بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 أغسطس 2021

قليل من دروس الأخطاء

 حالة من التساؤل، والتأمَّل، هل يا تُرى سأستطيع أن أتحدث بإنصافٍ وحيادٍ عن ما يخطر في ذهني! عن خصالِ، وسلوك الذين يلعبون على الحبلين! كيف يمكنني أن أكتبَ عن هذا الموضوع بدون جلدِ ذات، أو تحيّز، أو تبرير، أو تلميع للأخطاء! أو تضخيم لها!

أستطيع الذهاب إلى سياق جلد الذات الاعتيادي الذي أصبتم بالملل من فرط تكراره، موّال معاوية، والندم واختياراته الخطأ. ما فائدة تجارب الحياة المرَّة إن لم نعصر منها ماء الحكمة؟ سأبدأ بالاعتراف أولاً، نعم، معظم ما سأكتب عنه يتحدث عن تجربتي، وسوء خياراتي. سأضع هذا الاعتراف توضيحا.
ما هي خصال الذين يلعبون على الحبلين؟ وما الذي يجعل إنسانا يفعل ذلك، وأقصد باللعب على الحبلين المعنى الشائع المتداول في عُمان، أن تكون معارضا في الواجهة وفي الحقيقة أنت متزلف متقرب للسلطة وتحقق أجندها، أو العكس. تزعم أنَّك مع السلطة، لكنك في الحقيقة ضدها، وتكيد بها. نبدأ بالمثال أ
ثمّة لوثة نفسية مرتبطة بالغرور والشعور بالذكاء لما تلعب على الحبلين. أولا تشعر أن الآخرين أغبياء ولا يفهمون وهذا يسهّل على نفسك إغوائك. لماذا تلعب دور المعارض؟ لأنَّ هذا يأتي مع مراتب معنوية يسعى لها البعض، ولأن النضال [الحقيقي] من أجل قضية بطولة لا لبس فيها ولا شِيَة.
أول خصلة لهذا النموذج، هو تضخيمه لوعيه بالمحيط السياسي الذي فيه، واستغلاله لثغرات اجتماعية ــ سياسية يمكنه أن يجد لنفسه موطئ قدمٍ فيها. قد تكون الحقيقة أنَّه ضائع يجرّب اللعب بالنار، أو متسلّق على القضية الوطنية من أجل مصالحه المادية، أو المعنوية. أو مزيج من هذا وذاك.
ماذا يشعر الذي يلعب على الحبلين؟أولا يشعر بالذكاء، وأيضا يشعر أن الآخر غبي. وكما يقولون [يلك العاذرة]، ألا يسمي نفسه معارضا؟ وناشطا؟ إذن هو كذلك. يمتاز هذا النموذج بالغرور الشديد، وكذلك تستولي عليه مشاعر متناقضة من الطمع، والبطولة المزيفة، والشعور العام بالورطة في طريق دخوله سهل.
عادةً تكون في عمر العشرين عندما تتورط بدخول هذا السجال. البعض يذهب لنهاية الطريق، يجابه، يواجه، يُسجن، يخسر، ويكمل المواجهة للنهاية. ولكن ماذا عن الذي يلعب على الحبلين؟ هذا يفكّر في خساراته ويخطط لها. لا عجبَ أن ترى مُعارضا يعيش في نعيم الحكومة وخيراتها. الكل يعرف حقيقته ما عداه!
إضافة إلى خصلة الغرور، لديك لوثة الطمع والشعور الهائل بالاستحقاق. عادةً هذا النموذج لديه شعور أنه يستحق أكثر مما لديه، وأنَّ وعيه خارق للعادة ويسبر أغوار الحقيقة، طيب لماذا تلعب على الحبلين سيقول لك: من الذكاء حفاظي على مصالحي!
بعض هؤلاء لديه معادلة خسارة يعمل بها. نعم، هو مع الحق، ضد الظلم، ضد الطغيان والاستبداد، لكن ما أقصى ما يفعله؟ أن يكتب، هل هو مستعد لدخول السجن والموجهة؟ لا! وهذا النوع أكثر إنسانية من النوع الثاني من النموذج. نظامه [فإن لم يستطع فليغيره بلسانه]. نموذج غير مؤذٍ عادةً.
النوع المؤذي من النموذج أ هو ذلك المصاب بلوثة الاستقواء بالسلطة. فهو [معارض] شكليا، ورغما عن أنف المنطق يجب أن يُعامل بهذا المنطق، ويحدث أن يثق به المعارضون، ويعتبرونه معهم ومنهم وفيهم، عادة الأزمات هي التي تكشف لوثته، وتحذّر النشطاء متأخرا من دوره ووجوده بينهم.
ودائما هذا النوع تلقاه يتكلم عن [الملاحقة] التي يتعرض لها، فهو مراقب، ومقيد، وربما يقول لك أنَّه مُستهدف. فكرة أنَّه مناضل في خطر هي أساس الإقناع الذي يمارسه للمحيط الذي حوله، حتى يجد الفرصة المناسبة للقفزِ من السفينة الغارقة وينضمُّ للسلطة بدون مواربة أو خجل.
الأزمات الكبيرة فقط تكشف حقائق البشر. ولعل كثيرين لديهم ألف مثال لمثقف عُرف أنَّه لسان الشعب الناطق حتى يحدث أول زلزال، وقتها تأتي الصدمة، هذا الذي ظنناه مع الشعب يتضح إنه متسلق آخر، متزلف. البعض يكتفي بالتوقف والابتعاد، ما أن يغضب الناس يبتعد، ثم يعود لدور المعارض الناعم.
والبعض يلعب على الحبلين تلقائيا. على جانب يعاني من ضغوط اجتماعية شديدة ونصّبه أتباعه متحدثا باسم القضية القومية، وفي الجانب الآخر لديه مصالحه، أو وظيفته التي يريد الحفاظ عليها، وأحيانا لديه منصب يسعى بكل ثبات وجهد للوصول له. هذا نموذج آخر غير مؤذٍ، وعدائيته محدودة ومقننة.
