لا أعرف لماذا جئت هُنا! إلى تويتر أولاً، ثم إلى السيارة ثانيا! هل هو حسن حظي أم سوء حظي أنَّ غرفتي في رحلة صلالة رباعية الدفع هي إحدى اثنتين بلا اتصالٍ قوي مع الإنترنت؟ المنزل كاملا يتفيأ تحت ظلال العالم الرقمي، أما أنا!! في تلك المجاهيل في الجانب الآخر من المنزل بهاتفٍ معطلٍ يكاد ألا يصله الاتصال إلا لينقطع!
أريد أن أكتبَ، قبل أن أجنَّ تحت هذا الضغط الشديد. في كُلِّ صلالةٍ في ذاكرتي أصاب بهذا الجنون مرارا وتكراراً، رحلات يومية، وضغط فوق طاقة إنسان معتادٍ على العُزلة والبحث عن ملاذ للتأمل. أتذكر الحياة الاجتماعية المكثفة التي كنت أعيشها في عنبر السجن! الوضع نفسه تقريبا ما عدا اتجاه القفل في الأبواب! بشرٌ في بشر، طوال الوقت، طوال اليوم! ما عدا الليل الذي لا يجيد الحياة فيه سوى عدد بسيط من السجناء الذين يضحون بوجبة الإفطار. وإن كنت سجينا ليليا معناه أن تضحي بوجبة الغداء والإفطار، ويبقى لديك العشاء الذي لا تعرف إن كان سيكون [دالاً] يشبه الماء، أو مجموعة باهتة من المأكولات السريعة، وكأنها عذر للطعام يقدم في الخامسة مساءً وتبقى بعدها حتى صباح اليوم التالي بلا [كانتين].
ضغطٌ نفسي حقيقي ألا أكتب كل يوم. وأنا أكتبُ لنفسي، لم أعد متعلقاً بالآخر كما كنت في سابق السنين، كل يوم يمضي يقل فيه هذا التعلق القهري. أتحول إلى أربعيني حقيقي، وأتساءَل هل سيأتي يومٌ وأفقد فيه تلك السذاجة التي لا تخطئها عين قارئة؟ هل أنا أجفُّ أم أنضج؟ هل هذا الذي يسمى "أشدَّه" وما بعده طريق الانحدار؟ لا أعرف ما الذي أفعله حقا في هذه الحياة وهذا يسبب لي آلاما ذهنية لا تطاق! لا أعرف ما هي مهمتي في هذه الحياة، ولا أجد إجابةٍ سوى أن أحافظ على حقي في الحياة حتى أعرف ما هي هذه الحياة من الأساس!
لا أعرف لماذا جئت للسيارة! ولماذا جلست في الكرسي المجاور للسائق. لا أعرف لماذا أخرجت لابتوبي وبدأت أكتب، ولا أعرف لماذا لم أسمِّ اللابتوب حاسبا آليا كما أفعل عادةً. أكتب لنفسي، هذه لحظتي، وماء وقتي، لا أعرف أي شيء في هذه اللحظة، ولا أعرف لماذا أكتب! هكذا بقهريةٍ عدوانية تُخْضِعُ الأصابع تحت طغيانها المُستبد، منصاعاً إلى هذا النداء الغامض، طائعا مرددا لبيك لنصٍّ آخر، لا يعني أي شيء في هذه العالم لكنه يعني لي الكثير، وربما يعني غير القليل لقارئا أو عشرة، لصديقٍ يتابع من بعيد، أو لبعيد يقرأ دائما، كلها احتمالات مؤكدة، وكلها احتمالات خفية، كل شيء ضمني في هذه اللحظة، ولا شيء مباشر سوى الوقت!
هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها من السيارة! فعلت ذلك من قبل لعله كان عام 2008، على جانب ووقفت سيارة الشرطة، واستغرب الشرطي وسألني: أين السائق؟ قلت لها أنا السائق! نظر لي باستغراب وقال لي: ولماذا تجلس في الكرسي الجانبي!
