العقل في مكانٍ آخر. محاضرة علم النفس التنموي، أو التطوري، أو علم نفس النمو، أو علم نفس تطور الأشياء، أو كل ما سبق، أو بعضه تجري على قدمٍ وساق.
عقلي في مكان آخر، لا أستطيع التركيز. ملامح رحلة ماريو التغييرية الرابعة بدأت تتضح، ولكن دعني أولا أضع خلاصات، ونتائج الرحلة الثالثة في موقعها المناسب قبل القفز إلى قلقٍ جديد. قبل أي شيء دعني أسرد أمام ذهني الرحلات الثلاث السابقة: 1- الرحلة الأولى: الذهنية! مقاومة آثار اضطراب مزمن، انجراف المزاج، وانزحاط السلوك، وأضيف لذلك عامل إدماني لخبط الأوراق وناثرها بين سجنٍ، وهجرةٍ، وعزلةٍ، وإرهاق، ونوم سيء، وسهر بالأيام، واضطراب شاملٌ أسأل الله ألا يعود. 2- الرحلة الثانية: الجسدية، الدراجة الهوائية، وبدء التخبيص الجسدي، والنظر للجسد بروح اعتراضية على واقع الحال، أخذت ثلاثة أعوام من المحاولات، ثم فترة من النجاح، ثم كسر في الكتف، ثم عودة للمربع الأول، ثم وقفت مع الممكن والمتاح من مسارات، وخيارات، وعدم إمكانية الاعتماد على رياضة واحدة فقط. 3- الرحلة الثالثة: تنس الطاولة، وإعادة تكرار أخطاء المرحلة الثانية، ثم البدء بتعديلها، النظر للغذاء، والمكملات العشوائية، ثم بعدها، تنظيم الأوراق، أخصائية التغذية، شعار المرحلة هو "الانضباط أولا" وتسميات أخرى مثل مدرسة القرف بدلا من الشغف. تسير على قدم وساق، انتقلت من حالة الإرادة إلى حالة العادة تقريبا، تحتاج إلى التزام مستمر، وإلى تقبل النكسات، وتوطين النفس على الاستمرار في حال حدثت الإصابات. هي أيضا مرحلة السكري، ومرحلة الدسك، وآلام الظهر، وأيضا مرحلة تطبيق بعض فوائد علم النفس المليحة لفعل الأشياء الصحيحة. مرحلة الصوابية الجامدة، الجافة، الخالية من الإبداع، المليئة بالجداول والخطط، الحتمية، غير النسبية، وهي في اكتمال ثلاثة من أرباعها، والقسم الأخير اكتساب المرونة للحفاظ على كل مكتسباتها، وعاداتها، قبل البدء في التخطيط للرحلة الأخيرة. هذه الرحلة الثالثة، بها مخاوف هائلة، بدأت بعد عمر الأربعين، بها ساعات لا ينصح بها من الانهماك في الرياضة، بها ضرورة لكبح النفس عن الانسياق وراء الضغط الشديد على الجسد، وأخذ الأمور بهدوء، مرحلة صالة الحديد كنمط حياة، وتنس الطاولة كمهارة واستثمار للعمر ما بعد الخمسين. تحتاج إلى بعض التأمل، وتأكيد الأهداف، وعدم نسيان العامل الصحي أمام عامل العضلات، وملاحقة النمو العضلي، ووضعه كأولوية أمام عوامل أخرى. الرحلة الرابعة: ستتعلق بالنوم، ودخول نادي الخامسة صباحا، ونبذ حياة الليل، ومحاربة كوكب الدوبامين، والتخفيف من الهاتف، وبعض العزلة الصحية، والانهماك في صناعة المحتوى، وتأسيس بزنس العُمر، وهي كلها ستعتمد على تثبيت نتائج المرحلة الثالثة. والرحلة مستمرة، ومنحنى التعلم المتفاوت جزء من هذه الرحلة. وعموما، صباح الخيرات ..بحث هذه المدونة الإلكترونية
الأحد، 31 مارس 2024
الأحد، 24 مارس 2024
جدالات الكلام!
