بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 أبريل 2022

لماذا يتدين البعض؟

 يتساءَل البعض عن سرِّ الالتفاف المجتمعي على التيار الديني. ولستُ الآن بصدد نقد مشكلاته، فهي كبيرة وكثيرة، ولكنني بصدد الحديث عنه كعلاقة فرد مع منظومة اجتماعية. لماذا يلتفُّ الناس حول [المطاوعة] مع نزعة يمارسها بعضهم للغلو، وللتعسير، وأحيانا من بعضهم للتشدد والصدام؟

سؤال الحرية الفردية كبير، وله في الدين تأسيس فقهي، وإيماني، وشرعي. وكذلك على صعيد المنطقيين، والفرديين، أيضا هُناك تأسيس، ويأتي الخلاف حول مدى تدخل الفرد المتدين في سلوك الآخرين. حالة السلام الاجتماعي دائما تأتي عندما يكون الحوار فكريا، دون صدامات أو قمع أو وصاية.
عندما أقول المنظومة الدينية الاجتماعية فأنا لا أقول بالضرورة [الدين] فالدين أشملُ بكثير من أي جماعة اجتماعية أيا ما كانت صفتها. أتحدث عن الدين بشكلٍ عام، الإسلامي وغير الإسلامي. لماذا يلجأ المليارات للدين والتدين؟ في عصر العلوم، والفلسفة والمنطق؟ هل تساءلت لماذا؟
لا يخلو واقع الحال من تطبيق منهج [الفرصة الواحدة]. فعلى صعيد السلطة، ولا سيما في المنطقة العربية تغريدة واحدة في دولة ما قد تودي بك للسجن عشر سنوات، لتعيش بعدها ملاحقا يتم استدعاؤك بشكل دوري، وربما ما هو أشد، منعك من العمل، والتنكيل بك وبأسرتك، وربما قتلك غيلة أو سحلك في الشارع.
ثمَّ تأتي للواقع الإعلامي، والثقافي والفكري. أيضا لا يخلو من تطبيق منهج [الفرصة الواحدة]. خطأ من أكاديمي قد يجعله للأبد يخسر وظيفته في الجامعة، وسقطة واحدة كفيلة بأن تلاحق صاحبها إلى أن يموت. النخب بشكلٍ عام تطبق مبدأ الفرصة الواحدة لأنها تعلم جيدا سلطتها الناعمة على الفرد.
ثمَّ نأتي للواقع الاجتماعي، ونأخذ دول الخليج مثالا. أيضا فرصة واحدةٌ كفيلة بأن توقع الإنسان في العقوبات الاجتماعية. ومع أنَّ الدين يأمر بالستر ولا سيما لغير المجاهر، المجتمع لا يؤمن بذلك، وخطأ واحد قد يكفي لنسف حياتك الاجتماعية لعقود، حتى وإن كانت نزوة منك أو مرحلة وعدت عنها.
وعلى مختلف الأصعدة التي تجمع الفرد بالمنظومات الجمعية، من النادر للغاية أن تجد مبدأ الفرصة الثانية متحققا إلا بشرطية عاليةٍ، مع التحفظات الهائلة. وهذا الفعل السلطوي يمارس بأدواتٍ ناعمة، قادرة على تدمير أي إنسان اجتماعيا، ونفسيا، حد ظلم حقوقِه ظلما بيّنا. لماذا: لأنه تمرد.
ولماذا تهفو نفوس البعض إلى التدين؟ وتفضل التعامل مع المتدينين، بل وأحيانا تغالي وتسجن نفسها في هذا المحيط؟ وقد يجن جنون البعض فينصب نفسها جنديا يدافع عن حركة التدين حتى الموت، كما حدث مع حركة الإخوان المسلمين السياسية؟ لماذا يتركون كل الحريات الفردية لمخالطة المحافظين؟
الذي يبحث عن الخلاص من الله قد لا يلجأ لمنظومة دينية كي تلقنه كيف يمارس طقوسه وعلاقته الخاصَّة بخالقه. البعض يحتاج لذلك، وعندما يجد بغيته، والطمأنينة التي يسعى لها ينضوي تحت جناح المنظومة المتدينة [الملتزمة/ المحافظة/ المتزمة] أيا ما كان وصفها لديك لأنه وجد بغيته: الطمأنينة.
والذي يبحث صادقا عن الطمأنينة قد يجدها مع المنظومة الدينية، وقد لا يجدها، قد يقع في الأيدي الخطأ، أو مع مجموعة من النفوس النرجسية التي تعامله كجندي في معركة. التدين ليس بريئا بالضرورة، لكن الدين واضح، العفو والغفران من الله، وبالتالي وجوده في تلك المنظومة يذكره بذلك دائما.
وقد يبحث عن ذلك الإنسان مرائيا، ومنافقا، هذا أيضاً من المتوقع الذي لا تحسمه الريبات بقدر ما يعرفه الإنسان بينه وبين ضميره. يجد في التدين فرصة جديدة ربما لمصالحة مجتمعه، أو لمصالح أخرى، كالكسب المادي من الدين، أو الكسب الاجتماعي، أو هدوء البال والبعد عن الصدام مع المؤسسة الدينية.
ولذلك يكسب التديَّن المليارات حول العالم، لأنَّ مبدأه مبني على أن العفو بيد الله، والغفران والتوفيق منه. وقد تصدق المؤسسة الدينية في عملها فيكون لوجه الله، وقد تكذب في ذلك فتسيّس الخاطئين وتوجههم إلى الصدام أو المكاسب السياسية، هذا أيضا قابل للحدوث.
ودعونا من أفاعيل المؤسسات الدينية الكاذبة، أو المتطرفة فالجميع يعرف أكاذيبها. فلنقل أنمجتمعا متدينا يطبق حقا رسالة الدين بصدقِها وحقيقتها. يخرجُ إنسانٌ من السجن، أو من عالمٍ من الخطايا، أو من عصابةٍ إجرامية، فمن يجد في وجهه؟ يجد العالم الشرس في إطلاق الأحكام، عالم الفرصة الواحدة.
ومن مجرمٍ مسلحٍ بسكين، يمشي ومعه مسدسه يقضي حياته خائفا من الشرطة، إلى مجموعة متدينة تعبد الله، في مأتمٍ، أو في حضرة صوفية، أو في اعتكاف المساجد. ماذا يجد؟ فرصة جديدة للحياة، وتعزيزا مستمرا لكي يتمسك ببدايته الجديدة، ولكي يضع هدفه رضا الله أولا لا رضا الناس، فيقتنع بالتدين.
