مقدمة سياقيَّة:
فيما يلي سأكتب عن موضوع جدليٍّ وشائك. لماذا سأكتبُ في هذا الموضوع وغيره
من المواضيع؟ ألا يجب المكوث في منطقة الراحة؟ تلك المليئة بالحياة والتحليل الجامد،
والباردِ والخالي من الرأي الشخصي، وكأنني روبوت يترجم نصوصا من الواقع يحولها إلى
سطور برمجيَّة؟ سأقول رأيي، لأنني نوديت ككل العُمانيين إلى المُساهمة بالرأي، وما
تصريحات وزير الإعلام الأخيرة إلا متكأ قوي لي ولغيري، لكي نساهم بالرأي النقدي
البناء، ما سأكتبه هو رأيي الشخصي، هذه ليست الحقيقة، هذه مقاربة شخص واحد، الوصول
للحقيقة تحتاج إلى العقول كلها. تحتاج أولا إلى لغة الانطباع، وهي إحدى مراحل
التطور الإدراكية للإنسان، هناك عالم ظريف اسمه [جان بياجيه] يتحدث عن تطور مراحل
الإدراك، ومن ضمنها مراحلٌ أولى في تصورنا للأشياء [الانطباع] مثل رؤيتك لجسم
مستطيل كبير، الانطباع المبدئي يعطيك الهيكل العام، تعرف لاحقا أنها حافلة، والذي
يجهل معاني الانطباع العلمية يستخدمُ هذا المصطلح ضمن سياقات خطأ، وكما قال أحد
الأصدقاء، الرأي العام هو انطباع كبير، والذي يلغي الانطباع يلغي الرأي العام. هذه
مداخلة ضمن هذه المقدمة السياقية الطويلة التي أوضح فيها دوافع كتابتي، أستجيب
للنداء، ولما أبلغه معالي الدكتور عبد الله الحراصي عن صاحب الجلالة، بالدعوة
للكتابة النقدية البناءَة، لذلك لا مزيد من المكوث في دورِ [المستلدغ] سأكتبُ لأنني مواطن، وهذا حقي، سأكتبُ لأنني
أريد أن أساهم في بلادي بكتابة نافعة، سأكتب لأنني بدأت أصدِّق، وبدأت أطمئن بعض
الشيء إلى أنَّ هذا الارتفاع في سقف الكتابة صادقٌ. سأقف عن الخوف من نفسي، وسأصغي
إلى نداء القلب الدائم الذي يتعلق بالكتابة عن عُمان، هذا الدأبُ والجهد الذي
أمارسه كمدون منذ عام 2006، سأكتب، وسألقي ما في جوف جمجمتي، وأسأل الله التوفيق،
فكل ما سيرد هي مقاربة إنسان واحد، وأنت يا عزيزي القارئ، أيضا، يمكنك أن تكتب،
وأن تسترشدَ بمن يكتب، وإن كنتَ في ريبٍ من شيء فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك،
وليبدأ المقال بعد هذه المقدمة الطللية.
إن موضوع مكبرات الصوت، والجدال عنه هي عادةٌ جداليةٌ لم تتوقف منذ سنين
طويلة. والقضية في عُمان كعادتها، دائما في مكان آخر. الظاهر من المسألة هو نقاشٌ
موضوعي حول حدثٍ بلديٍّ واضح المعالم، مكبرات صوت في المساجد، وجدالٌ يدور حول علو
هذا الصوت. ولأننا في عُمان، ولأننا نعتمد كثيرا على المؤسسات التعويضية مثل
تويتر، فهذا الجدال لا يصل لنتائج ولا لحلول لسبب واضح وجليٍّ، لأنَّ الرقيب
الإعلامي هشَّم المنابر التي تجعل الناس تتجادل فيها، تلك المنابر التي يبقى فيها
الجدال، والتي تصنعُ مكانا يُنهي الجدل بالحلول، لذلك نستطيع أن نقول أن ترسبات
المراحل التعبيرية السابقة، والمدرسة النقدية في الرقابة على الكتابة هي لبُّ
المشكلة، وسأثبت لك عزيزي القارئ الكريم ذلك في مجادلتي في هذا المقال.
