بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 أبريل 2022

لماذا يتدين البعض؟

 يتساءَل البعض عن سرِّ الالتفاف المجتمعي على التيار الديني. ولستُ الآن بصدد نقد مشكلاته، فهي كبيرة وكثيرة، ولكنني بصدد الحديث عنه كعلاقة فرد مع منظومة اجتماعية. لماذا يلتفُّ الناس حول [المطاوعة] مع نزعة يمارسها بعضهم للغلو، وللتعسير، وأحيانا من بعضهم للتشدد والصدام؟

سؤال الحرية الفردية كبير، وله في الدين تأسيس فقهي، وإيماني، وشرعي. وكذلك على صعيد المنطقيين، والفرديين، أيضا هُناك تأسيس، ويأتي الخلاف حول مدى تدخل الفرد المتدين في سلوك الآخرين. حالة السلام الاجتماعي دائما تأتي عندما يكون الحوار فكريا، دون صدامات أو قمع أو وصاية.
عندما أقول المنظومة الدينية الاجتماعية فأنا لا أقول بالضرورة [الدين] فالدين أشملُ بكثير من أي جماعة اجتماعية أيا ما كانت صفتها. أتحدث عن الدين بشكلٍ عام، الإسلامي وغير الإسلامي. لماذا يلجأ المليارات للدين والتدين؟ في عصر العلوم، والفلسفة والمنطق؟ هل تساءلت لماذا؟
لا يخلو واقع الحال من تطبيق منهج [الفرصة الواحدة]. فعلى صعيد السلطة، ولا سيما في المنطقة العربية تغريدة واحدة في دولة ما قد تودي بك للسجن عشر سنوات، لتعيش بعدها ملاحقا يتم استدعاؤك بشكل دوري، وربما ما هو أشد، منعك من العمل، والتنكيل بك وبأسرتك، وربما قتلك غيلة أو سحلك في الشارع.
ثمَّ تأتي للواقع الإعلامي، والثقافي والفكري. أيضا لا يخلو من تطبيق منهج [الفرصة الواحدة]. خطأ من أكاديمي قد يجعله للأبد يخسر وظيفته في الجامعة، وسقطة واحدة كفيلة بأن تلاحق صاحبها إلى أن يموت. النخب بشكلٍ عام تطبق مبدأ الفرصة الواحدة لأنها تعلم جيدا سلطتها الناعمة على الفرد.
ثمَّ نأتي للواقع الاجتماعي، ونأخذ دول الخليج مثالا. أيضا فرصة واحدةٌ كفيلة بأن توقع الإنسان في العقوبات الاجتماعية. ومع أنَّ الدين يأمر بالستر ولا سيما لغير المجاهر، المجتمع لا يؤمن بذلك، وخطأ واحد قد يكفي لنسف حياتك الاجتماعية لعقود، حتى وإن كانت نزوة منك أو مرحلة وعدت عنها.
وعلى مختلف الأصعدة التي تجمع الفرد بالمنظومات الجمعية، من النادر للغاية أن تجد مبدأ الفرصة الثانية متحققا إلا بشرطية عاليةٍ، مع التحفظات الهائلة. وهذا الفعل السلطوي يمارس بأدواتٍ ناعمة، قادرة على تدمير أي إنسان اجتماعيا، ونفسيا، حد ظلم حقوقِه ظلما بيّنا. لماذا: لأنه تمرد.
ولماذا تهفو نفوس البعض إلى التدين؟ وتفضل التعامل مع المتدينين، بل وأحيانا تغالي وتسجن نفسها في هذا المحيط؟ وقد يجن جنون البعض فينصب نفسها جنديا يدافع عن حركة التدين حتى الموت، كما حدث مع حركة الإخوان المسلمين السياسية؟ لماذا يتركون كل الحريات الفردية لمخالطة المحافظين؟
الذي يبحث عن الخلاص من الله قد لا يلجأ لمنظومة دينية كي تلقنه كيف يمارس طقوسه وعلاقته الخاصَّة بخالقه. البعض يحتاج لذلك، وعندما يجد بغيته، والطمأنينة التي يسعى لها ينضوي تحت جناح المنظومة المتدينة [الملتزمة/ المحافظة/ المتزمة] أيا ما كان وصفها لديك لأنه وجد بغيته: الطمأنينة.