وللتدين أدبيات قديمة في التصدي لشهوات الإنسان، وطمعه، وجشعه، ودنيويته. فهو سلوكٌ أولا وأخيرا، وعندما يتحول هذا السلوك إلى تغيير وطمأنينة، يتمسك الفردُ المتدين بذلك، وربما يصبح أشد حماسةً له من ذلك الذي ولد وترعرع في هذه البيئة المتدينة، والتي قد يضيق بها ذرعا أحيانا.
ويختلف الناسُ، بعضهم يعودون إلى الله فُرادى، وبعضهم يعود له عن طريق جماعة ويحتاج إلى التأثير الدائم من قبل الأقران. لكن السمة الغالبة على عالمِ التدين: أن الله غفور رحيم. وفي الإسلام: أن باب التوبة مفتوح. لماذا يهجر الدنيا وملذاتها؟ ربما لأنها أقلقته، وملأت حياته بالشرور؟
أما في بيئة التدين فالأمر يختلف، وركّز معي عزيز القارئ، أخصص الكلام على البيئة غير المسيسة، والتي حقَّا تهدف للعطاء وللنقاء، من مجرمٍ مكسيكي في عصابة كبيرة إلى مُسلمٍ دخل الإسلام في السجن وأصبح داعيةً. هو يعلمُ ما في نفسه، ويعلم أيضا أن الإيمان بالله مبني على العودة له دائما.
ولذلكَ يصنعُ مبدأ الفرصة الواحدة الذي تصنعه السلطات، والنخب الاجتماعية، والثقافية جمهوراً كبيرا من الأتباع للمؤسسات الدينية، والمضحك أنهم يغذونَ هذه المؤسسات بملايين الأتباع بسبب هذه النزعة المتزمتة والحادة ليُلفظ الإنسان من المجتمع، خطأ واحد يكفي: مع الله! لك دائما أن تعود.
والدين [كل دين] له أدبيات قديمة في التعامل مع مختلف الحالات البشرية، ومعظمها تتفق، الخلاص موجود، والغفران موجود، وهو من الله وليس من البشر. إن الطمأنينة التي يحققها ذلك للإنسان القلق تكفي قبل أي معتقد ديني ليؤمنَ أن الإيمان بالله منجاة له. البعض يتحمس فليتزم، وقد يتزمت والبعض لا.
وقد لا يكون المرء عالما دينيا، أو فاهما، أو قادراً على فهم تعقيدات الدين وفقهه وتشريعه، لكنه توفيق الله هو ما يهبه طمأنينة إيمان العجائز. فتراه في المسجد [أو المعبد] يفعل الخير، أو يحاول فعله. من الصعب أن تفهم التدين وأنت تفترض أن كل منظوماته الاجتماعية مسيسة، من الصعب أن تنصفه.
ولذلك يجد الإنسان راحته، في عالم العودة لله، ومع أهلِ الدعوة لله. يجد طمأنينته، ويهدأ قلقه، ويسكن روعه. وقد تكون هذه مرحلة ويتركها ويرتد إلى قلقه، وقد تكون هذه حياة يختارها برغبته وإرادته. لذلك هل تلوم البعض عندما يقرر نبذ كل شهوات الدنيا ليكون مطوَّعا؟ هناك أسباب كثيرة لذلك.
وما أكتبه في هذه المقالة يتعلق فقط بالعودة الصادقة لله. هُناك عودة سببها عدائي، أو للتطرف، أو لردة الفعل. وهُناك عودة تبحث عن الطمأنينة، والإنسان وما يختار. الذي يختار التسييس الجمعي فهجرته إلى ما سُيِّس إليه. والذي يختار اليقين، والبحث عن عفو الله فتدينه إلى ما هاجر إليه.
وبشكل عام، التعالي على الدين، وأهلِ الدين له أسبابه المبررة أحيانا، فمن يحترم تديَّن المطوَّع الدجال الذي يكسبُ المال من المرضى النفسيين بقراءة التعويذات وغيرها من الأباطيل؟ وقد يتحمس البعض فيسقط كل تشكيكه في وجود ما وراء المادة، أو وجود الله فيتكهربُ عندما تذكر له لفظة: مطوَّع.
ومن باب الإنصاف، المطوّع ليس بريئا،وقد يكون أسوأ وأوسخَ وأشد نفاقا من غير الملتزم. هذا مُحتمل في هذه الحياة. أقول ذلك فقط لأتجنب الردود الكلاسيكية على شاكلة [أصابعك ليست واحدة] وغيرها من المجادلات الضحلة والمضيعة للوقت. لا يوجد إنسان بريء كليا. ولكن هُناك أسباب للتدين. وهي كثيرة!
ولذلك ما يجده عقلٌ فردٌ من تسمياتٍ كثيرة [إسلامٍ سياسي، تديُّن السلطة، دين الدولة] فقلوبٌ أخرى تجد واقعا مغايرا. تجد جماعة ربَّانية، ومعتزلين للدعوة للخير، ومطبقين للصدقة والزكاة، ولا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم. ثمة قلوب تجد في هذه البيئة طهارةً ونقاءً وفرصة دائمة للعودة لله.
والعودة لله فعلٌ قلبيٌّ في المقام الأوَّل.وتختلف المدارس - حسب حالةِ الفرد - في تحديد الطقوس التي تثبّت أو تجذب العودة لقلبه، عندما يجدُ الإنسان القلوب التي تعينه ليعود لله، وتساعده على فعل الخير، ولا تستغله لصراعاتٍ مسيِّسة، ولا لامتيازاتٍ دنيوية! من يلومه عندما يصبح مطوَّعا؟

 مُعضلة العقل المشكك في النبوَّة تتلخص فيما يلي. كيف يمكن لإنسانٍ عربي من مكَّة أن يغير تاريخ العالم. فالمؤمن لديه استقرار ذهني أنَّ ذلك فعل الله، ونعمة الله، فهو مانح القوَّة. وهذا يجعل التفكير الإيماني بعيداً عن تأليه البشر، أو تأليه الذات. أما العقل المكذب بالنبوّة فوضعه يختلف.

أستغربُ ممن يتبنى وجهة النظر المنبطحة لكل الأمم المعادية للإسلام بحجة أنه دين دموي، ويتكلمُ بمنطقٍ غربي كأن هذا الغرب ليس دموياً. وبينما حروب الإسلام كلها جاءت قبل ألف سنةٍ ويزيد، في سبيل إنشاء دولةٍ قوية. لم تكمل الإمبراطوريات البائدة أقل من مائة عام على جرائمها الوحشية.