ماذا عن اللاعب الكبير؟ الذي انخرطَ في هذا السجال حتى استحال خروجُه! هذا هو حقا أكثر الناس تورطا في هذا العالم المعقّد الذي الارتياب والكراهية والغضب أساس العمل فيه. ستقلع العين الحقائق المتعلقة به وبنشاطه [الممانع]. لكنَّه شئتَ أم أبيت [مُعارض معترف به] وعضو فاعل في الممانعة.
ولكل من يلعب على الحبلين تاريخ صلاحية قبل أن تفشل خطته، أو ينكشف أنَّه السوسة التي تنخر صدقَ ونقاء من يقولون [لا] لظروف حياتية ألقت بهم في دوّامة الممانعة. عادة يحدث ذلك متأخرا، وبعد أن يكون جهَّز هذا اللاعب الكبير الدفاعات الكافية التي ستحميه من ردّة الفعل. إنَّه مع السلطة الآن!
ومن ناشطٍ ومُعارضٍ أو ربما مثقّف ثوري إلى أداة من أدوات السلطة، بل وربما سلاح من أسلحتها! والعالم العربي غني بهذه الأمثلة. كيف تحدث هذه النهايات؟ كلها تبدأ من هذه الخصال التي قد يظنها المرء عاديّة ونمطية حتى يرى نهاياتها! مصير مأساوي مرعب لكل ما له علاقة بالحقيقة، والصدق.
يلعب البعض على الحبلين، حفاظا على سلامته أولا وأخيرا. فلا هو يطرح نفسه [كمعارض] ولا يزعم أنَّه يميني سلطوي. لذلك ما تشيع صفة [ناقد] عن هؤلاء الناس. يمتازون بصدق عالٍ مع الذات، وبعدٍ عن صراع التعريفات، يقول ما لديه بالحد الممكن ويدرس خساراته بدقة ويتجنب أن يكون أداة! طوبى لهؤلاء.
النموذج أ: النوع الذي يتفق الناس على رداءته الشخصية والنفسية لديه غضب شديد، على السلطة [التي لا تفهم عملها] وعلى الناس [الذين يجهلون]. وعلى الذين يحاول أن يكون مثلهم لأنَّهم لا يجيدون اللعبة. تحاول أن تستخرج منطقا من كلامه ولا تجد سوى لوثة مظلمة من لوثات النفس البشرية!
الطمع والجشع صفة مُلازمة لمن يلعب على الحبلين، كل هذا مطيَّة لمكاسب مستمرة، فعلى الجانب الأيمن هو مُعارض مخفف غير مؤذٍ وهو أقدر من غيره على تحقيق أجندة السلطة، وعلى الجانب الأيسر هو مثقف مستهدف، وممانع محترف. ماذا عن مكاسبه؟ مادية ومعنوية، ويريد أن يربح كل شيء، من كل جانب.
في مثل هذه السجالات قد تذهب حياة كاملة، يعيشُ البعض ويموتون في هذه المسرحية المريرة، لا يستطيع الخروج، ولا يستطيع التوقف، إن هذا هو الشيء الوحيد الذي يجيده، أن يبقى دائما معتمدا على كونه [معارض] كما تقول الكلمة الشائعة بينما هو في الحقيقة جندي مخلص للعبة أكبر منه.
هُناك نوع آخر من الذين يلعبون على الحبلين، وهو نموذج نادرا ما يظهر في الساحات الاجتماعية، إنَّه الموالي شكليا، ولكنه في الحقيقة أكثر من مُعارض، قد يكون خائنا بكل معاني الكلمة لكل ما له علاقة بوطن أو مجتمع، حالة صافية من الشر. عادة قطب في نظام سابق، أو مسؤول سابق، أو رئيس سابق.
هؤلاء عادة يظهرون من تفسّخ أي سلطة، أو من الفئران التي تغادر السفن الغارقة أولا. هؤلاء هم الذين يمهدون لجيوش الاحتلال لتدخل أوطانهم، وهؤلاء هم الذين يتحولون إلى أداة طغيان وقمع، هذا النموذج لا تُظهره الأزمات فحسب، هذا النموذج يظهر مع الكوابيس والكوارث الجسيمة والشديدة.
وياللغرابة! ينال القبول والاحترام الاجتماعي ذلك الإنسان اليميني، المتسلط، المغالي في انتمائه للسلطة أكثر بكثير من هذا الممانع المخفف. وكذلك العدائي، الذي يلعب على حبل واحد قادم من نسيج المشانق الثورية. أما هؤلاء الذين في منزلة بين المنزلتين فاجتماعيا يبقى تجاههم المقت أو الريبة.
وهو جحيم حقيقي لمن يدخل هذه السجالات، ولا سيما إن كانت لديه المهارات المناسبة ليبقى في هذا السجال حتى النهاية. البعض يسعى بهوسٍ إلى هذه الأدوار المعنوية وقد ينصدمُ بالحقيقة المُرَّة، أن عدد الأنقياء في هذا العالم قليل جدا، ومعظمهم ماتوا من أجل معاركهم.
أصعبُ حياة يمكن أن يعيشها الإنسان هي تلك التي تكون فيها الحقيقة غير مهمة. يا إلهي! أي كابوس يمكن أن يبتلع حياة إنسان لعمرٍ كاملٍ فقط لأنَّه ظنَّ أن هذا السجال الأزلي نزهة سيجيد الخروج منها بدون خسائر! إن دخلتَ هذا العالم فاعلم، ستخرج منه خاسرا كل شيء. ربما حتى خسارتك لنفسك!
وهذه خصال الطمع، والكبر، ما تفعله في العالم تكفي لنفهم أين يكمن الشيطان في هذا الكوكب! كيف يتحول ثائر سابق إلى زعيم دولةٍ سفّاح! كيف يكسرنا الأمل تجاه أشخاص ظننا بهم خيرا ونفعا للناس وإذا بالحقيقة تلطم الآمال، فلانٌ رخيصٌ، مثل كثيرين، لماذا؟ كان يلعب على الحبلين!

