بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 مارس 2024

تأملات فجرية!

 من أصعب المواقف التي أواجهها كإنسان، ذلك التواصل المفاجئ من أبٍ هلوع، أو من أمٍّ هلوعة، أو من أخ، أو من أخت كبيرة، تلك الرسائل المفاجئة والتي تسأل عن أمر حساس للغاية، يتعلق بالمرض النفسي! صعبٌ جداً على النفس، أن أجد نفسي في ذلك الموضوع الذي من يُستشار فيه ليس مؤتمنا فحسب، بل يجب عليه أن يكون واضحا تمام الوضوح.


حكايتي مع علنية الاضطراب العقلي الذي أقاومه لم يكن خيارا بيدي، أصبح خيارا متاحاً للملأ نتيجة الطبيعة العلنية لاضطرابي، وهي حكاية أنفقت وقتا طويلاً في سردِها، وتوضيحها، من سنوات رفض التشخيص، واللعب بمضادات الاكتئاب، حتى سنوات الإدمان على مختلف المواد المخدرة، ثم ست سنواتٍ متتالية من العمل الشاق، وصناعة كل وسائل الاستقرار، وشبكة الأمان العائلية، والاجتماعية، وكل الاختيارات التي لم تكن سهلة إطلاقا، من أجل ماذا؟ الحفاظ على الاستقرار الذهني، والفلات، والهرب من شر نوبةٍ كاسحةٍ قد تقلب بحياتي رأسا على عقب.
لم أعد أهتم بالتشخيص الذي يلاحقني، الإطار الذي يجعلُ الآخر مرتاحاً في فهمي، التشخيص موضوع طبي، إجرائي، قانوني، أكثر من كونه علاجياً بحتا، ثلاث مرات يتم تشخيصي بثنائي القطب، ثم مرة يتم تشخيصي باضطراب الشخصية الحدية، وهما أبناء عمومة متقاربان في الوصف. قبل ست سنوات أدركتُ أنني إما أن أغالب هذا الاضطراب، أو سأسمح له بالفتك بحياتي، وبحياةِ من أحب. غرقت في عدة خطوط غير واضحة، الجانب الاجتماعي كان إحدى العقبات والتحديات، والتعامل مع الآثار العلنية لأشياء كثيرة يشكل تحديا مزمنا، فضلا طبعا عن الاضطرار للتعامل مع سفيه جاهل، أو لئيم شامت، أو ما هو أشد إيلاما، التعامل مع الناس الذين أخطأت في حقهم بلساني أو بأفعالي، هؤلاء أدخر لهما تعاملا يختلف عن الغريب السمج الذي يظنُّ أنه يملك استحقاقاً خاصَّا يسمح له بمد لسانه إلى حياتي، وطبعاً ثمة استثناء خاص للناس الذين تعرضت للأذى من قبلهم، معارك إما معلقة، أو مؤجلة، والذي أعرفه أنها لن تفتح من جانبي حتى يشاء الخصم غير ذلك.
بعيداً عن الأحقاد المتراكمة. لم أختر أن تكون حالتي معلنةً، وقد اضطرت عائلتي لفعل ذلك على أمل التخفيف من العواقب المروعة التي كنت بصدد مواجهتها، قضية عويصة، وصعبة، وامتلأت بالسجون، والهجرة، والتقارير الطبية، والهرب من المصحات، والمستشفيات، وقطع الأدوية، والاكتئاب، والهذيان، وكان ما كان من مسيرة إلكترونية حافلة بالخير والشر، وبالفكر والهذيان، وبالإبداع والكتابة، وبالصدامات والمواجهات، حتى بدأت رحلة التغيير الأولى قبل ست سنوات، ومنها والحمد لله، والشكر لجلالة السلطان، ولوالدي، ولعائلتي، حُل الإشكال القانوني في مسألتي، وبعدها، والامتنان الكبير لصاحب السمو ذي يزن، حُل التعقيد الاجتماعي، وشاء الله أن يمن علي بفرصة ثانية، أتمسك بها، وأفعل كل ما هو منطقي للحفاظ على سلامة عقلي من أي اضطراب قد يقودني لهاوية المواجهات، أبقي علاقاتي الاجتماعية في محيط صحي، وأدرس تخصص علم النفس الذي ينفعني بشدة، ولم تعد الحالة مع العمر صعبة المراس، ومع العلاج السلوكي، والأدوية، أكاد أطمئن إلى تكويني ما يكفي من تجربة المكوث في الواقع والمنطق الذهني النمطي، حتى أرتطمُ بكل قسوةٍ بهذا السؤال الوارد من غريب، يسألني عن قريب له، وينتظر مني أن أقول له شيئا مفيدا، أو عصا سحريةً تعيد كل شيء إلى "طبيعيته" .. يبقيني التواصل لمرة واحدة مع أي شخص يعاني من مرض نفسي، أو مع قريب له في حالةٍ من الهموم تمتد لأيام، ذلك الشعور بالمر بالخوف من قول الحقيقة، وأنَّ الأمر ليس سهلا، وأن الرحلة طويلة، وأن التعامل مع هذه الاضطرابات قد يكون مشواراً يمتد لسنوات، وكلما قاومت حقائقه العلمية، والمنطقية، ازدادت مرارة من يقاومه، وكلما حاولت أن تبحث عن الوهم المريح، تفاقمت لديك مشكلة جديدة.