والذي يبحث صادقا عن الطمأنينة قد يجدها مع المنظومة الدينية، وقد لا يجدها، قد يقع في الأيدي الخطأ، أو مع مجموعة من النفوس النرجسية التي تعامله كجندي في معركة. التدين ليس بريئا بالضرورة، لكن الدين واضح، العفو والغفران من الله، وبالتالي وجوده في تلك المنظومة يذكره بذلك دائما.
وقد يبحث عن ذلك الإنسان مرائيا، ومنافقا، هذا أيضاً من المتوقع الذي لا تحسمه الريبات بقدر ما يعرفه الإنسان بينه وبين ضميره. يجد في التدين فرصة جديدة ربما لمصالحة مجتمعه، أو لمصالح أخرى، كالكسب المادي من الدين، أو الكسب الاجتماعي، أو هدوء البال والبعد عن الصدام مع المؤسسة الدينية.
ولذلك يكسب التديَّن المليارات حول العالم، لأنَّ مبدأه مبني على أن العفو بيد الله، والغفران والتوفيق منه. وقد تصدق المؤسسة الدينية في عملها فيكون لوجه الله، وقد تكذب في ذلك فتسيّس الخاطئين وتوجههم إلى الصدام أو المكاسب السياسية، هذا أيضا قابل للحدوث.
ودعونا من أفاعيل المؤسسات الدينية الكاذبة، أو المتطرفة فالجميع يعرف أكاذيبها. فلنقل أنمجتمعا متدينا يطبق حقا رسالة الدين بصدقِها وحقيقتها. يخرجُ إنسانٌ من السجن، أو من عالمٍ من الخطايا، أو من عصابةٍ إجرامية، فمن يجد في وجهه؟ يجد العالم الشرس في إطلاق الأحكام، عالم الفرصة الواحدة.
ومن مجرمٍ مسلحٍ بسكين، يمشي ومعه مسدسه يقضي حياته خائفا من الشرطة، إلى مجموعة متدينة تعبد الله، في مأتمٍ، أو في حضرة صوفية، أو في اعتكاف المساجد. ماذا يجد؟ فرصة جديدة للحياة، وتعزيزا مستمرا لكي يتمسك ببدايته الجديدة، ولكي يضع هدفه رضا الله أولا لا رضا الناس، فيقتنع بالتدين.
وللتدين أدبيات قديمة في التصدي لشهوات الإنسان، وطمعه، وجشعه، ودنيويته. فهو سلوكٌ أولا وأخيرا، وعندما يتحول هذا السلوك إلى تغيير وطمأنينة، يتمسك الفردُ المتدين بذلك، وربما يصبح أشد حماسةً له من ذلك الذي ولد وترعرع في هذه البيئة المتدينة، والتي قد يضيق بها ذرعا أحيانا.
ويختلف الناسُ، بعضهم يعودون إلى الله فُرادى، وبعضهم يعود له عن طريق جماعة ويحتاج إلى التأثير الدائم من قبل الأقران. لكن السمة الغالبة على عالمِ التدين: أن الله غفور رحيم. وفي الإسلام: أن باب التوبة مفتوح. لماذا يهجر الدنيا وملذاتها؟ ربما لأنها أقلقته، وملأت حياته بالشرور؟
أما في بيئة التدين فالأمر يختلف، وركّز معي عزيز القارئ، أخصص الكلام على البيئة غير المسيسة، والتي حقَّا تهدف للعطاء وللنقاء، من مجرمٍ مكسيكي في عصابة كبيرة إلى مُسلمٍ دخل الإسلام في السجن وأصبح داعيةً. هو يعلمُ ما في نفسه، ويعلم أيضا أن الإيمان بالله مبني على العودة له دائما.
