بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 31 يوليو 2023

سيرة ساعة

 



كل ما يداهمني قلق الإنجاز، وفعل شيء، عادةً ألجأ إلى مكتبي، وأستخرج تلك الملفات الإلكترونية للكتب التي أخطط لنشرها. رواية متناثرة الأشلاء والمسودات، مجموعة شعرية تناقلتها نسخ المايكروسفت وورد حدَّ تلف النص وظهوره مشفرا مليئاً بالصور، والخطوط، والدوائر الغامضة، أخرج بدراجتي لنصف ساعة، أحاول أن أهدأ، أتأمل تحدي الحياة القادم في وجهي، وهذا الضغط الشديد الذي أعيشه، وأقول في نفسي:

لماذا؟ لماذا يجب أن أجعل كل شيء صعباً. ما الذي غيرني من ذلك الشخص المليء بالرضا، القانع بما لديه، إلى هذا الذي يلاحقُ النجاح، والحياة، والطموح، والتفوق الدراسي، والوفرة المالية، وفوق ذلك يتعلم بيانو، وجيتار، وينفق ساعات لا بأس بها في كتابة أغنيات الراب؟ لماذا كل ذلك يا ماريو! لماذا هذا الضغط الهائل على نفسك؟ ولماذا تهربُ من الوقت بفعل كل شيء، وأي شيء؟

ما شيء طاير! هذا الذي أقوله لنفسي بعد ثلاث سنوات من التعب. أحسب حساب الساعات التي أرتح فيها لأجد أنها قليلة، شحيحة، ما تلبث أن تتحول إلى شحن سريع لألاحق شيئا ما بعدها، وكأنني أشعر بالذنب لأنني أنفقت بعض الوقت مع لعبة إلكترونية!

ألاحق كل شيء ثم أعود مرهقا، عقلي لا يستوعب حرفا إضافيا، كتب علم النفس التي أسمعها في رحلات الدراجة تصبح غامضة، لا تُسمع، ولا تُفهم، نقرة واحدة في البيانو تصبح مليئة بالشوك، الاحتراق الحقيقي الذي أكابر في شأنه، وأرتاح لساعات طفيفة قبل أن أعود للقلق نفسه.
أكتبُ ما لا يقل عن خمس ساعات يوميا، أتمرن على الكتابة لعل أيامَها الجميلة ستأتي، وأتفرغ يوما ما لكتابة الروايات. وأحرق الوقت قدر استطاعتي.

أليست هذه هي الحياة؟ في السعي؟ سأحاول قدر استطاعتي، والله هو الموفق والرازق والحافظ.

السبت، 22 يوليو 2023

ببجي، وقلة الأدب!

