بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 أبريل 2023

ربما لأنَّه معاوية!


 

 أكملُ [21] سنةً منذ أو وطأت أناملي لوحةَ مفاتيحٍ في موقع إلكتروني. كان ذلك عام [2002] ووقتذاك الإنترنتُ هو الوعدُ الذي سيجعل العالم قريةً صغيرة. وما الذي نراه الآن؟ إرهاصات عصر الذكاء الصناعي، والأنظمة التي قد يصل بها الحال إلى الاستماع لضربات قلبك، وربما فحص دمك بساعة تخزك برفق، وغير ذلك من الأحلام، أمَّا في عام 2002 فالدهشة كانت هي وجودُ المكان الذي تكتبُ فيه بسقفٍ أعلى نسبياً من ذلك الموجود في الصحف والمجلات، ولن أفتح باب الكلام عن الرقيب لكيلا يتلف هذا المقال ويتحول إلى مهرجان من الحزازات التي لا أستطيع لجمها مهما حاولت.

تركتُ عالم الكتابةِ في الجرائد سريعا. وبعدها تركت أيضا التقديم في الإذاعة. أوَّل صدماتي مع نشر أوَّل قصيدة لي في ملحقِ شرفات. غيِّرت كلمات في القصيدة دون الرجوع لي! منها أدركتُ في أيِّ وضع رقابيٍّ أعيش. لم يثر حفيظتي وجود ما يُقنن أو ما يراقب، فحتى عندما بدأت تجربتي في الكتابة في الإنترنت بقيت لمدة عشر سنوات كاملةٍ متماسكا. أكتبُ ما هو مرفوض نقديا، أو ثقافيا، أو موضوعيا، هل كتبت ما هو غير مسموح قانونيا؟ أخذت عشر سنواتٍ منذ دخولي إلى عالم الإنترنت قبل أن أتحول من معاوية ذلك الكاتب المتلعثم، التائه، الذي لا يعرف ما الذي يريدُه، إلى تلك الشخصية الاجتماعية التي يُكال تجاهها الكراهية وتحيط بها الشكوك، ويدور حولها عالمٌ من الغموض والتأويلات.

تمنيتُ أن يكون دخولي للسجن بطولياً لكنَّه ويا للأسف لم يكن كذلك. هممم! دخلتُ السجنَ في قضيةِ سبٍّ وشتم. هذه كانت نهايةُ مسيرتي الطويلة في النأي بنفسي عن الدخول في مشكلة مع القانون في عُمان. لأصف بعض جوانب تجربتي، لقد امتلأت بمختلف الكتابات التي هوَت في قلب السقوط الأخلاقي والقيمي بالمعايير العُمانية. ومقابل ذلك الشاب الذي حافظ على رباطة جأشه، وثباته، وإدراكه لماهية الممكن وغير الممكن في الكتابة في عُمان، برزَ مسخٌ قبيحٌ في سماء الكتابةِ العُمانية، وأيضا استطاع هذا المسخُ الثبات لسنوات دون أن يخالف القانون، ولكن هذه المرَّة لم يستطع الثبات أكثر من عامين أو ثلاثة قبل أن ينزلَ على الساحةِ في عُمان بصدمةٍ جديدة من صدماتِ شخصيته المشوهة، وحالته المضطربة. 

لستُ بصدد لا الاعتذار ولا التسبيب، ما حدث قد حدث، ولماذا؟ وهل أنا معذور؟ وإلى أي درجة أنا معذور! هذا أيضا ليس محور الحديث، ما حدثَ قد حدث، حدثَ ما يخالفُ كل المعايير العُمانية للأخلاق، والدين، والعرف الاجتماعي. كنت أعودُ بين الفينة والأخرى لصوابي، ولكنَّ الوقت لا يطول حتى تتمكن الكراهية التي أتلقاها، والتي أرسلها من إدخالي للدائرة نفسها، شهور متتالية من الكتابات المضطربة، ومن ثمَّ مواجهة دونكيشوتية إما للسلطة، أو للدين، وكذلك ضمن تجربتي في الكتابة الإلكترونية، ومشاركتي في اليوتيوب وصل بي الحال إلى تهديد إنسان بالقتل، فضلا عن مهرجان من الشتائم، كان ذلك مؤقتا أيضا، ليس أكثر من ستة أسابيع من عامي الذي عادةً أكتبُ فيها بهذا المنطق تقريبا. 

شئتُ أم أبيتُ أنا جزء من الساحة العُمانية. عشرون سنة من النشاط في النت في دولة قليلة السكان، ونشاط كتابي هائل، وشخصيةٍ مشوهة بمعنى الكلمة، لا عجبَ أن أكون جزءاً [منتشراً] في الساحة العُمانية، وتفاوتت الصفات التي أوصف بها على حسب حالاتي الحقيقية. كاتبٌ منطقي تارةً، مدمن مخدرات شاطح ويهذي، مريض نفسياً لا يسيطر على اضطرابِه، وشخصية قبيحة في حالات، وإنسان جميلٌ قليلا بين فترة وأخرى. رغم كل ذلك الشوق الذي يأخذني للعودة إلى عالم الكتابة لم أستطع العودة، فقد علقت في دائرة فوق طاقتي، وكنت أعيش معركتين داخلية وخارجية، وحكايتي تملأ النت، ولقاءات اليوتيوب لو كنت تشعر بالفضول تجاهها عزيزي القارئ.

 

كنت قد أكملتُ 14 من دخولي عالم الإنترنت، عندما بدأت بذاءتي في الكلام والكتابة بالانتقال بي من المسخ الاجتماعي المشوَّه المليء بالأمراض الخلقية والنفسية والقيمية، إلى السجين داخل وخارج عُمان. لم يكن هناك أي طريق يمكنه أن يوقف مأساتي عن الحدوث، والحمد لله الذي أنعم علي بالسجنِ خارجَ عُمان، أيضا في قضيةٍ جانبياً لها علاقة بالكتابة، ورئيسيا أيضا له علاقة بالموضوع الرئيسي [السب، والشتم]. هل من المؤلم أن أصفها ببساطة السجن بتهمة [قلة الأدب]. ظننتُ أنني وصلت لأبعد ما يمكنني الوصول له ككاتب مشاغبٍ. كنتُ أحنُّ، وأحنُّ للعودة لكتابة الأدب، ومع الوقت لم يبق لي إلا الشعر، والقليل والشحيح منه، والنثر، هذا النثر التأملي الغزير الذي ساعدني على علاجِ نفسي بالكتابة. 

ظننتُ أنني وصلت إلى أقصى مدى من البذاءة، بعد سجني في الإمارات في سجن الوثبة تحديداً، انتصرَ الحنينُ للكتابة، فقمت بكتابة روايةٍ عن الموضوع. تمنيت نشرها في عمان، ومنذ أن قدمتها للنشر، سنوات، وسنواتٌ وهي لم تنشر، ولم أجد ردا، فلا هي مُنعت، ولا هي نُشرت، ولا عرفت ما الذي بها لأعدلها. شعرتُ وقتها أنَّ العالم كلَّه يريدني أن أتقبل مصيري، أنا من؟ معاوية؟ من يكون؟ ذلك الكاتب الذي يدهشك أحيانا بدأبه في الكتابة، وصبره، وكثرة محاولته، وهو أيضا تلك المأساة الاجتماعية المليئة بالبذاءة. لا أنا برواية أنشرها، ولا بشعر أكتبه، والمثير للأسى أن كل كتبي التي نُشرت كنت وقتها في السجن.

عُدت لعُمان، قضيت بعض الوقت، ثم قررت الذهاب للنيبال. قررت في قلبي أن أهب كل أيام حياتي للكتابة، ولكن هيهات! ذلك الدماغ المفعم بالمخدرات، والصدمات النفسية، والاضطرابات، وأخطائي الكثيرة وما تركته في نفسي جعلتني أدرك أي مسخٌ تحولت إليه. حتى مع مقاومتي الشديدة ورغبتي الهائلة في العودة إلى عالم الكتابة المنطقية والهادئة، فشلتُ، ثم فشلتُ، ثم فشلتُ مرارا وتكرارا. أدركتُ أن بقائي في عمان وفق تلك الظروف يعني موضوع وقت قبل أن أدخل السجنَ في إحدى حالات الانفلات، لست أعرف تشخيصي الطبي، أعرف أنني أعاني من نوبات، وأعرف أن لدي اضطرابا في الشخصية، وكل هذا الإطار غير مهم، أعرف أن لديَّ مشكلةً جسيمةً بمعنى الكلمة، قررت الهجرة وقلتُ: فلتكن حرية الكتابة كما أريد!

أن تكون حرَّا في الكتابة يختلف عن أن تكون مقيدا. الحريةُ مفهوم داخلي. في بريطانيا لم أعرف ما الذي أريده بالضبط. النتيجة هي خيبةُ الأمل. إن كنتُ بذيئا مؤقتا في عُمان، أصبح حالي في بريطانيا هو بذيء بدوامٍ كامل. لعامٍ أو ربما أكثر كانت مهمتي في الحياة هي البذاءة. لاحظ عزيزي القارئ، لا أتكلم في سياق ندمٍ أو حسرةٍ، إنما أصفُ ما حدث كما حدث، قد يكون بعض ما بدر مني يقع ضمنَ تعريف [الجهرُ بالسوء لمَن ظُلم] لكن قطعاً هذا لا ينطبق سوى على بعض ما كنت أقوله. ماذا فعلت الحرية لمعاوية؟ جعلتني أفهم كل الذي يدور في لا وعيي الذي لم أكتشفه إلا بعد أن أخرجته للعالم، ومع أن تلك التجربة كانت مؤلمة، لكنها ويا للعجب! ساهمت في تبصيري بمشاكلي كلها دفعةً واحدة، وعندما حان وقت مراجعة الذات عرفت ما الذي عليَّ مراجعته. توقفت بذاءاتي منذ سنوات، بدأ هذا التوقف وأنا في بريطانيا في السنةِ الأخيرة لي هناك، نجحت في الخروج من الإدمان، وتغيرت المعادلة من البذاءة بدوام كامل، إلى البذاءة بين الفينة والأخرى، وكما هي هذه اللغة التي أكتب بها الآن، اللغة التي أنا شخصيا أرتاح لها وأستطيع الاطمئنان لها، عدت للقدرة على الكتابة. 

لم أكن أكذب عندما نويت تغيير حياتي السابقة، أنا حقا تغيرت، إنها السنة الرابعة لي وأنا في حياتي الجديدة الهادئة، هل هناك ترسبات سيئة! نعم، هل بي طبائع سيئة؟ نعم. هل هي المنتصرة الآن؟ هنا أقف بكل فخرٍ وأقول: الغلبةُ لذلك الجزء الذي بين الذي يقاومها. لم أشتم أحداً منذ أربع سنين! ولم أخالف قانوناً، سنةٌ من العمل الشاق للتخلص من الإدمان، ثم شاء رحمة الله أن أعود إلى عُمان، وهُناك تغير أسئلة الحياة والحريَّة.

أنا أحد منبوذي الوضع العام في عُمان. الوسط الثقافي يحتقرني لسوابقي وخياراتي السابقة. الوسط الحكومي لا يضمن جانبي نتيجة انقلاباتي وشدة خوفي منه، ومسارعتي إلى التشكيك بنواياه حتى وإن كان يريد مساعدتي. حياتي الشخصية تسير على ما يرام، وضعي العائلي مستقر، وصداقاتي القريبة مني جدا تساندني في رحلتي. إن كنت شخصا مشوها، قبيح الأفعال مثل حالتي فمن الحماقة أن تنصت إلى كلامِ الناس. يحسن كثيرون الظنَّ بي، وأنا لست كما يحسنون الظن بي. يسيء كثيرون الظنَّ بي، وأنا لست بالسوء الذي يظنونه، أو يتمنونه. الحقيقة الواضحة، أنني شخص مختلف حوله، الجميع يتفق أن بهذا الإنسان [الذي هو أنا] بضعة قذرة بمعنى الكلمة، ولكن أيضا هناك اتفاق ما أن هذا الإنسان [الذي هو هذا الذي يكتب هذه السطور] يرفض تلك البضعة القذرة، ضمن كل التأويلات وسياقِها، بقيتُ وأبقى مرفوضاً ومشكوكاً بي، إن فعلتُ حسَنا فهو موضوع وقت قبل أن أسيء، وإن فعلتُ سيئا فهو [أنا]. 

أكثر شيء أضحكني في حياتي هي تلك العقوبة القدرية أن أصنَّف ضمن [المشاهير] في عُمان. يا إلهي! وكأنني بحاجةٍ إلى عقوباتٍ أخرى. هذا الإطارُ الذي سُجنتُ فيه، واضطررت للتعايش معه لسببٍ واحد، هو أنني أحتاج إلى مصدر للدخلِ بعد عودتي لعُمان. نداء الكتابة، والحنينُ لها لم يتوقف، ولذلك مع ضرورة أن أركز على المنصات ذات الدخل الرائع مثل [سناب شات] أو منصة مفيدة تجاريا مثل [الانستجرام] بقيت لمدة عامين ملتصقا بتطبيق [تويتر]. ليس من السهل أن تكون بقبح أفعالي السابقة فتعود بكل سهولة للوسط الثقافي، كما قلت لك أعلاه عزيزي القارئ، أنا أحد منبوذي عُمان، من قبل النخب الثقافية المُجمعة تقريبا على أنَّ معاوية لا يستحق فرصةً ثانية مهما حاول.

