الرسالة رقم 2: العالم
الذي نحن فيه!
كانَ العالمُ، الكبير هذا، بكل تعريفاته هذا، يحمل
تعريفاته البعيدة بعيدا. ماذا عساه أن يكون سوى ذلك الذي يحدث بعيدا. ليس عندما
تكون أباً يا عزيزي الملهم.
العالم شيء آخر الآن، وفي الحقبة التي نعيش فيها عام
2025م هذا ليس عالماً لطيفاً للغاية. هذا لا يعني أن الحياة سيئة لأننا نملك بعض
المعايير الفكرية أو القيمية. للحياة طريقتها في التمسك بنا، ونحن أيضا كبشر لنا
طريقتنا في التمسك بها.
لست في أفضل حالاتي الآن، وأنا أكتب هذا الكلام. حتى تلك
الطاقة لأرصف الكلمات بشكل جميل ليست معي الآن. أكتب بمزيج من التفكير باللغة الإنجليزية،
وبالقليل من المشاعر العربية العاطفية، ربما لأنني بدأت أستوعب دروس الأبوّة
مبكرا، ومنها ذلك الدرس السريع عن ضرورة إبقائك يا عزيزي الملهم بعيدا عن أي نقاش!
والسبب ليس غريبا!
للناس قدرة عالية على حشر أنوفهم فيما لا يعنيهم، الجميع
لديه نظرية، لديه فلسفة، ورغبة أحيانا في فرضها. البعض ممن لديهم حس تربوي عالٍ
ينفعون في النقاشات، لكن وضعها للعموم بشكل كبير، خطا تعلَّم منه أبوك في اليوم
الثاني! كنت أظن أنني سأستخدم النشر طريقة للتعلم، يتضح لي، كلا، ثم كلا! أنت ابني
أنا فقط، لست ابن الناس، لست ابن العالم، حتى أؤدي واجبي بعدها وتندمج مع العالم
بروحك الفردية الخالصة، وبالاستقلال الذي من واجب أن أهيئك عليه، ستبقى يا ابني
العزيز منطقةً خاصة سأفتك بكل من يظن أن الاقتراب منها ممكن.
من المبكر أن أخبرك عن العالم الذين نحن فيه، لأنني لست
في هذا العالم، أنا مرهق للغاية، لا أنام، لا أركز في شيء، لدي امتحانات تنتظرني،
وبدأت أعيش تلك القناعات الجديدة حول منطقتي التحكم والتسليم!
كنت أظن أن العالم ينقسم إلى منطقتين، منطقة التحكم وهي
التي نستطيع فيها أن نخطط، ونفكر، وننفذ، ومنطقة التسليم، تلك التي ليست بيدنا
أبدا، بيد الظروف بشكل تام. اليوم فقط أكتشف المنطقة الرمادية التي ليست بيدي، وأن
طاقتي، وصحتي لها سقف. هذه الدروس التي وصلت لخلاصاتها اليوم، أتمنى أن أجد وقتا
أكثر للكتابة، وأن أسردَ لك كيف كوّنت منهجي التربوي تجاهك، حاليا لا منهج تربوي
سوى تطبيق المنهج العلمي المتعلق بالنوم، والأكل، وبعض التقنيات الصغيرة التي
تساعدك على أن تنمو بشكل أفضل. لقد أكملت أسبوعاً واحدا في الحياة عزيزي الملهم،
ليس لدي الكثير لأقوله لك سوى أن مشاعر تجاه جميع الآباء قد تغيرت، لقد عرفت الآن
لماذا يتعبون، ويعجزون، ويشعرون بأن هذه التحديات وإن كنت تعلم الصواب عنها إلا أن
قدرتك على فعل كل هذا الصواب ليست في متناول اليد، ثمة سقوف أمام كل أب، وما أن
يعرف هذه الحقيقة يجب عليه أن يسيّر الحياة بما هو متاح، من الوقت، والجهد،
والمال، والقُرب من العائلة.
ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، هكذا قال شاعرٌ جاهلي ذات
يوم. إن كنت تقرأ هذا الكلام في عُمر وقد وصلت إلى لوحة المفاتيح، وبدأت تبحث
فابحث عنه واقرأ حكايته على إخوتك. ويعلم الله! لعلك الآن تسأل نظارتك الذكية لكي
تخبرك عن الذي يقوله أبوك في عصره البدائي عندما كنا نستخدم لوحات المفاتيح.
بالمناسبة عزيزي الملهم، لقد وجدت لوحة مفاتيح نادرة واستثنائية وتكتب بسرعة
عالية! هل ستكون هي اللوحة المناسبة في زمان؟ أم ستكتبون بالتأمل فقط؟ عليَّ أن
أنتظر الوقت والحياة لكي أعرف أي عصر تقني ستعيش فيه.
عصرنا الآن هو عصر الذكاء الصناعي، هذه هي الدهشة التي
نعيشها الآن، دهشة السرعة وتنظيم الأشياء، الألعاب حتى هذه اللحظة لديها أجهزة سوف
تصفها أنت بعد سنوات بالبطيئة، والبدائية، كل شيء بدائي بالنسبة لك عندما تقرأ هذه
الرسائل من أبيك.
ينصحني الناس نصائح غبية للغاية، جعلتني أشمئز من فتح أي
نقاش مع إنسان جاهل يظنُّ أنَّ نظريته في الحياة يجب أن تطبق على الجميع. أتبع
منهجا علميا في تربيتك، وفي التعامل معك، وأتأقلم مع بضع الأفكار الاجتماعية
الشائعة على مضض، لأنك ستعيش في مجتمع، وجزء من واجبات الحياة هو التعايش مع هذا
المجتمع بما لا يجعلنا نخسر جوهرنا العميق، وما كوّناه من استقلال ذهني، ومن وسائل
حماية من الانزلاق نحو الممالأة، أو التوكيد الأعمى على أي حقيقة يظن البعض أن
شيوعها يعني بالضرورة صحّتها.
كل الذي يتعلمه أبوك وأنت في أسبوعك الأول يتعلق بصحتك،
وغذائك، ويحاول التعود على ظروفه الاجتماعية التي تفصلك عنه رغما عن أنفسه. لم
أتصالح مع هذه الحقيقة لكنني لا أفوّت يوما دون أن أسلّم عليك، وأن أطمئن إلى
هدوئك في حضوري، وأنك تعرفني، وتعرف صوتي، وتطمئن إلى راحتي، هذا الرابط الذي لا
أريد يفوتني تكوينه. السنوات الأربع الأولى في حياتك هي السنوات الأهمُّ لوجودي
كأب.
لا أخفيك يا عزيزي الملهم، أنني أحيانا أكتب بروح
الوصية، كما أخاف أن تخسرني، وكم أخاف عليك. شعور لم يكتب الله لأحد أن يجيد وصفه،
ولن يكون أبوك هو الكاتب الخارق الذي سيصف ما لا يوصف، أعرف أنني أحبك، وأعرف أنني
أحببتك، وأعرف أنني انتميت لك، وأن كل هذا التعب يهون في تلك اللحظة التي أرى فيها
ابتسامتك وأنت هانئ، تُمارس هوايتك المفضلة حاليا: النوم طوال الوقت!
يزعجني الناس عندما يمارسون التعزيز الذهني لمشاعر
سلبية، عن الأبناء وهم يبكون دائما، الجميع يشتكي، هذا من المصاريف، هذا من قلة
النوم، ما أحاول فعله هو أن أقنع نفسي أن الأبوَّة هبة من الله ليرتقي الإنسان إلى
ذاتٍ أكثر نبلا، وأعظم طهرا، وأصفى نقاءً. أدعو الله دائما لك بالسلامة والعافية،
وأدعو لنفسي بالثبات. أشياء كثيرة الآن تظهر لي في المنطقة الرمادية الجديدة علي،
وبدأت أستخدم كلمة (لو كان بيدي) هذه الكلمة التي طالما سمعتها ولم أفهم معناها!