فالعقلُ المشكك في النبوَّة كأنه يستكثر على العربي الأمَّي أن يبني أمَّة قوية وقادرة، ولكن لا بأس أن يبني الروس، والأنجلوساكسون، والجرمان أمما بدمويةٍ أشد، وقتل من أجل القتل، ومقابر جماعية! وكأن هذا العالم يوتوبيا مثالية يرددها الفرد النرجسي بإسقاطاته عن ضعفه الخاص.
فحتى على الصعيد المادي، من المنجي للعقل الفردي أن يؤمن أنَّ النبوَّة فعل إلهي، فأي اختلاطٍ يمكن أن يسببه النبي محمد للمكذّب بالنبوة أو المشكك فيها؟ إن كانت كل حججك مبنية على تناقضات الروايات، ولهذا السبب تبني موقفك الحاد! فلماذا تعتبرها حقَّا؟ وتلزم مناقشك بها كأنه يعتنقها؟
العقلُ النافر من فكرة الإيمان بخالقٍ لهذا الكون، يتفرع منه منطقٌ يعامل النبوَّة كما لو كانت فعلا بشريا خالصا، وكأنها تكررت، وكأنَّها حدثت من بعد النبي محمد. ولم يغير فردٌ التاريخ ويعيد تشكيله كما فعل هذا النبي العربي الأمّي. مع ذلك سيقول لك المكذب: وما أدراك أنه حقيقة؟
ولا أفهم هل ذلك ظاهرة نفسية وراء الأمر، النرجسية، أو حسد النبوَّة، وكأن الفرد العاجز عن النبوَّة يقوم بإلغائها عن الأنبياء. الفرد الضعيف الذي يعطي كل الصفات الأخلاقية لضعفه وانبطاحه. نعم، الأمَّة الإسلامية والعربية ليست في أفضل حالاتها، لكن هذا لا يعني اعتناق ما يقوله الخصم عنها.
يتبنى المرء موقفا من المؤسسات الدينية، أو التيارات الدينية فتراه يخلط الحابل بالنابل! ينشغل بالدين أكثر من المتدين نفسه، ويغالي في وصف إنسانيته حدَّ التنزيه التام لها. ماذا عن هذا العالم الذي أساسه الصراع، والمواجهة، والصدام؟ يحدثك كأنه فرد غربي مغسول الدماغ بكوكب الفيتو وبوتين.
ومغالاة البعض في الهزيمة تُشبه ما كان يعيشه الفرنسيون يوما ما، إذ يشتكي المحافظون منهم من هوس الشباب بالأدب العربي، ومن هيمنة العلماء العرب على المشهد العلمي. أمة إسلامية قوية وجدت الصيغة المناسبة لتحفظ بقاءها من الشتات، وانهارت بسبب الطغيان، والاستبداد، والتطرف، والتشدد.
وبدلا من أن يكون النقاش مع العقل المكذب للنبوَّة، أو النفس المسكونة بالهزيمة الحضارية، والشعور بالنقص. يتحول إلى حوار الضغينة، ويخرج عن كونه نقاشا فكريا ليصبح مجرد صدام نفسي، فرد تسكنه هزيمة أمته مقابل آخر يعيش الأمل أن يعود لها مكانها بين الأمم ولو بعد قرون.
والنبي نفسه الذي غيَّر التاريخ نسبَ كل التوفيق إلى الله وفضله وعنايته، أمَّا الفردُ المادي فيضرب الأخماس والأسداس. لم يظهر نبي بعد محمَّد. فاللاأدري على الأقل يضع الاحتمال قائما، أما المُنكر، والمكذب، فيختلط عليه الامر حدَّ الاضطرابِ المنطقي. مؤلها الإنسان، أو ذاته.
وكما قلتُ في البداية: المؤمن ينسبُ هذه القوة إلى الله، فلا فراعنةَ يخشى منهم، ولا متألهين من البشر، ولا الفردُ المنافس للنبوَّة كأنَّه سيسحقها بعقله. القوَّة مفهومها يختلف عن السلطة، وإن كان البعض يستخدم الدين وسيلة للتسلط، هذا لا يعني بالضرورة أنه يستمد سلطته من قوة الله.
وإن كان الحوارُ مع العقل المكهرب تجاه هويته، ودين أمَّته مبني على الحريات الشخصية، ومبني على الحقوق الفردية، فمن الظالم للنقاش أن يتحوَّل إلى ملاسنات ضغائن، وأحقاد. فهذا سجال نفسي وليس فكريا، وهذه وسائل ضغط وليست إقناعا، وتزجية وقت وليست تعلَّما بالجدال. وقبح وكراهية وليس حبَّا.
وإن كانت الأمَّة الإسلامية تحارب، فكل الأمم تحارب. وهذا الكوكب أساسه الصراع، والصدام، والقتال على الموارد. وإن كان الإسلام قبل ألف سنة ويزيد قد وضع أخلاقا للجندية، وللحروب، فهذه الأخلاق الجديدة [وقوانينها الدولة] وقنابلها الفسفورية، ويورانيومها المخصب قد وضعت قبل أقل من مائة سنة.
والعقل المعمي عن رؤية التاريخ القريب سيغالي في حزازاته، ويكاد يحسدُ النبيُّ وهو في قبره على تاريخٍ يعامله بالريبة والتكذيب. الرجم الغاشم بالظن سلاحٌ سهل لمن يمسكُ الشك كأنه ملحٌ يرميه على أي وجبة فيفسد طعمها، ويخرجُ منتصرا لذاتيته مُعليا من شأن ارتيابه الشخصي، كأنه حقيقة مثبتة!
وكما أنَّه وفق التفكير المادي، الإيمان بالإله من احتمال وجوده. فالعقل المكذب يفترض أن وجود الشك في حقيقة ينفي وجودها. والشك مفيد، وتمرين عقلي ينفع الإنسان ما لم يكن دائرة من الارتياب المتواصل تفتك بعقل الإنسان وتحمله ما لاطاقة له به، فيعيش عمره القصير متوهما قيمةً كبيرةً لفرديته.