الثلاثاء، 24 أغسطس 2021

لحظة عودة

 يحدث موقفٌ ما، فأمسكُ أعصابي. قد تغلي عروقي غضبا، أنفقُ كل ما تعلمته من تمارين الحضور الذهني، والتأمل وأحاول عزلَ نفسي عن ذلك المؤثر السيء. أنجحُ أحيانا فأشعر بحبور الكشفِ الجديد، وأفشل أحيانا فأشعرُ بضخامة مُشكلتي في هذه الحياة. معركة مستمرة لا تتوقف والأدوية ليست حلَّها الوحيد.

أعي مشكلتي النفسية، وأعرف حلولَها الدوائية والسلوكية. اعتلال المزاج والشخصية ليست مشاكل سهلة لتتعايش معها بسهولة. أن تكون حاضراً في المجتمع، ونشطاً في الكتابة، وفاعلا في التعبير عن رأيك، كل هذا يجعل الأمر أصعب وأصعب، أعترف أنني أصاب بالتعب من مغالبة هذه النفس القابلة للاشتعال.
تغيرت الظروف كثيراً، وجزاه الله خيرا الذي يسّر ذلك. لست في مواجهة لا مع نظام، ولا مع أجهزة دولة، ولست من الأساس في معركةٍ خارجَ وجودي الفردي وحقوقي في الحياة. سنواتٌ من الفوضى والمواجهات العبثية انتهت، كانت معارك أسهل بكثير من هذه التي أواجهها بمفردي، وحيدا في كوكبي النفسي.
أقاوم ما استطعت لكنني لن أتجرأ أن أجعلَ الوهمَ صديقا. حدثَ ما حدثَ وأصبحت حالتي النفسية، والعقلية، وتشخيصي حديث الغرباء. إنَّه مجرد سلوك تعويضي على الجانب ما أحاول فعله من توعية، كل ذلك هباء في هباء، المرض العقلي وصمةٌ شئتُ ذلك أم أبيت، وهُناك من سيتخذ ذلك متكأً مهما كنتُ منطقيا.
لذلك وجدت في الفردية ملاذي، يمكنك أن تحولها للوجودية إن كنت من عشاق تصنيفات لائحة الفيفا الرسمية، أكتفي بتسميتها بالفردية. فهي معركتي الأصعب، مع العدو الأخطر على حياتي. أقاومُ وأناضلُ ولقد سلّمت بالأمر الواقع، هذه المعركة الوحيدة التي لن تنتهي من حياتي، أبدا!
والحمد لله، شتّان بين عُمر العشرين وذلك الجنون الجامح، والآن. أحماضُ الاكتئاب تنخرُ الرئتين، ويخففها ماء الكلام ودفق المشاعر. أما الانطلاق المجنون نحو الجحيم فقد تغير أيضا، يبقى كامنا، جاهزا للانطلاق، ولكن شتّان بين ما كان وما هو كائن الآن. هل ضعفَ المرض؟ أم قويتُ عليه! لا أدري!
لم أعد أستغربُ ردَّة فعل الغرباء، ولا تجنّيهم على الحقيقة بل وحتى التناقض الفادح لعشاق التأطير في وضعي! عبقري، أو خبلة! ذكي جداً وداهية يخطط لكل شيء، أو مريض يقوده المرض إلى ما هو عليه، لعبة إسقاطات، وتاريخٌ معقّد من الأخطاء من الآخر تجاهي، ومني تجاه الآخر، الأمر معقد جدا جدا!
وإن كان لا بد من إنصاف الخصم، أستطيع أن أقول أن معاركَ كثيرة في حياتي كانت ملهاةً لتشغلني عن هذه المعركة الأصعب. بيني وبين الاكتئاب أسبوع بلا رياضة، أو تسعة أيام من لخبطة النوم، وهذا ليس الجانب الأصعب. هُنا ذلك الاشتعال في القلب الذي أتعلم حرق القش الذي حوله ببطء، وبحذر شديد.
ولا تعلمُ من أين ستلقاها؟ من المحب؟ أم من المُبغض؟ فالمحب يرهقك بالآمال، والأمنيات، ويسبغ على حياتك صفات ليست بها! ماذا يكون معاوية؟ ليس أكثرَ من كاتبٍ استطاع بعد سنوات أن يتعلم الدفاع عن حقوقِه، هل ترى هذه السطور؟ هذا الذي قاتلت السنين لأتمكن من الحفاظ عليه. حقي في الكتابة.
ولا انتصارات كبيرة في حياتي غير عودة الطبيعي. الحُكم القاسي الذي قد يصدره المحب أو المبغض، أو المتنصل من واجبه في التحليل المنطقي أن فلانا مريض نفسياً. طيّب وماذا بعد ذلك؟ يُقمع، ويُهان؟ يُسجن في مرضه للنهاية؟ يُسحب منه حق الكلام؟ أي قسوة في هذه الحياة تجعل الإنسان غاضبا!
سبحان الله الرحمن الرحيم! ذقتُ درسا صعبا بعد عودتي لعمان، كسرٌ في الكتف كان كافيا لأجدَني في مواجهة مع هذا الكابوس مجددا، ما أصعب أن تعيش وأنت تعلم أن عدوَّك بك، ومنك، أن عدوّك هو أنت، أنك أخطرُ على نفسك من أي مؤثر خارجي! نصف عام بلا دراجةٍ ويستيقظ الكابوس مجددا!
المعركةُ في مكانٍ آخر، في قعرٍ سحيقٍ من محيطات اللاوعي المفزعة. ذهبتُ في رحلةٍ في عالم الجنون وعدتُ منها غير عاقلٍ وغير مجنون. ما أصعب أن تكون أقصى أمنياتك حياةً عاديَّة مملةً، ما أفدحَ أن يكون أملك الوحيد أن تتقي شرَّ نفسك. ما أقسى أن تحبَّ هذا الذي يراك مريضا ميئوسا منه!
رحلةُ دراجة ويتفشى المنطق في ذهني كلون الزعفران في الماء. لم أكن هذا الشخص الذي يكتب الآن قبل أمس! كنت أعرفُ دائي ودوائي، لكنني الآن أعرفُ الصواب وأريد فعله، وأتجنب الخطأ وأخشى فعله، قبل أمس لم أكن هذا الشخص، عدتُ إلى وضعي السابق كلغمٍ مرمي في زقاق عبثي في هذه الحياة!
المعركة في مكانٍ آخر، حيث لا ينفذُ من الحياة إلا الأفكار، وصراعها الذاتي، أشعةُ المعنى مع مادة الجسد. أعلم أنني سأقاتل، وسأحاول، وسأبذل ما استطعتُ من الجهد لأبقي كل شيء حولي عاديا، ومملا، وروتينيا. طوبى لمن ظنَّ بحياتِه خيراً، وطوبى لمن آمن بالله بعد شتاتٍ وتعب.
من هذا الذي يكتب الآن؟ ذلك الإنسان المُستجد على ذاتِه، عمره أربع سنوات، أما شاعرُ الشرِّ، الصفيق، الحاقد، الانتقامي، المدمنُ، العنيد، المكابر، المتكبر، المختال، المؤذي فهو يتربصُ أسفل هذه العروق الجديدة، ينتظر فرصة للخروج. يعلمُ الله نهاية هذه المعركة، وما أعلمه أنني سأقاوم.