جالس أتأمل هذا النقاش اللي يدور حول موضوع ببجي، وأتسأءَل، أين جوهر الجدال؟ هناك المستوى المباشر السريع: ومفاده أنَّ المتدينين أعداء الحياة، وأنَّ ببجي والغرب تنشر قلة الأدب، وتؤثر على الأخلاق. وهذا مغلوط من نواحٍ عديدة، لأنَّ الجدال لا يدور في هذا الموضوع، ولا نستطيع تسميته بالجدال بل هو حرب دعائية لا أكثر، لذلك لا فائدة من خوض مرافعات الطرفين عن بعضهم البعض، لأنها قادمة من حزازة إلغاء، وكدر، وتشويش في عدسة النظر، وبالتالي سنخرج من الموضوع بدون فائدة معرفية، أو نقدية. ثمَّ نأتي لنقطة أخرى، هل في لعبة ببجي ما يكفي لتحريمِها؟ في الحقيقة هُناك، لأن فتح [الصناديق/البكجات] وغيرها تعتبر من القمار، وفيها ربح عشوائي، ودفع مقابل احتمال، بل وحتى شيء آخر، هناك نص في القانون العماني يمنع الألعاب التي يتغلب فيها الحظ على المهارة، يعني [نظريا] هناك أسباب منطقية تؤصل لهذا القرار الفقهي، وطبعا كأفراد، سنرد بكل سهولة: هذا لا يعني أن كل من يلعب يقامر، ونعم، أذكرك عزيزي القارئ أنا أكتب تحليلا، لا أرجح رأيا، وحتى رأيي الشخصي لم أذكره بعد لأنني سأكتبه في نهاية هذه التدوينة. إن وقف الإنسان على تعلم ما هو مفيد، والحديث في هذا السياق مع طلبة العلم جزء من الضغط النفسي الذي تمارسه أية مؤسسة تعليمية، وهو من طبائع ثقافتنا الشرقية، بتدين، أو بدون تديَّن. فكرة أنَّ الترفيه عدو للعلم، واستخدام الشعور بالذنب لتأنيب الطالب الذي [يلعب لعبة إلكترونية] هو جزء من الأسئلة التربوية المطروحة. لماذا هذا الضغط الشديد على طلاب العلم، واعتبار السلوك الجانبي الترفيهي ضارا ومضرا. نقطة أخرى: يوصف الذي لعب ببجي في الفيديو بأنَّه [قليل أدب] لأنَّه لا يرد. وهنا السؤال، فاللعبة عبارة عن معارك جماعية، وفي حال ترك اللعبة لاعبٌ فهو يمارس على الجانب الآخر تخليا عن أصحابِه، ويتركهم لمصيرهم الافتراضي، ولا جدال أن الأخلاق الواقعية أهم بكثير من تلك الأدبيات الشائعة في اللعبة، ولكن يبقى هناك سبب يجعل اللاعب منهمكاً في اللعبة، ولا سيما إن كانت اللعبة من الأساس وسيلة تواصل بين الأصدقاء أو أفراد العائلة. السؤال ليس في موضوع الأدبيات، مع العائلة، أو مع المجتمع الداخلي في اللعبة، السؤال هو: لماذا نفترض أنَّ واجب التأهب فرضٌ على الطفل؟ هذا افتراض شائع قد يغيب عن النقاش، لأن سؤالا مقابلا له يقول: ما دام الطفل يلعب في وقت راحته؟ لماذا لا يُترك له المجال ليهنأ بوقت راحتِه بدون مقاطعات؟ وهنا أقول رأيي الشخصي: أظنُّ أن الجدال هُنا مجددا يحدث في مكان آخر، ربما كعادة تويتر وضواحيه. كفكرة تربوية، إلقاء اللوم على التلفاز، واليوتيوب، والألعاب لأنَّ ذلك أسهل لا يختلف عن لوم العالم لأنه لا يناسب عينيك. المعضلة في ما يقدمه النظام التعليمي في المدارس، والنظام التعليمي في المنازل، فإن كانت هذه الأنظمة لا تعمل بكفاءة، تبقى خياراتك محدودة. هناك أشياء أكبر في هذه الجزئية من فكرة انزعاجك أن [مطوعا] لديه رأي في لعبة، أو أنَّ كلامه كله خطأ بالضرورة. وهي النظرية التربوية من الأساس التي تجعل الطفل قلقاً، متأهباً، ينتظر المناداة في أي لحظة وعليه أن يترك كل الذي في يديه ليستجيب للمنادي في ضرورة أو في غير ضرورة. هذه النقطة الجوهرية، والتي ببجي مجرد هامش من هوامشها. إن ترسيخ مبدأ أن الفرد له [وقته الخاص] والذي يجب احترامه تنعكس على المدى البعيد جداً، وتؤثر في سلامته النفسية، وترفع عنه أعباء من القلق، أو التعلق ومشاكل أخرى. ليس خطأ أن تحترم أنَّه في وقته الخاص الترفيهي يفعل ما يشاء، وأن تحترم ذلك، سواء ببجي أو غير ببجي، أن يمنع دماغ الفرد فرصة للتركيز في شيء يحبه، دون مقاطعات هذا حق من الحقوق، وكون إنسانا لا يعي أنَّه ينزع ذلك مبكراً، ويذهب إلى تعليم الانقياد، والتبعية، والطاعة العمياء المبنية على القلق والتأنيب، هذه نقطة تستحق النقاش، أكثر من ببجي، أو كون أن متدينا له وجهة نظر عن لعبة أيضا لا تخلو من الملاحظات. المنطلق الذي جاء منه هذا الرأي يحتاج إلى جدال أكبر.


خلنا نحلل موضوع لاعب الببجي قليل الأدب ونشوف منبع هذه الافتراضات.
لأنه ما فقط ببجي تشمل [قلة الأدب هذي] هناك شيء آخر.
يلعب ببجي، بالضرورة يحتاج لتركيز. ولأنها لعبة جماعية، التركيز يستدعي [التطنيش]، لذلك اللاعب يحتاج جو، وتركيز، وبسبب ذلك يتجاهل النداء، وتجاهله للنداء هذا ما يجعله قليل أدب.

السؤال الآن:

الافتراض الضمني، إنه الأدب يعني الاستجابة القلقة، والمتوترة، وأن ترمي كل الذي في يديك إن نوديت. أليس من المنطقي أن نقول أنَّ الذي ينادي عليه أيضا أن يراعي أدب تربويا؟ بدلا من أن يكون مصدرا للذعر، والقلق، والتوتر، ويسبب الضيق للجميع لأنه لحوح يريد من الجميع أن يقدر عجلته، وإلحاحه؟

بهذا المنطق، الذي يلعب ببجي، وغير ببجي، بل حتى الذي يلعب شطرنج هو قليل أدب، لأن وصمة قلة الأدب ليست قادمة بسبب ببجي في حد ذاتِها، وإنما لأنه [يتجرأ] أن يركز في شيء ويرفض دوره النمطي المتأهب وكأنه حارس ليلي ينتظر النداء من ضابط الصف. أعتقد أن جوهر المشكلة يلف ويدور حول اعترافنا وعدم اعترافنا بهذا السلوك.