والعنف حقيقة الكوكب البشري، وكل إنسان ليس له قرار متصل بالعنف يحمد الله على ذلك. ولا تقاس إنسانية الأمم بعدم عنفها، وإلا لكانت الدول العظيمة بلا جيوش، تقاس إنسانية الأمم بإضفاء الأخلاق على أي فعل عنيف، وبالتعامل مع أحداث ما بعد الحروب، وبمعاملة الأسرى، وبإنصاف العدو المهزوم.
والعنف حقيقة الكوكب البشري، وكل إنسان ليس له قرار متصل بالعنف يحمد الله على ذلك. ولا تقاس إنسانية الأمم بعدم عنفها، وإلا لكانت الدول العظيمة بلا جيوش، تقاس إنسانية الأمم بإضفاء الأخلاق على أي فعل عنيف، وبالتعامل مع أحداث ما بعد الحروب، وبمعاملة الأسرى، وبإنصاف العدو المهزوم.
لذلك ينشطرُ عقلُ الفردُ غير النبي. وكأنه سيفعل ما فعله النبي محمد، وكأنه سيغير التاريخ. وله أن يحاول ذلك. ولي ولغيري أن يظنَّ به الشطح، والشطط، والمغالاة. العالم أفكار متدافعة، إن دخل في الحوار صراع النفوس، والضغائن الذاتية، والوصاية. فلا فائدة من النقاش. فهو إما صدام، أو جدل.

الأحد، 24 أبريل 2022

المشوار طويل!

 كُلما أسمعُ جُملة: معاوية لا تقل عن نفسك مريضاً، شخص بعقلك مستحيل يكون مريض! تجرحني سكاكين كبيرة في عقلي، وفي قلبي. سكاكين الحقيقة المُرَّة، ولا أفكر بنفسي أو بمصيري، أفكّر في كل هؤلاء الذين أقاسمهم التصنيف الواقعي، والطبي نفسه: المرض العقلي!

 وأقول: المشوار بعيد جدا جدا!
المرض، والجنون، والاختلال العقلي والسلوكي أنواعٌ كثيرة. أسوأ ما يفعله العقلاء بمريضٍ حولهم هو محاولتهم أن يكون مثلهم، وأن يفكر مثلهم، وأن يُعامل نفسه كما هم يعيشون. يفعلون ذلك للتنصل من التعامل مع معضلة شديدة الجسامة على حياة إنسان: المرض العقلي! وما أصعبه على الجميع!
كثيرون يظنون أن التعاطف هو أفضل الطرق للتعامل مع الذين يعانون من الأمراض العقلية، معاملته كأنه إنسان غير قادر على اتخاذ القرارات بنفسه، ونعم بعض الأمراض تحتاج ذلك بشكل مزمن، بعضه مؤقتة، تأتي على هيئة نوبات، أو حالات تستفحل لبعض الوقت ثم تخف، وتصبح مثل العقل النمطي: هادئة.
يحتاج المرء سنوات لكي يتعايش مع مرضه النفسي، أما هؤلاء الذين لا يعانون من أمراضٍ نفسية فلن يفهموا مطلقاً معنى أن يكون الإنسان مريضا في أهم عضوٍ في جسده. الذهاني الذي يرى التهيؤات ويسمع الأصوات، ثنائي القطب الذي يتعايش مع تقلب المزاج، والوسواسي صاحب المعايير المستحيلة.
لا يكلف كثيرون أنفسهم جهد البحث البسيط عن التشخيص الطبي لأخيهم، أو لأمهم أو لأبيهم أو لابن عمهم. الجنون لديهم حالة واحدة [الغياب]. بعض الذين يعانون من أمراض عقلية محظوظون، تم اكتشاف مشاكلهم، وعلاجها، ولديهم أسوار حماية متعددة تحميهم من الموت، أو الخطأ، ماذا عن كل المختبئين خوفا؟
وكم هو مؤسف عندما يغالي إنسان تم تشخيصه بمرض عقلي في إخفاء ذلك، وكأنه سيصبح عقلا نمطيا، معياريا بمجرد إخفاء مشكلته. من الذي يضغط عليه لفعل ذلك؟ كل من يؤمن بالوصمة الاجتماعية. المرض النفسي ليس نزهةً في حديقة، ونتائجه وخيمة، بعضها تؤدي للموت، وبعضها تؤدي للقتل، وبعضها تؤدي للجنون.
والله يعلم بعناء هؤلاء. ولعل من أصعب هذه الأمراض الوسواس القهري، والشقاء الذي يعيشه الذين يعانون من هذا الابتلاء. المعايير العالية، والسلوك القهري الذي يجعل حياتهم جحيما. ماذا يفعل العقل النمطي، ما يعتاده، يستغرب! لماذا يتوضأ فلان عشرين مرَّة ويعيد صلاته عشرين مرَّة!
وكيف يتعامل العقل النمطي مع المرتاب؟ الذي يشكُّ في كل شيء؟ مزاجه متقلب، ويظن أن كل شيء يستهدفه، وحتى عندما تحمل له أخبارا سارَّة يظنُّ أنك تريد شيئا بالمقابل، تريد به سوءا حتى وأن أردت به خيرا! إنه لعناء شديد، للمصاب ولمن حوله. وإخفاء المشكلة ليس حلا، ويزيد تفاقمها.
وهي صور نمطية بسبب قلة المادة المتاحة للعلن عن تجارب المرضى النفسيين، لذلك لا أحد يعرف بالضبط كيف يتعايش هؤلاء مع مشاكلهم. لا يعرفون حياتنا، ولا ما الذي نعانيه. كيف أشرح لشخص أن سبب كثرة كلامي هو نشاط ذهني مؤقت يتحول بعد حين إلى اكتئاب قد يكون حادا إن لم يتم علاجه بتدخل عاجل؟
كيف يشرح المصاب الوسواس القهري حالته للآخرين؟ المصرين على أنَّ خير علاج للمرض النفسي هو العلاج الذي يطوي صفحته عن معرفة العموم بمرضه. وكأن مهمة المريض نفسيا أن يتخفى، أن يجد العصا السحرية التي تجعله مثل البقية. للأسف الشديد. الخفاء، والخوف من الوصمة، لإخفاء المرض لا لعلاجه.
وهات يا هبد عندما يتعلق الموضوع بالاكتئاب، وكأن الدماغ الذي يعجز عن إفراز الهرمونات الكافية لتشغيل آلة الحياة والسلوك سببه نقص الإيمان، وكأن الأفكار هي العلاج لكل شيء. مشاكل الغدد، والإصابات في الرأس، والصدمات، والإعاقات. علاجها الجاهز وصفة وعظية سريعة، أو خزعبلات شائعة ومرتجلة.
