجتماعي، بدأ يساهمُ في تفنيد العملِ العام، وتوضيح أخطائه. والسقف القانوني الديني، يتعلق بالذات الإلهية، والدين، والمقدسات، والأديان، السماوية وغير السماوية. هذه السقوف المألوفة.
ماذا لو كان ذعر الأيام السابقة قد استوطن روحي، المثقف يكتب، المطوع يكتب، والحديث التفصيلي يتعاظم، أليست هذه الحالة الطبيعية؟ نعود للسياقية المنضبطة منطقيا، أليس هذا هو الحتمي؟ ما أغرب أن يكون العادي صادما! وما أغرب أن يكون الطبيعي مدهشا. عسى أن تكون سنوات الكلام السمان قادمة!
ربما هُناك أمل، ولكن من سيقدم على الخطوة الأولى؟ من الذي سينحت طاولةً في الصخر؟ ندوة؟ ولكن من المحايد في كل هذا السجال الفكري؟ من الموثوق به من طرفين متخاصمين وجوديا؟ مؤتمر؟ ماذا بالضبط؟ فعالية؟ هذا هو الوقت الأنسب للعمل الفكري، والأكاديمي، والإعلامي [هههه] يا ريت!
وكل هذا حدث في تويتر! هذه هي الخسارة الوحيدة. يوم نادر من أيام الإنترنت منذ سنوات وسنوات. تعرف أن يوما مثمرا من أيام الكلمات قد حدث عندما لا تستطيع ملاحقته في جلسة واحدة. فيوض الكلام، تنهمر، وتنهمر، هذا هو عزاء المحايدين، ذوي الموقف المنهزم، المفرط في دفاعيته، وتسليمه بالواقع!

الجمعة، 10 يونيو 2022

وكأن الصمت هو الحل

 دعونا نضع بعض النقاط على بعض الحروف:

 الذي يخالف القانون، يدين لك بشيء، فأنت تحت مظلة القانون نفسه، وإن لم يُعاقَب هو، فهذا ظُلم لك، لأنك تطبق القانون، وبالتالي فهذه ليست عدالة، فالقانون على الجميع سواسية، هذا المأمول دائما من العدالة. هذا الكلام حتى يُحاكَم، ويُحكم عليه بعدها؟
بعدَها، ينتهي الدين الذي يدين به المُخطئ لك، لك كفرد في مجتمع ينطبق عليه قانون واحد، وهُنا أنت المدين له. بالإصلاح، والنصح، والتأهيل، مدين له بتوفير ظروف سجن لائقة، ومدين له بأن تحميه من التوغل في الخطأ، مدين له بكل شيء يضمن حقوقه وقد سحبت منه حريته. انتهى دينه لك وبدأ دينك له.
تعاملك من القانون، وتعايشك معه، أو تصالحك معه، أو تأييدك، أو اعتراضك عليه، كل هذا لا ينفي أنَّ واجب التعايش والتأقلم هو على عاتقك بحكم الحتمية، تريد أن تعيش في عُمان؟ هذا هو واقع الحال، تريد تغيير واقع الحال، هُناك مسار ممكن، رأي، ومجلس شورى، وغيرها من المسارات الصعبة، والشاقَّة.
وعندما نأتي إلى واقعِ الحال، القرار بيد القضاء، وهذا له حصانة تجاه الآراء الشخصية، ويبني قراراته بناء على آلية مختلفة عن آليات الرأي الشخصي، أو ماهية المثالي، والممكن، أو النظرة بعيدة وقصيرة المدى. نعم، عندما أرتكب جريمة، أدين لكَ حتى أفي بديني للقضاء، بعدها تنقلب الآية.
وهو موضوع رأي، أنت تشمتَ أو لا تشمتَ، هذا حقك العاطفي، من هذا الذي عساه أن يصادر حقك في أن تمارس شماتة جميلة أو قبيحة. أما موضوع الحق، فهو عليك، ومن آل أمره إلى السجن، ومرَّ بالعملية القضائية، ليس لك أي شيء عليه، ولا سيما في الحق العام. لقد بدأ بسداد دينه، ويدفعها من حريته وعمره.