دعنا أولا نناقش القضية المطروحة في الساحة العمانية. الجدل يدور، ويقفز لك
بعض الناس الذين يحلو لهم إثارة الجدل، من أعضاء الفريق الذي كنت أعيش فيه ذات
يوم، وهات يا [هبد] في موضوع أن مكبرات الصوت جزء من الصدام الديني اللاديني
الليبرالي، وغيرها من الجدالات التي لم يجمعها [بسبب سطوة الرقيب، وخوفه من
المجازفة] مكانٌ يوثقها. كيف انتهى الجدال، ببيان صارم، جازمٍ حاد للغاية تنشر فيه
وزارة الأوقاف قراراً تبزغ فيه كلمة [غرامة ألف ريال] مثل الشمس الحارقة، مجددا،
ومرة أخرى حلٌّ من الحلول الجارحة.
يقول الشاعر:
ووضع الندى موضع السيف بالعلا ... مضرٌ كوضع
السيف في موضع الندى
ليس بمستغربٍ هذه النهاية. فالقضية في مكان آخر، ومتعلقة بالخطاب العام. هل
يختلف بيان وزارة التجارة عن تصريحات وزير الإعلام القاسية بمعنى الكلمة والتي لم
تخل من الوعيد؟ كلَّا، لغة الوعيد، والزجر، وخطاب المنع، والغرامة جزء اعتيادي من
خطاب المنظومة الحكومية العُمانية. بالطبع، الفكرة واضحة، هذه لائحة، وهذه شروطها،
ولكن ماذا عن ما يسمى [تأثير السياق] وهو موضوع علمي أتمنى أن [تتفيق] عزيزي
القارئ لتبحث فيه. ما هو تأثير السياق في هذه المسألة؟ أن نهاية كل ذلك الجدال هو
خطاب من خطابات الزجر والوعيد. طيب لماذا يا وزارة الأوقاف؟ من الأساس إن دخول
الوزارة في شيء خارج تخصصها الكبير هو الخطأ، المسجد مبنى، حاله حال الكثير من
المباني، والبلدية وضعت شروطا واضحة وسهلة وميسرة، للفعاليات التي بها مكبرات
للصوت. هناك كثير من النقاط التي يمكن أن يكون بها حلول جذرية، وإليك أمثلة:
- الموجات الصوتية متفاوتة، يمكنك أن تضع موجة صوتية
منخفضة تختلف عن تلك النابعة من مكبرات صوت قد تكون ذات جودة رديئة.
- استخدام مقاييس الضوضاء العلمية ووضع حد معيَّن
من [الديسبل] المتاح، وبهذا لا يكون الجدل حول [وجود الصوت] وإنما حول علوِّه.
- استخدام أدوات التوعية، والرقابة على المعدات
[هندسيا] وليس الاستعجال إداريا في لغة الزجر والوعيد.
أنا متأكدٌ أنَّك يا عزيزي القارئ تستغربُ لماذا مثل هذه الحلول غائبة عن
الناس؟ لأن القضية ليست في مكبرات الصوت وإنما في صراع الخطابات في عُمان. إن حللت
تصريحات وزير الإعلام العماني في الآونة الأخيرة في لقائه مع الإعلامي موسى الفرعي
في برنامج معالي الوزير، سترى هذا الخطاب الذي أعنيه. خطاب شديد، به الزجر، ولغة
[قوَّة الدولة] على ماذا؟ على هذه المواضيع تضع السيف موضع الندى؟ هذا ما أعنيه
وفق رأيي، [هذه ليست الحقيقة بالضرورة، هذا رأيي وقد يكون به خطأ كما قد يكون به
صواب]. لا يختلفُ ما فعلته وزارة الإعلام، عن ما تفعله وزارات أخرى في خطابها مع
المجتمع عن هذه اللغة، لغة [نحن الحكومة] وهذا خطأ كبير، لأنه يقود إلى توترات لا
داعي لها.