الأحد، 22 أغسطس 2021

الكُرسي

 

 

ارتبكَ في مشيِه وكأنَّه تلميذ قلق يبحث عن الكلمة المُناسبة، كلمةً يعرفها ونسيها وليس له إلا وحي اللحظة ليذكره بها. التفتت نحوَه باعةُ الرصيف مستغربينَ. تعلثمت حركتُه فبدأ يدور حولَ نفسَه، وطفق يحدق في لوحاتِ المحلاتِ التجارية بدهشةٍ بيّنة. انتبهت مجموعةٌ من الصبية المتجمهرين في نهايةِ الشارع إليه. تقدَّمَ أكبرهم سنَّا إليه مقاوما شبح ابتسامةٍ لم يجد إخفاءها جيدا. انتبهَ بائع الفخاريات إلى اقترابِ الشابِّ المُشاغبِ فسارعَ إلى تقديم كُرسيٍّ للرجلِ التائه في وسط الطريق، فتراجعُ الصبيُّ موحيا لمن حولَه ببحثِه عن الولاعةِ التي سقطت في مكانٍ مجهولٍ ثمَّ عادة إلى رفاقِه هازَّا كتفيه، ماطَّا شفتيه آسفاً على ضياعِ فُرصةٍ ما.

-   أي أنت أيها الرجل، هل أنت بخير؟

قالها بائع الفخاريات وهو يضع الكرسيُّ قاطعاً المسار الدائري الذي لم يتوقفُ الرجلُ عن دورانِه. لم يجلسِ الرجلُ وإنما وضع الكرسيَّ في مركزِ دورانه واتكأ بيده اليُسرى عليه وبدأ بالدوران بسرعةٍ أكبر. تبادل الباعةُ نظراتِ الاستغرابِ، وتوجهت العيون نحو العمِّ إبراهيم وكرسيه بحثاً عن إجابةٍ تروي ظمأ فضولهم.

-   هل أصبح السكارى يخرجون نهارا؟

قالت بائعة الخضار لزوجِها الذي تجاهلَ ما قالته وذهبَ إلى العم إبراهيم زاعما حاجته لمقص. سحب العمُّ إبراهيمُ الكرسي تدريجيا مُبعدا الرجل عن زحامِ السيارات. استقر طواف الرجل حول الكرسي ليبقى داخل الرصيف بعيدا عن الشارع. انتصفت شمسُ الظهيرةِ وعادُ الباعةُ إلى سيّاراتهم لترتيب البضائع. اختفى زبائنُ السوقُ ولم يبق غيرهم وذلك الرجل الذي واصل الدوران حول الكرسيِّ بلا توقَّف. أثناء تناولِهم القهوةَ تبادلُ الباعةُ النكات والطرائف والذكريات للأحداث المُشابهةِ التي مرُّوا بها ساردين حكايات السُكارى والمجانين الذين مرَّوا على السوقِ ساخرين أو شامتين أو متعاطفين مع النهايات الحزينة والمضحكة التي ختمت قصصهم.

تصبب العرقُ من رجل الكرسي مما دفع بالعم إبراهيم إلى رشِّه بالماء. لم يبدُ الطائفُ ردة فعلٍ على ذلك مما شجَّع الباعةَ صغار السنِّ على الصياح ببعض التعليقات الساخرة. مع بدايةِ العصر عاد الصبية المشاغبون إلى ركنِهم الاعتيادي، واستأنف السوق أعمالَه ونشاطَه وازدحم الزبائن، وارتفعَ صخب الجدال في جنباتِ الشارعِ القصير.

