حالة من التساؤل، والتأمَّل، هل يا تُرى سأستطيع أن أتحدث بإنصافٍ وحيادٍ عن ما يخطر في ذهني! عن خصالِ، وسلوك الذين يلعبون على الحبلين! كيف يمكنني أن أكتبَ عن هذا الموضوع بدون جلدِ ذات، أو تحيّز، أو تبرير، أو تلميع للأخطاء! أو تضخيم لها!
أستطيع الذهاب إلى سياق جلد الذات الاعتيادي الذي أصبتم بالملل من فرط تكراره، موّال معاوية، والندم واختياراته الخطأ. ما فائدة تجارب الحياة المرَّة إن لم نعصر منها ماء الحكمة؟ سأبدأ بالاعتراف أولاً، نعم، معظم ما سأكتب عنه يتحدث عن تجربتي، وسوء خياراتي. سأضع هذا الاعتراف توضيحا.
ما هي خصال الذين يلعبون على الحبلين؟ وما الذي يجعل إنسانا يفعل ذلك، وأقصد باللعب على الحبلين المعنى الشائع المتداول في عُمان، أن تكون معارضا في الواجهة وفي الحقيقة أنت متزلف متقرب للسلطة وتحقق أجندها، أو العكس. تزعم أنَّك مع السلطة، لكنك في الحقيقة ضدها، وتكيد بها.
نبدأ بالمثال أ
ثمّة لوثة نفسية مرتبطة بالغرور والشعور بالذكاء لما تلعب على الحبلين. أولا تشعر أن الآخرين أغبياء ولا يفهمون وهذا يسهّل على نفسك إغوائك. لماذا تلعب دور المعارض؟ لأنَّ هذا يأتي مع مراتب معنوية يسعى لها البعض، ولأن النضال [الحقيقي] من أجل قضية بطولة لا لبس فيها ولا شِيَة.
أول خصلة لهذا النموذج، هو تضخيمه لوعيه بالمحيط السياسي الذي فيه، واستغلاله لثغرات اجتماعية ــ سياسية يمكنه أن يجد لنفسه موطئ قدمٍ فيها. قد تكون الحقيقة أنَّه ضائع يجرّب اللعب بالنار، أو متسلّق على القضية الوطنية من أجل مصالحه المادية، أو المعنوية. أو مزيج من هذا وذاك.
ماذا يشعر الذي يلعب على الحبلين؟أولا يشعر بالذكاء، وأيضا يشعر أن الآخر غبي. وكما يقولون [يلك العاذرة]، ألا يسمي نفسه معارضا؟ وناشطا؟ إذن هو كذلك. يمتاز هذا النموذج بالغرور الشديد، وكذلك تستولي عليه مشاعر متناقضة من الطمع، والبطولة المزيفة، والشعور العام بالورطة في طريق دخوله سهل.
عادةً تكون في عمر العشرين عندما تتورط بدخول هذا السجال. البعض يذهب لنهاية الطريق، يجابه، يواجه، يُسجن، يخسر، ويكمل المواجهة للنهاية. ولكن ماذا عن الذي يلعب على الحبلين؟ هذا يفكّر في خساراته ويخطط لها. لا عجبَ أن ترى مُعارضا يعيش في نعيم الحكومة وخيراتها. الكل يعرف حقيقته ما عداه!
إضافة إلى خصلة الغرور، لديك لوثة الطمع والشعور الهائل بالاستحقاق. عادةً هذا النموذج لديه شعور أنه يستحق أكثر مما لديه، وأنَّ وعيه خارق للعادة ويسبر أغوار الحقيقة، طيب لماذا تلعب على الحبلين سيقول لك: من الذكاء حفاظي على مصالحي!
بعض هؤلاء لديه معادلة خسارة يعمل بها. نعم، هو مع الحق، ضد الظلم، ضد الطغيان والاستبداد، لكن ما أقصى ما يفعله؟ أن يكتب، هل هو مستعد لدخول السجن والموجهة؟ لا! وهذا النوع أكثر إنسانية من النوع الثاني من النموذج. نظامه [فإن لم يستطع فليغيره بلسانه].