وهنا يبدأ واجبك، المناصحة، والتأهيل. والنظر لظروف كل مخطئ، واختيار طريق العمل الصعب، فهذا واجبك، وواجب الجميع، وواجب المؤسسة السجنية، وواجب المجتمع، وفي حالة سجناء القضايا الأخيرة، هو واجب المؤسسة الدينية. الاحتفال بسجنِ خصمك حق لك، لكن لا تنسى، لقد صنعت له تأييدا دون أ، تدري.
ونعم، أعي حجم المشكلة الاجتماعية التي تسببها دعايات التمرد من أجل التمرد، أعيها، ومررت بها،ودفعت خسائرها المريرة من حياتي. لكن هل صمَّ أذني، وصناعة الأشباح، والقيام بالمقاربة الكسولة، والاحتفال بالانتصار على الخصم الضعيف؟ الذي جاء أعزل بلا سلاح هو الذي سيخفف تفاقمها؟ كلا لن يفعل.
وقضيةُ عقلٍ حائر أرعن يجدِّف ليرمي بنفسه للتهلكة، ليست كقضية الفاسد الذي أتلف الملايين من المال العام، أو ذلك المتلاعب بأرزاق صناديق التقاعد، أو ذلك الذي تلاعب بمناقصات حكومية عامَّة. هؤلاء هم العدو الحقيقي للمجتمع. لم يصنع خطر الإلحاد سوى المقصر في حق دينه، حق النصح والتوعية.
وحتى المؤسسة الدينية، لديها سلوك تعويضي. حالها حال المؤسسات الأخرى، مفهوم [الهيبة] الذي قادَ إلى وضعٍ مزرٍ من شيوع التفشي، والشماتة، والعدائية، والصدام، وأستطيع أن أقول مشروع [فتنة] حطبه جاهز، وقشُّه يتراكم. ماذا بيدي كفرد سوى أن أعبر عن رأيي؟ هذا ما أفعله، أقول كلامي وأمضي!
وماذا بيدك الآن؟إغلاق نفسك في وجه العالم؟ لأنَّك اتخذت الطريق السهل؟ سلوك صنع العبرة يفقد مع الوقت فاعليته، وحتى هذه العبر لم تعد تصمد في اللسان الجمعي أكثر من أسبوع، وحتى الحكايات، صارت تنطمسُ وتُنسى، وهذا الشتّام قليل الأدب الذي ملأ البلاد سبا وقذفا ذات يوم؟ من يعبأ لشأنه الآن؟
أجملُ شيمةٍ في عُمان هي شيمة العفو والتسامح، ولا أقصد تسامح الضعيف، أقصد الإدراكَ أنَّ الثوابت العُمانية أقوى بكثير من تطاول فرد واحد. وهذا الفردُ لا يعلمُ أين وصلت معركة الصفائح التكتونية العُمانية، ولا يعلم أي آتون ألقى بنفسه فيه. يوجد خط عودة دائما في عمان. ولا يجب خسارة ذلك.
كل هؤلاء الذين اختاروا الحياةَ بعيداً عن مظلة المؤسسة الدينية ليسوا أعداء للدين، لديهم اختلاف مع طريقة المؤسسة الدينية في التعامل مع الفرد. والذين اعتنقوا خطاب المؤسسة الدينية ليسوا بالضرورة يخلون من الذاتية، والقطبية، والسعي لمكانة في الهرم. كلنا نعلم ذلك، وقليل منها يقوله.
وما نهاية هذا السجال؟ نهايته الغل الاجتماعي، وانتشار ثقافة الوشاية والكيد، والآن صارت الأسلحة الشخصية جزءا من المُعادلة، نهاية هذا السجال هو تمزق اجتماعي، وواهم من يظنُّ أنَّه سيدير هذه التمزق بدهاء ويهندسه بذكاء. الحتمية ستأخذ مجراها، والباقي رهن حدثٍ واحدٍ فارقٍ، يقود للغضب.