هُناك شيء أحترمه كثيرا في نفسي، وضوحي التام. سعيتُ لكل إنسان أسأت له لأعتذر إليه. وناديت مرارا [من كان له حق من معاوية فليدلِ بحقه] وما كان له سأؤديه. صنع لي هذا الوضوح مساحةَ حياةٍ مريحة، فكما أنني أحترم وضوحي هُناك أيضا شيء ما أكرهه في نفسي، وهو حقدي، وعدم قدرتي على التجاوز والغفران. يؤسفني أنني إنسان لا يسامح، حتى وإن استطاع أن يهدأ لفترةٍ من الزمن، ما لم يجمعني مع خصمي عهد متفق عليه من الطرفين، فهنا معاوية القبيح الذي ينتصر، ذلك المتأهب للدفاع عن نفسه مهما كانت الخسارات. نعم قلت أعلاه أنني تغيرت، ولكن هذه طاقتي على التغيير، لم تصل إلى حدِّ إعادة تشكيل أطباعي، هناك ما سأتعايش معه حتى نهاية العُمر، وأحقادي التي تعاود الهياج هي واحدة من هذه المشاكل.

أحاول أن أفعل الأشياء الخيَّرة، والحق يقال، أن الصحبة مع الأنقياء تطهر النفس وتعطي شعورا جميلا بالحياة. هذا الذي يجعلني ألتصق دائما بالذين يفعلون الخير، مع علم أنَّ كثيرا منهم لا يطمئن لي. اندمجت مع دور النجم الاجتماعي، أو [المشهور] كما يقولون! وأكملت العامَ، والعامين، والثلاثة، والأربعة وأنا في حالي في أوضاع الكتابة في عمان، أكتب مثلما يكتب الجميع، وفق السقف المتاح. سؤال لقمة العيش حاصرني، ودفعني دفعا للمكوث في الإنترنت وفي عالم المنصات المؤقتة، ولم تكن ظروف العودة للكتابة متيسرةً مطلقاً وقتَها. بالجهدِ والعمل الشاق والساعات الطوال أسستُ لنفسي مخبزاً صغيراً متعلقاً بالإعلانات في المنصات الرقمية. انضمَّ لي الأصدقاء، وبدأنا نحلمُ سويا بفعل شيء ما متعلقٍ بصناعة المحتوى الرقمي، تغيرت بعض الأشياء، ولم تعد فكرةُ الكتابة بعيدة المنال، دخلت عالم الدراسة الجامعية، حققت معدلا جميلا للغاية، وها أنا أكتبُ مجددا.

بعد أن تقضي سنوات لا بأس بها في الحالات العامَّة. ويختلطُ وجودك الاجتماعي، بالكوميديا، والضحك، والبداهة، ويرتبط بماضٍ من الشتائم والسب، وغيرها. يفهم القارئ الحقيقي أنَّك قد توقفت عن كل ذلك وبدأت حياةً هادئة، ويدرك المتابع الحقيقي أنَّ المنطقَ العام الذي تمارس به إنتاجَ النصوص والمواد المرئية قد استمسك بعروةِ المشي وفق الممكن، ذلك الذي لا يذهب بالحياة إلى جهنمِ الخسارات. وفي جانبٍ آخر أنا ذلك الشخصُ الذي تجوب مقاطع الفيديو الشاطحة التي قطعها البعض ويعيد نشرها الهواتف والمنصات، لأنني معاوية، حتى وإن كتبتُ ما هو متوافق كُليا مع الكتابة، وتحليلها، ورؤيتها، واجتهدت، هُناك ما هو خارج النص يجعلُ الآخر يقرؤ الواضح من كلامي بطريقته الخاصَّة، ويصنعُ معناه بطريقته.

 

جرِّب يوما ما أن تعيد صياغة شيء مما كتبتُه، واعرضه على بشرٍ كثيرين، ثمَّ قل لهم هذا المقال لمن وستفهم الذي أقولُه. قبل قليل وأنا أكتب هذا المقال، تجلَّت ظاهرة [ربما لأنَّه معاوية] مجددا. بعد كل الدق والحطيم الذي دارَ حول موضوع حرية التعبير الجديدة في عُمان. كتبت مقالا بكل المعايير الصحفية يعتبر ملائما لكل اشتراطات المؤسسة الإعلامية، ومع ذلك ماذا كان سبب الرفض: لأنه مرتبط بكتابات أخرى لي؟ أي أن هناك رقابة خارج النص! وهذه الرقابة تجاه من؟ تجاه الشخص. لم يحزنني ذلك كثيرا لأنني منتبه لهذه الظاهرة منذ زمن بعيد، هناك شيء ما يتعلق بمعاوية يسمحُ لكثيرين بفعل ما لا يمكن فعله لغيري. التحيز، ومجددا هذا طبيعي جدا، لا أشتكي منه، لكنني أقدم مجادلة فقط لكل ذي لب يريد أن يكون منصفا، التحيز انفعالات غير منطقية عادةً، وحزازات، وعندما يُمارس تجاه شخص في غير موضعه، لا حلَّ لذلك لأنه من الأساس: الموضوع شخصي، لأنه معاوية، هذا هو السبب عادة.

حضوري في الساحة العُمانية يُقرأ من عدة جهات. هناك قارئ منصف، ومتلقٍ منصف، يأخذ المادة التي قدمتُها ويناقشها، ولست بصدد سرد المدارس النقدية، وجدلية موت الكاتب، وحياة النص، السؤال لا يتعلق الآن بقبولك أو رفضك لمادة، السؤال يتعلق بأشياء كثيرة، لحياة اجتماعية، لحقوق، لماذا يستمرئ البعض أن يتجاوزَ منظومة القيم التي يؤمن بها فقط [لأنَّه معاوية] الذي يكمل سنته الرابعة وهو [ماشي جنب الحيط]، حتى على الجانب الرسمي لم أسلم من قراءة معاوية خارج النص، خارج كلامِه، وإذا بموظف رسمي يتصل بمذيع ليقولَ له [معاوية مريض نفسي، ونخشى أن تتهم من قبل المنظمات الحقوقية الخارجية باستغلال المرضى النفسيين] وهُناك كنت مستعدا للحرب، وسأبقى مستعدا لها إن تم استخدام هذا الملف من الشخص غير المختص، نتحدث عن [أهلية إنسان] ولكن مجدداً ربما لأنه معاوية يتجرأ أحدهم ويتدخل في ملفه الطبي، وتشخيصه، مجددا [ربما لأنه معاوية!].

لقد وصلت للخلاصة التي تسبب كل هذا، لماذا أُقرأ خارجَ النص، لأنني لا أُقرأ مضمونا، وإنما شكلا. المتلقي العُماني العام [عادةً] يقرأ انفعالي، أو اندفاعي. قلت لصديق ذات يوم، اسمع مضمون الكلام، دع عنك صوتي الصارخ، أو الهادئ! ومن يومِها انتبه إلى هذه الظاهرة، والتي ربما تدور حول كثيرين، ولكن [لأنني معاوية] أُقرأ حتى بما لم أقل، كما كانت أيام ما، أحاسبُ وأُكره على ما فعلت، وأُحاسبُ وأُكرَه على ما لم أفعل. لا ألوم نفسي مطلقا في شيء، أنني تحولت للكراهية، ووجدت في الكراهية والغضب ما يكفي من عزة النفس لكي أرفضَ الحب المشروط، والحق المشروط بالقبول الشخصي، حياتي لم تكن سهلة يوما ما، ولن تكون سهلةً، الذي أعرفه أنني سأقاوم حتى النهاية.

 أنا معاوية! أعرف قيمتي، وأحترمُ نفسي، وقضيتي، وبذلت السنين في الإيمان بحق الكتابة للجميع، وحللت، وكتبت، ومهما حاول أحدهم الانتقاص من جهدي وتعبي في هذه الحياة، أحترمُ نفسي بما يكفي لأواصل المحاولة، أنا لا أتعبُ، ولا أكلُّ، ولا أملُّ ولا أتوقفُ عن الإيمان بقضية الكتابة، وقضية رفع سقفها الإبداعي في عمان، وقضية التصدي للرقيب المزاجي، كتبت آلاف الصفحات، وأكتب عشراتها في ساعةٍ واحدة، مرنت نفسي على الكتابة لسنوات طويلة، واشتغلت على نفسي، وإن كان هناك من يرفضني فلا يهم، أحترمُ ما آل إليه حالي من منطق وهدوء، وأنطلق من رمادي دائما، أنا الذي لا يقفُ عن الكتابة، لماذا؟ لأنني معاوية!

 

معاوية الرواحي

 

 

 

 

 

 

 

 

الخميس، 13 أبريل 2023

ماذا نريد من العقلاء!

 

 

 

أشعرُ بالخوف حين أنسى نفسي. عندما أستجيب للقالب الاجتماعي الذي يحبُّ الصناديق وتأطير الأشياء. يرهقني ذلك الشعورُ المرير، أن أصبحَ فجأةً من العقلاء، وأنت لست عاقلاً، ليس بالمعنى السطحي الذي يفهمه هؤلاء الذين لا يعلمون دهاليز أكوانِهم الذهنية. لا أنتمي لكم أيها العقلاء، أنتمي إلى قبيلي من الأذهان المغايرة. أنتمي إلى هؤلاء الذين تصفونهم بالعباقرة في لحظات دهشتكم بتجليات الأذهان وفتوحها. وهؤلاء! الذين تصفونهم بالمرضى، والمختلين في ردات فعلِكم تجاه سقطاتنا. نحن المرضى النفسيون، وغيرها من الألقاب الجاهزة التي تواصلون فيها أنانيتكم، وسحبَ حياتِنا منَّا، وحتى توجيه علاجِنا ليكون من أجل نمطيِّتكم، وجهلكم، وخوفكم من المجازفة، ومقاربتكم التي تُرسمُ من أجلِ أنانية عقولكم الجامدة، وخوفكم الهائل من الوصمة التي تسارعون لوصمنا بها عندما تفلت عقولنا من سيطرتنا، وتخرج من زمامِها. كم أخشى على نفسي أن أصدَّق أنني، فأنا مجنون في سياقٍ ما، حالمٌ، رومانسيٌّ ممغنطٌ يهيمُ وراء نداءاته الغامضة، وحبِّه الغامر للخير، وسعيه الدائم لكي يكون خيَّرا. وفي سياقٍ آخر، أنا مريضٌ نفسي، وكتلة من العقد الجاهزة للانفلات، والانتقام. أغالبها بكل أدوات الوعي، وأصارعها بكل ما تيسر من علوم النفس، ومن طبابة الدواء. وماذا عساي أريد من العقلاء؟ الخديعة؟ أن ألبس قناعَهم؟ أن أصالحَهم؟ هذا ليس أنا، هذا ما لن أكونَه، وكم هو صعبٌ أن تشرح لعاقلٍ عالمَ الجنون، وكم هو عويصٌ أن تقول لإنسانٍ: أنا مريض نفسياً! عقلي يخذلني، أستطيع أن أفكر كالعاقل، ولدي ذلك الكامن في نفسي، الذي يضع الزيت على الكوابح، ويأتي بالعجب العجاب، ويشطح خارج الواقع. آهٍ كم أخشى على نفسي عندما أنسى حقيقتها. حقيقتي وقبيلي الذين أنتمي لهم، وهؤلاء الذين أنسى قضيتهم لأجد نفسي [مؤثرا] اجتماعياً، يشار له بالبنان الأحادي، في إطارِه، كمثقف من العقلاء، لا تنس نفسك يا معاوية، أنت لا تنتمي لهؤلاء، وقضاياهم ليست أكثر من غبار متطاير يختفي وراءه النداء الواضح، ألست طالبا في علم النفس؟ ألم تختر خيارات حياتِك؟ لا تنس الذين تنتمي لهم، ولا قضاياهم، ولا حقوقهم، وإن تيسرت لديك من أدوات الوعي القليل، فهم أولى بجهدك وتعبك، لا تنس رسالتك التي اخترتها يا صديقي الذي بدأت أحترمه بعض الشيء.

 ما جدوى أن تسرد للعقلاء كل ما يعرفونه من قبل، ما يخافون قولَه؟ سيبهرهم سردك المتين، وسيغالون في المديح المجاني، لفتوح بصيرتك، ولا يعلمون كم هو عاديٌّ في عالم المجانين. ذلك الكون الفسيحُ في عقولِهم، واختلاط الخيال بالواقع، والمنطق بالهذيان، والجنون بالحكمة. يبدو لهم مدهشا. قضيتهم ليست قضيتي، قضيتي هي [نحنُ] هؤلاء الذين يعيشون في كوكب العقلاء، وفق شروطِهم، وقانونهم الذين يحمينا في شؤون كثيرة، ومجتمعهم الذي يدمرنا شرَّ تدمير، وينزعُ منَّا أبسطَ حقوق الحياة، أنا نصفُ عاقل، أنا مجنون من مجانين عُمان، وهؤلاء هم الذين أنتمي لهم.

للعقلاء قدرة على نفعِ الذين يعانون من الأمراض النفسية، ومن المجانين من هم أنصاف عقلاء، ومن العقلاء من هم أنصاف مجانين، ومن المجانين من لديهم عقلٌ متكامل الأركان، منطقي وقادر على التحليل السببي، وبناء قيم الحياة الساعية للفضيلة، والنازعة للحفاظ عليها. من العقلاء أيضا من لديهم جنون متكامل الأركان، قد يستولي عليهم كليا، وقد يستولي عليهم جزئيا، وهؤلاء أكثر العقلاء نفعا للمرضى. قبل أن أشرعَ في كتابة فكرتي يجبُ أن أشرحَ بعض الشيء، لزملائنا في كوكب الأرض، من العقلاء الذين جزؤهم المجنون لا يتجاوز عُشرَ ذهنهم العاقل، هُم وخيالهم السجينُ في مصالحهم السريعة، والبعيدة، وطموحهم الشاطحُ في السيطرة، والسلطة، والقوَّة، والبحث المهووس عن فرديَّتهم، وعقدهم الاجتماعي، وحقوقهم الكثيرة، واستحقاقهم العالي، وركضهم للمكانة، هذه التي لا تعني للمجانين شيئا.