هناك أشخاص في هذه الحياة قلقون، يسببون التوتر لكل من حولهم. تخيل مدربا لك في صالة الرياضة بهذه الطريقة، يصرخ، ويريد كل الناس أن تنتبه له من فورهم. التصالح مع هذا السلوك المنفر هو الذي يقود الناس للقطيعة، والخصومة، وقد يغرس مع الوقت سلوكا تجنبياً طويل المدى.

إذا كان عدم الرد لشأن عاجل [قلة أدب] فهذه تستوي فيها الببجي، والشطرنج، بل وحتى لو كان الطفل يشاهد التلفاز، بل أيضا تستوي فيها حتى المذاكرة، وحل الواجبات. هذا الاستحقاق المبالغ فيه هو المشكلة.

من الخطأ الكبير أن نفترض أن النزق، والإلحاح، والسلوك المسبب لتوتر الجميع هو حق من الحقوق. في المقابل هنالك حقوق منطقية لكل إنسان، ولا أتخيل أن شخصا مليئا بالاستحقاق سوف يحقق نتيجة حسنة لمجرد أنَّه يرفض كل شيء يجعل الجميع متأهبين لخدمته، ولمناداته، ويطلب تركيزهم بهذه الطريقة المتطلبة.

لو قال مثلا قليل أدب لأنه يؤخر الصلاة، أو قليل أدب لأنَّه يتأخر عن واجباته في المنزل، أو قليل أدب لأنه يُنادى لاتفاق سابق، أو لطلعة عائلية، وكان هناك تفصيل يوضح شخصية [الجيمر] المتنصل عن واجباته الاجتماعية، فهذا يشمل ببجي وغير ببجي، وستمر الكلمة مرور الكرام، ارتباط وصف [قلة الأدب] باستحقاق مليء بالتطلب، وغامض التسبيب أظن هو السبب الذي جعل من الموضوع صراع تعميم وإطلاق.

نفترض أن القائل وضعها في هذا السياق؟ هل كانت ستقود لردة الفعل نفسها؟ ستجد الذي يدافع تلقائيا يقول: ولكنه خصص الأسباب التي تجعل مني يلعب ببجي قليل أدب. ربما كانت هذه هي المعضلة الاستفزازية في المقولة، والتي فتحت باب الردود على مصراعيه.

شيء آخر، القائل مطوع، هذا يعني لدى كثيرين حدوث ردة فعل دفاعية، فمن المعلوم أن المطوع يكتسب استحقاقا من النصوص الدينية لكي يأمر بما يراه الدين ويراه هو معروفا، وينهى عن ما يراه الدين وما يراه هو منكرا. هذه الدفاعية مرتبطة بنزعة الحريات الشخصية، وحق كل فرد في حماية اختياراته في الحياة من بطش أو سوء تقدير فردٍ آخر، وهذا متوقع. لذلك جاءت الردود خارج موضوع [الجيمنج] والببجي وغيرها ..

هناك أشياء أخرى في السياق، ولكنني منتبه إلى هذه الجزئية، الاستحقاق هذا، من هذا الذي يطيق إنسانا ضيق الفؤاد، سريع الغضب، إذا ناداك ولم ترد وصمك بكل الصفات السيئة؟ هذا النوع من الناس متعب، والمثير للاستغراب، أن الشخص اللحوح في النداء مع الوقت يتأقلم مع حوله على عادة [تطنيشه] لأنه لحوح، ويريد انتباه الآخرين في نفس الوقت.

سلوك نمارسه كلنا أحيانا ولا نحسب حسابا لعواقبه طويلة المدى. هل تساءلت عن ذلك الشخص الذي يغلق هاتفه ولا يرد على أحد، ولا يرد على الاتصالات؟ لهذا السبب، لأنه كوَّن عزلة دفاعية بسبب وجود من يزعجه، سواء لمشكلة تتعلق في تركيزه، وحاجته للهدوء أثناء فعل ما يفعله، أو لسبب آخر، لأنه منزعج من هذا الاستحقاق المقلق لشخص يفترض أن عدم الرد عليه يعني بالضرورة: قلة أدب.

"رد علي يوم أكلمك"
"إييييييييييييييييييييييه مالك صم"
"طب هذا اللي في يدك واسمعني"

إخراج إنسان من تركيزه يسبب القلق، وهو تصرف يجب أن تُحسب عواقبه. تنادي طفلا يشاهد التلفاز من أجل الغداء هذا شيء، تنهره هذا شيء آخر.