أخذ العمُّ إبراهيم كوباً من الماء إلى الرجلِ الذي واصلَ الطواف حول الكرسيُّ بملامح جامدة وأحداقٍ متسعة. حاول البائع الكهل لفت انتباهِ الطائف المحموم عدَّة مرَّات قبلَ أن يقرر قطع مسارِه ليضعَ الكوب على الكرسي ليعاود الوقوف على دكة المعروضات.

-   العم إبراهيم يريدُ استعادة كرسيه وهذا الرجل فقد عقلَه! إنَّه يدور حول هذا الكرسي منذ الظهيرة؟ أنا أقول اجلبوا له الإسعاف تأخذه إلى مستشفى المجانين!

قالت بائعة الخُضار العجوز!

أخذت الشمسُ طريقها نحو الغروب، وبدأ الباعة في ترتيب بضائعهم في سيّاراتهم. وزَّع العم إبراهيم نظراتِه بقلقٍ بين الرجل الذي لم يتوقف عن الطواف حول كرسيه وثلَّة المشاغبين في نهاية الشارع، ونقَّل نظراتِه بين الساعةِ الثمينة التي يلبسها الرجل، والإيماءات التي كانت تصدرُ منهم. بعد أن فرغَ السوقُ من المرتادين أجَّل الباعة جلاءهم منه وتحلقوا أمامَ دكَّة العم إبراهيم متبادلين التحليلات حول ما حدث للرجل.

-   لقد أصيب بجلطة، استدعوا له الإسعاف هذا الشخص قد يكون في خطر!

-   كيف أصيب بجلطة؟ إنه يمشي منذ أربع ساعات بلا توقَّف! من المؤكد أنَّه هُنا لسبب آخر!

-   ربما كان شرطيا من التحريات! ألا ترى خوف أولئك المشاغبين منه؟ إنَّه يستهدفهم بلا شكّ!

-   أيها الناس أليس في قلوبكم رحمة؟ هذا الشخص مجنون، ويجب أن تبلغوا الشرطة لتعيده إلى أهله سالما.

أظلم الوقتُ وبدأ الباعة بالانفضاض عن التجمَّع الجزافي الذي جمعهم أمام دكة العمِّ إبراهيم.

شعرُّ العم إبراهيم بمسؤولية ما تجاهَ الرجل، وفضلا عن رغبته في استعادة كرسيه فإنَّه أيضا شعرَ بالخوف من مصير الرجلِ إن تُركَ في الظلامِ.

-   ربما كان جائعا؟

تساءل العمُّ إبراهيم فأخذ صحنا من التمر وذهب به للرجل الذي تجاهله وواصل الدوران حول الكرسي. حاولَ العمُّ إبراهيم أن يلفت انتباهه بلا فائدة. تناقصُ عدد مرتادي السوق ولم يبق إلا ثلاثة تجارٍ لا غير كلُّهم انشغلوا بالنظرِ إلى الرجل الذي واصل الدورانَ حول الكرسي بلا توقَّف.

-   لولا كوب الماء في الكرسيُّ لربما قُلنا إنه يعبدُ صنما من تمر.

نهرَ العم إبراهيم البائع الشاب بنظرةٍ مؤنبة وقال منزعجا:

-   أريد الكرسي، وليحدث ما يحدث، سيموت هذا الرجل هذا المساء بسبب ساعته الثمينة! فليغفر الله لي لم يعد بيدي شيء أفعله لأساعده.

قال البائع الشاب: خذ كرسيك، لقد مرَّت خمس ساعات وهذا الرجل لا يتوقف، سيحل الظلام قريبا وليس من الحكمة أن نبقى هُنا ومعنا أموال بيع اليومِ كلّها، إن لم تفعل شيئا سأرحل وأتركك لوحدك.

تنهَّد العم إبراهيم تنهيدة طويلة ثمَّ هزَّ رأسه موافقا بضيقٍ لا يخفى من الاضطرار الذي نزل بساحتِه. قرر أن يحاول تنبيهَ الرجلَ الطائفَ لمرَّة أخيرة.

بخطواتٍ لم تخلُّ من العرج الطفيف نتيجة الوقوف طوال اليوم وقفَ العمُّ إبراهيم في مسار الفلك الدائرِ للرجل الطائف. اصطدمُ الرجلُ بالعمِّ إبراهيم وكأد أن يعود لمساره لولا أن البائع الكهل أمسكه من كتفيه وهزَّه بشدَّة.

-   أنت على هذا الحال منذ أكثر من خمس ساعات، إمَّا أن تعود لرشدك أو أخذت الكرسي وتركتك لمصيرِك في الشارع.

تلفَّت الرجلُ الزائغ حولَه وقال: ولكنني أريد الكرسي! لا تأخذ الكرسي!

قال العم إبراهيم بضيق: هذا ليس كرسيك، لقد قضيت معظم اليوم واقفا بسببك.

ثم قال وهو يقدِّم له كوب الماء والتمر: ألست جائعا؟ ألا تريد أن تشرب القليل من الماء؟ من المؤكد أنَّك مرهق بعد كل هذا المشي!

حاول الرجل الزائغ أن يعاود المشي إلا أن العم إبراهيم سدَّ عليه الطريق. وضع الرجلُ يده على كتفِ العمِّ إبراهيم محاولا إزاحته مما دفع بالبائع الشاب إلى التدخلِ. زاغت عينا الرجل الطائف وبدأ متردداً في اتخاذ خطوته القادمة. صمتَ الثلاثة متبادلين النظرات قبل أن يقول العم إبراهيم بلطف:

-   أنت تحتاج للقليل من الراحة، اشرب بعض الماء ودعني أوصلُك إلى منزلك.

رد عليه الرجل بلوعة: ولكنني أحتاج للكرسي، أريدُه لأستمر.