نموذج غير مؤذٍ عادةً.
النوع المؤذي من النموذج أ هو ذلك المصاب بلوثة الاستقواء بالسلطة. فهو [معارض] شكليا، ورغما عن أنف المنطق يجب أن يُعامل بهذا المنطق، ويحدث أن يثق به المعارضون، ويعتبرونه معهم ومنهم وفيهم، عادة الأزمات هي التي تكشف لوثته، وتحذّر النشطاء متأخرا من دوره ووجوده بينهم.
ودائما هذا النوع تلقاه يتكلم عن [الملاحقة] التي يتعرض لها، فهو مراقب، ومقيد، وربما يقول لك أنَّه مُستهدف. فكرة أنَّه مناضل في خطر هي أساس الإقناع الذي يمارسه للمحيط الذي حوله، حتى يجد الفرصة المناسبة للقفزِ من السفينة الغارقة وينضمُّ للسلطة بدون مواربة أو خجل.
الأزمات الكبيرة فقط تكشف حقائق البشر. ولعل كثيرين لديهم ألف مثال لمثقف عُرف أنَّه لسان الشعب الناطق حتى يحدث أول زلزال، وقتها تأتي الصدمة، هذا الذي ظنناه مع الشعب يتضح إنه متسلق آخر، متزلف.
البعض يكتفي بالتوقف والابتعاد، ما أن يغضب الناس يبتعد، ثم يعود لدور المعارض الناعم.
والبعض يلعب على الحبلين تلقائيا. على جانب يعاني من ضغوط اجتماعية شديدة ونصّبه أتباعه متحدثا باسم القضية القومية، وفي الجانب الآخر لديه مصالحه، أو وظيفته التي يريد الحفاظ عليها، وأحيانا لديه منصب يسعى بكل ثبات وجهد للوصول له.
هذا نموذج آخر غير مؤذٍ، وعدائيته محدودة ومقننة.
ماذا عن اللاعب الكبير؟ الذي انخرطَ في هذا السجال حتى استحال خروجُه! هذا هو حقا أكثر الناس تورطا في هذا العالم المعقّد الذي الارتياب والكراهية والغضب أساس العمل فيه. ستقلع العين الحقائق المتعلقة به وبنشاطه [الممانع]. لكنَّه شئتَ أم أبيت [مُعارض معترف به] وعضو فاعل في الممانعة.
ولكل من يلعب على الحبلين تاريخ صلاحية قبل أن تفشل خطته، أو ينكشف أنَّه السوسة التي تنخر صدقَ ونقاء من يقولون [لا] لظروف حياتية ألقت بهم في دوّامة الممانعة. عادة يحدث ذلك متأخرا، وبعد أن يكون جهَّز هذا اللاعب الكبير الدفاعات الكافية التي ستحميه من ردّة الفعل. إنَّه مع السلطة الآن!
ومن ناشطٍ ومُعارضٍ أو ربما مثقّف ثوري إلى أداة من أدوات السلطة، بل وربما سلاح من أسلحتها! والعالم العربي غني بهذه الأمثلة. كيف تحدث هذه النهايات؟
كلها تبدأ من هذه الخصال التي قد يظنها المرء عاديّة ونمطية حتى يرى نهاياتها!
مصير مأساوي مرعب لكل ما له علاقة بالحقيقة، والصدق.
يلعب البعض على الحبلين، حفاظا على سلامته أولا وأخيرا. فلا هو يطرح نفسه [كمعارض] ولا يزعم أنَّه يميني سلطوي. لذلك ما تشيع صفة [ناقد] عن هؤلاء الناس. يمتازون بصدق عالٍ مع الذات، وبعدٍ عن صراع التعريفات، يقول ما لديه بالحد الممكن ويدرس خساراته بدقة ويتجنب أن يكون أداة!
طوبى لهؤلاء.