قاش مستحيل أن يحدث بين شخصين:
1- القادم من منطلق انتمائه لجماعة: هو من الأساس لا يناقشك كفرد، وإنما كجزء من انتماء جماعي. متخيل الليبرالي الأمريكي اليساري الجديد لما يفتك بصاحب رأي في مهرجان الكنسلة الرائج عالميا؟ النقاش جاي من استحقاق من طرف واحد، إنه هو يمثل هذه الجماعة، وبالتالي، ما يقوله انطلاقا من الخير العام، وفي هذه الحالة، الخير الإنساني، ولك أن تقيس ذلك لما تناقش شخص جاي من انتماء جماعي، سياسي، أو ديني، أو فكري، أو قومي. 2- القادم من منطقة فردية: وهو يناقشك أنت كفرد، بشكل مباشر، ويقول آراءه كفرد، وهذا يحدث لما شخص يكون لديه وجهة نظر حول حقه التام في اتخاذ موقفه الفردي، ومتى يتوهق؟ لما هذه الآراء تتصادم مع منطق جماعي، مثل الجدال الأزلي حول مواضيع التفكير النقدي الديني، أو السلوكيات الشخصية "التدين، الحجاب، التدخين، شرب الكحول" مثلا شخص متدين، يقول لك: التدين اختياري، وهذا قرار "فردي" أنا أتخذه بنفسي وأطبقه وأمارسه، يهاجمه شخص آخر ويقول له كلا، هذا ما قرارك، أنت ضمن الفئة الدينية اللي تهاجم حرياتنا، وهكذا دواليك، والنسخة المعاكسة تحدث، لما شخص يتبنى سلوك أو اختيار فكري، فيهاجم كأنه صاحب أجندة جماعية، وأحيانا نعم، الفرداني لديه أجندة جماعية، والجماعي لدي أجند فردانية، لكن بشكل عام، النقاش أصلا يحدث في مكان آخر، وكل هذاك الصدام لم يؤسس له اتفاق حول آلية سيره، لذلك ينزع إلى الصدام وإطلاق الأحكام. وعشان أعطي أمثلة غير قابلة للالتهاب. تخيل النقاش بين شخصين، الأول يقول لك: - أنادي بإنه الدوام الرسمي يكون فيه حرية للاختيار، اللي يلبس بدلة، واللي يلبس دشداشة ومصر. أو شخص يقول لك، المصر ما ضروري، خليه كمة. - الشخص الثاني يقول له: هذا هويتنا، وأنا أشوف إنه أفضل نتمسك بها. الحوار من شخص، إلى شخص آخر، وانتهى صح؟ لكن أيضا ممكن الحوار يتحول إلى إنه الشخص الأول يقول للثاني: - أنتم تنادون بالرجعية والتخلف، [فرد ضد جماعة] وأنتم السبب في إنه الأمور لا تتطور [الحوار خرج وأصبح في مكان آخر] - خطاب [فرد ضد فرد]: أنت مخدوع، وتم غسيل دماغك من قبل التقاليد والعادات أيها المنساق المضحوك عليك. وكذلك من الضفة الأخرى: - أنت مخدوع من قبل العولمة التي تنزع هوية، وممسوخ لدرجة إنك ترفض التقاليد العربية الأصيلة. [فرد ضد فرد] لكن باعتباره جزءا من جماعة. - أنتم مخدوعون بهذه الدعايات، وتريدون الهجوم على تقاليد المجتمع ومسخها لهوية منساقة وراء العولمة الغربية. وهذه الحوارات التي تحدث عادة عندما لا نكون وجها لوجه. حادة، بها شحنة من الأحكام والريبة تجاه الآخر، وهذه طبيعة