كمجانين ومرضى، يجب أن نقبل صفقة الحياة الصعبة وأن نعترف أننا نحتاج للعقلاء أحيانا، وأنَّ منَّا من عليه أن يقف نصفه العاقل من أجل العدالةِ في هذه الدنيا، عدالة المُعاملة، وحماية حقنا في أن تكون لنا أحلام نسعى لتحقيقها، وحقوق لا نتنازل عنها. يجبُ أن أشرح لك يا عزيزي العاقل، أننا نعرف مشاكلنا، ونسعى لحلِّها، فإن كان الجنون هويتنا الذهنية، فالمرض جزءٌ من أيامِنا، نتعب أحيانا، ونفقد السيطرة، وننفصل عن الواقع، ولذلك نحتاج إلى العقلاء، ولكن ليس لك أنت، بما يرهق كاهلك وكاهلنا وأحلامنا بالأحكام والمخاوف، نحتاج إلى العقلاء الذين يفهمون، والأطباء الذين يعالجون، والمتخصصين الذين يحللون المشاكل والعقد والصدمات والسلوك، ويزرعون بذرة الوعي التي تعمل على مدار السنين لتصنع في النهاية عقلا مستقرا، وحياةً هادئة، ومحيطات دفاع متعددة تعين الذي ابتلاه الله بالمرض في عقله، وتحتوي ذهنَه الذي يخرجُ عن سيطرته، ليعيش في عالم العقلاء الجارح، والحاد. نحن بحاجةٍ للعقلاء، لديهم نفعٌ كبيرٌ جدا، وفي عُمان أن تعاني من مرضٍ نفسي فأنت على وعدٍ مع مرض آخر، وربما سجنٍ من السجون الاجتماعية، وستعيشُ غير مفهوم لنهاية المدى إلا إن رحمَك الله وجعلك عوناً لبني جلدة ذهنك، ورزقك فهماً يجعلك نافعا، يمكنك أن تنشغلَ عن قضايا رفاقك بعالم العقلاء، فتصنع تلك المكانة البراقة، وتمدُّ من فيوض ذهنك أنانية العقلاء، ويمكنك أن تكون نافعا، وهذا ما أذكرُ نفسي به، لستُ من العقلاء، وما أفكرُ به هو ما يمكن فعله من أجلهم.

هل تعرف معنى أن تخافَ الحديث مع أحدٍ، وأنت في غمرة خيالاتك، وربما تفكيرك في الانتحار! هل تعرف معنى أن يفتك بك عقلك وينهشك من الداخل وكل الذين حولَك هلعون منما ينزف من جروح ذهنك الذي أصيب بالحمى، وصار يهذي، فلا هو في الواقع، ولا هو في الخيال، يحبُّ ما ليس موجودا، ويكره ما هو موجود. أنت لن تعرف شعوري، ولن تفهمَه، حتى تصاب بالصدمة! الذي تسميه أمُّه [كبير الشيمة] يفقدُ أعصابَه أحيانا، ويشتمها شتما، لأنها جلبته للعالم، يشتم أباه، ويشتم أخاه، ويشتم عائلته، ويشتم كل شيء، ثم ينهار باكيا! من أنت أيها العاقل الحقود لتغفرَ هذه الزلِّة! العاقل المضرُّ لكل إنسانٍ أقصى نصيب له مما يقوله هو [الكلام] ستعتنق ما تشاء من أحكامٍ وستعجل لحظةَ المرض نصبَ عينيك، ستعاملُ نصف المجنون كعاقل عندما تحبُّ وتشاء، وستعامل نصف العاقل كمجنون عندما تحبُّ وتشاء. مثاليتكم أهم من الحقيقة، وسعيك لسحق الضعفاء بكل [نيتشويَّةٍ]  جاهزٌ للانقضاض، وتنتظر لحظة الهشاشة المثالية لكي تسحقَ هذا الذي توقف عقله عن حمياته، فتفعل ما تشاء.

بعض الحالات المرضية ليست كما يتخيل العاقل. لا تتحول إلى أفعالٍ، تبقى في حيز الكلام وغرابة الأطوار، تختنق بالريبة، وتشطحُ في الثقة بالناس، وأنت أيها العاقل هو ذلك الكابوس الذي يمكن أن يحوَّل حياةَ مريض إلى تعاسة. كيف أشرحُ لك، أن الجنون هبة من الرحمن، والمرض ابتلاءٌ. فالمجنون يمرض، ثم يعودُ إلى حالته الإبداعية وذهنه الخلَّاق وقدرته على الخيال، تلك التي لا تملكها أنت، وإن امتلكت ذرَّة منها فلديه الأكوان اللانهائية منها. نحن نحتاج إلى العقلاء، وأقصى حاجةٍ لنا هي أحيانا أن تسمعَ، أن تكون مؤتمنا على ما تسمعه، وأن تُدرَّب قليلا لتعرفَ أن حديث النفوس يمكنه أن يخرجَ في محيطٍ آمنٍ، وقد يساعده على تجاوز نكسته المؤقتة، أو يهديه خيطا من خيوط العودة إلى سيطرته على ذهنه، ذلك الذين تسمونه أنتم [العقل]. لهذا نحتاج لكم أيها العقلاء، ولا نحتاج إليكم أجمعين، نحتاج إلى بعضكم الذي يفهم، ذلك الذي يعرفُ كيفَ يتعامل مع تلك اللحظات، ذلك الذي لا يستغلها، وذلك الذي لا يطلق الأحكام عليها. ونأتي الآن إلى كلام النصف العاقل منِّي، وليبدأ المنطق في التفاعل مع نفسِه!

 

عندما كنت في بريطانيا في ذلك الزمهرير من البردِ والتعب والشوق والحرقة، مررت بتجربةٍ شاقَّةٍ تتعلقُ بحالتي المرضية، وذلك التشخيص الضائع بين الأطباء النفسيين، فضلا عن وضعي الاجتماعي والقانوني الذي جعلَ حالتي منحصرة في المسؤولية الجنائية، أما استقراري وصحتي وسلامة حياتي فلم تكن مهمَّة. عشتُ صدمةً هائلةً عندما ذهبت إلى بعض الأطباء، كانَ مصرَّا على أنني أعيش تهيؤات وخيالات ومبالغات مرضية. ما رآه هو مريض يتوهَّم أنَّه كاتب! بل ومهاجرٌ لأنَّه تعرض للسجنِ، وفوق ذلك لديه خيالاتٌ عن استهدافِه من قبل دولةٍ أخرى، هذا غير عن دولته التي يدعي أنَّه تعرض فيها للسجنِ، والتهميش، وبدأت الأنذال يحومون حول نزع أهليته منه وسحب رخصته العقلية، لم يصدقني الطبيب وأصرَّ على أنني أتوهم كل ذلك، وبقيت في حالةٍ من الصراعِ وأنا أبحث عن الأدوية التي تساعدني على الاستقرار، ولم أجدها. أسقط في يدي! أقول للطبيب أنني مؤلف لثمانية. يطلب مني نسخةً منها. أرد عليه: ليست لدي نسخة ورقية! لكن لدي نسخة إلكترونية.

يهز رأسه باستخفاف وضيق: كنت أعلم أنَّك ستقول ذلك، هل تريد أن تجمع لي ملفات [PDF] ثمَّ تقنعني أن هذه الكتب التي ألفتها؟ أنت مؤلِّف معروف في بلادِك، وتزعم أنَّ كنت مؤثرا في مجتمعك، وكاتب يشار له بالبنان! لا أرى كل ذلك!

بإنجليزية مهشمة أشرحُ له: أنا في بلادٍ قليلة السكان، هذا ليس صعب المنال.

ينظرُ بضيق إلى ذلك المستهدفُ، المضطربُ الذي يصرُّ على أنَّه اعتقل في سجون مخابراتيَّة في دولة أخرى، ويتأفف عندما أقول له: السبب تغريدات، وكتابات!

 

يشرحُ لي بغيظ شديد، أنت تعمل في محكمةٍ، موظفٌ بسيط، كيف تقول لي كلاماً والسجلُّ والأوراق التي قدمتها لي تقول أنَّك موظف في محكمة. شؤون البلاط السلطاني الذي كنت أعمل فيه يُكتب بالإنجليزية [Royal Court Affairs] هذا الذي [يكذب] عليه ويحكي له القصص، بما فيها من أجهزة مخابرات، وسجونٍ، ويزعم أنَّه يعمل في [بلاط الملك] فكلمة سُلطان ليست حاضرة في ذهنِه، سجلي يقول شؤون البلاط السلطاني، والترجمة تقول [شؤون المحكمة الملكية] ولم يعد الحديث ممكناً، كان درس الله لي صعبا، وشعرت أنَّ الله عاقبني على كل تلك الأدوية التي كانت تصرف لي من مستشفيات عُمان ولا أستخدمها، برنامج علاجي يكلف [300] ريال عُماني تقريبا. شعرت في قلبي أنَّه عقوبة جديدة من رب العباد على كفري ببعض النعم التي لم أحسب حساباً لقيمتها. يصل الحوار إلى طريق مسدود، فأحاول متوسلا أن أشرح له: لدي الأدلة، لدي أفراد من عائلتي، لدي أصدقاء يمكنهم أن يقنعوك أنك ترتكب خطأ.

وكأنني رششت عليه كوبا من الماء قال بحدة: نعم، ستجلب لي من هبَّ ودبَّ ليقول لي أنَّك هذا الخيال الذي تسرده عليَّ، إنني أقوم بهذا العمل منذ سنوات طويلة، ولا أظنُّ أنك تريد مساعدة نفسك. يصعِّر خدَّه، ويصبح الحديث محتدَّا.

ينزعج ذلك البريطانيُّ أكثر وأكثر، يسأل بحدة: حسنا أيها الكاتب الكبير الذي تنفق الدول وقتا لسجنه لأنَّه كتب شيئا ما، الذي يعملُ في بلاطِ الملك، تقول أنَّ لديك كتاباً نفذ من الأسواق، أين ذهبت نقوده لماذا أنت في عوزٍ وفاقة؟ أين ذهب ذلك المال؟

أردُّ بكل صدقٍ: أنا من كتَّاب العالم العربي! الكتاب لا يكسبون من كتبهم! عدد ضئيل جدا منهم يصل إلى الكسبِ من الكتابة! لم أكسب مالاً من كتابي!

كنت أشير إلى كتابي [جمجمة مهترئة] والذي عشت دهشة نفاد نسخه من معرض الكتاب. أمَّا هو فقد قال بتأفف الكون: أقوم بهذا العمل منذ سنين طويلة، أنت تصر على أن تلقمني هذه الأوهام.

يقرر مقاربةً دوائية مبنية على أنني متوهم لكل ذلك، وأخرج بخفَّي حنين. محاولةٌ أخرى للوصول إلى أدويتي فشلت، وهُناك بدأت خطتي الأخرى للعودة إلى العقل المستقر، كنت في وضعٍ لا يتعلق بالخناق الاجتماعي، لم يكن مهما أن أكتب في الإنترنت، أو أسجل الفيديو، كل هذا اسمه [حرية تعبير] لا أكثر، هذا الذي مارستُه حتى أدركت أن حرية التعبير فحسب ليست هي التي تغير كل شيء، وإنما هي بداية الطريق لا أكثر، وجزء من الرحلة الحضارية لأي دولة. كانت تجربة فكرية ولست بصدد الكتابة عنها الآن، خرجت بخلاصةٍ تقول لي: العقل المستقر أهمُّ للحرية من فكرة كسر المسكوت عنه. ماذا يحدث بعد أن تكسر المسكوت عنه؟ لا يحدث أي شيء، تكتشف أن الجميع يعلمُ الذي قلتَه، وأن دهشة القالبِ الجنوني، أو الأدبي، أو الغرائبي هي التي تشغل العقلاء الذين يتغذون على جنونك. كانت هذه التجربةُ المرَّة التي جعلتني أتمسك بعقلي وبهدوئه، وأؤمن بأن استقراره خيرٌ لي، وللحياة، ولكل شيء وأوَّل ذلك عائلتي. ماذا كان أمامي وقتَها؟ العودة لعمان لم تكن في متناول اليد، والضغط على أقصاه، والهجوم والكراهية الذي أرسله وأتلقاه صنع دائرةً تعيسة من فقدان الاتصال بأي شيء اسمه أحلام وآمال. بعد صراعٍ مع الإدمان على مخدر [الماريجوانا] ومعه استهلاكٌ غير صحي للكحول، اتخذت دراجةً هوائية لتكون الطبيب الذي يصدقني، وبدأت رحلتي مع العودة لعقلي. لن أكتب عن الإدمان والخروج منه، أو أثر الرياضةِ على حياتي في هذا السرد، سأكتب عن فكرةٍ أخرى، عن أولئك [الأصدقاء] الذين صادقتهم في برنامجٍ لم أحسب حساباً لتأثيره الكبير على حياتي. [خدمة خط الانتحار] ولاحقا خدمة [أستمع لك] والتي كانت برنامجا خيرياً، غيَّر المعادلة، وصنع لي [الأصدقاء/ الغرباء] الذين أكملوا نقصا كبيرا كنت أعيشه في تلك الظروف الصعبة. [أصدقاء الهاتف لأنصاف المرضى نفسيا].