ببجي محرمة من قبل الشيخ كهلان، وأظن كل الظن أن السبب هو وجود المقامرة بها، لا أظن أن اللعب الإلكتروني في حد ذاته سبب للتحريم.
البعض يستخدم هذا التحريم المسبب ليقول لك: كل ما ليس دينا، وليس فقها، وليس حديثا، وليس قرآنا هي أشياء سيئة، وهذا أيضا ليس من جوهر الدين، هذا من جوهر الاختيارات الفردية، لا يختلف عن المدرب الرياضي الذي يسمم كل من حوله بالشعور بالإثم ويذكرهم بالموت وأمراض القلب إن أكل أحدهم برجر وشرب بعده سفن أب .. هي مشكلة الشخص القلق، المليء بالاستحقاق، الذي يفسد جو الآخرين فقط لأنه: على صواب فيما يقول.


لا عجبَ أن يثير هذا الموضوع جدالا طويلا وعريضا، لأنه من الأساس مرتبط بعدة مناطق حيوية في تفكيرنا، وحياتنا، وا ختياراتنا، خارج الموضوع الديني، والالتزام، أو المطاوعة وما يقولون، وخصومهم وما يقولون.


الخميس، 13 يوليو 2023

بين الحقيقة والممكن

 لكي تكتب ما هو حقيقي، يجب أن تكون مستعدا لخسارة أصدقائك، ومصالحك، وعلاقاتك الاجتماعية. ولكن! قبل أن نتكلم عن هذه المظلومة دائما [الحقيقة] دعني أوضح بعض الأشياء. أن تكون ساخطاً، يطلق الأحكام، يتعرض للغرباء باسم مستعار، أو إنسانا سيء الطباع، مشحونا بالغيظ، والغل، لا يعجبك العجب ولا الصيام في رجب، أنت هنا حالة من حالات الحقائق، وهي حقيقة رأيك.

الحقيقة، تلك المثبتة، التي لا يختلف عليها مجنونان. تحتاج إلى خسارات فادحةٍ كيف تتمكن من قولها دون أن تثير حفيظة أحد. انظر مثلاً للواقع الإعلامي، هل من مؤسسة إعلامية استطاعت النجاة بموضوعيتها؟ لا بد من شركة ما تسكت عنها، وفي حالة الإعلام السياسي لا بدَّ من نظام ما تمالئه، وسياسة تحريرية تملأ موضوعيتها بالتناقض، وأقصى النصيب الذي تحصل عليه هو بعض الحقائق، ولا بأس أن [تحلو اللعبة] فتختصم الدول، وتتجلى الحقائق المتضادة بما يسمحُ للعقلاء هذه المرة بالوصول إلى أقرب الأحكام للمنطق.
ولهذا يميل البعض إلى الاحتفال الكرنفالي المفعم بالنشوة بجملة [لا توجد حرية مطلقة] يقولها وكأنه في فرحة عقد القران على محبوبة حياتِه، ونعم لا توجد حرية مطلقة، ولكن أيضا، لا يمكن القبول بالقيد المطلق، عدم إطلاق الحرية لا يعني [حرية القيد] ولأفسر كلامي بلغة أبسط. غياب الحرية المطلقة، لا يعني إمعانك في الافتتان بالأغلال، والقيود.
أن تكتب ما هو حقيقي، يعني أن تكون جاهزا للخسارة، وقادرا على الدفاع عن مساحة حقوقك. لأن قول الحقيقة يملأ حياتك بالأعداء، والخصوم، فهو لا يستفز من تتناولهم هذه الحقائق، وإنما يستفز أيضا قطيع الواهمين الذين يفضلون إغلاق عيونهم، [الدوغما] كما يحلو للبعض أن يسميهم.
حرية التعبير المطلقة هي الخسارة المطلقة لكل مصالحك، وقد يشمل ذلك خسارة حياتك في بعض الحالات. وهنا يأتي حساب العقل والمنطق لكي تعرف ما هي الحقائق التي تستحقُ تضحياتك.
عندما تبذل السنوات والعمر في خساراتٍ متتالية من أجل أن تقول أشياء يعرفها الجميع، هذا ليس فعل [نشر حقائق] هذا مجرد [فعل نشر] وإعادة تذكير، لا يقل أهميةً عن قول الحقيقة، أو [قول الحق] ولأن الحياة لا تسير كما نتمنى وكما نرغب تبدأ الخيارات في هذه الحياة بمحاصرة هذا المنطق المتسامي. تريد أن تقول كلمة حق؟ الخسارات قادمة في الطريق، فالعموم الكبير لا يحبُّ الحقائق، والناطق بالحقائق مزعج بالفطرة، ولديه قيم لا يتنازل عنها، ومن أبسطها: أن يقول الحقيقة! الناطقون بالحق يعيشون رضا داخليا قد يعوضهم عن خساراتٍ فادحة في هذه الحياة، لكنهم لا يعيشون الحياة الاجتماعية النمطية التي يستحقونها. وهذا ما يجعلُ [قول الحق] موضوع مرحلة، في بعض الدول نهايتها الموت، وفي بعض الثقافات نهايتها السجن، وفي بعض الأنظمة القانونية هي من الأساس لعبة سيطرة على الجموع، الحقيقة غير مهمة، ما يقوله الحزب هو الحقيقة!