التواصل غير البشري [ربما!] .. نفسد للود ألف قضية عندما لا يتم مأسسة منابر الحوار، وجعلها محايدة وملكا للجميع، وما يحدث في تويتر ليس سببه "جهل الناس" أو سببه "طرح ضحل" أو غيره مما ينادي به رقباء البرج العاجي، الذي يحدث سببه أن هذه الحوارات كلها طاقة نقدية تحدث في غير مكانها المناسب، لأن الذي عليه تهيئة مكانها المناسب يمارس الوصاية والتوجيه والرفض والتسطيح والتجهيل وكافة أشكال رفض هذا النمو والتفاعل لأنه متمسك بنظرية جامدة حول ماهية الصواب، ومعايير غير واقعية عن عدالة المنبر العام. لذلك تويتر هو المنبر العام المرتجل الذي يغطي هذا التقصير الذي كان على مؤسسات كثيرة أن تتولاه، وأن تتحمل منحنى التعلم العام حتى يصل إلى نقاش مثمر، وطاقة هائلة ممكن أن تفعل الكثير من الخير، وتنشر الكثير من قيم الحوار والتعايش فقط بالقليل من الاعتراف بالآخر. المشكلة مستمرة، وستبقى، وللأسف الشديد، هناك من يتخذ من هذه الأحداث الاجتماعية المتتالية حجة لفرض رؤية مؤسسية منهجها إلغاء الرأي العام، واعتباره هامشيا، وبالتالي تأجيل هذا الحوار لأن تأسيس المنابر الاجتماعية العامَّة عملية صعبة، وتحتاج إلى مساحة كبيرة من التفهم للآخر، والأهم الاعتراف به، واحترامه. إذا كان أساس الحوار دعائي، وصدام انتماء للثقافات الشاملة، فهو ليس أكثر من رمي للمزيد من القش في كثبان التحيزات، والحزازات. وإن كان أساس الحوار هو فتك الجماعة بفرد، فهو شكل من أشكال الضغط الاجتماعي، أو القمع الاجتماعي، وإن كان أساس الحوار هو هجوم الفرد على جماعة، فهو شكلٌ من أشكال قلة الحيلة، والشعور بجسامة المشوار، تصرف كاميكازي آخر، انفعالي. هذه الحوارات، هي مهمات متعددة، للجامعات، ولمؤسسات الإعلام، وللثقافة، وللمنابر [العادلة!] غير الموجهة، وغير المتحيزة، الظن بأنَّ تهميش الرأي العام، وتسطيحه، وتجهيله، هو الطريقة لنصرة مدرسة تؤمن بالتوجيه، والأدلجة، ليس أكثر من إضافة إلى جمعٍ إلى الجموع، صناعة لمشكلة، والخطاب سيبقى كما هو عليه، صراع ظنون، وريبات، وتسجيل موقف فرد ضد جماعة، أو جماعة ضد فرد، أو التسلط في أبهى أشكاله بمحاولة طمس كل هذه المنابر المرتجلة والتعويضية من أجل منبرٍ هامد، يعطل تفاعل الأفكار هذا كله لأنه لا يجد وسيلة لقبول الاختلاف. وهنا نجي إلى أس المشكلة الرئيسي، أن يكون موضوع الآراء خاضعا لمدرسة دون أخرى، ومفروضا بأدواتٍ أساسها القدرة على إخراس الآخر، ولي ذراعه، وإعادة صناعة المشكلة بمبرراتٍ مزخرفة وكلام جميل الشكل قمعي المضمون، استعلائي، وإلغائي. الطريق طويل جدا، ويبدو أنَّ عبثية المنابر المتحيزة، وتجنب تأسيسها بعدالة