 

عندما نتكلمُ عن مراتب الحقوق للبشر، لا أهتمُّ عادة لحقوق العقلاء، لديهم ما يكفي من القوانين، والأنظمة واللوائح التي تنظم شؤون حياتهم. أنا من المجانين، ولا أقصد كلمة الجنون التي تنظر لها أنت بنرجسيتك وظنك أنك [عاقل] أقصد تلك الكلمة الإبداعية للناس الذين حباهم الله قدراتٍ رائعة، وفي الوقت نفسه ابتلاهم بأمراض صعبة.

 

وهذا الذي يكتب أحدهم، وأحمد الله أنني منهم، له في صحوِه صولات وجولات في الفكر والأدب والشعر والكتابة، وله في نكساته وسقطاته صولات وجولات في قلة الأدب والسفالة واللغة الساقطة فضلا عن مآزق من الشخصنة، وأمراض النفس وربما حتى الحسد، والغيظ، والغل، وعقد النقص، غير العامل الوظيفي المتعلق بدماغِه المضطرب إما بثناية القطب، وشخصيته المضطربة، واختلاف الأطباء في علاجه فضلا عن أشياء أخرى متعلقة بإدمانه للمخدرات في فترة ما، خلطة من الصعب أن أشرحها لك وأنت إنسان مذعور للغاية. ولكن هل أنا أقع ضمن الناس الذين تُظلم حقوقهم بشدَّة؟ تخيل الإجابة، كلَّا، مع كل هذه الظروف الصعبة أنا من هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بأن مرضهم جسيم وتم تشخيصه، لا أعاني في صمت، ومكنني الله من أدوات من القلم والبيان يسمح لي أن أحمي نفسي، ورحمني الله رحمة جليلة، وكتب لي العودة لعمان، بعفو كريم من جلالة السلطان، ومن مريض نفسيا، إلى [شاعر/ مجنون] وأفضل كلمة [شاعر] ولكنني أستخدم كلمة [مجنون] عن قصد ودراية، لأصدمك أنت عزيزي العاقل الذي ربما من أشد حالات رعبك أن توصف بهذه الصفة.

 

في أيام بريطانيا، بعد أن عشت بدون علاجٍ دوائي لبعض الوقت. نهشني عقلي نهشاً، أخطئ علنا، أندم، ثم أهاجم نفسي، وهي دائرة لا نهاية لها. بدأت بالتوازي مع حلمي بالخروج من عالم الإدمان عالم رياضة الدراجة، وحكاية التعافي والاستقرار هذه ستكتب بتفصيل في مكان آخر، فهذا ليس موضوعي في هذه اللحظة، الموضوع يتعلق بذلك الجانب من الدعم من [الغرباء]. ولكن أي غرباء؟

 

سيكون كلامي صادما لك، وأرجو منك أن تتحملَه. أتحدث بكل التخشبِ الموضوعي الذي أتعلمه في جنبات تخصصي الجامعي في علم النفس، وأسأل الله أن أتخرج من هذا التخصص لأفعل شيئا لبني جلدتي، كل مريض نفسي، بالطبع لن أذهب لعالم العلاج النفسي، ولكنني سأفعل شيئا ما يتعلق بهذه القضية إعلاميا. وهذا ما أريد طرحه اليوم. تلك الفترة التي انتقلت فيها من مريض نفسي كامل الأركان، إلى نصف مريض، ثم إلى إنسان مستقر. وأخيرا بعد الاستقرار أعود إلى كوني شاعرا أتمتَّع بالهبات التي منحني إياها رب العباد، وأكتب بهذه الغزارة.

 

في لحظاتي المُرَّة، هناك جانب قبيح أعيشه أنا فقط. ذلك العذاب الشديد الذي يعزلني عن الناس، ويعزلني حتى عن أقرب البشر لي. وإن ابتلاك الله بأناسٍ سفلةٍ يستغلون مرضَك، بل وربما يبتزونك بما يبدر منك في حالاتك المرضية فلا عجب أن يعاني الناس في صمت.

 

ضمن انهياراتي، بقيت لدي رغبة ملحةٌ في الكلام، وماذا عساه أن يكون كلام إنسان لديه دماغ مضطرب، بعض هلاوسي ذهبت إلى البث المباشر في اليوتيوب وغيره، وبعضها هاجمت فيه أبي، وأمّي. الرغبة في الكلام للمريض النفسي شديدة، والحاجة لها مهمة جدا، ومن ضمن مآزقي في هذه الحياة ذلك الجلد المروَّع للذات، والذي أعوِّض فيه شعوري بالندم. ثمَّ حالات الكراهية المفرطة. وهذه تصل إلى البعيد، البعيد جداً.

 

تسميني أمِّي كبير الشيمة، فأنا من أحبِّ أبنائها لها. وكانت صدمتي كبيرة عندما اتصلت بها ذات يوم لأعترف لها بشيء. ضمن آلام الوجود التي كنت أعيشها، ورغبتي لسنوات في الانتحار كنت في لحظاتٍ ما سوداء جدا، ومظلمة، أصرخ لاعنا كل شيء، وتخيِّل من ضمن ذلك تلك الأمُّ التي أحبها بجنون، والتي تحبني بجنون. هذه الأم التي صبرت كثيرا، هل تتخيل أن هذا الذي يحدثك الآن وصل به الحال إلى [لعنها!] ليس بالشكل الذي تتوقعه، ولكنه في حالة إنسان منهارٍ يلعن أمَّه وأباه، لماذا جلباه لهذا العالم. هل تتخيل خطورة مثل هذا الكلام إن كنت تقوله للشخص الخطأ؟ هناك مرضى عقليا، ولكن هُناك مرضى في نفوسهم وطبائعهم القادرة على استغلال أي إنسان في لحظة هشاشة أو ضعف، أو يغرق في تقصيرِ وجهل وتسلطِ الذين لم يتعاملوا مع مرضه بعدالة وإنصاف. أعيش لحظة انهيار أخرى، أتصل بها، تقول لي أنك اتصلت وقلت لي نفس الكلام عدة مرات، وأنني أفهم يا ولدي الذي تمر به. حسرة أنني لست بخير تفوق بمراحل أنني كنت ألعن يوما ما الأم التي جلبتني للحياة، ألعن الحياة، وكل ما جاء بي إليها. هذا ملمح صغير، من عالم المرض، ومن ما به من مآزق يجب أن يُحمى البشرُ منها، المصاب بها، والقريب منه.

 

هذه من أعظم مآزق الذين يعانون من أمراضٍ نفسية، وقوعهم أحيانا مع الأشخاص الخطأ، الذين يستغلونهم. وفي حالة ثنائية القطب، الذي لا يخلو من اضطراب في الشخصية، وضلالات، وخيالات، تتحول الحياة إلى مأساة بمعنى الكلمة. هذه كانت معركتي، والحمد لله الآن أقترب من السنوات الخمس في حالة الاستقرار، وأكتب عن هذه التجربة بانفصال تام عن خوفي من عودتها. الحاجة للكلام فطرةٌ لأي إنسان مريض وغير مريض، والذي يئن تحت وطأة آلام عقله الذي يلتهبُ ألما، وخيالا، وذاكرة، وقهريةً، ووسواسا، يحتاج إلى الكلام، يحتاج جدا إلى الكلام ولكن مع من؟

 

حاجة المريض النفسي للكلام مهمة جدا، ولكن مع من؟ هذا هو السؤال. الإجابة سهلة، هم [الأصدقاء الغرباء]. كان تأثير تعرفي على هذا العالم في بريطانيا جذريا في تغيير لحظاتٍ كثيرة من حياتي. بدلا من الذهاب إلى اليوتيوب والهبوط على العالم بكل ما لدي من أمراض وخيالات، وما لا يخلو من الانحطاط الأخلاقي المخجل، تعرفت على هذه الخدمات التطوّعية. فكرتها بسيطة جدا [خط الانتحار] كلمتهم لبعض الوقت ومن ثمَّ دلوني على خط لمؤسسة تطوعية شعاره [تحدث معي، أنا أسمعك]. وهي جمعية منظمة قانونيا ملزمة بحفظ سرية الأحاديث. هذه الخدمة كانت حلا سحريا لي في فترة ما في حياتي في بريطانيا، كنت أتصل بالساعات الطوال، وكل ما كنت أفعله في المكان الخطأ، مع الشخص الخطأ، أو في اليوتيوب صرت أفعله هُناك، وفعلا عشت فترة من الاستقرار كان ظاهرها الهدوء وباطنها الاتصال الذي يصل لدرجة الصراخ، حد أن جارتي ذات يوم اشتكت علي في [الكاونسل/البلدية] وجاءتني رسالة رسمية تحذرني من رفع صوتي في الليل. خدمة أربعة وعشرين ساعة.

هذا الذي نحتاج إليه في عمان. ومثل هذه الفكرة، تطبيقها ليس صعبا، يحتاج إلى حماسة واعتناقٍ من قبل البعض. البعض يؤدي هذا الدور في مراكز الإرشاد النفسي، وهذا مكلف، أحيانا لا تحتاج للعلاج بقدر ما تحتاج للفضفضة في مكانٍ آمن، ليس مع إنسان سوف يبتزك لاحقا ويقول [كنت تشتم أمَّك] أو تصف نفسك بأوصاف مقذعة، كلَّا، مع إنسانٍ متخصص سيعاقب عقاب عسيرا أن قلَّ أدبَه وهتك سرَّك المرضي بأي شكل ما تصريحا أو تلميحا، أو ربما في نصِّ أدبي ناقص الأخلاق قد يدفعك أيضا إلى الرد بلا أخلاق، فنحن لا نتكلم عن مريض عاديِّ، هذا  إنسان مريض في عقله وفكرة [تنزيه] عملية العلاج لتكون هي الحل الجذري هذا مجرد وهم، هناك احتمال دائم للنكسات، والمهم هو صناعة منظومة متكاملة تحمي الفرد، وتحمي من حوله من نكساته النفسية.

هذه الخدمة ليست خطَّا ساخنا، إنها منظومة برعاية حكومية هدفها الأوَّل حماية هؤلاء الذين يريدون الحديث لا أكثر. من الذي يتطوع؟ وهذه معضلة كبيرة، فإن جلبتَ هؤلاء الذين بلا خبرة في الحياة، وبلا قدرة على كتم الأسرار، والذين يثرثرون فقد صنعت كارثة كبيرة. المتخصصون في علم النفس أولا، والأمر الآخر أن تكون هذه الخدمة [مجهولة] بمعنى، يوضح للمتصل ألا يعرف بهويته، وأن يحكي فقط. إننا نعتمد كثيرا على وزارة الصحة في كل شيء، وكأن المجتمع مكتوف الأيدي عن مساعدة المرضى نفسيا. وبالمناسبة، المريض نفسيا هذا محظوظ أكثر من [نصف المريض] الذي يعاني في صمت، هذا الذي في طريقه للمرض، وفي طريقه للانهيار العقلي يحتاج إلى هذه الخدمة أكثر، ليست لدي طريقة لتنظيم هذه الفكرة، ولا لتحديد من الذي يتطوع، لكنني أنقل تجربتي لك أيها القارئ لتساعدني على تحويل هذه الفكرة لواقع عملي، لخط يمكن لأي إنسان أن يتصل به [ويفضفض]، هذه مسؤولية كبيرة ولا يجب أن توضع تحت يد أي إنسان، من هب ودب أو ذلك الذي سيتدخل في الحدي مع غريب، أحيانا يحتاج الإنسان ليتصل ويكذب، فقط يكذب إلى أن يشبع، بدلا من أن يمارس ذلك على من حوله، يكذب لأنه يتخيل، أو يكذب لأنَّه يتأمل. خطر هذه الخدمة كما تتبعت، مدمني الجنس، والذين يحكون عن مغامراتهم الجنسية، وهذه نزعة مرضية أخرى، ومشاكل هذه الفكرة كثيرة جدا جدا، لكن نفعها للذي يحتاج لها كبير جدا جدا، يجب أن أضع هذا على الطاولة بوضوح، هذه الفكرة ليست سهلة التطبيق، لكنها ليست مستحيلة، وأتمنى أن يعتنقها أحد، الجميع يفكر في الخط الساخن للانتحار [وهنا مسؤولية وزارة الصحة] وهناك مناطق أخرى يمكن للمجتمع ومنظومة التطويع أن تساهم فيها، ربما البدء بساعات تطوعية من قبل الأطباء النفسيين، والأخصائيين النفسيين، مع تحديد قائمة ولائحة واضحة لفكرة هذه المؤسسة التطوعية، ومن الضروري أن تشمل دوراتٍ تخصصية بل وربما توعية أمنيَّة للحفاظ على سرية هؤلاء الذين سيفضلون الحديث هاتفيا مع شخص لا يعرفهم، ولا يعرفونه، بدلا من عيشهم للحالات المرضية مع الأشخاص الخطأ وبالتالي تتراكم الوصمات الاجتماعية عليهم بسبب نوبة مرضية، أو بسبب حالة ضغط وتوتر شديد، أو أحيانا تراكم الشعور بالوحدة والحاجة للشكوى. خدمة تطوعية مثل [أنا أسمعك] ستحل كثيرا من المشاكل، وستريح الكثير من الذين يعانون في صمت، وأرجو أن تتحقق هذه الفكرة في عمان.