سيبقى هذا العالم دائما وأبدا مستعمرة للأوهام، وللأكاذيب، وللباحثين عن الإجابات السريعة، وأيضا سيبقى في هذا العالم هؤلاء الذين يحاولون، ويعلنون عجزهم عن حسم المعركة، وأيضا يرفضون إعلان الهزيمة، ويتمسكون بجوهر وجودهم: حقوقهم، ومن أهمها حقهم في التعبير. ولأن الحياة بها واقع يقع على الرأس، تفقد من حريتك قدرَ ما تقبله من تصالحٍ مع الواقع، الأمر له علاقة بالممكن فعله أكثر من الممكن قوله، وهذه من طبائع العقل لا الجنون، إدراك واقع الحال، والتعامل بالممكن.

لكي تعبر عن ما تؤمن به، وما تراه حقيقةً، عليك أن تضع سلالم أولويات لخساراتك، حياتك سوف تمتلئ بالكراهية، وسوف يتوجه الغل عليك شئت أم أبيت، ومع الوقت قد تنهار تحت وطأة كل ذلك، أو قد تتأقلم في نهاية المطاف وتتعلم عدم الاكتراث، قد ينتهي بك الحال إلى أن تكون إنسانا سيء الطباع، غاضبا، لا أحد يطيق الحديث معك، وقد ينتهي بك الحال إلى أن تكون مجاملا، بلا حماسة لتجادل أحدا، قد تصبح قطبا من أقطاب الحقائق في الإعلام، وفي وسائط النشر، وقد تصبح أداةً، أو كلبا مربوطا، ينبحُ عندما يُطلب منه، ويعض عندما يؤمر بذلك. كل الاحتمالات واردة عندما تقرر الخروج عن السائد من الصمت، والمقبول من السقوف الوضعية لحق الإنسان في الكلام.

الحرية المطلقة، هي تلك الكلمات الأخيرة التي تقولها وأنت على وشك الموت، وإن كنت مستعدا للموت من أجل حقك في الكلام، فكلماتك الأخيرة هي النصيب الوحيد لك من الحرية، لأنَّه بعد الموت، لا توجد عواقب سوف تفكر بها، والمثير للأسى، أن كل ما كتبته يوما ما سيصبح له ألف معنى فقط بعد أن ترحل عنه، سمةٌ مأساوية في الكتابة يعرفها جيدا كل من يخوض بحر الخسارات هذا، وينفردُ بذهنه بعيدا عن الغرباء ليلاحق المعنى باندفاعٍ قد يخلط فيه بين النور والنار.



معاوية الرواحي

الأربعاء، 12 يوليو 2023

تأملات في حوار تيت مع كريس تاكر

 تابعت حوار أندرو تيت. وأتذكر وقت قريب حد كان منزعج مني لأنني في بعض الفيديوهات [أصرخ] وكان منزعج من هذا الشيء. تو أشعر بالشعور نفسه، يوتّرك، ويشحن وجودك بالقلق.

وهُنا أيضا سأعترف بشيء آخر [هذه مشكلتي أنا] ولن أفكر أن أكتب منشن لتيت لأقول له [غير من طريقتك في الكلام لأنني أنزعج منها]
لن أمارس هذا الاستحقاق، سأكتفي بأن أقول أن أندرو تيت قد يقول أشياء منطقية كثيرة، وبديهية، ولكنه أحيانا مبشر بالشك، وبالاستهداف.
عجيب لما تشوف مشاكل أنت تعاني منها، وترى نموذج آخر يعاني منها وتشوف تلك التشابهات المزعجة والتي تجعلك تعيد النظر في حالتك الشخصية.

عموما، تيت ليس مصدر حوار نقدي مستعد أن أقضي ساعات في تتبعه، ربما عامل العمر، وعامل الثقافة والهوية وغيرها، جوردان بيترسون موجود.
يا إلهي، متى يخلص هذا الحوار، لأنَّه فعلا تحس واحد لحوح، ومكابر، وعنيد، وما طايع يسكت، ولا يناقش، ومستعد يروح يمين، ويسار، ويجادل، ويقنع، وما يخليك في حالك عشان يقول لك: هناك مشكلة كبيرة!