أولا: هناك مؤشرات واضحة جدا جدا أنَّ عهد السلطان هيثم بن طارق حفظه الله
ورعاه بدأ بتصاعد صحي للغاية للخطاب الاجتماعي، وعلى الجانب الآخر هُناك وعي
تخلَّق بالتجربة، وما كاتب هذه السطور إلا واحد من هذه النماذج، وفكرة التعبير عن
الرأي العام هي إحدى وسائل الدولة العُمانية في الاستفادةِ من الرأي الشعبي،
وتحويله من مهرجان من الغضب والسخط، إلى رأي نقدي منهجي، ليس كما يحاول وزير
الإعلام تأطيره للأسف الشديد وبشكل غير موفق مطلقا، ولكن في النهاية هو مواطن حال
الجميع وهذا رأيه الشخصي، أرجو ألا تعتمد الحكومة على رأيه الشخصي فقط فهو أيضا لا
يخلو من خطأ الاجتهاد، وخطأ الاجتهاد به ضرر، وهو بنفسه وزير الإعلام قال: الطريق
للجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، الجميع يعلم أنَّه يريد خير البلاد، وقد يختار هذه
المقاربة من التشنج، ولعل ردة فعل المجتمع على تصريحاته تكفي لكي نقول، هناك تشابه
بين ما فعلته وزارة الأوقاف، وتلك اللغة النابعة من الرقيب الإعلامي، فكرة [أنا
الحكومة] أمنع وأزجر والوعيد. ولسنا بصدد مناقشة قانونية ذلك، فالقانون موضوع
حضاري، وتنفيذ لوائحه جزء من صحة الدولة ككل، وأيضا نقاش القانون واللائحة والسعي
لتغيير جزء من صحة الدولة، ومن التدافع النافع بين الناس وحكومتهم، مشكلة مكبرات الصوت
ليست في مكبرات الصوت، وليست في وزارة الأوقاف إنها مشكلة خطابيَّة في المقام
الأوَّل، وهذه تحتاج لإعادة نظرٍ شاملةٍ، وللأسف الشديد لا أظنُّ أن وزير الإعلام
العماني هو أحد الحلول التي تقود لهذا الجانب، بل هو للأسف الشديد وحسب تصريحاته أحد
الدافعين بوضع السيف في موضع الندى.
الأمر ليس صداما بين التيار الديني والدولة، وليس صداما بين التيار
الليبرالي والتيار الديني، فهذه التيارات ليست أكثر من [تشبيهات] لفظية. هناك
اختلاف بين الناس، والسعي للفهم باستخدام هذا التعميم ليس دقيقا لكنه ليس خاطئا. كنت
أتمنى من وزارة الأوقاف أن تحلَّ الموضوع بطريقة أبسط بكثير من هذا الصدام الذي لم
يكن له أي داعٍ. الاستعانة بجهود البلدية، وبعدة مهندسي صوت، وعدة لقياسِ الصوت،
ووضع معايير سهلة للغاية، وبالمناسبة هي موجودة من قبل في اللوائح العمانية، ولكن
نظرا لموضوع [الدين/ الأوقاف/ المساجد] هُنا اختلطَ على الوزارة دورين، الأول
المتعلق بالجوانب المعقدة سياسيا، واجتماعيا، بل وحتى نصوص واضحة في النظام
الأساسي للدولة تتعلق [بدين الدولة هو الإسلام] فضلا عن احتواء وزارة الأوقاف
مؤسسة الإفتاء، ولا ننسى العلاقة الاجتماعية بين الدولة والمؤسسة الدينية،
والمؤسسة الدينية والناس، وعلاقة الناس بالمسجد، [ومهرجان] طويل جدا جدا عالجه
الفلاسفة في الحضارة الإسلامية والعربية ولست بصدد هذا التفنيد لأنني لست هنا
لأذاكر مراجعي، أنا هنا لأقول رأيي. اختلط على الوزارة أنها ليست مختصة بشؤون
البلديات، ولذلك، حدث ما حدث، ماذا عن الخطاب؟ تم تحليله، ترسبات المراحل الماضية
يجب أن تزول مع الوقت، أنا أصدِّق أن هناك نية صادقة لأن يكون الرأي الاجتماعي في
عُمان جزءا من وسائل البناء، والعنجهية في التعامل مع الرأي الشعبي هذه لن تنفع
الدولة في شيء، ومن يمارسها، ويقلل من رأي الناس، ويقلل من [انطباعاتهم] فهو أوَّل
إنسان يضرُّ الدولة، وهذا جزء من ترسبات الخطاب، وهو باختصار ضرر لا داعي له، هذا
ما كان يمكن لوزارة الأوقاف أن تتبناه، وهذا ما أتمناه كعماني يحب بلاده كثيرا، أن
تقوم الحكومة بالتدريج بالتخفيف من وضع السيف في موضع الندى، وكذلك ألا تضع الندى
موضع السيف بالعلا، لا إفراط ولا تفريط.