هذا الذي يريده المرضي نفسيا من العقلاء. الحديث أحيانا، وليس العلاج، وليس بالضرورة التشخيص. يحتاج إلى أن يتكلم، ومن واجبنا كمجتمع أن نصنع له هذه الفسحة لنحميه من كل إنسان قذرٍ يتربص بلحظاتهم الضعيفة والهشَّة. هناك من بيده فعل كل ما أقوله، لا أعرف من، ولا أعرف كيف أصل له.

 

ماريو

 

 

 

 

 

وزارة الأوقاف، والناس، ومكبرات الصوت!

 

 

 

مقدمة سياقيَّة:

 

فيما يلي سأكتب عن موضوع جدليٍّ وشائك. لماذا سأكتبُ في هذا الموضوع وغيره من المواضيع؟ ألا يجب المكوث في منطقة الراحة؟ تلك المليئة بالحياة والتحليل الجامد، والباردِ والخالي من الرأي الشخصي، وكأنني روبوت يترجم نصوصا من الواقع يحولها إلى سطور برمجيَّة؟ سأقول رأيي، لأنني نوديت ككل العُمانيين إلى المُساهمة بالرأي، وما تصريحات وزير الإعلام الأخيرة إلا متكأ قوي لي ولغيري، لكي نساهم بالرأي النقدي البناء، ما سأكتبه هو رأيي الشخصي، هذه ليست الحقيقة، هذه مقاربة شخص واحد، الوصول للحقيقة تحتاج إلى العقول كلها. تحتاج أولا إلى لغة الانطباع، وهي إحدى مراحل التطور الإدراكية للإنسان، هناك عالم ظريف اسمه [جان بياجيه] يتحدث عن تطور مراحل الإدراك، ومن ضمنها مراحلٌ أولى في تصورنا للأشياء [الانطباع] مثل رؤيتك لجسم مستطيل كبير، الانطباع المبدئي يعطيك الهيكل العام، تعرف لاحقا أنها حافلة، والذي يجهل معاني الانطباع العلمية يستخدمُ هذا المصطلح ضمن سياقات خطأ، وكما قال أحد الأصدقاء، الرأي العام هو انطباع كبير، والذي يلغي الانطباع يلغي الرأي العام. هذه مداخلة ضمن هذه المقدمة السياقية الطويلة التي أوضح فيها دوافع كتابتي، أستجيب للنداء، ولما أبلغه معالي الدكتور عبد الله الحراصي عن صاحب الجلالة، بالدعوة للكتابة النقدية البناءَة، لذلك لا مزيد من المكوث في دورِ [المستلدغ]  سأكتبُ لأنني مواطن، وهذا حقي، سأكتبُ لأنني أريد أن أساهم في بلادي بكتابة نافعة، سأكتب لأنني بدأت أصدِّق، وبدأت أطمئن بعض الشيء إلى أنَّ هذا الارتفاع في سقف الكتابة صادقٌ. سأقف عن الخوف من نفسي، وسأصغي إلى نداء القلب الدائم الذي يتعلق بالكتابة عن عُمان، هذا الدأبُ والجهد الذي أمارسه كمدون منذ عام 2006، سأكتب، وسألقي ما في جوف جمجمتي، وأسأل الله التوفيق، فكل ما سيرد هي مقاربة إنسان واحد، وأنت يا عزيزي القارئ، أيضا، يمكنك أن تكتب، وأن تسترشدَ بمن يكتب، وإن كنتَ في ريبٍ من شيء فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وليبدأ المقال بعد هذه المقدمة الطللية.

 

إن موضوع مكبرات الصوت، والجدال عنه هي عادةٌ جداليةٌ لم تتوقف منذ سنين طويلة. والقضية في عُمان كعادتها، دائما في مكان آخر. الظاهر من المسألة هو نقاشٌ موضوعي حول حدثٍ بلديٍّ واضح المعالم، مكبرات صوت في المساجد، وجدالٌ يدور حول علو هذا الصوت. ولأننا في عُمان، ولأننا نعتمد كثيرا على المؤسسات التعويضية مثل تويتر، فهذا الجدال لا يصل لنتائج ولا لحلول لسبب واضح وجليٍّ، لأنَّ الرقيب الإعلامي هشَّم المنابر التي تجعل الناس تتجادل فيها، تلك المنابر التي يبقى فيها الجدال، والتي تصنعُ مكانا يُنهي الجدل بالحلول، لذلك نستطيع أن نقول أن ترسبات المراحل التعبيرية السابقة، والمدرسة النقدية في الرقابة على الكتابة هي لبُّ المشكلة، وسأثبت لك عزيزي القارئ الكريم ذلك في مجادلتي في هذا المقال.

دعنا أولا نناقش القضية المطروحة في الساحة العمانية. الجدل يدور، ويقفز لك بعض الناس الذين يحلو لهم إثارة الجدل، من أعضاء الفريق الذي كنت أعيش فيه ذات يوم، وهات يا [هبد] في موضوع أن مكبرات الصوت جزء من الصدام الديني اللاديني الليبرالي، وغيرها من الجدالات التي لم يجمعها [بسبب سطوة الرقيب، وخوفه من المجازفة] مكانٌ يوثقها. كيف انتهى الجدال، ببيان صارم، جازمٍ حاد للغاية تنشر فيه وزارة الأوقاف قراراً تبزغ فيه كلمة [غرامة ألف ريال] مثل الشمس الحارقة، مجددا، ومرة أخرى حلٌّ من الحلول الجارحة.

يقول الشاعر:

ووضع الندى موضع السيف بالعلا ... مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

 

ليس بمستغربٍ هذه النهاية. فالقضية في مكان آخر، ومتعلقة بالخطاب العام. هل يختلف بيان وزارة التجارة عن تصريحات وزير الإعلام القاسية بمعنى الكلمة والتي لم تخل من الوعيد؟ كلَّا، لغة الوعيد، والزجر، وخطاب المنع، والغرامة جزء اعتيادي من خطاب المنظومة الحكومية العُمانية. بالطبع، الفكرة واضحة، هذه لائحة، وهذه شروطها، ولكن ماذا عن ما يسمى [تأثير السياق] وهو موضوع علمي أتمنى أن [تتفيق] عزيزي القارئ لتبحث فيه. ما هو تأثير السياق في هذه المسألة؟ أن نهاية كل ذلك الجدال هو خطاب من خطابات الزجر والوعيد. طيب لماذا يا وزارة الأوقاف؟ من الأساس إن دخول الوزارة في شيء خارج تخصصها الكبير هو الخطأ، المسجد مبنى، حاله حال الكثير من المباني، والبلدية وضعت شروطا واضحة وسهلة وميسرة، للفعاليات التي بها مكبرات للصوت. هناك كثير من النقاط التي يمكن أن يكون بها حلول جذرية، وإليك أمثلة:

 

-       الموجات الصوتية متفاوتة، يمكنك أن تضع موجة صوتية منخفضة تختلف عن تلك النابعة من مكبرات صوت قد تكون ذات جودة رديئة.

-       استخدام مقاييس الضوضاء العلمية ووضع حد معيَّن من [الديسبل] المتاح، وبهذا لا يكون الجدل حول [وجود الصوت] وإنما حول علوِّه.

-       استخدام أدوات التوعية، والرقابة على المعدات [هندسيا] وليس الاستعجال إداريا في لغة الزجر والوعيد.

 

أنا متأكدٌ أنَّك يا عزيزي القارئ تستغربُ لماذا مثل هذه الحلول غائبة عن الناس؟ لأن القضية ليست في مكبرات الصوت وإنما في صراع الخطابات في عُمان. إن حللت تصريحات وزير الإعلام العماني في الآونة الأخيرة في لقائه مع الإعلامي موسى الفرعي في برنامج معالي الوزير، سترى هذا الخطاب الذي أعنيه. خطاب شديد، به الزجر، ولغة [قوَّة الدولة] على ماذا؟ على هذه المواضيع تضع السيف موضع الندى؟ هذا ما أعنيه وفق رأيي، [هذه ليست الحقيقة بالضرورة، هذا رأيي وقد يكون به خطأ كما قد يكون به صواب]. لا يختلفُ ما فعلته وزارة الإعلام، عن ما تفعله وزارات أخرى في خطابها مع المجتمع عن هذه اللغة، لغة [نحن الحكومة] وهذا خطأ كبير، لأنه يقود إلى توترات لا داعي لها.

أولا: هناك مؤشرات واضحة جدا جدا أنَّ عهد السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه بدأ بتصاعد صحي للغاية للخطاب الاجتماعي، وعلى الجانب الآخر هُناك وعي تخلَّق بالتجربة، وما كاتب هذه السطور إلا واحد من هذه النماذج، وفكرة التعبير عن الرأي العام هي إحدى وسائل الدولة العُمانية في الاستفادةِ من الرأي الشعبي، وتحويله من مهرجان من الغضب والسخط، إلى رأي نقدي منهجي، ليس كما يحاول وزير الإعلام تأطيره للأسف الشديد وبشكل غير موفق مطلقا، ولكن في النهاية هو مواطن حال الجميع وهذا رأيه الشخصي، أرجو ألا تعتمد الحكومة على رأيه الشخصي فقط فهو أيضا لا يخلو من خطأ الاجتهاد، وخطأ الاجتهاد به ضرر، وهو بنفسه وزير الإعلام قال: الطريق للجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، الجميع يعلم أنَّه يريد خير البلاد، وقد يختار هذه المقاربة من التشنج، ولعل ردة فعل المجتمع على تصريحاته تكفي لكي نقول، هناك تشابه بين ما فعلته وزارة الأوقاف، وتلك اللغة النابعة من الرقيب الإعلامي، فكرة [أنا الحكومة] أمنع وأزجر والوعيد. ولسنا بصدد مناقشة قانونية ذلك، فالقانون موضوع حضاري، وتنفيذ لوائحه جزء من صحة الدولة ككل، وأيضا نقاش القانون واللائحة والسعي لتغيير جزء من صحة الدولة، ومن التدافع النافع بين الناس وحكومتهم، مشكلة مكبرات الصوت ليست في مكبرات الصوت، وليست في وزارة الأوقاف إنها مشكلة خطابيَّة في المقام الأوَّل، وهذه تحتاج لإعادة نظرٍ شاملةٍ، وللأسف الشديد لا أظنُّ أن وزير الإعلام العماني هو أحد الحلول التي تقود لهذا الجانب، بل هو للأسف الشديد وحسب تصريحاته أحد الدافعين بوضع السيف في موضع الندى.

 

الأمر ليس صداما بين التيار الديني والدولة، وليس صداما بين التيار الليبرالي والتيار الديني، فهذه التيارات ليست أكثر من [تشبيهات] لفظية. هناك اختلاف بين الناس، والسعي للفهم باستخدام هذا التعميم ليس دقيقا لكنه ليس خاطئا. كنت أتمنى من وزارة الأوقاف أن تحلَّ الموضوع بطريقة أبسط بكثير من هذا الصدام الذي لم يكن له أي داعٍ. الاستعانة بجهود البلدية، وبعدة مهندسي صوت، وعدة لقياسِ الصوت، ووضع معايير سهلة للغاية، وبالمناسبة هي موجودة من قبل في اللوائح العمانية، ولكن نظرا لموضوع [الدين/ الأوقاف/ المساجد] هُنا اختلطَ على الوزارة دورين، الأول المتعلق بالجوانب المعقدة سياسيا، واجتماعيا، بل وحتى نصوص واضحة في النظام الأساسي للدولة تتعلق [بدين الدولة هو الإسلام] فضلا عن احتواء وزارة الأوقاف مؤسسة الإفتاء، ولا ننسى العلاقة الاجتماعية بين الدولة والمؤسسة الدينية، والمؤسسة الدينية والناس، وعلاقة الناس بالمسجد، [ومهرجان] طويل جدا جدا عالجه الفلاسفة في الحضارة الإسلامية والعربية ولست بصدد هذا التفنيد لأنني لست هنا لأذاكر مراجعي، أنا هنا لأقول رأيي. اختلط على الوزارة أنها ليست مختصة بشؤون البلديات، ولذلك، حدث ما حدث، ماذا عن الخطاب؟ تم تحليله، ترسبات المراحل الماضية يجب أن تزول مع الوقت، أنا أصدِّق أن هناك نية صادقة لأن يكون الرأي الاجتماعي في عُمان جزءا من وسائل البناء، والعنجهية في التعامل مع الرأي الشعبي هذه لن تنفع الدولة في شيء، ومن يمارسها، ويقلل من رأي الناس، ويقلل من [انطباعاتهم] فهو أوَّل إنسان يضرُّ الدولة، وهذا جزء من ترسبات الخطاب، وهو باختصار ضرر لا داعي له، هذا ما كان يمكن لوزارة الأوقاف أن تتبناه، وهذا ما أتمناه كعماني يحب بلاده كثيرا، أن تقوم الحكومة بالتدريج بالتخفيف من وضع السيف في موضع الندى، وكذلك ألا تضع الندى موضع السيف بالعلا، لا إفراط ولا تفريط.