منطقية، وتأجيل شمولها للجميع، وبناء انتقائية شخصية واجتماعية، والتأطير النمطي، وغيرها من الوسائل ليس أكثر من تأجيل فوق التأجيل، وعندما تأتي شرارة في هذا القش المتراكم، سيتنصل من تسبب بكل ذلك من ما فعله، وسيلجأ إلى تفسير سخيف آخر، بحجة أن المشكلة بالناس، وجهلهم، وتخلفهم، وينسى من تسبب بذلك أنه هو الذي صنع كل الظروف لهذه الأزمات الاجتماعية والفكرية. لذلك، وإلى حين تخلق هذا المنبر العادل، سيواصل ما يحدث الحدوث، وستبقى هذه الجدالات بلا نتائج تعايشية، وستبقى رهن مساحات تأثير الأفراد والجماعات، وقوة الصدام بينها، وستبقى رهن قوة المؤسسات، وهشاشة وصولها، أو قوة تأثيرها، وفي النهاية، لأنَّ الذي يفكر بشكل قمعي من الأساس ينتظر هذا اليوم المجيد، سيخرج لنا من العدم المقص الرقابي كحل رئيسي لكل هذه المشاكل التي سببها، وتركها تتفاقم، وتتراكم، لأنه غير قادر على بناء تعايش مع الاختلاف، وإنما هي لغة الدعاية والتوجيه، والتي أصبحت فكرة سخيفة في هذا العالم الذي تحررت فيه المعارف، والمعلومات، والحقائق من سلطة الرقيب مهما حاول واهما أن يتمسك بمعطيات زمانه الذهبي، وقدرته على إعادة تشكيل الحقائق للجموع، فسوف يواصل الفشل مرة بعد أخرى حتى يقبل بأن العالم تغير، وتجاوز تلك المرحلة. النقاشات في تويتر مكشاف جيد على الفارق الهائل بين تجربة الفرد في التعامل مع العالم المتفاعل، وتجربة المؤسسات في ملاحقة هذا الزخم العالمي الجارف، ومن أراد خيرا للناس، فليحترم الناس أولا، وليصنع لهم منبرا عادلاً خاليا من تحيزات الرقيب، ومشاكله الكثيرة، ولكن على من تقرأ زبورك يا داوود! القمعي يدعي أنه يدرأ المشكلة وهو يصنعها. الاستعلائي يدعي أنه يحترم جميع الآراء، وتستمر صناعة الخطاب منزوع الدسم، منزوع القيمة المعرفية، العمومي، الدعائي، المزخرف، والذي يفعل ذلك هو الذي يطلق الأحكام هو الذي يمنع التبرعم الفطري للرأي والإبداع والكلمات، ويبقي الدائرة تدور، عود أبدي لحكاية الرأي، والحرية، والحقيقة، والمعرفة، والنقد، وهكذا دواليك، حركة لولبية، لن تسفر عن تغيير إلا بعد حدوث الأزمات! والمثير للغيظ، أن الذي صنع الأزمة، هو الذي سيتحرك لحلها! وكأننا لا نتعلم مطلقا من أي شيء حدث من قبل!الساخطون!
ماذا عنك عزيزي القارئ؟ ماذا تقول في حق هؤلاء؟
الثلاثاء، 19 مارس 2024
حوارات علمنفسيَّة!
مشكلة علم النفس، ومن أكبر مشاكله، إنه علم عابر للزمان والمكان. يعني، كل فترة يطلع لك "تريند" وينال اهتمام عالمي كبير، ولا تكاد جريدة تخلو أو موقع إلكتروني، أو حتى "ريلات" الانستجرام وغيرها من وسائل الإدمان الرقمي البصرسمعي منه!