أمرُّ بمشاكلي، واكتئابي، وظنوني، وشكوكي، وأفقد أعصابي أحيانا، وأتكهرب، لكنني تعلمت بالتجربة أن أخشى على من يحبني من مرارة الحسرات، وأبتعد عن المحيط العلني، هذا الذي تغير، أما أنا، فلم تتغير مغالبتي لذهني، بكل ما فيه من ذكريات سيئة، وبكل ما أعانيه من صدمات، وبكل الندم والغضب، وبكل الثنائيات التي تفرض نفسها علي.

قد أبدو مرحاً وبخير أحيانا، قد أبدو منهمكا في حياةٍ اجتماعية مليئة بالناس، وأنا أحترق قلقا، وتوترا، ورغبةً في البعد والعزلة، قد أبدو عكس ما أشعر به لأن هذا هو الواجب الاجتماعي، والامتثال القسري الذي يعاني منه أي إنسان طبيعي أو مضطرب، وقد يبدو للبعض أن مشكلتي قد حلت، وأنني قد وصلت [للعلاج] وهذا غير صحيح، الحل السحري، والواقع المثالي كله ليس أكثر من آمال متوالدة من ظن الإنسان أن وضعا ما هو "المثالي". وهذه الكلمة، "المثالي" مثل كلمةِ "الكمال" مثل كلمات أخرى، صارمة، وسامَّة، ومدمرة لكل العمل الشاق الذي يبذله إنسان من أجل نفسه أو غيره، لا يوجد وضع مثالي، توجد رحلة قد لا تكون شاقةً بقدر ما هي طويلة، وتأخذ وقتها، وقد يتخللها الإخفاق، والتعب، وربما الفشل، وربما النكسات!

تتناثر الشرارات في قشِّ الطمأنينة، مع صوتِ أب هلوعٍ يسألني عن ثنائية القطب، أشرحُ له أنني لا أستطيع خدمتك بأي شيء، أستطيع أن أدلك على الذي يمكنه مساعدتك، أن أرسل لك رقم طبيب أو معالج، أو أدلك على موقع إلكتروني تستطيع أن "تفضفض" فيه بحرية، وبسريةٍ، أما غير ذلك، فليس بيدي، من الأساس، علمتني تجربتي الشخصية أن أبتعد كل البعد عن عوالم العلاج النفسي! قد أكون متحدثا تحفيزيا، أو كاتبا يلقي الضوء على مناطق مجهولة عن العموم فيما يخص الأمراض النفسية، أو قد أكون [ناشطا اجتماعيا] يتحدث عن القضية النفسية، وحقوق المرضى، أما أن أجابه بهذا السؤال المر! يا إلهي! من الذي لديه الإجابة! لا أحد لديه الإجابة، لا توجد إجابة، توجد رحلة، وستأخذ وقتها وتعبها!