صرخَ البائع الشاب في وجهه: تستمرُ في ماذا؟ الدوران حوله! لقد حل الظلام يا هذا، وسوف يفتكونَ بك هُنا إن لم تعد لمنزلِك!

علت ملامحُ الطائف الدهشة أمام صرخة البائع الشاب وبدا كما لو كان خسر نزالا ولا مفر من الاعتراف بهزيمته. هدأ تشنجه بعض الشيء ورمق العم إبراهيم بنظرة متوسلة.

-   لقد انتهى وقتك مع الكرسي، إنه وقت العودة للمنزل، ساعات وأنت على هذا الحال، ترفق بنفسك يا رجل!

جالَ الطائف بنظراتِه في كلِّ ما حولِه. مدَّ العم إبراهيم يديه بكوب الماء وصحنِ التمر. رفض الرجلُ الزائغُ اليدين الممدودتين وبدأ يرتجفُ بشكل واضح!

-   إنَّه مصاب الصرع! هذا مصروع!

أسقط في يد العم إبراهيم ولم يعرف ماذا عساه أن يفعل، أما البائع الشاب فقد دفع بالكرسي ليلزم الطائف بالجلوس. استمرَّت رجفتُه لدقائق قبل أن يميل برأسه للجانب ثم يُطلق تنهيدةً طويلة!

قال البائع الشاب: يبدو أن الشياطن الذي لبسَه قد خرجَ منه أخيرا!

لم يكد العم إبراهيم أن يردَّ إلا لتلفح أنفَه رائحةٍ كريهةً قادمةً من الكرسي. ارتدَّ البائع الشاب متقززاً أما العمُّ إبراهيم فقد صرخَ في وجه الجالسِ بغيظ:

-   أيها الأحمق هل ظننت أن هذا الكرسي حمام عموميّ، اذهب للجحيم لعنة الله عليك!

ركبَ البائعان سيارتيهما وغادرا المكان تاركين الرجلَ في كرسيه، وفور رحيلهما اقتربُ زعيم الصبيةِ من الرجل الجالس على الكرسي وبعد أن تلفَّت بما يكفي وتأكد من خلو المكان سحبَ الساعة الثمينة وأخذها وانصرف هو ورفاقه. أظلمَ الشارعُ، وعندما تيقن الجالس على الكرسيِّ من خلوِّ المكان، قامَ وواصلِ الدوران حول الكرسي غير عابئ بالكتل غير المتجانسةِ من الأوساخِ التي تساقطت ببطء  في مساره الدائري.

 

 

الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

Free Solo

 

انتهيت قبل قليل من مشاهدة الفيلم الوثائقي [Free Solo]. يوصَفُ الوقتُ المقضي في مشاهدة هذا الفيلم برحلةٍ نمتَ فيها مغناطيسياً على يدٍ خبيرٍ مُحترفٍ يعلم صنعته، ويتقنُ تأثيره. وكأنني نمتُ واستيقظتُ لأشعرَ أن ساعةً وأربعين دقيقةً كانت نزوةً في عالم الأحلام. لعلها المرة العاشرة، ربما أكثر، وأعظمُ الأعمالِ الإبداعيةِ تُلك التي تُشعرك أنك تشاهدها للمرَّة الأولى دائما!

لا مقالَ سيغنيك عن مشاهدةِ الوثائقي الذي التقفَ الجوائز كما التقفت عصا موسى أفاعي السحرة. أيِّ جاذبٍ في هذه الرحلة المرئية! دفقٌ من الحماسةِ والشعور بالخوف من الخوف ينتابُ متابعه؟ ويهزُّ الجوارحَ بعنف! سأذكِّر نفسي الراكنة للكسل مؤخرا بهذه اللحظة عندما يصعب علي الخروج في رحلةٍ بالدراجة، أو نزهة مُتعبة من المشي في مسقط، لقد تذكرتُ لماذا قبل ثلاث سنوات زلزلَ هذا الوثائقي ذاكرتي، والآن أتذكر لماذا ذهبتُ بحياتي إلى هذا المسارِ الذي لا أريد التنازل عنه. لا تستسلم يا ماريو!

 

مسقط

أغسطس/2021

على هامش الاهتمام

 موضوع عودة طالبان قد يثبت على جانب هيجان الأحداث في عُمان أنَّ انشغال الرأي العام ليس بالضرورة عملية إلهاء ممنهجة [ولا أنفي وجود من يحاول ذلك بلا فائدة!] . ثمَّة تعطش شديد للمنابر الشعبية والجماعية، وحالة جذب هائلة لرفع مستوى هذا الجدال إلى مقامه الحر والمُستحق من قبل كل الأطراف.