الشخصية النرجسية تارة، ثم اضطراب الانتباه وفرط الحركة [ADHD] ولما نمل عاد من هذي الحبشتكنات نرجع إلى موضوعنا الكبير عن جنون العظمة، وموسوليني، ونرجع إلى الجوكر، والشخصيات السيكوباثية، وهكذا دواليك. أما علم النفس الحقيقي، فهو ممل، وكله خطوات فوق خطوات داخل خطوات وقوائم داخل قوائم، وعملية استبعاد طويلة وممنهجة، وإجابات قليلة، وأسئلة كثيرة، ومنطقة رمادية، وفي النهاية تكاد تقول إنه نص قانوني، ودستور عالمي، وشيء فيه اجتماعُ علماء كوكب الأرض، وأمم متحدة، وجمعية أمريكية لعلم النفس، وجوردن بيترسون الذي يمنح صكوك الجحيم، وغيرها. كيف أشبه أن تكون طالبا لعلم النفس، أو مهتما؟ وأنت مهتم بعلم النفس، ما أن تجد الإطار، ستتسرع لحشر معرفتك ووعيك وانتباهك داخل هذا الإطار. وأنت طالب في مجال علم النفس تبدأ "تتأدب" ولا أقصد بكلمة "تتأدب" أي كنت قليل أدب، بل أقصد تكتسب أدب العلم، وتعرف ثم تحاول بناء الإطار المناسب، تتوقف عن التفكير من جهة الإطار إلى الداخل، وتفكر من الداخل إلى أقرب إطار ممكن، وفي أحيان كثيرة تصفعك الحاجة إلى تخطيط الإطار بنفسك. شيء من هذا القبيل. ولو كنت من المهتمين بعلم النفس ووقعت في هذا الفخ، لا تلم نفسك كثيرا، من لم يقع فيه من الأساس؟ عملة التفكير بوجود إطار نمارسها في علم النفس وخارج علم النفس، ولا علاقة لذلك بالتشخيص والأمراض، بل أيضا في تسمية الأشياء. تسمي الاندفاع، حماسة. تسمي وقاحتك صراحة، تسمي السلوك القهري بالواجب، تسمي المكاشفة سمية، لا تفرق بين حقك واستحقاقك، أشياء بعدد المواقف في هذه الحياة قد لا تسميها باسمها الدقيق. علم النفس هُنا يلعب دور العجوز، الذي يلبس نظارة، والذي لا يدخن الغليون، ويقول لك لحظة، هذا اسمه كذا، وذاك اسمه كذا؟ ليش يا عمّو علم النفس! هو كذا علم النفس، مثل عجائبية سيف الرحبي، لديه طريقة في تسمية كل شيء، أنت متفق، مختلف، هو كذا، تراكمت المعرفة البشرية وقررت تلك التسمية لسلوك، أو لشعور. لو كنت مهتم بعلم النفس لسينمائيته، نعم ستجد مدارس هائلة، بس ربما أحسن لك تدرس علوم جنائية، وتجرب تسوي مقابلات مع آلاف السجناء، وربما كنت محظوظ وتصير خبير في مجالك، وينفعك في كتابة تجربة تحليلية أو بحثية أو أدبية عظيمة. أما لو كنت تريد تعطي ما لسيف الرحبي لسيف الرحبي وما للناس للناس، تأقلم مع مساحة شاسعة من الشرطية والاستبعاد، وسوي لنفسك بارض، واحفر في الشاطئ، ومن ثم في الصخر، ومن ثم في التراب، واكتشف كل التجربة البطيئة وهي تحيطك بمهارات تجعلك نفساني جيد في مجالك. ومثلا، في علم النفس يتكلم عن ظاهرة التأجيل، مثلا، أنا معي امتحانين اليوم، لكنني مصر أصيغ كل أفكاري التي تعطلني عن المذاكرة على هيئة مقالات في تويتر، بينما القضية الحقيقية إني لازم أتأدب وأروح أذاكر قبل لا أنقص درجات وأنا أمتحن وأنا صايم! للحديث بقية غيب ذاكر يا ماريوالأحد، 17 مارس 2024
تأملات فجرية!
من أصعب المواقف التي أواجهها كإنسان، ذلك التواصل المفاجئ من أبٍ هلوع، أو من أمٍّ هلوعة، أو من أخ، أو من أخت كبيرة، تلك الرسائل المفاجئة والتي تسأل عن أمر حساس للغاية، يتعلق بالمرض النفسي! صعبٌ جداً على النفس، أن أجد نفسي في ذلك الموضوع الذي من يُستشار فيه ليس مؤتمنا فحسب، بل يجب عليه أن يكون واضحا تمام الوضوح.
