لعلك تتساءَل في قلبِك، في هذه اللحظة، عن نُبلك وأنت تغفر، تُسامح، وتبحث للمرة الألف عن العذر لمن أذاك. ليس مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا خمس، تتساءل بحرقة وبحسرة عن السبب الذي يجعله ليس مثلك، لا يشعر بالندم، ولا الحسرة، وتنبش في المتناثر من كلماته وأعذاره عن أي شيء يبعد عنك تلك الحقيقة المُرَّة، أنَّك أمام إنسان سيبحث عن أي طريقة ليؤذيك ما دامَ هذا لن يؤذيه.
أبسطُ طريقة لأي إنسان يؤذيك فيه هو أن ينال ثقتك. وبغض النظر عن الطريقة، ينالها بالضغط، والتهديد بالابتعاد، أو بلي الذراع، أو بالخداع والتلاعب، الذي يشترط أن تثق به دون قيد أو شرط هو أول إنسان يجب ألا تثق به! هذا لا يعني أن تجعل منه عدوا، لكن بالتأكيد لا يجب مطلقا أن تجعله قريبا للغاية، قريبا للحد الذي يمكنه من تحقيق كافة التناقضات التي قد يكون هو أول من يجهلها عن نفسه.
ليس مفاجئا أو مدهشا في هذه الحياة أن يؤذيك إنسان يكرهك، ثمَّة بشرٌ تؤذي الآخرين دون أي موقف شخصي. الشخص الذي يكرهك أقل ضرراً بكثير من الأذى الذي يكون مبنيا على الحب والثقة، هُنا تصنع جروح الحياة المريرة، والتي هي للأسف الشديد لا شفاء منها، ثمَّة شيء يتغير بك للأبد عندما تمر بهذا الموقف، شيء لا شفاء منه، ولا تجاوز له.
والسؤال الكبير هو: لماذا سمحت لهذا القدر من الأذى أن يحدث؟ وهُنا تأتي حماقة الغفران المتكرر! عندما تتعامل مع إنسان يفرش لك طريق الحب، والثقة، باستحقاقٍ ثقيل، قد تظنُّ أنَّه يبحث عن الفرصة التي يعوضك فيها عن أخطائه، وقد يعترف ببعض الأخطاء الصغيرة، لكنك مجددا تقع في الفخ الكبير، تتمنى أن يكون هذا شيئا خارج طبيعته، تصنع ألف حجة، لأنك مصاب بالأمل غير المنطقي، الفخ نفسه يتكرر، تصدق، تثق، ومن ثمَّ تكتشف أن الذي أذاك مرارا وتكرارا لا يريد سوى أن يبحث من لسانك عن براءته، يريد أن يقنعك أنك كنت تستحق كل ذلك الذي حدث من جانبه. الذي أذاك ليس مشغولا بتعويضك، أو بالندم، الذي أذاك أذى جسيما في هذه الحياة لا يبحث سوى عن براءته من جرائمه في حقك، وكلما كانت هذه الجرائم شديدة، أو مرتبطة بالعنف، أو الأذى المعنوي الجسيم، كانت طرقه أكثر تناقضا في البحث عن أي شيء يجعلك أمام عينيه تستحق المزيد!
وأنت غارق في أوهامك أن هذا الذي أصاب حياتك بالأزمات نادم، ستراه يقترب منك مرارا وتكرارا، ويبحث عن الطريقة التي يؤجج بها ما في نفسه تجاهك، وسواء كان يفهم ذلك، أو لا يفهمه، تقع أنت كالغبي في الفخ نفسه، وتقترب، وتندفع عاطفيا لأنك مشغول بالأمر، ولا تستطيع حسمَ ذلك الطوفان الهائج من الأمل، أن البشر يتغيرون للأحسن، وأنَّك بغفرانك قد تكون سببا لتغييرهم، تود لو أن تأخذ الحياة مسارا آخر، وأن تعيش نهاية سعيدة، وأن يعتذر لك على أذاه الشديد لك، وأن تغفر له، وأن تقف معه ليكون إنساناً حقيقيا، صادقا، يعترف بخطئه، ويرفض أن يكرره!
ونعم، هذا يحدثُ، في ظروف عجائبية يحدث، مثل المعجزات النادرة، يحدث الندم الصادق، ولكنه لا يحدث في وقته، دائما يحدث بعد فوات الأوان، بعد أن يغالي الطرف المؤذي في أفاعيله حتى يعلم هو نفسه أنه بالغَ، وأغلب الظن حتى اعترافه وندمه ليس أكثر من وسيلة تلاعب ربما فقط ليتجنب ردة الفعل، أو ليتجنب أن يحاسب على أخطائه.