النموذج أ: النوع الذي يتفق الناس على رداءته الشخصية والنفسية لديه غضب شديد، على السلطة [التي لا تفهم عملها] وعلى الناس [الذين يجهلون]. وعلى الذين يحاول أن يكون مثلهم لأنَّهم لا يجيدون اللعبة. تحاول أن تستخرج منطقا من كلامه ولا تجد سوى لوثة مظلمة من لوثات النفس البشرية!
الطمع والجشع صفة مُلازمة لمن يلعب على الحبلين، كل هذا مطيَّة لمكاسب مستمرة، فعلى الجانب الأيمن هو مُعارض مخفف غير مؤذٍ وهو أقدر من غيره على تحقيق أجندة السلطة، وعلى الجانب الأيسر هو مثقف مستهدف، وممانع محترف. ماذا عن مكاسبه؟ مادية ومعنوية، ويريد أن يربح كل شيء، من كل جانب.
في مثل هذه السجالات قد تذهب حياة كاملة، يعيشُ البعض ويموتون في هذه المسرحية المريرة، لا يستطيع الخروج، ولا يستطيع التوقف، إن هذا هو الشيء الوحيد الذي يجيده، أن يبقى دائما معتمدا على كونه [معارض] كما تقول الكلمة الشائعة بينما هو في الحقيقة جندي مخلص للعبة أكبر منه.
هُناك نوع آخر من الذين يلعبون على الحبلين، وهو نموذج نادرا ما يظهر في الساحات الاجتماعية، إنَّه الموالي شكليا، ولكنه في الحقيقة أكثر من مُعارض، قد يكون خائنا بكل معاني الكلمة لكل ما له علاقة بوطن أو مجتمع، حالة صافية من الشر. عادة قطب في نظام سابق، أو مسؤول سابق، أو رئيس سابق.
هؤلاء عادة يظهرون من تفسّخ أي سلطة، أو من الفئران التي تغادر السفن الغارقة أولا. هؤلاء هم الذين يمهدون لجيوش الاحتلال لتدخل أوطانهم، وهؤلاء هم الذين يتحولون إلى أداة طغيان وقمع، هذا النموذج لا تُظهره الأزمات فحسب، هذا النموذج يظهر مع الكوابيس والكوارث الجسيمة والشديدة.
وياللغرابة! ينال القبول والاحترام الاجتماعي ذلك الإنسان اليميني، المتسلط، المغالي في انتمائه للسلطة أكثر بكثير من هذا الممانع المخفف. وكذلك العدائي، الذي يلعب على حبل واحد قادم من نسيج المشانق الثورية. أما هؤلاء الذين في منزلة بين المنزلتين فاجتماعيا يبقى تجاههم المقت أو الريبة.
وهو جحيم حقيقي لمن يدخل هذه السجالات، ولا سيما إن كانت لديه المهارات المناسبة ليبقى في هذا السجال حتى النهاية. البعض يسعى بهوسٍ إلى هذه الأدوار المعنوية وقد ينصدمُ بالحقيقة المُرَّة، أن عدد الأنقياء في هذا العالم قليل جدا، ومعظمهم ماتوا من أجل معاركهم.
أصعبُ حياة يمكن أن يعيشها الإنسان هي تلك التي تكون فيها الحقيقة غير مهمة. يا إلهي! أي كابوس يمكن أن يبتلع حياة إنسان لعمرٍ كاملٍ فقط لأنَّه ظنَّ أن هذا السجال الأزلي نزهة سيجيد الخروج منها بدون خسائر!
إن دخلتَ هذا العالم فاعلم، ستخرج منه خاسرا كل شيء. ربما حتى خسارتك لنفسك!
وهذه خصال الطمع، والكبر، ما تفعله في العالم تكفي لنفهم أين يكمن الشيطان في هذا الكوكب! كيف يتحول ثائر سابق إلى زعيم دولةٍ سفّاح! كيف يكسرنا الأمل تجاه أشخاص ظننا بهم خيرا ونفعا للناس وإذا بالحقيقة تلطم الآمال، فلانٌ رخيصٌ، مثل كثيرين، لماذا؟
كان يلعب على الحبلين!