إنه لمن المؤسف حقا أن تذهب جهود الجدال العام كلها إلى الهباء في [التايم لاين] تويتر منصَّة نابعة من تقصير جماعي من الحكومة، ومن المجتمع، ومن النخبة، حتى هذه اللحظة من هذا الذي جاء بطاولة تجمع الجميع، وتحمل مسؤولية الإنصات إلى المختلف عنه في مدرسة الفكر؟ من هذا؟ حتى الإعلام لم يقدم على هذه المجازفة، ولا يُلام على ذلك فهذه الخطوة تحتاج إلى شجاعةٍ بمعنى الكلمة ولن تخلو من الأخطاء، وهذه الأخطاء البعض يخاف منها بشدَّة ربما للحفاظ على منصبه، أو لأنه يحبُّ موضع السلطة والقوَّة، ومجددا، هذه مشكلات خطابية، ضمن تأثير السياق الكبير، لا عجب أن نرى انهيارا للسياق في الخطاب الاجتماعي، والذي ساهم في ذلك هو ذلك الذي بالغَ في التشنج تجاهه، ما جدوى التحسر على الماضي؟ المهم هو الغد.

ما ينفع عُمان جاء من النطق السامي، وما قاله وزير الإعلام من بشارات، لم يطمسه حتى عدم التوفيق في كل الأمثلة التي طرحت في تصريحاته، ما قاله مبشر وأنا شخصيا أصدقه. مكبرات الصوت، ووزارة الأوقاف كان يمكن أن يحلَّ ببيان للوزارة، وتدعو فيه البلدية، والناس، وأئمة المساجد، وأن ينقل ذلك على العلن، وأن تستقبل [إيميلات] أو تتواصل مع الناس في التواصل الاجتماعي [حال السعودية التي تتحرك بشكل رائع في هذا الجانب]، وتجمع ملفاً متكاملا، ثمَّ في هذه الندوة الصغيرة، العلنية، يحدث النقاش بكل موضوعية ومهنية، ولاحقا تتقدم الوزارة ببيان جديد تصل فيه إلى الخلاصات، المهندس يحدد قياسات الصوت ونوعية الأجهزة، والبلدية تحدد القوانين واللوائح المنظمة للمباني، ووزارة الأوقاف تخاطب الناس أولا ثم أئمة المساجد أنَّه [لا ضرر ولا ضرار] ومن ثمَّ في نهاية كل هذا الكلام تأتي تلك الفقرة الاعتيادية، وندعو الجميع إلى الالتزام بهذه اللائحة علما أن مخالفتها سوف تكون كذا وكذا. وهنا نضع المخالفة بعد أن نوضح أن منظومة الحكومة أخذت بكل الاعتبارات، ولم تأخذ بجانبٍ واحدٍ فقط، جانب [الهيمنة، والزجر] وأكرر أسفي الشديد أن يستخدم هذا الخطاب من وزير الإعلام، كنت أتمنى أن ينظَّر هو لخطاب جديد يشيع الارتياح من قبل الناس لاحترام الحكومة لهم، ولرأيهم، ولكن ماذا بيدي؟ بيدي أن أفعل ما نقله لي وزير الإعلام عن رؤية صاحب الجلالة للرأي النقدي، وقد طبقت ذلك في هذا المقال، وأوَّل من اختلفت معه هو وزير الإعلام نفسه والذي أرجو أن يفهم أن غرضي من ذلك هو عُمان، وأفهم جيدا أن غرضه في مقاربته هي عُمان، اتفقنا في الحب، واختلفنا في الرأي.

 

هذا ما لدي في شأن هذه المسألة، وسأواصل الكتابة عن الشؤون العُمانية بناء على هذا المنطلق، وأرجو أن يتسع صدر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لهذا النصح، فهو عتب محب، وإنسان يتمنى أن يرى حكومة بلادِه وهي في حالة اطمئنان، وهدوء بدلا من التشنج الذي له ألفُ حل. وما دخل الرفق في شيء إلى زانه.

والله ثمَّ عُمان من وراء القصد

 

معاوية الرواحي

 

 

 

 

الأربعاء، 12 أبريل 2023

#نظرية_هذيلا: قصاصات متكاملة

 

 

 

 

أخطرُ ما تعلمناه في بداية شبابِنا ما كانت تبثُّه العقول التي ظننا بها الصواب الفلسفي، وحسن النية النقدي. كانت الأمور تسير على ما يُرام، وفي مرحلةٍ ما من مراحلِ الكتابة العُمانية ارتفع سقف الكلام بشكل مدهش للغاية مقارنةً بالظنون التي يكيلُها المرء لموضوع مثل [السلطة]. يفترضُ البعض أن السلطة تلقائيا عدوَّة للكلام، وهذا غير صحيح بالضرورة، التعبير عن الرأي، ونقد الأداء العام جزء يساعد الحكومة على معرفة الفارق بين كلام المسؤولين أمامها، وحقيقة ما يفعلونه في الواقع. يمنع المسؤول من تغطية تقصيره أمام الحكومة، ويسمح للحكومة برصد آثار قراراتها على المجتمع وبالتالي تعديل خططها بشكل مستمر. ما الذي أفعله هُنا؟ أستجيب لذلك النداء الذي بثَّه وزير الإعلام العُماني، يقول [لا تخش في التعبير عن رأيك] وهُنا سأفعل ذلك، لن أخشى في التعبير عن رأيي وأقول أنَّه هو نفسه، وفلسفته التي طرحها في الحوار هي أبرز عوامل الضرر على الحكومة وعلى حرية الناس، للدكتور عبد الله الحراصي مقال قديم بعنوان [قبيلة الكتاب]، وبه الملمح نفسه الذي يجمعُ فيه جهود المغايرِ المختلف عنه، مما أبسطه بيني وبين نفسي البسيطة بكلمة #نظرية_هذيلا .. من هم؟؟ هذيلا، اللي يكتبوا، ويكتّبوا هنا وهناك، الكتاب، والقبيلة مالهم. وهكذا كان الشرح المبسط لذلك المقال الذي رُصَّع بشتى أشكال الطرح الأنيق. من هُم؟؟ هذيلا! تطورت المسألة الآن، أصبح مع [هذيلا رقم 1] هذيلا رقم 2، وهذيلا رقم 3، وهذيلا رقم 4 وعندما يصف وزير إعلام مجتمع التغريد العالمي ويقول [هناك عصافير] فهذا تكرار للنظرية السابقة. جلالة السلطان يأمر وزير الإعلام بأن يُنصت للناس، وأين هذه المنصات التي قدمتها وزارة الإعلام للناس؟ المنصات الموجودة هي منصة [تويتر] وما قدمه وزير الإعلام ضمن تجليات #نظرية_هذيلا لا يصنع مساحة حسن ظن بجهود الوزارة، بل للأسف الشديد أستطيع أن أقول أن تصريحاته الأخيرة ضريبة وضرر إضافي تدفعه الحكومة من حضورها المعنوي في المجتمع بسبب هذا الخطاب المتعالي والإلغائي وفوق ذلك الساخر والمستهزئ! كيف ينتقد وزير الإعلام هذه الظواهر كلها ثم يمارسها في جسد الحوار نفسه! في نفس الجلسة، وفي نفس المادة الإعلامية! إن مشروع وزارة الإعلام ووزارة الإعلام ومؤسساتها ككل لا يساوي إلا جزء صغير جدا جدا من منظومة تويتر العالمية، والاستعلاء وتصغير مشروع حقيقي صبَّت علوم الاتصالات والإعلام والسياسة وعلوم النفس بتداخلٍ أوركسترالي جعلتها منصة لكوكب كامل ويقوم وزير إعلام مؤسسة أولى للإعلام في عُمان بتسطيح كل ذلك فهذا مؤشر مقلق على القطيعة بين الرقيب الإعلامي والواقع. قال وزير الإعلام أن لديهم مركزا تدريبيا ومن ضمن مهماته تدريب الوزراء على التعامل مع مؤسسات الإعلام. حضور الوزير الإعلامي نفسه يحتاج لمراجعة وإعادة نظر، وذلك من أجل مصلحة الدولة، فهذا الحوار وما به من المؤاخذات، وغياب الدقة، والعمومية يجعلني كمواطن أناديه أن يكون هو أوَّل من يأخذ هذه المحاضرات، فوجود معاليه في هذه المواقع شحيح جدا، وتجربته لا تستحق أن تسمى تجربة حقيقية تسمح له بأن يعطي رأيا منهجيا له قيمة عملية، هذا رأي انطباعي بالمقام الأوَّل، علما أن للدكتور تجربة سابقة في مجال التدوين توقفت أيضا وانقطعت. فما دمنا نتكلم عن الآراء الانطباعية، كان حريا بوزير الإعلام ألا يقدم وجبة دسمة منها في حوار واحد، وأن يثبت أن فهمَه للمحيط الإلكتروني محدود للغاية، وأن مقاربته الرئيسية كانت ضمن تجليات #نظرية_هذيلا .. من هذيلا؟ المغردين بو يغردوا. وكان الكلام واضحا للجميع، من شخص انتظرَ منه كثيرون أن يكون لاعب تغيير كبير، ويستمر الواقع الإعلامي الاجتماعي، المؤسسات التعويضية مثل تويتر غير قادرة على مأسسة هذا الجهد الجماعي، والمؤسسات الرسمية مثل وزارة الإعلام غير قادرة على التعامل المنصف مع آلاف مؤلفة من الناس ويأتي الوزير ليختصرهم في جمل محدودة ويلغي تقريبا ما يفعلونه بحجة أن هذه آراء [انطباعية]! طيب! وماذا عن رأيك أنت يا معالي الوزير! ألا ينطبق عليه الكلام نفسه؟ لا أقول هذا الكلام ساخرا، ولا مستهزئا، أتمنى بكل صدق أن يقوم الدكتور عبد الله الحراصي نفسه بأخذ بعض الدورات في الحضور العام، وفي إلقاء التصريحات فهذا الحوار عمّق الشكوك في النوايا الحقيقية للرقيب الإعلامي. وأكتب هذا الكلام منطلقا من جوهر الحوار، لا تخش من التعبير عن رأيك. أكتبه في حدود القانون، والمنطق واحترام المعلّم وأيضا عدم الخوف من إبداء الرأي المختلف.


لقد دعانا جلالة السلطان، ونقلَ توجيهاته السامية الكريمة معالي الدكتور وزير الإعلام نفسه، دُعينا كمجتمع إلى التعبير عن رأينا بكل شفافية وبكل صدق وبأسلوبٍ يتناسبُ مع أخلاقنا العُمانية. هذا ما سأحاول فعله، وقد أخطئ، وإن أخطأت سأعترف أنني أخطأت، وقد أصيب، وأرجو أن يحقق ما أصبت فيه نفعا، وردة فعل نقدية قد تنفع الحال الإعلامي في عمان. يحزنني كمواطنٍ عُماني أن أرى العالمَ أجمعَ ودول المنطقة وهي تضخُّ قوتها الإعلامية حتى جعلت شؤونها المحلية اليومية ضمن حواراتنا نحن، هؤلاء الذين من الأساس ليسوا من سكان تلك الدول. يحزنني عندما أجد أن وزير إعلام بلادي يتباهي [بفيلم وثائقي!] يا إلهي! كم كنت أتمنى أن يتباهى بعدد الأفلام الوثائقية في كل عام، والبرامج الحوارية الشعبية، والمسرحيات التي تعرض في التلفزيون، والمحتوى الرقمي في منصة عين، كنت أتمنى أن يقوم معالي وزير بلادي بأن يقدم لي ما يجعلني أشعر بالفخر بإعلامي المحلي، لكن على العكس، تلك التصريحات التي وردت في حوار وزير إعلام بلادي سببت لي القلق، والخوف من تبعات هذا المنطق في قراءة وسائط التعبير في عُمان. أكد لي هذا الحوار بعض المرئيات عن خطورةِ إقحام المدرسة الفكرية الخاصَّة بإنسان في شؤونِ الإشراف على منصات التعبير عن الرأي. وإذا كنا نتكلم عن صالح الحكومة، وصالح الدولة، فمن الضرر الكبير أن تتواصل القطيعة بين مؤسسات الإعلام الرسمية، ومنصات التعبير الفردية، ألم يقل الوزير [هذه مشكلة في العالم أجمع] نعم، وهذه المشكلة في العالم أجمع قام الإعلام بتغيير استراتيجياته وصنع مساحةً للجميع. ما لم يقله وزير الإعلام بصراحة هو أنَّ القيود التي تُفرض عن طريق وزارة الإعلام، وهذه المرئيات النابعة من فهمٍ غير دقيق لآليات عمل وانتشار وتأثير المواقع الرقمية هو الأكثر ضررا في رأيي، عندما تكون اللاعب الرئيسي في منظومة الإعلام العُماني، وهذه تكون تصريحاتك، بكل ما فيها من عمومية، وارتجال سريع، وفوق ذلك قليل من الكوميديا فيما يخص [شيء واجد عصافير وتغرد] هذا لا يدلُّ على نيةٍ في تطوير الواقع الإعلامي، والتفاعل مع الواقع الرقمي باحترامٍ لفرديته، وإنما يدلُّ على قلة الحيلة والشعور بالعجز أمام هذا الفيضان من المعلومات، هذا الفيضان الذي لا تكافئ إنتاجية وزارة الإعلام عُشر عُشر لا في منصاتها الرقمية، ولا في منصاته الكلاسيكية. هُناك شيء كبير عندما يقول لنا وزير الإعلام نفسه [لا تخش من التعبير عن رأيك] وهُناك شيء أكبر عندما ينقل للناس توجيها واضحا من جلالة السلطان. لكن باقي الحوار، والتصريحات التي به أثارت عاصفة من الشكوك تجاه نية وزير الإعلام، أو نية الوزارة نفسها، وأي مدرسة سوف تتبع في صناعة هذا الجسر. هل هي مدرسة انتقائية؟ ويتم اصطفاء مجموعة مختارة من الأشخاص المتآلفين مع أجندة الوزارة أو الوزير ربما؟ أم ستكون حقا كما قيل في الحوار [للجميع]، لأي إنسان لديه النية ويعقد العزم على أن يُحاول، وأن يصدق أن مؤسسات الإعلام فعلا تدعوه للتعبير عن رأيه. إن لغة الإلغاء، والسخرية، والاستهزاء، والتقزيم التي صدرت من معالي الوزير تردُّ على تصريحاته، تصريح يتناقض مع الآخر. وعموميات غير واضحة المعالم، وغموضٌ في تحديد [المحددات] .. إن كان هناك قيود على الكلام في أي دولة فيجب ألا تكون وفق رؤية شخص ما، الأصلح، والأنفع، والأجدى لأي بلاد في العالم أن تكون وفق رؤية تسمح للطرفين إن اختلفا بالاحتكام إلى نص واضح. أرجو كل الرجاء ألا يكون وزير الإعلام ينوي تحويل تصريحاته هذه إلى مشروع تشريعي، وأرجو كل الرجاء من الحكومة العُمانية عدم الإنصات إلى هذا الخطاب الذي ضرره على الحكومة أكثر من نفعه، وضرره على ساحة التعبير النافعة للوطن أكثر من نفع، وضرره على الإعلام أكثر من نفعه. نهاية هذا التوجه هو أنه قد تتمكن منظومة الإعلام من السيطرة على بعض الأشخاص لا أكثر، أما هؤلاء الذين يكبرون الآن، فلن يجدوا بيئة إلكترونية كما هي الآن، قادرة على جعل الإنسان يعيش منتجا، ويتعامل مع هذه المنصات بمهنية، سيعود الأمر إلى ما كان عليه، وهذا الاستعلاء وإلغاء جهود الآخرين وحقهم في اختيار قالبهم للتعبير عن أنفسهم سيقود إلى نتيجة معاكسة أخشى كل الخشية أنها ستنقلب إلى ضرر على الحكومة مع أن النية من الرقيب الإعلامي قد تكون حسنة! ولكن كما قال معالي الوزير نفسه: الطريق للجحيم قد يكون مفروشا بالنوايا الحسنة! وبما أن معاليه نفسه قال "لا تخش التعبير عن رأيك" لن أخشى التعبير عن رأيي وأقول أن جميع تصريحاته تخالفُ الروح المتسامحة والمتصالحة التي بدأت من عهد السلطان هيثم بن طارق، وأنَّ ارتفاع سقف الخطاب في عُمان مبهج، ومدهش، فضلا عن عودة كثير من الكتاب والأدباء إلى التوازي مع الخطاب الحكومي ونبذ الصدام المباشر، التصريحات الواردة في هذا الحوار [في رأيي] الذي دعاني وزير الإعلام إلى عدم الخشية من التعبير عنه، كلها تصريحات تضرُّ الرسالة التي جاء يحملها: تعالوا إلى كلمة سواء! للحديث بقية