بعد هذا الحوار، صرت أجد مساحة كبيرة للغفران لكل من ينزعج أو انزعج مني في مرحلة إلكترونية ما من حياتي. يتحدث كمستهدف، وهو فعلا مستهدف، لكن هذا مزعج! يتحدث عن ضرورة الشك، ونعم ضروري أن تشك، ولكن هذا مزعج، تحس إنك تضحي براحة بالك وطمأنينتك وتجي تسمع موضوع فكري عشان تحصل حد يصرخ، ويصرخ، ويصرخ، وصوته عالي.

سبحان الله!

يوما ما كنتُ في حال شبيه، طبعا مع الفارق الهائل في التأثير والأهمية، ولكن في حال شبيه، من ذلك الغضب المتراكم. الآن صرت أفهم أنانية الشخص المستقر، وكيف إنه وهو يعيش تلك المواجهات المريرة كل الذي أفكر فيه إنه مأساة حياته لا تعني لي أي شيء، كل الذي يعني لي هو الفائدة الفكرية التي قد أجدها في حواره مع كريس تاكر.

عجيب هو استحقاق المتلقي، وإلى أين يصل. أما كونه سجين، أو كونه مستهدف، أو كونه في حوار مع مذيع مفصول من أخبار فوكس، وأيضا نموذج يتعرض [للكنسلة] وكونه أصلا في هذا العالم كنسلة انتقائية، كل هذا لم يجعلني أتعاطف مع [المقابلة] وإنما أخرج بشعور بأنني أضعت وقتي في الاستماع لإنسان قلق، ومتوتر، وعذابه لا يعني لي أي شيء.

رغم كل شيء، الذي لن أفعله هو أنني سأكون [سمجا، وبجحا] وأركض له بكل هذه المشاعر السلبية، والرافضة، والإلغائية، والخارجة من التعاطف وأرسل له هذا الكلام، أعبر عن قبح مشاعري في أي مكان، لكنني لن أركض بها لأحشرها في حلقه وكأنه يجب عليه أن يتعايش مع كل هذا القرف الذي كتبته قبل قليل.

يا ساتر! بعده باقي لي ساعة كاملة. ما قادر أشعر بتعاطف معه، ولا أشعر بكراهية، وإنما شعور وقح بالحتمية، وكانني أردد على مسامعه الكلمة القبيحة التي يقوله من لا يهتم [يعني موه كنت متوقع!] ..

إنني أفعل الشيء نفسه الذي أصابني بالمرارة في عمر سابق. لحظة! لن أدين موقفي لهذا الحدث. لا أشعر بالشماتة تجاهه، وأتمنى في قلبي أن يخرج بريئا. لحظة لحظة يا ماريو، قليل من الموضوعية، خارج صوته المزعج، والقلق الذي سببه لك. هو بريء حتى تثبت إدانته، أليس هذا القانون الحضاري؟ حسنا، أتمنى أن تثبت براءته.

قليل من الموضوعية يا ماريو. وكأنك تلوم نفسك زيادة عن اللازم لأنك لست منساقا وراء تيار تبرئته، أليس هذا حقك المنطقي؟ أن تنتظر نهاية هذه المشكلة؟ وأن ترى الناتج النهائي دون إصدار حكم؟
تيت غاضب على بني ليبرال، وهذا اليسار المليء بالمخالب [والكنسلة] الناجزة. إنه يؤدي دورا فكريا ما، لا تكن إلغائيا لهذا الحد، لا يخلو من كونه [الداعية] الذي يصرخ في المنابر. لماذا أنت منزعج منه؟ هل أرهقك التشابه؟ يبدو لي ذلك. فهناك تشابه، مع غضبك، وانزعاجك وشعورك بالاستهداف، هناك تشابه ما يضايقك، عندما ترى العيوب التي بك تتجلى في شخص آخر وتسأل نفسك: يا إلهي! هل هذا الحال الذي أنا عليه أو كنت عليه!

أحاول التعاطف معك يا تيت. يا إلهي! أمامي ساعة أخرى، كل الأشياء التي مرت علي مقتطفات منها أسمع الآن خطابها الكامل والمتكامل!

هناك أشياء كثيرة يقولها منطقية، وصحيحة. يبدو أن عامل العمر يستولي على حياتك، الأربعين تقترب، وتأخذ مسار الهدوء، وكل يوم يتحول وضعك إلى حالة من حالات الحكمة وادخار الشراسة للضرورة.