ولا بأس، يمكننا أن نعود إلى حفلتنا التنكرية، لنعيشَ حياتنا الواقعية كما هي. الذي في الحانات يصخبُ ويسهر في الوديان، الذي في المساجد يصلي ويخطب في الجوامع، والذي في الوسط يكمل حياته، يبحث عن معيشة كريمة. والنخبُ تبحث عن امتياز خاص، "ودائرة التفريق سوف تدور"
لقد أجرمَ في حقِّ عُمان كل من ظنَّ أن الصمت هو الحل لمشاكلنا العُمانية. هذه هي الجريمة الكبيرة التي يحميها الصمت. وحتى هذه القضايا الترفيَّة، أو شطحات العقل الفردي المنساق وراء الثقافة العالمية، وكل ذلك من إنشاء وتدبيج وذاتية، كلها تدور ضمن سياق واحد: الحوارُ يحدث في غير مكانه.
الذي جاء في هذه الحرب الفكرية أعزل، فتردُّ عليه بكل قوتك وعتادك هذا ليس دليل قوة، هذا دليل تقصيرك في حق كل ما تؤمن به، وإلا ما بالك الآن تحتفل بانتصارك على خصم أعزل! راجع نفسك أولاً، واسألها إن كنت قمت بالواجب الكبير؟ أم تفعل كل ما بوسعك لتتجنب اليوم الذي سيصبح عليك فعله؟

حسابات ما قبل الارتكاس الكبير

 ونجي لفقرة ماريو، لما يقرر يزعّل الجميع منَّه لأنَّه يرفض كُل خطاب جمعي. أولاً:

 التشهير جريمة قانونية، هل كانت الحملة ضد المغرد حمود النوفلي منصفة؟ لا لم تكن منصفة، ولم تكن قانونية، وتم التشهير به وإيذائه ونشر الإشاعات عنه، بل وشتمه، وسبه. هل هذا قانوني؟ هل هذا مباح في الحوار؟
نقطة ثانية، الإخراج من الملَّة، هذه أيضا جريمة، حالها حال التحريض على العنف، هل هذا منصف؟ هل الخطاب الفرد المتدين منصف؟ ليس بالضرورة، بهذا الخطاب علل، ولا يخلو من التجاوزات، هل الجدال يحدث في أرض أساسها الرأي والحوار؟ كلا، يحدث في تويتر، لأن مكانه الحقيقي نائم وغائب.
النقطة الثالثة، المؤسسات الأكاديمية والثقافية، أين دورها في كل هذا التوتر الاجتماعي؟ نائمة في العسل، لأن سياسة الرقيب صنعت قطيعا من المدّاحين الانتهازيين والمطبلين، والمبررين، وغير ذلك من أشكال القبح التعبيري، هل هذا حقهم: نعم. هل حقي إني أرفضهم: أيضا نعم!
الحكومة! لماذا تعزز دور رقيب يقود إلى كارثة؟ كل ما يقترب سقف الحريات من الحوار، يجهز الرقيب على أي أمل في تحوله إلى واقع معرفي، وثقافي، وإنساني، واجتماعي، يُجهز الرقيب المؤسسي الذي يخنق الإعلام بتعاليمه الغرائبية على واجب اجتماعي مهم ولا يمكن طمسه، الحوار الفكري.
أين الإعلام؟ عندما جد الجد وقرر يساهم في قضايا المجتمع، اختار أبسطها، وأقلها [إقلاقا] للرقيب الإعلامي، واتصالاته، ومحاولاته اللحوحة الآن للسيطرة على الإنترنت، وتصرفاته [السرية] والمشكوك في قانونيتها. حوار أزلي، وفكري، وقديم، ولا يتوقف ولا يموت فماذا فعل الرقيب: خاف كعادته!