أشرت إلى اللابتوب الذي يجلس بحضني وقلت له: لأن المقود يعيقني!
ينظر لي باستغرابٍ ثم يسأل باستغراب: وما العاجل لديك؟
قلت له: أريد أن أسلمَ مقالاً للنشر!
سأل: أنت صحفي؟
قلت: أكتب مقالات في الجريدة؟
بدا غير مهتم بأعذاري، تأكد من رخصتي وتأمين السيارة ثم قال لي بلطف: يفضل أن تذهب لمكان آخر هذا المكان به خطورة!
ركبت سيارتي وذهبت إلى مواقفَ في الحي التجاري، وكتبت شيئا ما! يشبه هذا الذي أكتبه الآن، شيء ما، مهم جدا بالنسبة لي، وغير مهم على الإطلاق في هذا العالم الذي ينتظر حربه العالمية الثالثة!
لعلي أكتب لأنني اريد النوم! يسالني أوس اليوم وأنا أقود السيارة في الضباب والجبال: خالي. ما بك تكلم نفسك؟ وكأنك تحاور أحدا ما؟
أجيبه: لأنني أريد أن أكتب، وعاجزٌ الآن عن الكتابة؟
يسألني: ماذا يعني أن تكتب؟ أن تكون كاتبا!
أقول له بصدق الأرض: لا أعرف. لكنني أعرف أنك تصاب أحيانا برغبة ملحة في الكتابة تصل إلى حد تدمير كل لحظاتك من أجل وقتٍ تكتب فيه!
صلالة! جمالٌ فوق طاقتي، محبة تفوق احتمالي، صدق يثقلني بالرغبة في الصدق. كم كنت سعيدا عندما كنت مجنوناً خاسرا لكل شيء في الحياة! على الأقل، ليس لدي مجتمع أخاف ردات فعله، ولم يكن لدي مستقبل لأخاف عليه، مدمن مخدرات، معتل نفسيا وعقليا، مسكون بشياطين لا تعد ولا تحصى، تائه متذبذب بين الإيمان والإلحاد، لا يريد شيئا! لا يخاف من أي شيء، مأساة تمشي على قدمين وغضب يتراكم وينتظر أن ينفلت دفعةً واحدة، رغم مأساوية كل تلك الظروف لكنني كنت سعيدا حقا! بمعنى الكلمة! كنت لامباليا، لم أكن أقلق هذا القلق الشديد، والحياة كانت "هجلو" هذه الكلمة التي فقدت طعمها في حياتي، وخسرت حقيقتها في وجودي!
كنت عبثيا محترفا، بوهيميا مخلصا، فوضويا حقيقيا، وكم أشتاق إلى ذلك الإنسان الناصع في قبحه وجماله! أشتاق إلى صفاء لحظاته، وأفزع وأفرُّ من جسامة خساراته! وما أشدَّ خساراته! وما أفدحها!
كل شيء في صلالة يفوق قدرتي على الاحتمال، يفوق قدرتي على تصديق الجمال في هذه الحياة، هذا الزحام المتفق عليه يفوق قدرتي على الاندماج مع البشر، هذه المحبة الحقيقية التي أجدها صافية وواضحة تفوق قدرتي على أن أغفر لنفسي الكثير، تتجاوز ندمي الوجودي، وذكرياتي التعيسة، وأيامي المظلمة! كل شيء في صلالة يفوق قدرتي على الاحتمال! هذا الجمال فوق طاقتي!
كتبت، واشعر أنني هدأت، سأقرأ غدا الذي كتبته وسوف أنتبه إلى شيء ما! شيء ما جديد لم أكن أعرفه من قبل، وسأبقى متسائلا عن ماهية هذه اللحظات العجيبة التي تنطلق فيها الأنامل وكأن لها إرادة منفصلة عن صاحبها، تكتب شيئا ما، وكأنه تخلق تلقائيا. شيء ما، سألقاه غدا بدماغ شبع من النوم، وبذهنٍ بدأ ينتبه لواجبات الحياة مجددا.