أنت لا تشعر يا ماريو بذلك الشعور القبيح، لست شامتا فيه. أستطيع الجزم بذلك بوضوح، أنت تشعر بذلك اليأس تجاه العالم، وتأسف لانتصار هذا اليسار الأهوج بكل ما فيه من تشوهات منطقية، وتشعر بالحزن لأنه من بين كل النماذج المنطقية يخرج أندرو تيت ليستفز الإنسان المحافظ الذي صرت إليه، وتشعر بالانزعاج لأنَّه مع دقة كثير ما يقوله يختار أن يقوله في قالبٍ مزعجٍ، يجعلك تشعر بالذنب لأنك تشعر أن العالم بخير. الآن فهمت، الخطاب الذي يضخ القلق كجزء من السياق!

نعم، الآن وصلت للشعور الذي أشعر به، القلق شرط من شروط السياق [التيتيِّ] لذلك أشعر أن هذه المقابلة مرهقة بمعنى الكلمة! لأنها تيار من القلق أفسد بهجة الفجر، والكتابة فيه.

نعم!

القلق كجزء من السياق!

من زاوية أخرى، لا أستغرب أن يصيب أندرو تيت اليسار الليبرالي بالجلطات المتتالية، هذا تجاوز إهانة الصوابية السياسية، والفكرية، وذلك اللطف المترف الذي يعتبره البعض [شرطا سياقيا] إلى بذاءة الحقيقة التي ينادي بها، وإلى كشف بذاءة النقيض، وطبعا مع [الإيجو] الذي يجعل كل الخلطة [التيتيَّة] مزيجا من التقبل الفكري، والرفض الفكري، والكراهية، والتساؤل عن الدوافع، والتساؤل عن العالم.

لا عجب أن يثير كل هذا الجدل! وايضا، لا عجب أن يتلقى كل هذه الكراهية، ولا عجب أن ينال كل هذا الاحترام، ولا عجب أن ينال كل هذا الرفض والتحيز تجاهه!

لا عجب مطلقا فهذا المزيج من الخصال والظروف لا يحدث كل يوم في هذا الكوكب العجيب.

سأكمل مشاهدة باقي الحوار غدا! لأنه فعلا ينسف طمأنينة الكتابة في الفجر!

للحديث بقية.

سؤال هاشم الجحدلي

 من يجرؤ؟

.. متى تحس بالتغيير في سلوكياتك، أولوياتك، اهتماماتك، مواقفك: هل بعد كل تجربة مؤثرة هل بعد كل موقف مزعج هل بعد قراءة متأنية هل بعد علاقة متوترة أو عميقة هل بعد تراكم تجارب وخبرات أم بعد شيء آخر، وما هو؟ وهل تحس مباشرة بهذا التغيير وتتلمس آثاره؟

