بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

عن الحرية قليلا

أمريكا كانت تستطيع تهديد الرخاء، والاستقرار، والهدوء الذي يعم أي حيّز جغرافي، وكانت تستطيع لي ذراع أي نخبة سياسية مستبدة، وتحييد الإرادة الشعبية المقموعة من قبل هذه النخبة، ماذا الآن؟ في ظل الدمار والفوضى، ماذا عساه أن يكون مُتَّكأ القوة الذي لديها؟
عملية تدمير العراق، انتهت بتقسيمه، وظهور أشباه دول عليه، وتحوله لساحة صراع لكل التناقضات الدولية، وانتهت هذه العملية بالعراق متأخرا سنوات وسنوات عن قوته ونهضته بل وحتى نفطه وثرواته، سياسيوه يخضعون للمُحتل أو للخارج. على الأقل كان بايدن صريحا بشأن أفغانستان.
بناء دولة ديمقراطية! بأحذية المُحتل، وبأيدي المتآمرين معه! خطاب العصر الاستعماري تغيّر من إنقاذ [الهمج، الغوغاء، البرابرة] إلى هندسة الأنظمة السياسية وبناء البنية التحتية لها، ها ها ها !! تراجعَ المُحتلون عن خططهم الطموحة وأقصى الأمنيات الآن حماية أراضيهم من الانتقام.
أي فوضى هذه التي تحدث! وكأن كورونا لا يكفي! وكأن حربا مع إيران تقترب وتبتعد كل يوم لا تكفي، والآن هذا! المذهول بديمقراطية الغرب يظن أنَّه مثل سكّان الغرب، يصوّت مثلهم، منهم، وفيهم وأحدهم، حتى ينجلي تناقض الاستعماريين في مثل أفغانستان! فيفقد الحجج أمام الواقع على الميدان.
هل تعرف من هو أغبى الأمريكان؟ هو الأمريكي الذي ليس أمريكيا! المبالغ بحماسة في الدفاع عن المشروع الأمريكي كأنَّه مشروعه الخاص، الاستعمار فشل منذ عهود بعيدة ولم يبق منه سوى تلك الهزائم الثقافية المتتالية وما يعززها من استبداد النخب السياسية في كل الشرق الأوسط المنكوب بالطغيان.
في عصر الركود، والوباء، وبعد كل هذه الفوضى في الشرق الأوسط، والربيع العربي، وثورات سوريا، وتونس، وحكم مرسي، وموت القذافي، وبعد كل هذا، تعود الأحوال ببطء إلى ما كانت عليه، ولإرادة الشعوب موعدٌ آخر أكثر صدقا، وحقيقةً من كل هذا الذي لعبت خيوطُه القوى الكُبرى، والنظريات الاستعمارية.
والجميع يعلم أنَّه موضوع وقت لا أكثر، ألم تخض أوروبا المخاض نفسه؟ والولايات المتحدة! وروسيا، موضوع وقت لا أكثر وتأجيل للمحتوم عندما ستختار الشعوب ما يناسبها، وربما تنتصر، وربما يؤجل انتصارُها، عشرون سنة كانت تكفي وزيادة ليتعلم الجَميع أن الحُرية أكبر من مجموعة لوائح وقوانين.
وما الحرية في هذا السياق العالمي الجديد؟ إنَّها مبدئيا أن تكون صاحب قرارك، ماذا فعل الغرب مع الديمقراطية التي أتت بحماس؟ وماذا سيفعل الآن إن استجابَ الشعبُ إلى طالبان [الجديدة المحدّثة 2.0]؟ هل يعود القمع باسم الدين؟ أم لم يعد، السؤال الكبير، عشرون عاما! ماذا كنت تفعل يا محتل؟
سبحان من له الدوام! عشر سنوات عادَت الشعوب إلى أشد مما كانت تواجهه، وتحديات أصعب من التي توحدت في وجهها. الغضبة القادمة لن تكون مثل السابقة، ويعلم الله متى ستبدأ، خلال عام، عشرة، لن تكون مطلقاً مثل هذه العمياء التي تظن أن الحرية مؤسسة فحسب، الحرية روح ووحدة ونضال ولا شيء غير ذلك.
وهذه مُعضلة الذي يربط الحرية ببيروقراطية ما بعد التحرير! الذي يظن أن مأسسة الحرية هي الحريّة، المغسول بالحداثة والعالميّة حد نسيان هويّات الشعوب وطبائعها وانتماءاتها، أين مؤسسة الحرية الآن في العراق؟ أين النظام الأفغاني الديمقراطي؟ انقطع عنه الوقود، وتوقف عن العمل كموظف فاستقال.
الحرية لن تبدأ من المؤسسة، وهذه معضلة النظريات الحداثية التي تجوب الواقع الموازي، لماذا لا تصمد أمام الواقع؟ لأنَّ الحرية ليست صندوق انتخابات، لا تأتي بعده، تأتي قبله، وليست برلمانا ثم تبدأ، إنها تأتي قبل البرلمانات، وقبل نظريات الأحزاب وقبل عنجهية المتدين أو العلماني أو العسكر.
وكيفَ ذلك؟ أن يحررك من قام باحتلالك؟ كيف وكيف سيحدث ذلك في أي معجزة فلسفية خارج الكوكب البشري يمكن أن يحدث ذلك؟ الحداثة ممكنة وواقعية في اللغة، هل يمكن أن نسحب ذلك على المكان؟ وعلى العملية السياسية؟ وعلى الشعوب المحتلة! هيهات، هيهات!
يمكنك أن تحرر شعبا قمت باحتلاله من الحياة، بعد إبادتهم أجمعين، أمَّا هؤلاء الذين عرفوا وطنا يوما ما فلن يتنازلوا عنه، ومهما كانت نخبتهم السياسية فاسدة أو قمعية، هي مقبولة ما دامت سيادة الأرض للأرض، أمّا أن تكون تحت الاحتلال! كل يوم يثبت لك هذا الكوكب استحالة الحرية من محتل!
الحرية تحدث أولا، وباقي التفصيلات البيروقراطية كلها تأتي ثانيا. على الأقل شهدنا ثاني النماذج المروّعة من فشل الديمقراطية المُستنسخة، وما يأتي بغير إرادة الشعوب يفشل، حتى الهزيمة تفشل إن لم يقبلها شعب حُر من نظريات المحتل وإنسانيته المزعومة والمفتعلة والمزيفة.

الحرية أن يكون قرارك بيدك، وأن تخطئ، وتخطئ، وتخطئ، وتدفع الثمن حتى تفعل ما هو صائب. الحرية أن يكون حقك بيدك، فتخسر لكي لا تخسره، وتخسر، وتخسر حتى تعرف كيف تحافظ عليه، الحرية أن تخوض تجربة الحياة في هذا العالم مستعداً للموتِ دون أن تقبل احتلالاً يُغريك بالحياة مؤقتا، وغريبا.