الاضطراب النفسي في عالم الأدب جميل، ولافت، حتى تسميته "الجنون" لا تخلو من تحدٍ للوصمة التي تحدث في العالم اليومي. من الأسهل أن تكون أديبا، مجنونا "مصرقعا/مبدعا" غريب الأطوار لأنك مبدع، هذا سهل، وكم يحلو للمحب أن يؤطرك في هذا الإطار، لأن ذلك أسهل عليه من الصفات الأخرى "مريض نفسيا، مضطرب، فاصل، غير عاقل" .. وهل الامتثال الاجتماعي غائب عن المعادلة! أحيانا من فرط زهقي من جاهلٍ يدخل نفسه فيما لا يعنيه، أجدُ أن هذا القناع أسهل من مناقشة سمجٍ لا يعرف حدوده، أو غبي يريد أن يؤكد تحيزاته بسؤال عن "الجنون" وكيف يكون! أؤكد له أن الجنون أسهل من الغباء، وأن فقدان العقل أسهل من الجهل، نعم، أستطيع أن أؤكد هذا بسلاسة ويسر، فالمجنون يعقل، لكن الجاهل يعلم الله متى يتعلم، ومتى يعلم!

لا أستطيع مساعدة أحد في حل إشكاله النفسي، وأقصى ما لدي من قدرة هو حديث الأقران، وعموميات علم النفس الإيجابي، ذلك العلم المظلوم من قبل قطيع آخر من "الجاهل المتعلم" ومن الأساس هذا الموضوع الحديث عنه يطول ويطول، لما في هذا المجال من تداخلاتٍ مع مجالات أخرى، تكاد تكون بديلا للإدمان على السوشال ميديا، أو بديلا لإدمان المسلسلات، أو بديلا لليوتيوب الذي بدلا من فتحه في صفحة إلكترونية تقوم باستئجار نائح واقعي يخبرك عن جمال الحياة، نعم هذا موجود، ولكن علم النفس الإيجابي موجود أيضا، وله تطبيقات كثيرة في عون الأقران لبعضهم البعض، وتشجيعهم على التغيير، وهذا هو الهدف الضمني الذي يجعلني دائم الكتابة عن الرياضة، وعن تغيير الحياة. أكتب وأنشر لجمهور خفي، صامتٍ، تربطني به علاقة قوية، لمئات، أو آلاف يعانون من وطئة اضطرابهم، هؤلاء هم الذين يمدني بالحياة، وبالطاقة، وهؤلاء هم الذين أعتبرهم المتلقي الأول لكل نشاطي الاجتماعي، أما البقية، الغارقون في ترف عقولهم، بكل صدق! لا أعبأ بهم، ولا بأحكامهم، ولا بمعاييرهم، ولا حتى بتطلعاتهم تجاهي مهما بدت طيبة ومشحونة بالأمل، أعلم حدود ما أستطيعه، وأعلم أين أقف أمام التحديات المرتبطة بشيء مختلف حوله اسمه: [الحياة الطبيعية] هذه المسكينة التي تعريفاتها تفوق أنفس الخلائق حتى!

يؤرقني ذلك الصوت الهلوع: "يعني ما شيء حل!!!"

هذا يشتكي من صدمة لابنه الذي يمر بحالة ذهانية، هذا شخص له مكانة مرموقة في مؤسسة تعليمية وفجأة يرى أشباحا ويسمع أصواتا، وتتوالى الحكايات التي لا أريد أن أسمعها، ولا أحتمل أن أعرفها، أقاطع من يتصل بي أو يتواصل معي كأنني "حاسد" أعرف الإجابة السحرية ولكنه لا يريد أن يقولها لأحد، لا أريد أن أعرف عن مشاكل الآخرين، لا أريد حلها، لا أستطيع ذلك، لست مؤهلا، ولا أريد ذلك، أقصى قدراتي هي ذلك الفعل العمومي بالكتابة والنشر، تلك الإيجابية التي قد تنفعك بعد أن تحل مشكلتك الطبية، عمومية، مرتبطة بتجربة فرد يقاوم، أكثر من ذلك، الحلول رحلة، عليك أن تبحث عن الشخص المناسب لحلها، وعليك أن تتحمل وعورة الطريق، وأن تتوقع بعض الإخفاقات، والنكسات.