أهمس لنفسي بهلع بعد أن أستيقظ من النوم: أنا أستطيع النجاح، أنا شخص اجتماعي، أنا إنسان جيد، أنا إنسان خيّر، أنا أحب أن أفعل الصواب!
بهذه البلاهة المفرطة، وهذا التعزيز البدائي! وتنجح هذه الحيلة، وتنقذ صباحي من يأس لا يليق بصلالة، ومن فتور لا يليق بهذا الخريف الناطق بالحياة!
لا أعرف لماذا جئت للسيارة، ربما لأحقق هذه الرغبة السخيفة أنَّ الكتابة ممكنة في كل مكان وزمان، ربما لأدفع نفسي دفعا إلى عالم الرحلات، إلى عالم الخلوات في الطبيعة، إلى كل ما يخالف المدنية، ما عدا الإنترنت، وهذه الشرائح، والشاشة، والموصلات التي جعلت لحظة الكتابة هذه ممكنة!
لا أعرف لماذا جئت لأكتب، ولا أعرف لماذا هذا مهم بالنسبة لي، ولا أعرف لماذا لم أعد أعبأ بالفواصل والترقيم، ولا أعرف لماذا صرت أكتب [اللابتوب]، ولا أعرف لماذا صرت أحب الكتابة بالعامية، ولا أعرف لماذا لم أعد أعبأ مطلقا بالآخر، الناقد المتعالي، أو القارئ المشحون بالاستحقاق، أعرف أن أحدا ما سيقرأ هذا الكلام كله، شخصا واحدا، يقرأ كل ما أكتبه، لعله واحد، ولعلهم عشرة، ولعلهم ألف، كل قارئ بعد الواحد يكفي ليجعل الكتابة مهمة مشاركة، وليست مهمة بحث عن الخلود! أن تكون وحدك، ولكن أحدا معك، هذا هو الشعور الذي يجعلني أنشر هذه السطور في تويتر! وكأنني أعاند طبيعة هذه المنصة التي تمنحك المال فقط بعد أن تمزق ما تكتبه إلى عشرات التغريدات القصيرة! كان يوما بهيجا وجميلا عندما أصبح تويتر بهذا الشكل! وسقطت سطوة عشاق النص القصير الخالي من التفصيل والمليء بالحقائق المباشرة! يا إلهي، كما كان تويتر مليئا بالكثير من اليقين! خاليا من المجادلة، مهرجان من المتوازيات اللانهائية!
اصبح هذا المكان أجمل، بكثير مما كان عليه. لم يتغير عن كونه أشد المنصات سمية، لكنه أيضا أكثر المنصات الصديقة للصراحة وللوضوح! يؤسفني أن تويتر لم يكن هكذا في أيام جنوني! ربما هذا لحسن حظي. لا أعلم ماذا كان يمكن أن يحدث لو كان تويتر بهذا الشكل في تلك الأيام التي كنت أكتب فيها عشر ساعات يوميا! أكتب بلا توقف، أكتب كأنني أكتب للمرة الأخيرة!
صرت أكتب وأنا أعي أن هناك مرة قادمة، أكتب لأن هذا وقتي، أكتب لأن ذهني يحضر بهذه الطريقة، وكأنني أستدعي ماردا من شياطين الذهن الخفي لكي يهديني الطريق، لكي يخبرني بمشاعري التي أشعر بها، أكتب لأن صلالة تُنطقني بغير ما اعتدت، والمكان الصادق مع غيره يدفعك لتكون صادقا مع نفسك! شيء ما من سحر صلالة الخفي يجعل الكتابة مختلفةً، كنت غبياً عندما هاجرت إلى بريطانيا، كان يكفي أن أنتقل للحياة في ظفار، هُنا حياة أحبُّ ألا أغادرها، حياةٌ من المؤسف أن أكون فيها غريباً، ومن المؤسف أن أكون فيها بعيداً، قدرٌ لم يحدث، وأمنية ستبقى دائما قيد التمني!
