بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 9 يوليو 2025

الرسالة رقم 1: أن تكون أبا!

 

 

 

رسائل المُلهم

الرسالة رقم 1: أن تكون أبا!

 

لا أعرفُ متى ستقرأ هذه الرسائل! ولا أعرفُ من سيقرؤها من أبنائي. هل كان يجب أن أوجهها إلى بناتي الغاليات، وأبنائي الأعزاء؟ أم يكفي أن أوجه هذه الرسالة لك يا ابني العزيز (المُلهم).

لأضع القليل من السياقِ في رسالتي، هذا ما أكتبه في صباح التاسع من يوليو لعام 2025م. أنت الآن في يومِك الثاني، وقد ابتسمتَ لي للمرة الأولى، قبل نصف ساعةٍ من الآن عشتُ معك مشاعر مُنعكس القبض ((Grasp Reflex أبوك الآن في اليومِ الثاني من أبوَّته، وأنت أيها الملاكُ الصغير في يومك الثاني، تكتشفُ الأصوات، وتفتح عينيك قليلا، وتنام معظم الوقت.

لأصدقك القول يا عزيزي المُلهم، لا أعرف أي خطة لي في هذا الكتاب! لحظة! هل قلتُ كتاباً، هل هذا الذي أنويه؟ أن أكتب كتاباً لك؟ أعرف أنني يجب أن أكتب لك، لأسباب كثيرةٍ للغاية، منها روح الوصيّة الجديدة عليَّ، والشعور المنطقي بالخوف عليك من أن يسترد الله روح أبيك قبل أن يتمَّ عليك ما أرد قوله. الكتابة بشكل عام شكل من أشكال الوصية، ولسبب ما في اللغة تحمل الوصية معنى النصيحة، وتحمل أيضا معاني الوداع الذي لا أتمنى أن يكون قريبا.

لقد أودع الله الكلمات التي تصف شعور الأب الذي يعانق ابنه للمرة الأولى في لوحه المحفوظ، وعصمها عن ألسنة الناس، أبوك الذي كان يسخر من (الكليشيه) المتداول الذي يقول: "لا كلمات تصف الذي أشعر به" يقف متأتئا وهو يحاول أن يجمع من الكلمات ما تيسّر لكي يصفَ فرحة وصولك.

أتساءل يا أيها الملهمُ عن الخط الذي ستأخذه هذه الرسائل، ألف سؤال يضرب في رأسي، وفي الوقت نفسه، الحقائق الحتمية تتهاطل أمام عيني كحقيقة ذلك الشعور الجديد الذي شعرتُ به عندما استيقظت صباح اليوم لأكتشف أنني أحتاجُ إليك!

شعور غريب للغاية. يشبه قبضة جميلة في القلب، يشبه شوقاً لا ترتوي منه، يشبه حبّا لم أعشه من قبل، يشبه شيئا ما لا أعرفه، ولم أعرفه إلا في اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيني عليك: "هذا ابني!"

لا يملك الآباء لغةً يعبرون بها عن حبّهم لبنيهم، ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأن الكلمات التي يحتاجون لها غير موجودة من الأساس، لذلك، وأنت تعذر أباك يوما ما بعد أن تصبح أباً، ستعرف تماما ما الذي أشعر به من قلة الحيلة أمام عجز اللغة عن الوفاء بهذا الوجه الأسمى من أوجه الحب، حبِّ الأب لابنه.

عرفت من اليوم الأوَّل أنني مستعد تماما للموت من أجلك، وبعد يومين من الانشغال التام بك من النهار إلى آخر الليل، عدت الآن إلى ورقة الكتابة البيضاء لأكتشف أن الأمر لا يتعلق بالموت من أجلك، بل بالحياةِ من أجلك فقط. هذا هو السرُّ الأوَّل الذي يتكشِف لي من أسرار الأبوَّة.

الأمر لا يتعلق بالدافع! مطلقا لا يتعلق به. الدافع الذي يصيبُ بعد الأبوَّة يحتاج إلى تساؤلات منطقية كثيرة، فهو غامر، وعاصف، وكفيل أيضا بأن يقصف العُمر إن لم يكن الإنسان متعقلا وعرف متى يعطي كُل شيء حقَّه.

الصحةُ هي أوَّل الشموع التي قد يحرقها الأبُ من أجل بنيه، وهي في الوقت نفسه العائق الرئيسي الذي قد يعيق الأب عن تحقيق أحلامه في بنيه، شيء عملي بحت من أشياء الحياة، مادي للغاية، له علاقة بكتلة اللحم والدم التي نتكون منها نحن البشر! ويا إلهي! أي توازن مستحيل هذا! أي عقل في هذه الحياة بمقدوره التوفيق بين كل هذه المعطيات البشرية ليخرج منها بأفضل نتيجة ممكنة؟

عندما كانوا يقولون: مصيرك ستخطئ، والخطأ وارد! لم أكن أدرك أن السبب هو مزرعة التعقيدات هذه، لأنها حقاً فوق طاقة أي إنسان على التحكم بها، ولذلك، لا يخلو الأمر من شيء من التسليم.