- "يعني ما شيء طريقة ثانية"

لا توجد طريقة ثانية أو أولى، توجد ألف طريقة، عليك أن تبدأ، سواء كنت زوجاً تعاني زوجته من اكتئاب ما بعد الولادة، أو كنت زوجة يعاني زوجها من وسواس قهري، أو كنت أباً وصدمك ابنك المبتعث بنوبة هوس كبرى وتم تشخيصه بثنائي القطب، أو كنت أما لطفل من أطفال التوحد، أو أنت نفسك بدأت تعاني من الحديث القهري، أو مشكلة عصبية، أو شكوك تدمرك، أو ترى أشباحا ترقص في الجدار، أو فقدت قدرتك على النوم أكثر من ساعتين، أو أصبت بشلل مفاجئة في حالات القلق، أو، أو، أو. لا توجد طريقة أولى، توجد ألف طريقة بعد الثانية والثالثة، يوجد مشوار، قد لا يطول كما تتوقع، لكنه ليس قصيرا كما تتمنى.

أكتب عن تجربتي لعلها تنفع الآخرين، وأواصل المقاومة لأن هذا واجبي تجاه نفسي وتجاه من أحب، غير ذلك، أشعر بامتنان للحياة، ولطبيبي الذي أتابع معه، وللمعالج النفسي الذي أثرثر معه بالساعات، ولزملائي في قسم علم النفس بكلية مزون، وأشعر بامتنان لاختياري هذا التخصص، والذي أكد لي أن في علم النفس أكثر من العلاج النفسي، والذي به أناس مبدعون، ورائعون، لا أحتمل ولا أريد أن أكون منهم.

الشيء الوحيد الذي أجد شجاعة في الحديث عنه، عن أي شخص مضطرب نفسي، هو أنَّ الذي يحتاج للتوعية والفهم قبل الشخص الذي يعاني من المشكلة، هم الذين حوله، هنا أنطلق بصدامية ومجابهة، الذين يحتاجون لفتح عيونهم هم ذوو كل من يعاني من اضطراب نفسي، يحتاجون إلى وضع مصلحته العلاجية فوق مصالحهم الاجتماعية، يحتاجون لشجاعة للتصدي للوصمة الاجتماعية، يحتاجون لحمايتهم من بطش الذين يستغلون غياب بصيرتهم المؤقت، أو الدائم.

أفعل ذلك لأنه دين أدين به لرب العباد، وكل يوم يمضي أشعر بأنني أدين لله بفعل كل هذا، ليس من أجلي، ولا من أجل أي شخص آخر، هذا هو دافعي الذي يجعلني أستمرُ رغم كل شيء. رغم كل الواقع الاجتماعي الذي يحيط بي، ورغم كل الحلول التي سخرها الله لي.

الحمد لله أولا وأخيرا، هو المنعم، والرازق، الفضل لله، والشكر لله، ومن تلك الحياة التي كنت فيها من نوبة وراء نوبة، وسجن بعد سجن، وانهيار علني بعد انهيار علني، واكتئاب يمتد لأكثر من عامٍ، من تلك الهلاوس، والجنون، والهجرة، وكل ما تفوهت به لساني بوعي أو بغير وعي، بمخدرات وبدون مخدرات، رغم كل الأيام التي كانت فكرة الانتحار هي الخيار المنطقي الوحيد! عبر الله بي إلى أيام أخرى لو قال لي أحدهم أنني سأعيشها لبصقت في وجهه من فرط ضخامة التفاؤل.

هذه الرسالة التي أؤمن بها، وهؤلاء الناس الذين أنتمي لهم، فئة ليست معكم أيها الأصحاء عقليا، ليست منكم، هؤلاء هم الذين أنتمي لهم، وأقاوم معهم، وهم الذين أستمد منهم القوة، والطاقة، والعزيمة، وهم الذين بقدر عجزي عن مساعدتهم، لا أعجز عن تشجيعهم، وتحفيزهم، وتذكيرهم، بأن الحياة ممكنة، وأن الطريق إلى حياةٍ وصحة نفسية أفضل ممكن، وله ألف طريقة، وأن لكل أزمة نهاية، ولكل وعكة شفاء. هذا ما أؤمن به، وهذا ما لأجله أفعل ما أفعله، وهذا قسمي فيما أملك، أما قسمي فيما لا أملك، هو أنني لا أملك الحلول، ولا أضع نفسي في طريق الحلول، وكل الذي بيدي هو التذكير الدائم بالرحلة، والمكوث في منطقة البصيرة أقصى وقت ممكن. ونصيبي في هذا جميل، ويكفيني، والحمد لله على كل حال.

معاوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.