صلالة، حيث الصدق، حيث الوفرة، حيث هذا الانطلاق والتداعي الحر في الكلمات والأفكار، المطر يسقط على سطح سيارتي، والبطارية الاحتياطية تكفي لشحن اللابتوب عشر ساعات إضافية، لا أعرف إن كان ثمة لابتوب بلوحة مفاتيح حقيقية به خاصية مقاومة الماء! لعل الموجود والمتيسر هي تلك [الآيبادات] القبيحة، بلوحات المفاتيح ذات اللمس! يا إلهي! ما أقبح هذا الزمن الذي تقبل فيه الجميع أن أزرار الحروف ليست هي الطريق الأجمل للكتابة!
سدنة البطء! عشاق القلم والورقة هم ورومانسيتهم التي لا تناسب الجميع، كنت أظن أنهم هم آخر المزعجين في أزمنة الكتابة! أشعر أنني أغفر لهم بعد أن حلَّت لعنات شاشات اللمس على كوكب الكتابة!
لا أعرف كم ساعة من الكتابة المتصلة تستطيع هذه السيارة منحي إياها! أعرف أن كل شيء متعلق ببنزين السيارة، [ودينامو التشارج] التي تغذي البطارية، ومعي بطارية أخرى احتياطية، أربعون ساعة ربما؟ ثلاثة أيام أو أربعة من التخييم، ربما أكثر!
أظن أنني عرفت الآن لماذا جئت لأكتب! لأن الغرفة بجدرانها تشكل لي سجني الآخر في مسقط، سجن الزحام، والصهيد، والحر، والصيف الحارق! سجنُ الهرب من الأماكن المفتوحة! كنت أتمنى أن أكتب هذا كله تحت المطر، لا أعرف ما الأفكار الجديدة التي ستتولد من ذهني! سقف سيارة يكفي، ربما غداً معطفا مضادا للمطر، وحاسبا آليا مقاوما للماء، لعلها تجربة سأعيشها قريباً مع بعض الاستعداد! ولكن طبعا، لا وألف لا لآيباد وشاشة لمس! هذه خيانة للكتابة، على الأقل وفق تعريفي، ووفق اثنتين وعشرين سنة وأنا لا أغادر لوحة المفاتيح فيها أبداً.
هل سيتسع العمر لأكتب؟ عن الدراج الذي عشتُه، والآن عن قائد السيارة الذي يحمل متاعا يكفيه لأيام وأيام؟ عن أيام بريطانيا، عن أيام النيبال؟ عن أيام الوثبة؟ عن أيام دارسيت، عن أيام الخوض؟ عن أيام الجناح الأسود، عن الأيام الغريبة في الباطنة؟ عن الرحلات، عن الجنون؟ عن العربدة؟ عن البوهيمية المنفلتة من عقالها، عن كل ذلك المهرجان الذي انتهى إلى مأساة عمومية لا تخلو من بعض الجمال، ولا تخلو من الكثير من القبح!
في صلالة، لا أشعر أنني مسخ! ولا أشعر أنني أكره نفسي، ولا أشعر أنني ذلك النادم المحاصر بالخطايا، أشعر أنني شفيت، شفيت من رهابي الاجتماعي، وشفيت من تمزقي الداخلي، ونسيت أنني مريض نفسيا، ونسيت أنني ذلك المشاع الذي يحب كثيرون أن يكرهوه، ويكره كثيرون أن يحبوه، في صلالة، اشعر أنني مع الذي يحب أن يحبني بصدق، ومن يحب أن يكرهني بصدق، هذا يكفي، هذا الصدق يكفي، هذه التجربة تكفي، كل شيء يكفي، هذا الجمال فوق طاقتي، حقاً حقا فوق طاقتي!
معاوية