وما أكثر المصابين بالفصام في عُمان، من الذي يحميهم؟ ومن الذي يسعى لكي يعيشوا أقرب نموذج للحياة الطبيعية؟ إخفاؤهم هو الحل الأوَّل والأضمن. والأمراض الخطرة تجول بيننا، غير مشخصة، وأبرزها الأمراض المتعلقة بغياب التعاطف، أو العنف. هؤلاء لا يعاملون كمرضى، ولا يُظن بهم ذلك إلا قليلا.
إنه لعالمٌ واسعٌ من الصعب أن تتخذ تصرفاً موحدا تجاهه. إخفاء المشكلة لن يحلها، وفي معظم الأحوال يزيدها سوءا. المريض النفسي حاله حال أي إنسان، يستطيع الحياة، والعمل، والإبداع، بل والنجاح الباهر. كونك تاخذ معلوماتك عن المرض النفسي من الأفلام هذا لا يجعلك شخصا مناسبا لتساعد مريضا.
بعض الأمراض السلوكية، أخطرُ من التي تبدو على السطح، فالمريض بها يبدو هادئا، ووديعا. بعضها المرتبطة بالنرجسية والتلاعب الآخرين تتحول إلى ظواهر إجرامية مُرعبة تزلزل المجتمعات. هُناك أمراض بلا أعراض ظاهرة، المصاب بها يقتل، ويغتصب، وربما يتحول لزعيم عصابة. هؤلاء لا يظهر عليهم مرضهم.
ومن الذين يدفعون الثمن؟ ثمن الصورة النمطية؟ هؤلاء الذين يعبث بهم خيالهم، وتخذلهم عقولهم، أما الأمراض السلوكية المنتشرة فهي خارج المعادلة، خارج التأطير. الطفل الذي يخنق الأرانب يتحول إلى مجرم وقاتل متسلسل، أما الذهاني الذي يخرج عن الواقع فيرميه السفهاء بالحصى.
مُتلازمة داون، التخلف العقلي، التلف الدماغي، وأي مرض يجعل صاحبه في حالةٍ غير لائقة اجتماعيا هي الأمراض التي تدفع الثمن الباهظ. للأسف الشديد، يسقط في هذه الحياة الأكثر ضعفا. حتى وإن كنت مشخصا بمرض نفسي، أن تستقر حالتك هذا لا يعني أن تنسى من أنت، وأن تتشبه بالنمطيين.
المرض العقلي أيا كان تصنيفه قد لا يكون عارضا، قد يكون مزمنا، وقد يقضي المصاب به سنواتٍ طويلة من الاستقرار والهدوء، لكنَّه سيبقى دائما حالةً متفاعلة، تحتاج لاتزان، ولحسابات مسبقة، ولحقوق من المجتمع، ولثقافةٍ عامَّة وتوعية دائمة. ظُلم كثيرون لأنَّ كلمة [مريض نفسيا] وصمة عار!
وإن كنت تسألني أنتمي لمن! أنتمي لهؤلاء الذين تخذلهم عقولهم، وخذلني عقلي كثيرا. لقد نجوت بحمد الله من الكثير، لكنني لا أنسى من أكون، وأعيش هذه الحياة مُحاذرا، بانيا كل ما بوسعي من الدفاعات لكي لا أسقط في فخاخِه، أو في سلوك أعلم أنه سيودي بي للمهالك: كالمخدرات مثلا!
وكيف تشرح لإنسان اضطراب المزاج! وألا ينام الإنسان لعدة أيام؟ كيف تشرح لشخص أن الذي يراه من تصورات ليس جنا، ولا عفاريتَ، وأن الدماغ المشبع بهرمون الدوبامين يلعب بعقل صاحبه! كيف تشرح لأحدٍ أن هذا العاقل الهادئ كان يوما ما يحاربُ أشباحا يراها أمام عينيه؟ كيف وكيف؟ المشوار طويل!
ثمَّة أمراض متعلقة بعائلة السايكوباثية، والسوسيوباثية. هذه أحيانا بلا أعراض واضحة كالتي اعتدت على رؤيتها في المجتمع. كالمراهق الذي فجأة يصرخُ صراخا هائلا، أو كالذهاني الذي يتكلم من خياله الصافي.
هل تعرفون ما هو الأمر الصعب؟ المريض النفسي الواحد يحتاجُ لمجتمع كامل كي يحميه! يحتاج لفريق طبي كامل كي يعينه على العودة لحياة مُنتجة وظيفيا. يحتاج للكثير، ولكن من يعطيه حقوقه! إن كانت عائلته تتخلى عنه وتتنصل منه وتربطه بالسلاسل! ماذا تتوقع من باقي المجتمع؟ أن يقوم بالواجب؟
وقد أفرزت ظاهرة التكتم والخفاء سوقا كبيرا للدجالين وباعة الخزعبلات. الباصر، والذي يعالج الناس من السحر، وغيرهم من المجرمين الذين يشربون من دماء المصائب. ومن المنتصر؟ الجهل ينتصر، والغباء يستشري، والعقلاءُ الجبناء يقررون مصير إنسان آخر كان يمكن أن يجد علاجه في مكان آخر.
هذه الحياة لم تكن عادلةً يوما ما لكي نتمنى منها أن تكون مثالية. العدلُ هو السعي للعدل. لستُ الآن في محاكمةٍ أو في تحقيق جنائي لكي أستخدم حجة المرض العقلي. وأعلم أنني أخسر فرصا كثيرة في هذه الحياة بمجرد اعترافي بذلك. الحقيقة أهم من تصورات الخائفين على صورتهم أمام الناس. أهم بكثير!
والمشوار طويلٌ جداً، ويحتاج لصبر. لا أعلم متى سأصاب بالاكتئاب مرة أخرى، ولا أعلم هل سيفلتُ عقلي من عقالِه لنوبة هوسية، ولا أعلم هل اضطراباتي ستتغلب علي في القريب العاجل، أو في البعيد الآجل. أعلمُ أن الله ابتلاني لسببٍ، وأنني أقبل قدر الله. وأقبل حقيقتي لأنها حقيقتي.
وخِتاما عزيزي العاقل لا بأس أن تعترف أنك حمار في موضوع الأمراض النفسية، وأن تتوقف عن اعتبارا حالات الآخرين العقلية، والنفسية موضوعا للتجارب. اعترف إنك حمار، واترك الأمر للمختصين وللمحترفين ولا تتدخل في أمراض غيرك. فربما مرضه له علاج، أما غباؤك، فقد يكون مزمنا ولا علاج له.