الاثنين، 11 مارس 2024
مساحة اسمها عالَمُك!
أكادُ، بين الحين والآخر، أفقد
أعصابي، وأنفجرُ في وجه هذا العالم المكتنز بالعقلاء. للعاقلِ تعريفٌ سخيفٌ في
قاموسي، هو ذلك العاجزُ عن فهم الجنون! المكتفي بقمة جبل الثلج، بالنذر اليسير من
الوعي الذي يوهمَه أنَّ وجودَه الواعي هو قمة جبل الثلجِ التي تبدو له طافيةً أعلى
سطح ماء المحيط. العقلاء مزعجون، بمعاييرهم، وأنانيتهم، ونزعتهم للشر، وللظلم،
وللبدائية، والهمجية باسم كل ما هو حضاري وعادل وينتمي أحياناً لقيمٍ مطلقةٍ
يمارسها المجانين ضمن أيامهم العادية واليومية، ويقاتل العقلاء من أجلها بمجادلات
معقدة، مفعمة بالحزازات، والحساسيات، والخوف من المجهول، وهذا الخوف الملعون! هذا
المجهول! يسكن في دواخلنا البشرية، ويعشعش في سرائرنا، يراه المجانين بوضوح، ويعجز
العقلاء عن فهمه، والمجانين، هؤلاء، هم الذين أنتمي لهم رغم كل هذا الهذيان الطافح
بالمنطق الذي تجبرني الحياةُ على عيشه!
هذا ليس عالمي أنا فحسب. إنه عالمُ الجَميع. كل ما يخرجُ عن وجودنا،
ووجداننا، وأفكارنا، ومخيلتنا، وأذهاننا، يتحول إلى عالمٍ آخر. جزءٌ منه هو ذلك
الكبير جداً، الذي يحلو لنا أن نسميه كوكباً، وجزءٌ آخر هو ذلك الذي يحدث فيها
تفاعلنا مع الوجود. وعينا أصغرُ من كوكبنا الحقيقي، كوكب وجودنا الحتمي. قمة جبل
الثلج التي تبدو للبعض كافية لكي تسمى حياةً، ووجوداً، تخفي وراءَها وجودنا الحقيقي،
وسواء كان ذلك المكتوم، أو المكبوت، أو الذي يجنُّ عنَّا، أو الذي لا نستطيع
السيطرة عليه، نحنُ نكمنُ في تلك المنطقة المظلمةِ التي لا نستطيع السيطرة عليها،
وإلا فلمَ نعجز عن السيطرة على خفقات قلبنا؟ وعلى تحركات عضلاتنا الناعمة في
أحشائنا؟ نعجز عن ذلك لسبب وجيه، لأننا لا نستحقُّ أن نوجد بشكلٍ كاملٍ، لا نستحق
أن نتذكر كل شيء، ولا نستحقُ أن نعرف كل ما عرفناه، نعيشُ في هذه الخدعة من الوعي
ونتوهم بكامل إرادتنا العقلية، بكل ما فيها من ضمني وجليٍّ، أننا نعيش كما نريد أن
نعيش!