والمؤسسات الدينية، أين خطابها الثقافي الذي يتناسب مع ظروف العصر الحديث؟ التهديد والوعيد وإعلاء شوكة اجتماعية ومؤسسية هذا ليس نصرة للدين، ولا ترسيخا لقواعد الإيمان، وإعلان عدو ضعيف سهل والإجهاز عليه ليس أكثر من تصرف مسيّس، لا علاقة له سوى بذاتية الشوكة المعنوية للتيار الديني.
وبدلا من احتواء مجموعة من المتسائلين، وبعضهم حمقى، وبعضهم مستغفلون، وبعضهم أتباع عميان لخطابات الإلحاد الجديد، أو التدين الجديد، وغير ذلك من الصرعات، بدلا من إنشاء بديل مؤسسي لهم يمكّنهم من التفاعل المُسالم مع بعضهم البعض، مع الآخر، صراع الاستقطاب يختارهم عبرةً.
والناعشين نعيشامبينا عن خطر النسويات، وخطر الفكر الإلحادي، وغيرهم، ماذا تفعلون؟ صناعة أشباح؟ أين ردكم المنهجي على كل ملحد على حدة؟ أين تفكيكك لكل دعايته عن الإيمان؟ أين وضعك عدسة المجهر على حججه؟ أم هذا عمل صعب، وصناعة الأشباح [والنعيش] ليل نهار على وجودها يكفي؟ أهكذا ينصر الدين؟
والحمقى الذين يحومون حول الحمى، يخالفون قانونيا صريحا، حتى التلميح فشلوا فيه، يرفضون الاعتراف أن الأمر ذاتي، وأن السؤال طويل، ولا إجابة سريعة عليه، أين النقد المنهجي؟ أم الاقتباس من عظماء الشك الغاشم يكفي؟ وحرب الإشاعات، والاغتيال المعنوي المضاد هو الحل!
والآن هذا القرف، هذه الشماتة ورفع جثامين مستقبل ضاع وذهب هدرا، هذا الانتصار المهولُ أما الصمت عن الكبيرة والكبائر فهو عادي جدا، مسموح ما دام في حالة المُسايسة. مجموعة من الحمقى الذين جازفوا بأنفسهم، لا يعلمون أن هذا الصراع كفيل بتحويل حياتهم إلى ورقة تُحرق بسهولة من أي طرف!
وما نهاية هذا الحقد، والغل، والكراهية، والغضب؟ حسنا، سوف نتذاكر بعد شهور، عندما يندمُ الذي ظنَّ أن السلاح القذر يُستخدم لأن ذلك بيده. الحوار يحدث خارج مكانه، ومكانُه مسكون بالرقيب الهلوع الخائف الذي يتردد في قَبول أن في عُمان سقفين، هو سبب أخفضهما وأكثرهما ضررا للمجتمع.
ولما يسوء الحال، أكثر وأكثر، ويصبح الأمر أكثر من مجرد عناد إلكتروني، ويتحول إلى صدام فكري حقيقي، عاد خلي الرقيب يتلاحق على عمره، ويسوي شيء يذر به الرماد على العيون. عدد السكان يزيد، وفكرة الخطاب الأحادي، هذي أوهام ستضر عُمان ولن تنفعها، ولكن على من تقرأ زبورك يا داوود!
واشمتوا أكثر، نعم هؤلاء الذين تطاولوا هم الخطر الكبير، أما هذا العالم الشاسع الذي ليس لديك أداة للتعامل معه سوى طمس المجاهر، الذي أصلا جاء بلا سلاح، بوضوح، أيا ما كان السبب، كان خصما واضحا، وصريحا. أما غيرهم، الأقوياء، فلا بأس، داهنهم، وواصل مسايستك! نعم هكذا تنصر ما تؤمن به!