الاثنين، 18 أبريل 2022

نقاط على حروف الجزء رقم ألف

 أكثر ما أكرهه في نفسي، أعرفه عن نفسي. وعشت سنوات غافلاً لم أفهم لماذا أفعل ما أفعله، ولماذا أتصرف ما أتصرفه. تحملت الكثير من الأذية، والغدر، قبل أن أتحول إلى شبح مؤذ، قذرٍ ولا أخلاقي، أفجر في الخصومة، ولا أمايز بين الذي يكرهني، والذي يريد أن يضرني، حدث الكثير قبل أن أعلم ما أكون.

ابتلاني الله بفئة من الناس، يظهرون الصداقة والود. يدقون صدورهم أمام المجتمع والناس [إذا تريد شيء من معاوية كلمني]، انتهازيون، منهم من سرقَ مالي، ومنهم من تسلق على كتفي، لمصالحٍ تافهة. كنت أظن أنهم الرفاق، والأشاوس الذين يحمونني من بطش الناس، ومن كراهيتهم لقذارتي المُعلنة وسفالتي.
وهم يعلمون وضعي جيدا، فهم أصدقاء الملحد العربيد، الذي لا يمر وقت ووقت إلا ويشتم الشيخ أحمد الخليلي، أو يجدف في الذات الإلهية، أو ينزل في الدين، والناس. كاتب برتبة بلطجي. ولكن الله يعاقب الظالم بظالمٍ مثله، والحمد لله، ابتلاني الله بمن هو أقذر مني، فأذاني حتى تلقنتُ درسي.
وأنا إنسان كثير الكذب على من لا أثق به. وأيضا كثير الكذب على من لا يثق بي. كنت أستغربُ دائما، لماذا يصدق بعض هؤلاء الذين التصقوا بي أي شيء أقوله. أي خطيئة، أي كذبة. ثم بعدها بسنوات فهمت ذلك الفخ الاجتماعي، والسجن الذي كنتُ أعيشه. شخص ممقوت اجتماعيا، وهم وسطاؤه مع الناس.
وبدأت أفتح عيني عن عالم الغفلة تلك. وخرجت وكسرت دائرة العزلة، واختلطت مع الناس رغم صعوبة ذلك علي. ملحد، عربيد، زنديق، لا تعرف له قرارا، ولا تعرف ساسه من راسه. يشتم والده، وعائلته، ويشتم نفسه. كل الذي كنت أفعله مع كل سافلٍ أذاني، صرت أفعله علنا. والغريب أنني أفعل ذلك بهدوء تام.
ثم اكتشفتُ الذي يدور عني، والذي يقال. لم أكن أعبأ بأي شخص يعرف عني كذبة قمت باختراعها، الذي صرت أعبأ له هؤلاء الذين ثرثرتهم كانت الحصار الحقيقي. كان يجب أن أبقى في ذلك الوضع، نافعا لهم، متعلقا بهم، هم الأصدقاء مع الضريبة. ولذلك صارت أخباري تملأ الثرثرات في كل حدب وصوب.
وكما أنا شخص غريب! لم أنشغل بدمار حياتي الاجتماعي بقدر ما انشغلت بهوس المعرفة، وهوس التجربة.كانت تجربة اجتماعية عظيمة تعلمت منها الكثير. وتورطتُ بذلك المحيط، كان الخروج منه صعبا للغاية،وعندما اكتشف من يظن أنه يعرف عني كل شيء،أنه مخدوع بإنسان كذوب،يجيد التخفي والأقنعة. بدأ القتال.
ثم أدركَ كل من أذاني أنني سأؤذيه، وجهز دفاعاته. كان البعض أشد مني ذكاء، وغلبني البعض بحقارته. ولك أن تتسمع الكلام عني لتجد تناقضه الشديد. مرَّة شاذ جنسيا، وقذر، وساقط، مرَّة زير نساء، مرَّة حفّار قبور، مرَّة شخص يقرأ كتب السحر، وكثير وكثير من الإشاعات، كثير منها من تأليفي وكلامي.
كنت أنوي الهجرة، ووقف في وجهي الذي يعلم جيدا أن هجرتي ستكون وبالا على رأسه، وما فعله بي وبالناس. كنت أعلم أن إحراق قيمتي الاجتماعية والسياسية هي التي ستحررني، لكن دخول الحمام ليس مثل خروجه، كان يجب أن أدفع الثمن المر. ودفعته من عُمري، ومن مستقبلي، ومن عقلي. دفعت ثمن قذارتي.
ما زلت أذكر رعب رافق الإلحاد مني ذهاب للعمرة. كل ظنهم أنني سأكون الذي يهاجمهم، وربما سأفضح هوياتهم، ولم أفعل ذلك [ولن] أفعل ذلك. حتى هذا الذي يشتمني ويكرهني، لن أؤذيه. لكن الذي يقترب مني، ويمثل دور الصديق، وهو ينوي الضرر، هذا الذي لن أفلته من انتقامي، وما صرت إليه من حقارة.
وأخذت وقتا من الزمن حتى أعرف من يستحق أن أكون حقيرا تجاهه. حياتي صارت كذبة كبيرة، وصرتُ تساؤلا غامضا من قبل الذي يحبني، ومسخاً متناقضا من قبل الذي يكرهني. لم أعبأ بالطرفين وقتها، كنت أعبأ بالعدو الذي خدعني، والحقير الذي قررتُ أن أعامله بالمثل. وفعلا، صرت مسخاً، ولسنوات.
لعبت شخصيتي الانتقامية والمضطربة دورا كبيرا. فكبار الذين أذونني حموا أنفسهم جيدا، أما صغارهم، فإذا بي أفعل مثلهم. قريب، وصديق، ومتعلق بهم شكليا، وبشكل مزيف. ألف وأدور حتى أجد المقتل، ثم أضربُ بكل قسوة، علنا، وسرا. حياةٌ من المكائد، والقسوة، والقذارة، والكيد.
وبدأت سياسة الرد بالمثل، ولاحقا تحولت إلى الرد بالضعف. والبعض كان ضحيةً بلا سبب، ضحية ردة فعل دفاعية في غير موضعها. أما هؤلاء الذين نلتُ منهم الأذى، فلم يسلم منهم أحد. الذي يجعلني أشعر بالذنب، هم هؤلاء الذين لم يفعلوا أكثر من أن يكرهونني. وهذا حقهم، وقد أذيت بعضهم بلا وجه حق.