لأكون صادقا معك عزيزي القارئ، توقفت عن الانتماء إلى عالم العقلاء منذ زمن
بعيد. ولا أقصد عالم العقلاء في سياق المرض، والغفلة، والجنون الذي يوصفُ بلسان
اللئام. أعني ذلك العالم المنطقي المرتهن بالمصالح، والذي تسمى فيه الأنانية ذكاء،
وتسمى فيه القسوة ضرورةً. أنتمي، وأعيشُ وأكتبُ لعالمٍ آخر من المجانين هم الذين
يهمني أمرهم، ويعنيني شأنهم. أكادُ أخرجُ من جلدي عندما أعيش موسماً اجتماعياً
مشبعاً بالغرباء. هل أصدقك القول أكثر يا صديقي الغريب؟ كل هذا ضغطٌ يشبه المهنة،
أنجو منه، هذه هي الكلمة الدقيقة. أن تنجو من الموسم الاجتماعي، وأن تنجو من كل
اعتبارات الضوء والتحقق، وأن تتجاوزَ كل هذا إلى تلك الذات الحقيقية التي تعرفها
تنتمي لمن، لهؤلاء الذين يحملون أوجاعهم الخفية، ويقاتلون معاركهم الداخلية،
وقليلٌ من يشعرُ بهم.
أحتاجُ للكتابة دائما لأذكر نفسي، وأحتاجها أكثر لأفهم عالمي. لذلك أكتب،
وعندما أخلو بنفسي إلى هذه المدونة بعيدا عن تلك المنصات المكهربة بالتفاعل السريع
أتذكر أنتمي لمن. أتعلم أيضا، على صعيد هامشي، طريقةً جديدة للكتابةِ عن ذاتي
بعيدا عن اللغة النمطية، أنا مجنون، لست مريضا، أنا مبدع، لست سياسيا، أنا كاتب،
ولست متحدثا باسم الحقيقة البشرية. نصف عُمري ذهبَ في عالمٍ مضطربٍ، ونصف نصفه ذهب
في عوالم المرض العقلي، وغياب الواقع، وبينما يبدو للبعض بسخفٍ بالغٍ أنَّ القيمةَ
في تجاوز كل ذلك، أعيش عالماً مختلفاً، القيمة فيه هو مواصلة الحياة وجعلها
منتجةً، ومثمرةً، ومليئة بالحب، والسلام، والعطاء، وأسعى بجنون لكي أكون خيِّراً،
وأقاوم بضراوة استعدادا هائلا للشر، كيف أشرحُ لإنسانٍ رومانسي يعيش حياةً ورديةً
معنى أن تكون جاهزا للشر في كل لحظةٍ من لحظاتك، وأن بينك وبين إعلان أقصى وأقسى
حروبِك سلسلةٌ من المواقفِ، أو حالةٌ من العداوةِ قد تؤدي إلى رمي الشرارة في كل
ذلك الجحيم الذي ينتظر سبباً واحداً فقط لتفرَّ منه كل المسوخ الحبيسة!
لم يعد يرهقني حسن ظن الناس بي، ولم يعد يزعجني سوء ظن الناس بي. كلاهما
سواءٌ لدي أمام هذا العالم الذي أعيشه. معركتي مختلفة عن ذلك الذي يبدو للإنسان
الغريب الذي يعرفني منذ عام واحد. معركتي مع هذا المسخ المشوه بالآلام والصدمات،
المصارعُ الأزلي للندم، والمقاوم اليومي للشر، هُنا مساحةُ وجودي التي تغنيني عن
تصديق تلك المشاهد الاجتماعية المتتالية، بكل ما فيها من رغبةٍ لتصديق أفضل ما
يكون عن الإنسان، أو تلك الجاهلة المرتجلة التي تضع حياة المرء في علبةِ
كبريت. أن تعرف عالمك، يعني أن تمسك
بقرارات حياتك، وأن تسعى إلى خطةٍ أفضل لتعيش، وأن تعلمَ أن الحياة ستفنى وأنت في
ميدان المقاومة، تحاول جاهدا الحفاظ على هذه البضعة الخيرة التي بك، وتقاتلُ
بشراسة أن تؤذي إنسانا آخر بلا سبب وجيه.