وعموما، نهاية كل هذا المزيد من الغضب، وهذا السجال، ومن يظن أنه يديره بذكاء وحذق سوف ينقلب ذلك على رأسه. ولكن تتكل على من؟ مؤسسة أكاديمية؟ مؤسسة دينية؟ مؤسسة إعلامية؟ تتكل على من! تركنا كل المنابر التي تُثمر وتتحول لنتائج والآن ننعش حالنا حال الجميع في الإنترنت!
وانعش يا ناعش، انعش انته .. وانعش، عن الدين، وعن تغوّل المؤسسة الدينية، وانعش عن النسويات، واصنع الأشباح، وانعش عن العالم الجديد، وانعش عن مجتمعك يا معاوية، بو باغي ينعش يتفضل، تراه المكان كله ساحة نعيش. انعش على دمار مستقبل فتاة في مقتبل العمر، اشمت، هكذا تُحل الخلافات الفكرية.
وكل واحد خلوه ينعش في قضاياه التعويضية، مهرجان الناعشين، لازم يصنع شبح، ولازم يصنع استحقاق، ولازم يصنع امتياز، وهات يا ألهاكم التناعش. جالسة تتبلور مؤسسات اجتماعية عوجاء في النت، وما أعرف من هذا اللي ما قادر يشوف إنه نهاية هذا ستكون خارج السيطرة. ما بعدد السكان هذا!
ولا بأس، لما عاد تسرقكم السكين، عاد خلونا نرجع من أول لجديد لحسابات الأخماس والأسداس، خلونا ننعش أيضا على فوات قطار الحرية، وخلوه الرقيب الإعلامي وقتها يبتكر نظام مفيد لعمان، ممكن يشمل رقابته رسائل الواتساب أو حتى جريدة الحائط في المدارس، وحتى الإذاعة المدرسية ليش لا!
وفي قضية مريم، وغير مريم، وفي قضية السليماني، وغير السليماني، لن أعلق على حكم قضائي، سأعلق على الذي يستخدمه للشماتة من إنسان يدفع دينَه للمجتمع. إنسان في السجن من الأساس، لقد قام بأداء الحق العام، وهو سجين بحكم القانون، تشمت فيه ليش؟ يا قوي، يا بطل، يا همام!
ولو خايفين على الشباب من الإلحاد، أو التشدد الديني، ما تخلوا العالم صراع أقطاب، وما تنكروا حقيقة الواقع، وتكلموا عنه شوية، اللي خايف على أبناء بلده يشتغل شوية، ما يختار الطريق السهل، ويصنع لنفسه شوكة مع الجماعة، تيار كل قطرة فيه قادمة لتسحق فكرة إنه الإنسان: يفكر ويخطئ ويصيب.
ولو خايف على أبناء مجتمعك، ما تقبل شيوع الوشاية، والكيد، والاغتيال المعنوي، والوظيفي، والأكاديمي، لأنه فلان مطوع، ولأنه فلان ليبرالي، لو خايف على أبناء مجتمعك حقا، كن شجاعا، واصنع مكانا للحوار، مكان تضمن فيه إنه الخلاف الفكري ما يتحول لهذا الاستقطاب الاجتماعي، المضر!
وما نهاية هذا كله، خذوها من لاجئ سابق. مشروع مهاجرين، والمزيد المزيد من اللاجئين، وغيرها من كل ما يُعاكس التوجه الكبير بإبقاء الأمور في عمان في طمأنينة للجميع. أين النصح، والنقاش، والحوار؟ بالله عليك مطوع متحمس خلاص سيلغي حرياتك الشخصية؟ ليبرالي ثرثار سيهدم دين الله! بالله عليك!
ويالله، هذا أنا نعشت مع الناعشين، أرثي واقع الحال المرير. هل أقلقُ على المجتمع من خبث الملاحدة؟ نعم أخشى عليه، كنت منهم وأعرف ما يستطيعون فعله من تمزيق للفرد وصنع أتباع، نعم أقلق، هل الاغتيال الشخصي من قبل الشوكة المعنوية للتيار الديني مقلق، نعم مقلق! وماذا بيدي: أنعش كماكم!