لو كان بيدي المزيد من الوقت، لو كان بيدي المزيد من المال، لو كان بيدي المزيد من
الذكاء، لو كان بيدي المزيد من العلم والوعي، لو، لو، لو وستعرف يا ابني العزيز
لماذا أكواننا الذهنية أشد اتساعا من كوكبنا الواقعي، نحن كائنات تحلم، تتخيل، تتأمل،
تنسج المنطق من الذكريات والأفكار، بل وحتى الأحلام، لكننا في النهاية أمام الواقع
سواسية، كلنا نملك الوقت نفسه، وكلنا لا يستطيع ابتكار المزيد من الزمن لكي يطبق
ما يظنه صوابا.
أبوك حتى هذه اللحظة لم يجلس إلى لوحة المفاتيح كما
أراد، لم يجلس على البيانو لكي يهدئ من أعصابه كما أراد، يعاني كثيرا من الحر،
والوحدة، وتغير الظروف، ووجودك في منزلٍ غير منزلي لا يساعدني على الاندماج أكثر
في تحسين ظروف وجودك، والأهم، حياة والدتك التي لم تعد فقط زوجةً لي فحسب، هي الآن
أمُّ ابني الوحيد، وابني الوحيد هو أنت حالياً، لذلك يا عزيزي الملهم، إن كتب الله
لي أن تكبر، وأن تقرأ هذه المقالات سواء في مدونتي، أو أهديك كتاباً سنويا كنت
أكتبه وأنشره لك بينما أنت تكبر! إن تيسر ذلك لك ولأبيك، لعلك ستضحك عندما تقول:
ما بال أبي يعيش هذه اللخبطة الهائلة، ما بال أفكاره؟
أرجو أنني لن أكون أباً (يسامعك) ليل نهار بما تعبه من
أجلك، أرجو أنني لن أكون أبا متنصلاً يكل أمرك للحياة، وأرجو أنني لا أكون أبا
متحكما شديد السيطرة يظن أنه سوف يسيطر على جميع الظروف، أرجو أن أكون أبا متزنا،
يحكّم العلم عندما يُحكَّم العلم فقط،
ويحكِّم القلب عندما يُحكَّم القلب فقط، يفكر ويقرر، ويحب ويعيش. سأعرف مع الوقت
ما هي خصالك، وماذا ورثتَ، وماذا تكتسبُ، وسأعيش هذه التجربة على أمل ألا أخطئ في
شيء يضرك، وأعيش رعبي، ومخاوفي، واستباقي لبعض الظروف في شؤون النمو، أبوك حاليا
طالب في علم النفس في السنة الثالثة، عندما تقرأ هذا الكلام أي أبٍ سيكون لديك؟
رجل أعمال بخلفية علم نفس؟ موظف يقرر ثروة الوقت قبل ثروة المال؟ أما باحث في علم
النفس؟ أم معالج نفسي؟ أم أحقق حلمي في إنشاء مركز للنوابغ، وللرياضات الذهنية،
والرياضيات، والرياضة، وتنس الطاولة. في أسبوعك الأوَّل كل المستقبل الذي أفكر به
هو اليوم الذي تقرأ فيه هذه الرسائل، عدا ذلك يا عزيزي الملهم، أهنئك على إتمامك
أسبوعك الأوَّل، سأحتفل في قلبي بك كل يوم، سأحتفل بكل يوم من أيامك، وأسأل الله
العلي القدير أن يكتب لك الخير، والسداد، وأن تنشأ صالحا، وأن يحيطك بالصالحين
الأنقياء، وأن تفعل الصواب دائما، وأن تفكر قبل أن تقرر، وأن تفكر قبل أن تتكلم،
وأن تعرف أن هذا العالم ليس كاملا، وأن الخير موجود، والشر موجود، وأن الناس ليسوا
سواسية، لا في أوقاتهم، ولا في أمزجتهم، ولا في لحظاتهم.
سأكتب لك كثيرا يا ابني العزيز، سأنصحك كثيرا، وسأتغير
مع الوقت، وستكبر مع الوقت، وسنعرف مسارنا، وقدرنا، وإلى حين أن يكتب الله لنا ما
يكتبه، أرجو لك السلامة والعافية أيها الملهم. أحبك كثيرا، أحبك جدا، أحبك بكل ما
في قلبي من قدرة على الحب.
أبوك الداعي لك بالخير
معاوية