صراع الآراء في عُمان اتسعت ساحتُه، وتبلورت اتجاهاتُه، والتمايز والتباين وصراعات الانتماء، والجدال، والتحزّب البديهي والمنطقي أصبح حقيقة واضحة، وفي ظل هذه الظروف الغامضة حماقات مثل [توحيد الرأي العام] أو توجيهه مجرد تضييع وقت وجهد، والضغط من أجل ذلك سيفرز أزمات متتالية.
الموقف الرسمي أصبح حاله حال باقي المواقف الفردية، أو تلك التي تمارسها مواقف الانتماءات الجماعية. هياج المشاعر العامّة، وتسرب صوت الغضب، والقنوط، والارتياب تجاه الحالة العُمانية العامَّة يقابله تعطّش كبير للتعبير عن الآراء، وكذلك للتحزب من أجلها. وهذا ما يحدث منذ شهور في عمان.
وعادة لا يؤدي ذلك إلى أزمة، نعم قد تحدث مناوشات وصراع أعشاش دبابير، لكنها ليست أزمات متى تحدث الأزمة؟ إن حاول أحدهم أن يلوي عنق كل هذا التدافع الحر ليعيد توجيهه إلى جهة واحدة وخطاب واحد جامد ورتيب. هذا مستحيل الحدوث في ظروف معيشية مثل التي تحدث الآن في عمان.
ظروف المعيش في عمان لا تتجه للرخاء بعد، والركود الاقتصادي وغيره من منغصات الحالية لم تعد تتوافق مع النظريات البائدة للمؤسسات الإعلامية والثقافية. الركود الثقافي مستمر، والغياب الإعلامي عن الواقعية مستمر، والغيوم المبرقة والمرعدة تواصل التكون في الإنترنت مرتاحة من شر الرقباء.
تغير حجم الموجة أما من حيث حدوثها فقد حدث ذلك من قبل، ولم تكن ظروف التعبير وقتَها ميسرة أو سهلة كما هي الآن. الأفراد، والوعي الاجتماعي في حالة ارتقاء وسمو كبيرين، أما المؤسسات فغارقة في خطاباتها الميّتة وفلسفة الرقيب الشخصية، والتوجس من الأشباح وصناعة الزخرف والزينة!
لذلك، إن لم يكن موضوع طالبان فهي قضية محلية، وإن لم تكن قضية محلية فهي أخرى دولية، وعندما تركد دوامات الأحداث نعود للسجال الأزلي بين أعشاش الدبابير، شد وجذب، الإعلام نائم ويأتي بعد الإنترنت، والرقيب يبتكر المزيد من العوائق لقمع الإعلام الاجتماعي. مأساة!
واقعان مختلفان كليا، هذا الذي يُطرح بصورة شحيحة في وسائل الإعلام المؤسسية، وذلك الذي بناؤه الأفراد وتفاعلهم. حتى مصادر المعلومة أصبحت من حوض الجهد الجماعي وما ينزفه من وديان معلوماتية تعبر عُمان من أقصاها إلى أقصاها! الوضع مُتفاعل وديناميكي ولا ساكن واستاتيكي سوى المؤسسات!

عن الحرية قليلا

أمريكا كانت تستطيع تهديد الرخاء، والاستقرار، والهدوء الذي يعم أي حيّز جغرافي، وكانت تستطيع لي ذراع أي نخبة سياسية مستبدة، وتحييد الإرادة الشعبية المقموعة من قبل هذه النخبة، ماذا الآن؟ في ظل الدمار والفوضى، ماذا عساه أن يكون مُتَّكأ القوة الذي لديها؟
عملية تدمير العراق، انتهت بتقسيمه، وظهور أشباه دول عليه، وتحوله لساحة صراع لكل التناقضات الدولية، وانتهت هذه العملية بالعراق متأخرا سنوات وسنوات عن قوته ونهضته بل وحتى نفطه وثرواته، سياسيوه يخضعون للمُحتل أو للخارج. على الأقل كان بايدن صريحا بشأن أفغانستان.
بناء دولة ديمقراطية! بأحذية المُحتل، وبأيدي المتآمرين معه! خطاب العصر الاستعماري تغيّر من إنقاذ [الهمج، الغوغاء، البرابرة] إلى هندسة الأنظمة السياسية وبناء البنية التحتية لها، ها ها ها !! تراجعَ المُحتلون عن خططهم الطموحة وأقصى الأمنيات الآن حماية أراضيهم من الانتقام.
أي فوضى هذه التي تحدث! وكأن كورونا لا يكفي! وكأن حربا مع إيران تقترب وتبتعد كل يوم لا تكفي، والآن هذا! المذهول بديمقراطية الغرب يظن أنَّه مثل سكّان الغرب، يصوّت مثلهم، منهم، وفيهم وأحدهم، حتى ينجلي تناقض الاستعماريين في مثل أفغانستان! فيفقد الحجج أمام الواقع على الميدان.
هل تعرف من هو أغبى الأمريكان؟ هو الأمريكي الذي ليس أمريكيا! المبالغ بحماسة في الدفاع عن المشروع الأمريكي كأنَّه مشروعه الخاص، الاستعمار فشل منذ عهود بعيدة ولم يبق منه سوى تلك الهزائم الثقافية المتتالية وما يعززها من استبداد النخب السياسية في كل الشرق الأوسط المنكوب بالطغيان.
في عصر الركود، والوباء، وبعد كل هذه الفوضى في الشرق الأوسط، والربيع العربي، وثورات سوريا، وتونس، وحكم مرسي، وموت القذافي، وبعد كل هذا، تعود الأحوال ببطء إلى ما كانت عليه، ولإرادة الشعوب موعدٌ آخر أكثر صدقا، وحقيقةً من كل هذا الذي لعبت خيوطُه القوى الكُبرى، والنظريات الاستعمارية.
والجميع يعلم أنَّه موضوع وقت لا أكثر، ألم تخض أوروبا المخاض نفسه؟ والولايات المتحدة! وروسيا، موضوع وقت لا أكثر وتأجيل للمحتوم عندما ستختار الشعوب ما يناسبها، وربما تنتصر، وربما يؤجل انتصارُها، عشرون سنة كانت تكفي وزيادة ليتعلم الجَميع أن الحُرية أكبر من مجموعة لوائح وقوانين.
وما الحرية في هذا السياق العالمي الجديد؟ إنَّها مبدئيا أن تكون صاحب قرارك، ماذا فعل الغرب مع الديمقراطية التي أتت بحماس؟ وماذا سيفعل الآن إن استجابَ الشعبُ إلى طالبان [الجديدة المحدّثة 2.0]؟ هل يعود القمع باسم الدين؟ أم لم يعد، السؤال الكبير، عشرون عاما! ماذا كنت تفعل يا محتل؟
سبحان من له الدوام! عشر سنوات عادَت الشعوب إلى أشد مما كانت تواجهه، وتحديات أصعب من التي توحدت في وجهها. الغضبة القادمة لن تكون مثل السابقة، ويعلم الله متى ستبدأ، خلال عام، عشرة، لن تكون مطلقاً مثل هذه العمياء التي تظن أن الحرية مؤسسة فحسب، الحرية روح ووحدة ونضال ولا شيء غير ذلك.
وهذه مُعضلة الذي يربط الحرية ببيروقراطية ما بعد التحرير! الذي يظن أن مأسسة الحرية هي الحريّة، المغسول بالحداثة والعالميّة حد نسيان هويّات الشعوب وطبائعها وانتماءاتها، أين مؤسسة الحرية الآن في العراق؟ أين النظام الأفغاني الديمقراطي؟ انقطع عنه الوقود، وتوقف عن العمل كموظف فاستقال.
الحرية لن تبدأ من المؤسسة، وهذه معضلة النظريات الحداثية التي تجوب الواقع الموازي، لماذا لا تصمد أمام الواقع؟ لأنَّ الحرية ليست صندوق انتخابات، لا تأتي بعده، تأتي قبله، وليست برلمانا ثم تبدأ، إنها تأتي قبل البرلمانات، وقبل نظريات الأحزاب وقبل عنجهية المتدين أو العلماني أو العسكر.
وكيفَ ذلك؟ أن يحررك من قام باحتلالك؟ كيف وكيف سيحدث ذلك في أي معجزة فلسفية خارج الكوكب البشري يمكن أن يحدث ذلك؟ الحداثة ممكنة وواقعية في اللغة، هل يمكن أن نسحب ذلك على المكان؟ وعلى العملية السياسية؟ وعلى الشعوب المحتلة! هيهات، هيهات!
يمكنك أن تحرر شعبا قمت باحتلاله من الحياة، بعد إبادتهم أجمعين، أمَّا هؤلاء الذين عرفوا وطنا يوما ما فلن يتنازلوا عنه، ومهما كانت نخبتهم السياسية فاسدة أو قمعية، هي مقبولة ما دامت سيادة الأرض للأرض، أمّا أن تكون تحت الاحتلال! كل يوم يثبت لك هذا الكوكب استحالة الحرية من محتل!
الحرية تحدث أولا، وباقي التفصيلات البيروقراطية كلها تأتي ثانيا. على الأقل شهدنا ثاني النماذج المروّعة من فشل الديمقراطية المُستنسخة، وما يأتي بغير إرادة الشعوب يفشل، حتى الهزيمة تفشل إن لم يقبلها شعب حُر من نظريات المحتل وإنسانيته المزعومة والمفتعلة والمزيفة.