وهزمت في معارك كثيرة، مع خصوم أقوى مني بكثير. وسايرتُ كثيرين حتى وجدت الوقت المناسب، لم يهمني مطلقا الفضائح، ولم أهتم مطلقا لسمعتي، كل همي كان الانتقام من هؤلاء. ولاحقا الانتقام من نفسي. كنت جاهزا إما لإزهاق روحي، أو للرحيل بلا عودة. صرتُ مسخا لا ينجيه إلا الله من نفسه.
ولم أعرف إلى ماذا سيؤول حالي؟ إلى الجنون في مصحة نفسية، أم إلى السجون، أم إلى أن أصبح قاتلا أو مقتولا. كان الوضع معقدا للغاية، وكنت أختفي، وأختفي، وأختفي، وأصبح شبحاً حتى اختفيت عن نفسي. كل ما بقي مني هي كتلة من الحقد، والقذارة، والاستعداد للانتقام بكل حقارته الممكنة.
وأنا أكتب هذا الكلام، ثمَّة نفوسٍ تغلي. كما كنت أغلي، كما كنت أشعر أنني خُدعت، وأنا أكتب هذا الكلام ثمة أعداء لا يؤذيني ضميري مطلقا عندما أذيتهم، في السر، وفي العلن. لقد ظهر في العلن والسر كائن قذر وانتقامي، وظنَّ أنه سيكون كذلك للأبد، وتقبل مصيره المرَّ، ومعركته القذرة.
وفعلا كانت معركةً قذرة،من الجانبين. يمكنك أن تؤذيني بالكلام، وأن تكرهني، وأن تشتمني، والله لن أرد عليك بأكثر من الشتم بالمثل، وربما لن أفعل، وسأعتزلك مليا. لكنَّ هذا الذي لعب دور [صديق معاوية المخلص] وأذاه، وغدر به، أو سرق ماله، كان صراعا قذرا وحقيرا من الطرفين. حياتي لم تكن جنة.
وكشفت الأوراق، وأصبح المجهول معلوما. وتحول ذلك الشاب الذي انتظر الجميع أن يكون كاتبا، وأديبا، أو إعلاميا مفيدا إلى [معاوية] القصة المحزنة لشاب كان طيبا، وكان خلوقا، وأصبح مسخاً خطرا. كان الألم فوق طاقتي، وعدما انتهى صبري، صرت أسبب الألم فوق طاقةِ خصمي، بغتةً دون أن يتوقع.
كنتُ الكلب النبّاح الذي أصبح يعضُّ. من سلم من لساني؟ والله لا يؤنبني ضميري إلا على الأبرياء منهم، هؤلاء الأنقياء الذين سببت لهم درساً مؤلما لا ينساه من تعرض له. أما هؤلاء، الذين لم تجمعني بهم سوى طاولات الخمر، وجلسات المخدرات، فكان لي معهم التصرف الأنسب، والأقذر، والأخطر.
واكتملت أركان الشبح. بغبائي أضفت إلى معاركي صداما مع الدولة والنظام ومؤسسات الدولة. الحجة الأقوى التي مكَّنت الأذى، ولاحقتني الفضائح، وابتكرت ما يكفي منها لأظهر الضعف، لم تكن مشكلتي مع الدولة هي ألأبرز. فهي كيانٌ يردعك عندما [تتبلعس به]، كانت مشكلتي اجتماعية من الطراز الأول.
والغبي الذي له ألف عدو، يصنع المزيد منهم. الخصوم الكبار كانت مهمتهم سهلة جدا، افتراس إنسان بلا دفاعات، لم يكن قذرا بما فيه الكفاية ليخافوا من ردة فعله، وظنّوا به الهزيمة والضعف. تلك الجمرة لم تخمد، كانت بحاجة لريحٍ تذكيها. لكن الغبي، حارب كل شيء، حتى عائلته، وأباه، ومن أحبه.
وهذه حقيقتي، وحياتي. صدقني أيها الإنسان الذي تظن بي الظنون، الخيّرة، والسيئة. لقد قاتلت كل شيء، وقاتلت نفسي، لأنني أحلم أن أكون إنسانا خيّرا. جننت الجنون الأكبر، وأنا أحلم أنني سأكون إنسانا نافعا. وخسرت مستقبلي وكل شيء. ودخلت حالة انتقامٍ صنعت مسخاً عُمانيا لا يشبهه سوى قلة.
وهؤلاء المسوخ يولدون من العدم مجددا. بعضهم باسم السياسة، وبعضهم باسم الدين، وبعضهم باسم الفكر. لكن هل شابه قبحي أحدا؟ لا أظن. كنت أعلم أني بي بذرة صغيرة، كنت أحتاج إلى أن أسقيها بالحب وبفعل الخير، وتلك البذرة هي التي أعيشُ بسببها الآن. وأظن أن الله رحمني بها.
وهذه حياتي، وحقيقتي المرة. أنا إنسان لا يخاف، وأخطر ما يمكن أن تفعله به هو أن تلوي ذراعه. أقول لكل إنسان:لا تقترب مني. لكنني أعرف نفسي جيدا،لا أخون من لم يخن، ولا أؤذي من لم يؤذني، وإن فعلت، لا أستنكف أن أقتص له من نفسي. معاوية من أشرار عُمان القلة الذين يمقتون فعل الشر ويفعلونه.
وأنا شخص سياسيٌّ من الطراز الأوَّل. واكتملت تجربتي بالسجون، وبالجنون. وعندما سعيت لأتصالح مع كل شيء، تصالحتُ فقط مع الذين ظننت أنهم يستحقون الصلح. وبنيتُ حياةً جديدة، بلا سياسةٍ، دون أن أكون أداةً، أو أكون مروجا للهزيمة، وبدون أن أكذب على نفسي وكأنني انتصرت في شيء. أنا عدمٌ كبير!
وهل تعرفون ما المحزن؟ عندما كنت أقذر من أن تحترمه! وألعب اللعبة فوق اللعبة، كنتُ محترماً،وكان من الصعب أن يتعرض لي إنسان، ووجدت من يشبهني في القذارة. أنا كثير الكلام. كنت أهددُ ولا أفعل. ثم صرت كمن أذاني.ألتصق بعدوي، أتيقن من غدره، وبعدها للأسف الشديد: أطعنه طعنة نجلاء لن ينساها.