والحياة هكذا يا ابني، ميزان بين التحكم والتسليم، تفعل الذي عليك، وتجتهد، وتأخذ بالأسباب، وبعدها بعد أن يفرغ كل شيء يمكنك فعله، يأتي التسليم للقدر وللظروف. صفعةٌ قاسية بعض الشيء في وجه هذه الإرادة الهائلة التي نزلت على قلبي، وفي الوقت نفسه الإرادة التي تكفي لحرق عُمر مبكرا إن لم أنتبه إلى هذه الحقائق الحتمية التي يجبُ أن أكتشف ميزانها إن أردت حقا أن أعيش لأجلك، وأن أعيش معك، وأن نكمل حياةً لا بأس بها، وأن تكبر معي، ولست أدري يا ابني الملهم، هل سأصل للسبعين، أم لن أفعل! هذه من أسئلتي التي تحاصرني، جزء منها بيدي، واهتمامي بصحتي، وعنايتي بأبيك، وجزء منها ليس بيدي، يكتبه الله، ولا رادَّ لقضائه وحكمه.

بنوّتك يا قلب أبيك كانت يقظةَ حتميةً أخرى. أن يكتشفَ إنسانٌ أن كل هذه المشاعر كانت بداخله من الأساس، ولدت معه، عاش بها، يحملها في كنفه وتأخذه إلى هذا المسار منجذبا إلى مغناطيس استمرار الحياة بالحياة. قبل يومٍ من ولادتك، كنت زوجاً قلقا، خائفا على صحة والدتك، خائف عليك، بعد ساعة من ولادتك بدأت شعور جديد في قلبي ينمو! شعور من الصعب وصفه!

أشعر بشيء في قلبي طوال الوقت، شيء لا يهدأ، شعور ربطني بك بطريقة يعجز عقلي عن تفسيرها. أحملك في يدي لأكثر من ساعة، أتابع عينك الناعسة وهي تتقلب ذات اليمين وذات الشمال، أتابع بفرحة هائلة تجشؤك، أسأل عن كل صغيرة وكبيرةٍ في معمعة الولادة الجديدة، وهي حكاية سأسردها عليك عندما أستعيد حسَّ الفكاهة الذي تلاشى الآن مع إرهاقي الشديد.

ستعرف يوما ما أن أباك ليس قادرا على كل شيء، كما أعرف الآن أنَّ أبي لم يكن قادرا على كل شيء. أبوك الآن مرهق للغاية، متعب ويجد صعوبة هائلة في أن يكتب المزيد من التفاصيل. هذا هو السياق الذي بدأت فيه رسائل لك، عندما أحببتك، وعندما عرفت إنك دخلت قلبي، وأن عقلي مشغول بك، وأنني في اللحظة التي تركتك فيها مع والدتك وعدت للمنزل وحدي عاد ذلك الشعور الذي في قلبي للازدياد، شوق مكهرب، انجذاب وقبضة، شعور جميل للغاية، لكنه في الوقت نفسه ناقص، كجمال مزهرية أنيقة، لكنها بلا وردة.

سأتعلم كيف أرتب هذا التداعي الحر مع الوقت، أرجو إنك عندما تقرأ هذا الكلام ستكون قد عرفت أباك جيدا، وعشقه للكتابة، وستعرف أن له حكايات كثيرة، ولعل هذه إحدى الأسباب التي تدفعني للكتابة لك، وأعاهدك أنني إن لم أستطع على قول الصدق، فلن أكذب عليك، هذا عهدي لك يا ابني العزيز، لعلك يوما عن تشبُّ ستعيش أسئلتك، ولعل هذه الرسائل ستساعدك يوما ما على فهم ظروف نشأتك، وعلى تتبع أيامك، وعلى فهم أيام أبيك، وسياق حياته، لعلها ستنفع في شيء ما، أو ربما ستنفع في أشياء كثيرة، هي وصية، ونصائح، هي يوميات وسيرة، هي تأملٌ من طالب علم نفس، ومن أب يدخل عالم الأبوَّة في عامِه الثاني والأربعين، هي رسائل إنسان جاهز لكي يموت من أجلك، ولكنه أيضا يعيش ألف سؤال في ماهية الحياة من أجلك، ومعك. هذه أسئلتي يا عزيزي الملهم، ولكل إنسان أسئلته، والإجابات ليست سهلة المنال.

أبوك مرهقٌ للغاية، ويريد أن ينام الآن، وينتظر بفارغ الصبر أن يراك غداً، ولو لاستراقٍ بسيطٍ بين جموع الزائرات، وكل ما جعلته التقاليد مناسبةً نسائية بحتةَ. وأنا أختم هذه الرسالة، يعود ذلك الشعور مجددا إلى الخفقان، ذلك الشوق المغناطيسي الجديد عليَّ. أراك غدا يا ابني الغالي، أراك غدا بإذن الله.

أبوك الساعي لك بالخير

معاوية