ولذلكَ يصنعُ مبدأ الفرصة الواحدة الذي تصنعه السلطات، والنخب الاجتماعية، والثقافية جمهوراً كبيرا من الأتباع للمؤسسات الدينية، والمضحك أنهم يغذونَ هذه المؤسسات بملايين الأتباع بسبب هذه النزعة المتزمتة والحادة ليُلفظ الإنسان من المجتمع، خطأ واحد يكفي: مع الله! لك دائما أن تعود.
والدين [كل دين] له أدبيات قديمة في التعامل مع مختلف الحالات البشرية، ومعظمها تتفق، الخلاص موجود، والغفران موجود، وهو من الله وليس من البشر. إن الطمأنينة التي يحققها ذلك للإنسان القلق تكفي قبل أي معتقد ديني ليؤمنَ أن الإيمان بالله منجاة له. البعض يتحمس فليتزم، وقد يتزمت والبعض لا.
وقد لا يكون المرء عالما دينيا، أو فاهما، أو قادراً على فهم تعقيدات الدين وفقهه وتشريعه، لكنه توفيق الله هو ما يهبه طمأنينة إيمان العجائز. فتراه في المسجد [أو المعبد] يفعل الخير، أو يحاول فعله. من الصعب أن تفهم التدين وأنت تفترض أن كل منظوماته الاجتماعية مسيسة، من الصعب أن تنصفه.
ولذلك يجد الإنسان راحته، في عالم العودة لله، ومع أهلِ الدعوة لله. يجد طمأنينته، ويهدأ قلقه، ويسكن روعه. وقد تكون هذه مرحلة ويتركها ويرتد إلى قلقه، وقد تكون هذه حياة يختارها برغبته وإرادته. لذلك هل تلوم البعض عندما يقرر نبذ كل شهوات الدنيا ليكون مطوَّعا؟ هناك أسباب كثيرة لذلك.
وما أكتبه في هذه المقالة يتعلق فقط بالعودة الصادقة لله. هُناك عودة سببها عدائي، أو للتطرف، أو لردة الفعل. وهُناك عودة تبحث عن الطمأنينة، والإنسان وما يختار. الذي يختار التسييس الجمعي فهجرته إلى ما سُيِّس إليه. والذي يختار اليقين، والبحث عن عفو الله فتدينه إلى ما هاجر إليه.
وبشكل عام، التعالي على الدين، وأهلِ الدين له أسبابه المبررة أحيانا، فمن يحترم تديَّن المطوَّع الدجال الذي يكسبُ المال من المرضى النفسيين بقراءة التعويذات وغيرها من الأباطيل؟ وقد يتحمس البعض فيسقط كل تشكيكه في وجود ما وراء المادة، أو وجود الله فيتكهربُ عندما تذكر له لفظة: مطوَّع.
ومن باب الإنصاف، المطوّع ليس بريئا،وقد يكون أسوأ وأوسخَ وأشد نفاقا من غير الملتزم. هذا مُحتمل في هذه الحياة. أقول ذلك فقط لأتجنب الردود الكلاسيكية على شاكلة [أصابعك ليست واحدة] وغيرها من المجادلات الضحلة والمضيعة للوقت. لا يوجد إنسان بريء كليا. ولكن هُناك أسباب للتدين. وهي كثيرة!
ولذلك ما يجده عقلٌ فردٌ من تسمياتٍ كثيرة [إسلامٍ سياسي، تديُّن السلطة، دين الدولة] فقلوبٌ أخرى تجد واقعا مغايرا. تجد جماعة ربَّانية، ومعتزلين للدعوة للخير، ومطبقين للصدقة والزكاة، ولا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم. ثمة قلوب تجد في هذه البيئة طهارةً ونقاءً وفرصة دائمة للعودة لله.
والعودة لله فعلٌ قلبيٌّ في المقام الأوَّل.وتختلف المدارس - حسب حالةِ الفرد - في تحديد الطقوس التي تثبّت أو تجذب العودة لقلبه، عندما يجدُ الإنسان القلوب التي تعينه ليعود لله، وتساعده على فعل الخير، ولا تستغله لصراعاتٍ مسيِّسة، ولا لامتيازاتٍ دنيوية! من يلومه عندما يصبح مطوَّعا؟