الحرية أن يكون قرارك بيدك، وأن تخطئ، وتخطئ، وتخطئ، وتدفع الثمن حتى تفعل ما هو صائب. الحرية أن يكون حقك بيدك، فتخسر لكي لا تخسره، وتخسر، وتخسر حتى تعرف كيف تحافظ عليه، الحرية أن تخوض تجربة الحياة في هذا العالم مستعداً للموتِ دون أن تقبل احتلالاً يُغريك بالحياة مؤقتا، وغريبا. 

الأحد، 15 أغسطس 2021

لحظة ما

 لم أعد متفائلا بشيء، أقصى ما أستطيع فعله هو اللواذ إلى كهوف اللغة، إلى بقايا الشعاع القديم من المعنى الذي جابَ الأرض طولا وعرضا، إلى أنين الذات وحرقة النفس ولوعة القلب وذاكرةِ الأمنيات وما تلاشى فيها من أغانٍ وفرح. للجحيم طريقٌ مشتعلٌ بما يشبهه من حرائق.

تتوقَّدُ نيران الإرادة، أما الطريقُ فيحترق. اللهيبُ أقربُ إلينا من حبل الوريد، تلفحنا حرارتُه. ماذا تبقى حقَّا سوى شعورِنا بالضيمِ والمرارة والأسى؟ من كان ذا لبٍّ فليكتئب وليعصر الصبرَ من مرارةِ الحزنِ. خمرُ أيامِنا انتظار المجهول. القشُّ ينتظر الشرار ولا يستنكف أن تبلله الدموع.
تأجَّلت أعمارُنا والنهرُ يهدرُ. غربت شمسُ الرفاق، والأحلام. تبدد النضال الأخير من أجل ما تبقى من الآمال، نحن والوقت والفراغ الشاهقُ في قمم الجبال المجهولة. ليس لدينا ما يكفي من الكلمات لنقولَ: عشنا! لكل زمنٍ مأساة وحكاية، وما أفدح تشابه حكايتنا، ومأساتنا مع أعمارِنا!
ما عزاء الذي أتقنَ الحياةَ؟ وما مصير الذي نسجَ حبال إرادته من خيوط العنكبوت؟ في ظلامِ المجهول يتساوى الظالم والمظلوم. المؤمنُ يتمسّك بحفنةٍ من الرماد، والكافر بنفسه كالكافر بغيرِه يشد أزرَه بنار الكراهية! تلفَ الذين يكرهون النار، لا مطر أغرقهم في بدايات النعيم.
وما عذرنا؟ أن نهمس بخجلٍ أننا عشنا أياما ما، أوقاتا ما. مرَّ علينا الدهرُ، كما غفل عن أحزاننا العُمر. عشنا لنعيش، وكتبنا لنكتب، وصرخنا لنصرخ. أي حتفٍ فادحٍ أن تكون الحياة موتا مؤجلاً، وانتظارا متحمسا للمجهول! نامت أعينُ الجبناء، واستيقظت عيونُ الغادرين. وسرقَت الأنقياء أحلامُهم.
+