والذي يجعلني أحتمل نفسي هو شيء واحد. أن حياتي حقيقية، وأنا أعرفها، وقلة من الصالحين والشهود يعلمون ماهيتها. أعيش وأبتعد عن الأذى،أدافع عن نفسي، وأردع نفسي عن الظلم ما استطعت. أنا كتلة من الجحيم، ونار حارقة،وقذارة جاهزة للانطلاق، وتحتاج لقذر واحدٍ فقط كي يذكيها، فأستهدفه بكل مكري.
وأنا ماكرٌ، ولئيم. وما يجعلني أتحمل نفسي، هو أنني أعرف ذلك، وأبذل جهدا لكي أوقف نفسي عند حدودها. ولذلك أعيش هذا الصلح، وهذا السلام مع كل شيء. حياتي ليست سهلة، وأعدائي خطرون بمعنى الكلمة، ومسلحون بالكذب، وبالقذارة، بل وبعضهم لديه مصداقية اجتماعية عالية، وهو أقذر مني بألف مرة.
أنا مسخٌ ضعيف، يرهقه ضميره مع الأبرياء. وأنا مسخٌ قذرٌ لا يعرف الضمير، ولا الأخلاق،ولا القانون، ولا الدين، ولا العرب. أعامل عدوي بمثل أدواته، ولاحقا، صرت أعامله بأدواتٍ جديدة. ما أقبح عندما يعاديك من يطمئن إلى أخلاقك في الخصام. لقد تمزقت كل تلك الأخلاق دفعةً واحدة. أنا مسخٌ ضعيف.
ولذلك أعيش هذا التجاوز الكبير. وأهزأ بمن جاء لكي يكرهني متأخرا! أين كنتَ عندما كنتُ في أشد حالات حقارتي! أنا أكره معاوية وكل ما كان يمثله، وأكره جانبي القبيح وكل ما يمكن أن يفعله. ولكن أين كنت عندما كنتُ ما كنتُ عليه؟ آلآن؟ وأنا مسالمٌ، ومتصالح مع الحياة؟ آلآن جئتَ بأحكامِك؟
وأنا لست خيّرا، ولست طيّبا، لكنني توقفت عن الشر. لم يتوقف الشعر عن كونه طبيعة من طبائعي، لكنني أوقفه عند حده. لا أعادي أحداً، ولا أقبلُ أن أكون الكلب الذي يعضُ تحت الطلب، ولا أقبل أن يتم استغلالي. ولا أقبل الذي يدعي الصداقة ولديه أجندة. ولا أقبل أصدقاء الأمس، والرجس.
وقد رحمني الله. أنجاني من المأزق تلو المأزق. والحمد لله على عقابِه، درسي في الحياة كان قاسيا. لدي قسوة خطرة جدا جدا، ولولا الإيمان لكنت أخطر الناس. لذلك، أنا لست متصالحا مع نفسي، أنا متصالح مع ذاكرتي، وكل يوم يمضي، أحارب لوثاتها، وأحاول النجاة من نفسي بالصالحين والناصحين.
ولا أعرف من هؤلاء الذين يروق لهم حالي السابق.أعاملهم كخطر. ولا هؤلاء الذين يحاولون جرجرتي للصدام مجددا، ولا موقعو الفتن، ولا شجعان طاولات القهوة. كل هؤلاء لا يساوون لدي سوى بعرةِ بعير.أعرف أنني أحتقر المسخ الذي بي، ولا أقبل أن تحتقرني إن كان بعيدا عنك، سلمتَ منه، فاسلم بنفسك مني.
وأنا أكتب هذا الكلام، بمنتهى البرود والجمود. كحقائق مجرّدة، كنقاطٍ تتبلور في الذاكرة فتتحول إلى لغة. كمستندٍ علاجي أعود له عند الحاجة، كتذكرة لمؤمنٍ، كمكاشفةٍ للحياة، كتوضيح للأبرياء، وكرد اعتبارٍ لنفسي وحقيقتها، وللآخر الذي ظُلمَ مني. بعض الحقوق لا تسترد، وبعض الغفران لا يجدي.
وهذه حياتي. أضع نقاطها على حروفها. أسأل الله أن يوفقني لما فيه الخير، لأسرتي، وللناس، ولأصدقائي، ولنفسي. أسأل الله أن يوفقني لأفعل صالحا، أسأل الله أن يقيني شر نفسي. أسأل الله ألا أتحول إلى ظالم انتهازي، أو شبحٍ جديد. لا أعداء جدد لي، أما من سبق، فلا سلام، ولا كلام، ولا غفران.
فأمَّا من ظلمني، فابتعد عنّي.وأما من ظلمتُه، فلتأتِ، فإن أردت اعتذارا سأعتذر، وإن أردت تعويضا سأفعل المقدور عليه، أما إن أردت انتقاما فلا فرق بيننا، وليعترك المسخ بالمسخ، وليحدث ما يحدث. إن أردت أن تنتقم ممن يريد أن يردَّ لك حقك، فأنتَ تبحث عن العداوة، لا حقك، أنت من فصيلتي. مسخ.
وأسأل الله العلي القدير أن يعوَّض كل من ظلمتهم، وأن يعرفوا، أن الله يعوضُ المظلوم، ويذيق الظالم عذاباته. من له حقٌّ عليَّ فليسعَ إليه منِّي. أمَّا إن كان همّك الناس وكشف حقيقتي! أي حقيقة بالضبط؟ تلك التي من تأليفي؟ أم من تأليف خصمي؟ أم من تأليف أمراضي؟ أم من تأليف المحب الأعمى؟
ولتكن أقدار الله، ولتكن مشيئته في عبادِه. أحمد الله على الخير والشر، وأسأل الله أن يحميني من أن أظلِم، ومن أن أُظلم. فما بيني وبين الله، بيني وبين الله، وما بيني وبين الناس دينٌ، فما لي لا أتنازل عنه، وما عليَّ أؤديه. فمن أراد حقا فله حقُّه، ومن أراد رد الظلم بالظلم، فله العدوان.
وسلام الله على الجميع، كانت معكم الفقرة الدورية لاعترافات معاوية الرواحي. أستئنف صلاحياتي كمهذون أكبر بعد هذه التغريدة متمنيا لكم حياةً هجلية خالية من كل هذا البؤس، والحقد، والكراهية والانتقام. نعود إلى موضوع برشلونة وريال مدريد، وفقكم الله لما فيه هجل القلوب والعقول.