كم من العلاقات التي بدأ العنف فيها بصفعة وانتهى بطعنة سكين! ماذا بعد طعنة السكين؟ الكثير من الندم، والشعور العارم بأنَّ الطرف المؤذي فقد السيطرة، قد يندم حقا، وقد لا يندم من الأساس، وإنما يضطر لمواجهة عواقب أفعاله، وقد يحدث ما هو أسوأ، ونسمع عن جريمة القتل المفاجئة التي لم تحدث بين ليلة وضحاها.
التعامل مع الأذى سؤال كبير جدا، وجميع أجاباته صعبة. أول الحلول هي أي تتيقن في قلبك أنَّه تماما يمكنك العيش بعيدا عن أي إنسان أذاك، لست مضطرا لتغييره، لست مضطرا للتعايش مع عنفه، لست مضطرا لتقبل تناقضاته، وحججه الواهية، لست مضطرا على أن تكون أنت طبيبه، أو كيس ملاكمته، لست مضطرا لممارسة الغفران.
وقد تعيش كل هذا وأنت لا تعلم أنك حصنت نفسك، ليس بأن تكون جاهزا لحربٍ تدافع فيها عن نفسك، ولكن لأنك توقفت عن الاهتمام، هذه بداية الشفاء، لم يعد ذلك الكذب يخطب ود أذنيك، ولا تلك الآمال بالتغيير أصبحت تهمك في شيء، تصبح إنسانا لا يهتم، يحمل جروحه بعيدا عن من سببها، ولا يراهن على أن الشفاء سيكون من السكين نفسها التي سببت الجرح.
بعض النهايات لا تحتاج حربا، تحتاج فقط أن تتوقف عن الاهتمام، وأن تبتعد، وأن ترفض تصديق الموَّال المكرر عن هذا الإنسان الذي يريد مصلحتك، أو يريد لك الخير، أو يفتح ليل نهار صناديق الخصومات، الإنسان الذي يتدخل في حروبك ليختار أيها تكسب وأيها تخسر، الإنسان الذي يتصيد من نكساتك وأخطائك ما يجعلك أقرب له، وأكثر تعلقا، الإنسان الذي يبحث عن أدنى سبب ليؤذيك، المضطرب الذي لا يفهم نفسه، ولا يفهمك، ولا يستطيع أن يسيطر أفعاله، ويلومك على ردات فعلك.
بعض النهايات تحتاج فقط أن تتعلمَ القليل من اليأس الصحي، والكثير من الابتعاد المحكم، بعض النهايات تحتاج إلى أن تسمى باسمها: نهاية ..
أن تتوقف عن إيذاء نفسك بالأمل المزيف، وأن تتعايش مع الخسارات كلها، وأن تتنازل مقدما عن أي منافع معنوية، أو مادية، أو شخصية، أو نفسية تأتي من إنسان أذاك بشدة ذات يوم.
الأمر لا يتعلق بالحقد، ولا بالانتقام، ولا بالتربص المرضي، ولا بتلقين الدروس، الأمر يتعلق بتعاطفك مع نفسك، وسعيك لإنهاء المجادلات التي لا تنتهي مع إنسان يريد منك إما صك براءة، أو عذرا ليوقع بك المزيد من الأذى.
ثمة حالات لا يهم فيها أن تفهم، ولا أن تجد السبب، ولا أن تجد الإطار النفسي أو الفكري أو الفلسفي العريض للسبب الذي جعلك تتعرض للأذى، هذا كله جزء من الوهم الكبير أنَّ الذي أذاك يريد أن يعوضك، جزء من تعايشٍ خاطئ مع ظرفٍ لا يجب أن تستمر فيه، بعض النهايات ليست سعيرا، ولا نارا، ولا فقدا، ولا حزنا شديدا، بعض النهايات باردة، مليئة بالرماد، شاحبة، خالية من اللون، كالماء المعكّر بالطين، من الغباء أن تقضي وقتك محاولا تصفيته.
لا تغفر، لا تحقد، لا تنتقم، لا تقترب، وانس بسلام إن استطعت، ولكن لا تضعف وتعيد إقناع نفسك أن بعض العلاقات في هذه الحياة يمكن إحياؤها، ثمة يأس حميد، فالأذى سببه اقترابك، وتصديقك، وثقتك، إن كنت ستصدق، وستثق، فلا تقترب، وإن كنت قد حسمت موقفك فلا يفرق لديك القرب ولا البعد، ولا يجب أن تشغلك ذاكرتك بالأيام البعيدة، أو بالأسئلة المعقدة لما كان ينبغي أن يكون!
في حياة كل إنسان جرحٌ مثل هذا، ولكل إنسان طريقته في الشفاء، والتجاوز، والتقبل النهائي أن بعض الأحزان في هذه الحياة غير متوقعة، ولا أحد يستحقها، ولكنها حدثت فحسب! أنت الذي عليك أن تتجاوزَ كل ذلك وتكمل حياتك، وتضع الأمل في نصابه الصحيح، بعيدا عن محاولة إنقاذ الماضي من حقيقته!