إنه لمن المؤسف حقا أن تذهب جهود الجدال العام كلها إلى الهباء في [التايم
لاين] تويتر منصَّة نابعة من تقصير جماعي من الحكومة، ومن المجتمع، ومن النخبة،
حتى هذه اللحظة من هذا الذي جاء بطاولة تجمع الجميع، وتحمل مسؤولية الإنصات إلى
المختلف عنه في مدرسة الفكر؟ من هذا؟ حتى الإعلام لم يقدم على هذه المجازفة، ولا
يُلام على ذلك فهذه الخطوة تحتاج إلى شجاعةٍ بمعنى الكلمة ولن تخلو من الأخطاء،
وهذه الأخطاء البعض يخاف منها بشدَّة ربما للحفاظ على منصبه، أو لأنه يحبُّ موضع
السلطة والقوَّة، ومجددا، هذه مشكلات خطابية، ضمن تأثير السياق الكبير، لا عجب أن
نرى انهيارا للسياق في الخطاب الاجتماعي، والذي ساهم في ذلك هو ذلك الذي بالغَ في
التشنج تجاهه، ما جدوى التحسر على الماضي؟ المهم هو الغد.
ما ينفع عُمان جاء من النطق السامي، وما قاله وزير الإعلام من بشارات، لم
يطمسه حتى عدم التوفيق في كل الأمثلة التي طرحت في تصريحاته، ما قاله مبشر وأنا
شخصيا أصدقه. مكبرات الصوت، ووزارة الأوقاف كان يمكن أن يحلَّ ببيان للوزارة،
وتدعو فيه البلدية، والناس، وأئمة المساجد، وأن ينقل ذلك على العلن، وأن تستقبل
[إيميلات] أو تتواصل مع الناس في التواصل الاجتماعي [حال السعودية التي تتحرك بشكل
رائع في هذا الجانب]، وتجمع ملفاً متكاملا، ثمَّ في هذه الندوة الصغيرة، العلنية،
يحدث النقاش بكل موضوعية ومهنية، ولاحقا تتقدم الوزارة ببيان جديد تصل فيه إلى
الخلاصات، المهندس يحدد قياسات الصوت ونوعية الأجهزة، والبلدية تحدد القوانين
واللوائح المنظمة للمباني، ووزارة الأوقاف تخاطب الناس أولا ثم أئمة المساجد أنَّه
[لا ضرر ولا ضرار] ومن ثمَّ في نهاية كل هذا الكلام تأتي تلك الفقرة الاعتيادية،
وندعو الجميع إلى الالتزام بهذه اللائحة علما أن مخالفتها سوف تكون كذا وكذا. وهنا
نضع المخالفة بعد أن نوضح أن منظومة الحكومة أخذت بكل الاعتبارات، ولم تأخذ بجانبٍ
واحدٍ فقط، جانب [الهيمنة، والزجر] وأكرر أسفي الشديد أن يستخدم هذا الخطاب من
وزير الإعلام، كنت أتمنى أن ينظَّر هو لخطاب جديد يشيع الارتياح من قبل الناس
لاحترام الحكومة لهم، ولرأيهم، ولكن ماذا بيدي؟ بيدي أن أفعل ما نقله لي وزير
الإعلام عن رؤية صاحب الجلالة للرأي النقدي، وقد طبقت ذلك في هذا المقال، وأوَّل
من اختلفت معه هو وزير الإعلام نفسه والذي أرجو أن يفهم أن غرضي من ذلك هو عُمان،
وأفهم جيدا أن غرضه في مقاربته هي عُمان، اتفقنا في الحب، واختلفنا في الرأي.
هذا ما لدي في شأن هذه المسألة، وسأواصل الكتابة عن الشؤون العُمانية بناء
على هذا المنطلق، وأرجو أن يتسع صدر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لهذا النصح،
فهو عتب محب، وإنسان يتمنى أن يرى حكومة بلادِه وهي في حالة اطمئنان، وهدوء بدلا
من التشنج الذي له ألفُ حل. وما دخل الرفق في شيء إلى زانه.
والله ثمَّ عُمان من وراء القصد
معاوية الرواحي