واستمرارا للحديث عن مرئيات وزير الإعلام عن موضوع [الجهود الفكرية]. ومقارنته في التعداد السكاني لتويتر وضواحيه، مقارنةً بالتعداد العام لبلادنا الحبيبة.

عدد المغردين قليل! أكيد، وعدد الذين يتابعون أكبر، وهذا أكيد، معلومات بديهية أستغرب كيف تكون تكئة لتوصل معلومةً ما! وهذه المعلومة المفترض بها أن تقدم معنى ما!



أين ينتهي هذا الخطاب؟ عندما تكرر بشكل دائم أنك تعترفُ فقط، ومن ثمَّ ربما [تسمحُ فقط] بأن تكون حرية الرأي مبنية على ما كان مؤسسا فكريا، أما البقية فيتم إسباغ صفة [انطباعي] على آرائهم. وهنا معضلة، وبيروقراطية خطرة للغاية إن تم تطبيقها على عالم التعبير الشعبي عن الرأي، الانطباع أحد وسائل الفهم، وإحدى الطرق الأولى للتحول لاحقا إلى بناء فكري مؤسس، هذا الكلام بديهي، كيف يصل بنا الحال اليوم أن نرد على وزير إعلام بلادنا لنقول له: ماذا تريد أن تقول بالضبط؟



هل ستكون هذه هي التكئة؟ إما أن تكون مفكرا نحريرا عتيدا جبت الدنيا والعالم فقط ليُقبل منك أن تكون صاحب رأي؟ هل هذا هو الشرط؟ نية حسنة أليس كذلك؟ ولكن ماذا عن عواقبها؟ العاقبة إنك ستأخذ الجاهز من العقول لتنتج لفترة وجيزة من الزمن ومن ثم ستوقف تراكم رأس المال الفكري العام، [تقطف] بعض الرؤوس، وتلغي البقية، هذه إحدى العواقب.



عاقبة أخرى: المشتغلين في شؤون الفكر دائما قلَّة، وسأفعل مثل معاليه وأقول [وهذا في العالم كله ما في عمان بس] .. فهل التوجه الذي يقوده معاليه هو لتمكين النخبة فقط؟ ألم تسقط هذه النظرية منذ زمن طويل وأصبحت فكرة قيادتك لأي منصة فكرة لا علاقة لها بقدرتك على تحديد خطاب من يصل وخطاب من لا يصل؟



هل نريد المصلحة العامة؟ نعم، ونريدها بطريقة ليس فيها طبقية فكرية، وليس فيها انتقائية، الكتابة حق للجميع، وإن صناعة المكان والمنبر الذي يسمح للجميع بالتفاعل هو الأولوية الأولى، أما أن نتعامل مع ما يربو من نتاج الساحة العامة، ونحوله إلى مجموعة مؤثرة من الأسماء التي يتم تكريسها، وبعدها ماذا؟ نعود إلى الحالة الهرمية، وهذه لا تستمر طويلا، وتسقط مع الوقت فكم من المفكرين الذين نظروا للحرية الشعبية وانتهى بهم الحال إلى محاربتها؟ ولا أبرئ نفسي، ولا غيري من الكتاب والمثقفين والأكاديميين بل وبعض المسؤولين ربما.



الاشتغال على صناعة بناء هرمي للتعبير لن يقود إلى نفع عام، ولا إلى صلاحٍ عام، أمامك بيئة فيها آلاف مؤلفة من العقول ومن السهل أن [تشطح] وكاتب هذا المقال أحد هذه النماذج. مفهوم [النخبة المنتقاة] سيقود إلى سقوط تأثيرها، وبالتالي سنبقى نعيد النموذج نفسه، وعلى الجانب الآخر في قاع الهرم العريض هُناك منظومة تتفاعل بقوة في محيط أكثر حرية، وما النتيجة الحتمية؟ النتيجة هي الصدام، وحتى وإن أخذ عقدا من الزمن، هذا هو الحتمي في كل التجارب الهرمية التي تتعلق بنزعة الإنسان الفطرية في أن يعبر عن ما يراه صوابا.



المعضلة ليست في هذا الوصف البديهية للحياة، ولا في الكلام العمومي الذي صدر من وزير الإعلام، المعضلة من هو هذا الإنسان الذي يستطيع أن يجمعَ في قاعةً واحدة كل المختلفين فكريا ويمنحهم منبرا شعبيا؟ من الناس وإلى الناس؟ هذه هي المعضلة، فإن كانت نظرية وزير الإعلام صناعة نخبة مدروسة، وفق اشتراطاته، سأقول له أيضا: المشتغلين بالفكر قلَّة، وهؤلاء من طبيعتهم الاختلاف، وحتى وإن حاولت أن تصنع مجموعة مدروسة ومنتقاة بناء على هذه المعايير، ستكون قليلة العدد، وقليلة التأثير، وقليلة الإنتاج مهما حاولت تمكينهم بكل أدواتك التي لديك.



هذا رأيي، هذه ليست الحقيقة، هذا ما أظنه صوابا، وهذا ما أكتبه بناء على إيماني بشيء ..



رغم كل شيء، أنا تلميذ من تلاميذ الدكتور عبد الحراصي، وشخصٍ لا يوصف تعاملي معه بالنبل أو بحسن الخلق، هذا أيضا شيء أعترف به، ولكنني أيضا مؤمن بأستاذي، وأؤمن بشيء، أنَّه لا وزير إعلام يريد أن يذكره التاريخ على أنه القمعي، العدائي مع الثقافة، والإقصائي، وأظن أن منظومة الإعلام التي تأسست مسبقا لها نصيب كبير في ترسيخ هذه النظريات التي لم تعد صالحة للعهد الحالي، أؤمن أيضا أنه يريد كوزير أن يكون لاعب تغيير كبير، وأن يصنع مساحةً للناس، وأن يستعيدَ إيمان جميع الناس به، أؤمن بذلك، وأصدق إلى حد كبير أنه فعلا هناك نية من الدولة ككل في تمكين الرأي الشعبي، واستثماره لخدمة خطط الحكومة التنموية، وصناعة بيئة تجعله نافعا للحكومة، وللناس، وتجعله جهاز إنذارٍ في حالة وجود الخطأ، وتجعله كذلك رصداً لطموحات الناس، وتصنع به الحكومة حالة رقابة ومقارنة بين ما يوافي به الوحدات الرسمية الحكومة، وبين ما يقوله الناس عنها، ومنها تتخذ الحكومة قرارات بها رأس مال شعبي من المعلومات يعينها على إكمال مسيرة التنمية. هذا هو فهمي، وأصدق أن هذه هي النية.



أين الإشكالية [هذا رأيي، هذه ليست الحقيقة] أظنُّ أن وزير الإعلام يعيش ضغطا خانقا بين المدارس، وأنَّ حديثه المستهزئ بتويتر [ويكأنه] يقول أن بروزه، ونجاحه كوزير سوف يجتاحه الفيضان الرقمي بينما هو يحاول جاهدا أن يخرجَ من وزارته ناجحا على عدة أصعدة:



سياسيا: [وهذا لا يشكك فيه أحد فهو رجل دولة نبيل ولا أملك فوق زيارته لي في السجن شهادة أخرى، غير إخراجه لعدد من الكتاب والأدباء من ورطات عديدة] .. الحراصي رجل دولة من طراز رفيع وإنسان نبيل.

اجتماعيا/ثقافيا: وزير الإعلام ليش شخصية لها شعبية كبيرة، أو جيدة بالمعنى المتداول، وتويتر من المنصات التي طالبت بإقالته ذات يوم.

ثقافيا: المعايير العالية التي وضعها للتعبير عن الرأي تسبب قلقا أن تكون طريقة تنفيذها بصناعة مؤسسة هرمية موازية [قبيلة الإعلام] ونعيد تكرار وتدوير المعضلة الفكرية نفسها.



إن كنا نريد مصلحة عُمان، فكل هذا يحتاج إلى بعض التواضع، وتقليل هذه الإلغائية، فهي ليست متبادلة لأنها بادئة من الناس، الرقيب ماذا ترك للمبدعين؟ وماذا ترك للناس لكي يبادلونه المودة؟ كلمة [ممنوع] ومنع منشور؟ ومنع فعالية؟ ومنع بث برنامج؟ ومنع مذيع؟



هذا ما أظنه يحدث، وهذه الضغوط التي لا عجب أن يتعرض لها الوزير، ولا عجب أنَّه هو نفسه ذلك النجم اللامع في سماء الفكر في عمان يتحول إلى صاحب تلك التصريحات التي توصف بأنَّها [غير موفقة] مطلقاً.



عُمان بحاجة إلى حماسةٍ، وأمل. ومؤسسة الإعلام من بين جميع المؤسسات في عمان هي الأقدر على فعل ذلك، من المؤسف جدا أن نرى ذلك الإلغاء، وتلك العموميات والتعريفات الدائرية، كل هذا مؤسف. لكن هل أصدق أن انفراجا ما في الحريات الإعلامية سيحدث؟

أصدق ذلك، وأظن أنه سيكون ببطء، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يراجع فيه وزير الإعلام هذه التصريحات، وأن يعترف على الأقل بينه وبن نفسه أنه تعامل مع الواقع الرقمي بتوتر شديد، وبإلغاء، وأنه لا يبادله الود، كما لا يبادل الود الواقع الرقمي مؤسسات الإعلام الرسمية.


 

 

 #قبيلة_الإعلام: "حتى لا تكون قبيلة إعلام ضد المجتمع، وحرية القانون" "من شنيع الأمور التي يقع فيها الكتّاب تحت إغراء الانفعال الجمعي وإغوائه تحويل أنفسهم إلى قبيلة يتكاتف أفرادها لما يعدّونه مصلحة تجمعهم، وكما قال الشاعر الجاهلي حول قبيلته غزيّة فإنك تجد معشر الكتّاب يغوون حين تغوى قبيلتهم ويرشدون حين ترشد، وإن غوى أحدهم يغوى البقية تحت تأثير الانتصار لفرد قبيلتهم الذي آثر الغواية. وليتها كانت غواية حقيقية!!" http://harrasi.blogspot.com/2009/12/blog-post_06.html… 


هكذا بدأ الكاتب والمدوِّن آنذاك الدكتور عبد الله الحراصي مقاله الذي نشر في جريدة الشبيبة في عام 2009م. من شنيعِ الأمور! هذه هي البداية التي وصف بها خطرَ [الجمعيَّة] بما في ذلك من رمزيات متعددة. السؤال الآن، هل نحن بصدد إنشاء #قبيلة_الإعلام؟ ونعيد تدوير النماذج السابقة؟ لأنَّ تصريحات معاليه الأخيرة تطرح بعض ملامح القلق! هل قبيلة من الإعلام ستقوم هي أيضا الآن بهذا الدور الذي هو انتقده يوما ما؟ وقت كتابة هذا المقال كنت كغيري من الشباب في بداية العُمر وقلة التجربة لا أفهم مراميه البعيدة، ومرَّت السنوات وجاء ذلك اليوم الذي أرى فيه التجليات المعاكسة كليا لهذا المقال، فذلك الأكاديمي، والنجم اللامع صاحب المصداقية المهولة في الوسط الثقافي أصبح اليوم وزيرا للإعلام. كلامي اليوم لا يصب في فكرةِ تغيير الوزير، أو إقالته، لأنَّ الأمر لا يتعلقُ بالوزير وشخصه، وإنما يتعلق في النظرية الرئيسية التي يتم التعامل فيها مع المجتمع الثقافي، والتغييرات التي حدثت منذ تلك السنين، إلى هذه اللحظة التي أصبحت الثقافة فيها ملكا للجميع، فلا مؤسسة ثقافية صغيرة سوف تقوم بممارسة التسلط على باقي الكتاب والأدباء وتلغي هذا، وتصنع هذا، وتصنع هرماً صغيرا بلا قيادة وبالتالي تعبر عن جميع من في عالم الثقافة باسم عدد محدود من الناس، فضلا عمَّا سرده في المقال عن نزع قدسية الكتابة، وقدسية الكتاب. وقوله: "الكتّاب، في رؤيتي المتواضعة، أن لا يقدموا أنفسهم باعتبارهم قبيلة مقدسة تستطيع أن تتجنى على من تتجنى عليهم دون أن يقعوا تحت قوة القانون، وألا يتكتلوا ضد المجتمع ملوحين بسيف الكتابة الذي يحملونه." هل هذا الذي يريد الدكتور الحراصي فعله الآن؟ صناعة قبيلة الإعلام؟ ويعيد تكوين هذا النموذج الذي انتقده فقط لكي يقدم المتيسر الممكن لديه في منظومة إعلامية متشنجة بالرقابة، وبتصنيف الناس، وتقسيم فوائدهم، وهذا الدور من الأساس ليس دور الإعلامي، وما على الإعلامي سوى أن يكون الناقل الأمين، وصاحب المنصة التي تسمح للجميع بالتعبير عن آرائهم، دون قدسية لرأي الإعلامي فهو [إعلامي] لا علاقة له بالمنظومة الفكرية لكي يرفع من يشاء ويذل من يشاء! من الخطأ الكبير أن ينسى الإعلامي نفسه، ويتعامل مع موضوع كبير مثل حريات التعبير الفكرية وكأنه [صاحب مفتاح السبلة] هو الذي ينتقي من يشاء، والبقية يسبغ عليهم الصفات الجاهزة، والعمومية، والفضفاضة. هذا [رأي حقيقي] وذلك أنطباعي وهكذا دواليك. حتى لا تكون هناك قبيلة إعلام ضد المجتمع وحريات الأفراد القانونية والمكفولة في النظام الأساسي أتمنى أن يراجع الإعلام نفسه في تقييداته العديدة للتعبير عن الرأي. ولأكون واضحا، لا أنادي لا بالفوضى، ولا بالإساءة، ولا أنادي بأي شيء من ذلك، كل الذي أنادي به أن يتوقف وزير الإعلام عن ممارسة دور القاضي الثقافي، وأن يقوم بدوره كوزير إعلام، وألا يسقط مدرسته الخاصة على الاختلافات التي تحفل بها عُمان. التعميمات التي أوردها في تصريحاته الأخيرة أكثر من مقلقة، ولا تقود لحسن الظن، ولا تعبر عن حسن النية، وأيضا بنفس الشعور الوطني الذي أصاب الدكتور عبدالله في عام 2009م سأقول: حتى لا تكون قبيلة إعلام! فليقم الإعلام بدورِه، وليطبق نصوص القانون، وليتوقف عن ترجيح مدرسة الرقيب بحجة أن لديه رسالة توجيهية، يمكنه أن يفعل ذلك من أجل الصالح العام بإنشاء حوارٍ مع الجميع، أما هذا الإلغاء، والاستهزاء، والسخرية، و #نظرية_هذيلا والعصافير تغرد في السماء، ومعنا عصافير، وغيرها وغيرها وغيرها من أدوات التبخيس، والتسطيح، والتجهيل، فهي تمثل كل الذي حذّر منه وزير الإعلام في مقاله الشهير والقديم. أين المصلحة الوطنية؟ أن يتذكر الإعلامي أنه إعلامي، وألا يعتدي على دور غيره، وألا يستغل قدرته على الإيقاف فقط لأن لديه تفضيلات وتحيزات تفيضُ من لغته حتى أصبح من الصعب لجمِها. تكرار كلمة تويتر، والتغريد في تصريح واحد مرارا وتكرارا لا يدلُّ على ما سيأتي ليحملَ حلا للجميع، المصلحة الوطنية تقتضي ما يلي: ما دمت لا تخالف القانون، فقل ما تريد قولَه. أما قبيلة من الإعلام تصنع سقفا يختلف عن سقف القانون! تتولى بعدَه صناعة الهرم البديل! فهذا تكرار للمشكلة، واستدامة لها، وبكل بساطة: ليس ضمن التوجه الذي تريده الدولة. الدولة تريد الاستماع للناس، لا توجيه كلامهم، فإن كانت هذه أهداف #قبيلة_الإعلام فعليها على الأقل أن تطيع توجه الدولة دون إقحام الحسابات المدرسيَّة والحزازات الفكرية في هذا الموضوع الوطني الكبير.

 

هناك قطيعة ما، وإن كانت ستحل، فليس بهذه الطريقة، وليس بهذا المنهج.


 

 

 

يقول وزير الإعلام: "هذه ليست خلافات فكرية، موه يعني فلاسفة اليونان مختلفين؟ ولا المدرسة الرستاقية والنزوانية" السؤال لمعالي الوزير. هذا الرد الاستعلائي، الإلغائي والذي يدلُّ على شخصٍ استفزه السؤال، من الذي زعم من الأساس أن هذه صراعات فكرية وفلسفية على أعلى مستوياتها العالمية، أو تشبه الأمثلة التي ذكرتها. الذي تقول له اكتب، هل من الأساس مؤسسة وزارة الإعلام مؤسس صديقة للفكر؟ القانون في البلاد يسمح بسقفٍ عالٍ، يتناول فيه الإنسان ما يختلف من شؤون الأفكار، يحاولُ، ويخطئ، ويحاولُ ويخطئ، ماذا تريد بالضبط؟ مفكرين عظماء وهم كل همَّهم في هذه الحياة البحث عن منصَّة غير غاشمة؟ أم الثقة بوزارة الإعلام التي رقيبُها لا يستنكف أن يدخل في الشخصنة؟ والذي ينبش في القصائد ليغير مضمونها، والذي يصنع التأويل بناء على مدرسة الرقيب؟ نعم ليس صراعا فكريا، وليس المدرسة النزوانية والرستاقية، وانتم أيضا يا معالي الوزير لا تدير قناة الجزيرة، ولا تدير قناة البي بي سي، ومثل حال الساحة الفكرية المتواضعة، المؤسسة الإعلامية لها نفس التقييم في الوصول والتأثير محليا وعالميا. لذلك يا معالي الوزير، لا يمكن التفكير في النمو العام ولا المصلحة العامة للدولة ككل وأنت تغفل النظر عن أهمية تجويد منتج مؤسسات الإعلام، سأستخدم نفس خطابك وأقول: أيضا ما هذا المنتج؟ مؤسسة عين سحقت نت فليكس؟ تلفزيون سلطنة عمان سحق السي أن أن؟ والجزيرة؟ إذاعة سلطنة عُمان تتُابع في مجاهيل أمريكا الجنوبية؟ ماذا لو استخدمنا هذا الخطاب، وبالغنا فيه؟ النتيجة هي استمرار هذه القطيعة، ونعم قد ترقى أشياء كثيرة إلى معاييركم العالية، لكن أيضا، هناك أشياء كثيرة لا تناسب معايير المتلقي، منتجة من الوزارة التي ترأسونها .. والتي هي أيضا تشبه الساحة الفكرية، كأشياء كثيرة في عمان قيد النشأة والتأسيس، لذلك، التفكير في النمو لجميع الأوساط الإعلامية، والثقافية، والفكرية، والأدبية خيرٌ من هذه المقارنات التي تعود على صاحبها في النهاية. أنت لا تدير منصات ذات وصولٍ ساحقٍ لكي تقارن منصاتك بتويتر حتى، وأمامك الكثير لتفعله غير التباهي بفيلم وثائقي واحد نشر في منصة البي بي سي والتي كل جهدك في الإعلام لم يجعلك مكافئا ومساويا لها في القوة والتأثير والوصول.

 

الأمر لا يتعلق [بلا تكتب في تويتر]. هناك نقطة قد تكون فاتت الجميع. عندما يطالب مسؤول في جهة رقابية هي جزء من المشكلة، ذهاب الناس لتويتر ليس سببه [المنصة] التي يُنشر فيها، وإنما شروط المنصَّات الأخرى المنفّرة للكتابة فيها. الحل لم يأتي من الرقيب، وإنما جاء من بتشجيع قائد البلاد على تداول الرأي بما لا يخالف القانون أولا وأخيرا. لم تخل تصريحات وزير الإعلام لغة التنافس ومع من؟ مع منصَّة مثل تويتر، تفوق المنصات التي يترؤس الإشراف عليها بأضعاف مضاعفة. وهي مشكلة عميقة في الخطاب العُماني بشكل عام، لا تختلف عن دعوة التاجر إلى دعم المنتج العُماني والذي سعره أضعاف مضاعفة عن الشبيه له المستورد بضرائبه. ماذا يريد أن يقول معاليه؟ خلوا تويتر وكتبوا في منصاتنا! طيب أين حسن النية في هذه المنصات التابعة لوزارة الإعلام؟ هل تصريحاته من الأساس تقود لأي طمأنينة تجاه ما سيفعله الرقيب؟ نقطة مهمة كادت أن تغيب عن أذهان كثيرة، ليس المهم أن تكتب في تويتر، أو في غير توتر، المهم [ماذا تكتب] فإن كان المكان هو الذي يشغل بال معالي الوزير! فماذا يُفهم من كلامِه؟ سياسة الرقابة الإعلامية جزء كبير من هذه المشكلة، وذهاب الناس لتويتر سببه هذه السياسة الرقابية، أقصى شيء يُراد هو فقط أن يمشي الإعلام على سقف القانون، وما دامت الرقابة والإعلام في ذات مندمجة، فالمشكلة ليست في طريقها للحل، ولذلك، فكرة السخرية من تويتر، وغيرها ليست أكثر من منافسة مكانيَّة، وإن أراد وزير الإعلام إعادة الثقة في حسن النوايا الرقابية، فإن كل الذي فعله بتصريحاته تلك هو أنَّه هزَّ الثقة أكثر وأكثر. وبالمناسبة، يمكنك أن تكتب مقالا في تويتر! المهم هو المقال وليس أن يكون كتب في تويتر أو غير تويتر! ولا لازم يعني يروح للمنصات التي نفر منها المبدعون، والكتاب، وكل الذين يطبقون معايير معاليه عن [الرأي الحقيقي] الذي لم يتم تعريفه؟ مالك يا معاليك كيف تحكم! ها نحن نصدقك، ونعبر عن رأينا .. الأمر لا يتعلق بتويتر، الأمر يتعلق بكم يا وزارة الإعلام، وأنتم الذين عليكم مراجعة أوراقكم لا أحد قبلكم عليه أن يراجع أوراقه.

 

الأمر الثاني، الإخوة الزملاء الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن وزير الإعلام، بعضهم موظف في الوزارة، وبعضهم ليس كذلك. ألم تسمعوا التصريحات؟ أن الحوار يأخذ طابعا نقديا؟ إن كان وزيركم ينادي بذلك، بل وينقلُ بشارات كبيرة عن اهتمام الحكومة برأي الناس، فلماذا لا تمارسون ذلك حتى في دفاعكم؟ أم تتبعون مدرسة التبخيس، والإلغاء، والتسطيح، والتجهيل، وتتعاملون بتعالٍ مع الرأي الآخر؟ إن كنتم قد فككتم [الشيفرة] التي بها تعريف ماهية الرأي المسؤول [والحقيقي] ، فالذي تفعلونه أنتم هو ببساط الرد بالانطباع، يعني هداكم الله كلامكم أنتم انطباعي، وهذا ما زين! مفروض تسمعوا الكلام على الأقل، وتقدمون وجهة نظر، وكلنا في هذه الساحة نجتهد، لا أحد كلامه هو الحق المطلق، كلها اجتهادات وآراء، ومع هذا التفاعل الصحي جدا جدا والاختلاف يحدث النفع العام. لا تخش من التعبير عن رأيك، هذا هو شعار المرحلة، وهي كلمة كبيرة جدا ومن ألزم نفسه بشيء ألزمناه إياه. أما أن يكون دفاعكم عنجهياً، واستعلائيا، وإلقاء أحكام فللأسف الشديد أنتم أوَّل من يخالف كل تلك التصريحات التي حملت بشارةً كبيرة: لا تخش التعبير عن رأيك! [المسؤول، والحقيقي، والحقيقي، والحقيقي، والحقيقي] وآسف على الصدى الذي كان صدى الصدى! اللي باغي يكتب، ينطلق ويكتب، في تويتر وغير تويتر، المهم المكتوب، ما مهم المنصة اللي جاي حد يحاول الهيمنة عليها أو احتكارها لأنها سحبت البساط من تحته!



وعمان من وراء القصد..



انتهى