هاشم الجحدلي
إجابتي
التغيير، يأتي بعد إما صدمات متوالية قصيرة، واكتشاف أن إعادة التفكير بالحياة بالطريقة نفسها دون تغيير سيزيد عدد الصدمات، ويجعلها بلا نهاية، أو قد يقود للصدمة الكبيرة، وهذه التغيير الذي بعدها يأتي مثل [خلع الكتف] .. عندما تشعرُ أنَّك عشت صدمة غيرتك حقاً، لكنك لا تعرف تغيرت إلى ماذا! لا تعرف [إلى ماذا تحولت]. يبدأ الأمر بنوعٍ من الشعور بالغربة وأنت مع نفسك وأفكارِك. كانتقال الملحد لليقين، ولو كان المبدئي، أو إلغائه لاحتمال [انتفاء الخالق] والسؤال المرير: هل حقا كنت أؤمن أن كل هذا صواب؟ وأن كل ذلك الشك هو حقيقة في حد ذاته؟ هل حقا أوقفت كل الاحتمالات لكي أجعل كل هذا الكون عبثا بلا خالق فقط لأنني أتحامل على النبوَّة أو بعض رواياتها؟ هذا هو التغيير الفكري، تتأمل حال حياتك. صديقك الملحد الذي يتفوه بالكلمات المقذعة عن الذات الإلهية يصبح إنسانا تتجنبه، يجرحك ما يقوله، المتطاول الفج بالسباب على النبوة، يصبح إنسانا مقيتا [وواهما]، شعور بالعار الشديد أن كل ذلك كان [حقائق] في ذهنك. والتغييرات الأخرى، كالذي ينتقل من الفقر للثراء، يصاب بالهوس المجنون أن يعوض حياته الفقيرة، يلبس خمس ساعات، يشتري سيارة غبية اللون، ويحيط بحياته المتنفعون، ومصاصي الدماء، وهو لا يدرك أن صدمة التغيير جاءت سريعة، مفاجئة، وتأخذ زخمها المفاجئ، وقد تنهيه في جرعة زائدة، أو حادث هواية خطرة يظنها [مستحقة للأثرياء فقط]. والذي ينتقل من الثراء للفقر، ويتغير، وقد يصبح حاقدا على الحياة، وينتقلُ تدريجا من تجربة لأخرى، ورحلة بطيئة جدا من التقبل، واكتشاف [أكذوبة] كبيرة كان يعيشها، وشعوره بالحصانة، ودوام الحال يتلاشى أمام عينيه عندم يصبح فجأة أحد الذي يصفون في طابور الخبز، أو الذين يضطرون للجوع وجبتين في اليوم. وأخيرا، عندما يتغير القاسي لإنسان طيب. ذلك الفج، الغليظ، الذي خسر من حوله بسبب شراسته، وقسوته، وجرب الوحدة، وأن يهجره الناس، ذلك النرجسي الذي سمم كل زملائه في العمل، والذي يأتي عليه يوم العيد ولا رسالة تصل له تهنئه، ويكتسب مع الوقت [موت الإيجو] يتعلم التعاطف، وقليل من العطاء، وقد ينجح ببطء شديد في أن يصبح إنسانا قادرا على الشعور بغيره، وأن يتوقف عن التلاعب بالآخرين من أجل مصالحه، وأن يفسح المجال لقلبه كي ينبض في صدره. وأخيرا، الإنسان الطيب الذي يتحول إلى إنسان قاسٍ. ذلك الأهبل، الذي يتعرض للتنمر، والاستغلال، ويسخر منه الناس، ليصبح مشروع حامل سكين، أو حامل سلاح ناري، مشروع انتقام، وذلك الذي كان يبكي عندما يشاهد فيلما في السينما، ينثر بذور الدمار، وقصف الأعمار، وقتل الأحلام، والحياة تكون بالنسبة له الخصوم، والأعداء، ويصبح الحب عبئا، والأمل مرضا، وحسن الظن خطأ. يتغير الإنسان ببطء أو بسرعة، في كل الأحوال هي صدمة اكتشاف كم انهار ما كان [حتميا] باليقين، ليصبح نسبيا بالتجربة. يُجرِّب ذاته الجديدة، وكأنه شخص غريب، وكأنه [متقمص] لذاتٍ إنسان آخر، وكأنه [يعيش] في عقل ليس عقله، وكأنه [ضيف] جديد في منزل لم يغادره مالكه السابق، لكنه مصاب بغيبوبة، والضيف هو أصبح صاحب البيت. وبعد أن تكتمل أركان التغيير الداخلية، تبدأ المعركة الخارجية، وإزعاجها، ومقاومة التغيير من الداخل تأتي على هيئة [نوبات] من الذكريات، وكأنها كما قال المعري [فكأن زجر غويها إغراؤها] ومقاومة التغيير من الخارج تأتي على هيئة شيطان من البشر يقول لإنسان عد لتعاطي المخدرات، أو على هيئة ملاك من البشر يقول لك: "لا تكن سيئا" ويقاوم تغيرك للأسوأ، ويقف في وجهك. وفعليا [يزعجك] ويقلق راحتك التي كانت مليئة بالشر. التغيير يأتي من إثبات لك أن نظريتك السابقة في الحياة تحتاج إلى تعديل، ويحدث داخلك، وأنت تعصر عقلك، وتواجه نفسك، وخطابك الداخلي يقول لك [افعل كذا، ولا تفعل كذا] عندما تتوقف التبريرات الواهية التي كنت تنسجها عن إقناعك أنت، وعندما تواجه الحقيقة الصافية لسلوكك لا غير، [كنت أفعل، كنت لا أفعل] ويصبح ما تريد وما تخاف مجرد فكرة نقدية خاضعة لمعول التغيير الذي ما أن يدبُّ تأثيره في النفس، تبدأ المراحل العديدة والتي إن كان التغيير نحو الخير فنهايتها الاستقرار والشعور بقبول الذات، أو التغيير نحو الشر الذي نهايته التبرير، وفقدان التعاطف، وعقلنة السوء، أو التغيير النسبي، الذي يصبح فيه الإنسان خيرا وشريرا في وقت واحد، وهنا تتبادل الأوهام مواضعها، ويصبح الذي قتل مئات الناس لطيفا بالقطط، وصديقا لمزارع اليقطين، أو يصبح الذي ساعد مئات الناس سيئا، ومختلسا، ويسرق من دار أيتام.

ويأخذ التغيير مداه ووقته، حتى يصل إلى المنطقة الحتمية، عندما تدرك أن بعض الأشياء لن تتغير، وستبقى دائما كما هي عليه، وهُنا يتمايز النسبي والحتمي، ويحدث القبول الواضح للذات، وينشأ من هذا [التصالح] الذي رغم جانبه الحتمي المزعج، لا يخلو من نسبية التغيير، وإمكانياته، وطرقه، وقابلية حدوثه. هذا ما دار في خلدي بعد قراءتي لتغريدتك أيها العزيز جدا جدا جدا على قلبي ثم عقلي.