لا أعرف ما الذي دفعني لكتابة هذا الكلام، ربما هو إدراكي لتلك العزلة التي
تمنع العموم الكبير عن الخوضِ في هذه الكتابة التفصيلية، هل تتخيل أن الكتابة العلنية
أصبحت أيضاً شكلا من أشكال العزلة. لكي تنعزل في هذا الزمان الجديد عليك أن تكتب
مقالا! تخيل أي عصر تنقلب فيه معادلات الإنسان الداخلي والإنسان الخارجي. لتخرج من
ذاتِك، ولتعيش مع الناس، عليك أن تخرج بتدوينة قصيرة للغاية لا تتجاوز الخمسين
كلمة في منصة رقمية، ولتنعزل عن الناس ستفعل الشيء نفسه، ولكنك ستكتب ألف كلمة
تشرحُ فيها فكرة شبه متكاملة، يمكن للقارئ أن يخرجَ منها بقراءة أكثر دقةً عن ذلك
الذي تمرُّ به، وعندما يصل قارئك إليك، تصل الحلول، هذا غير المعالج النفسي الذي
يقرأ كل حرف في مدونتي ويطلب مني بإلحاح تقليل الكلمات المحلية التي تخرج من لساني،
ليسمح للذكاء الصناعي بترجمة كلامي قبل أن يعود لي بخطةٍ جديدة من دماغه الألماني
العتيد! أكتبُ هنا لأنني أحبُّ عزلتي، لأن هذا هو عالم الحقيقي، أما ذلك المشحون
بعشرات الآلاف من الذي أصبحوا يسمون الآن "متابعين" فلا أعرف ما الذي
أشعر به حيالهم، جئت لهذه الحياة لكي أكتب، أعيش لكي أكتب، حياتي مرتبطة بكل من
يقرأ لي، موهبةٌ بسيطةٌ في الوقوف أمام الكامرة لا تصنع عالما حقيقيا، ما أسخف هذه
الورطة، أن تكون إنسانا مضطربا يقاوم الشر الحبيس به، يتجنب أن يكون مؤذيا وضارا،
متحفزا للدفاع عن نفسه، وتجدُ نفسك في ذلك السياق الاجتماعي الذي يثقلك بالتوقعات.
ورطة جميلة عندما أنظر لها من سياق القيمة العلاجية التي تحققه له، ومرهقة عندما
أنظر لها من زاوية القلق الذي تسببه.
ماذا عساي أن أقول لك عزيزي القارئ، إن كنت قد وصلت لهذه السطور، فربما
لأنها نشرت في كتابٍ من المقالات، سأوقعه في معرض الكتاب، على أملٍ أنني وقتها لم
أضطر لخوض أشد معاركي ضراوة، وأكبر انتقاماتي شراسةً، على أمل أن كل الحياة
المليئة بالأعداء التي أعيشها قد وصلت إلى تلك الهدنة العمياء، على أملٍ أنني فعلا
سأعيش الحياة الطبيعية التي قد تكون أنت ممن يعيشونها، ماذا أقول لك عزيزي القارئ؟
لعلك جئت هنا لتتفرج، أو لتتعلم، أو لكي تبحث عن ثغرةٍ في منطقي، أو ربما لأنك عدو
قديم جاء يقرأ واقع الحال الجديد، على أملٍ أن يعاود إيذائي، أو على أمل أن يجدَ
طريقةً ما يسمم بها سعادتي المسممة وجوديا. لا أعرف ما الذي جاء بك إلى هنا عزيزي
القارئ، لكننا هنا وحدنا، في عزلة عن ذلك الانتشار الجارف السريع، وفي وحدةٍ مع
اللغة، نتفق على الإشارات، ونختلف في التأويل. لقد أتممت الألف كلمة التي جئت
لكتابتها، سنلتقي في مقالٍ آخر أيها الصديق، وسنلتقي في حالٍ آخر أيها العدو، أيا
ما كنت، شكراً لأنك قضيت بعض عزلتك في هذه الصفحة الملطخة بكل هذا السعير القلق.
معاوية الرواحي
الأحد، 10 مارس 2024
ديناميكية الاستمرار على الرياضة!
#اكتشافات_حديدية: