بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 فبراير 2023

مُلهم اسمه: الفشل!

 

 

الفشل مُعلِّم ناجحٌ وقاسٍ. النجاح مُعلمٌ فاشلٌ وحنون. القاع فرصةٌ مذهلة للبدايات الجديدة. لا يجب أن يستخف الإنسان بأسوأ ظروفه، فهي أحسنها في جانبٍ آخر، ولا سيما الذي سقطَ بعد نجاح. القاع بعد النجاح فرصةٌ لإعادة النظر في كل الخطط السابقة، الذي يصعد جبلا يعي أن إعادة النظر في مساراته للقمة قد تعني الموت، هُنا صخور تنزلق، هُنا صخور هشَّة، أما الذي في القاع فيرى السماء بوضوح، ويا المفارقة! يستطيع أن يختار من طرقٍ كثيرة جدا للصعود. وأنت في القاع لك ميزات في هذه الحياة، لا منافسون لك في القاع، لا أحد يريد إسقاطك، والخيارات بيدك هل ستقضي نزهتك المؤقتة في أسوأ ظروفك وأنت تحاول إسقاط الآخرين؟ أم ستتفنن في السخرية من الذي علقوا في بئر أشد عمقا من مأساتك؟

في القاع لديك فسحة الوقت لتفكر، لتخطط. قبل أن تبدأ الصعود من بئر مأساتك، أنت في أقصى حالات الأمل، وهذا ما يجعلك تركز على أهدافك أكثر، في القاع القلق في أقل حالاته، الحماسة جاهزة للانطلاق، والاحتراق والحسرات ستتحول مع الوقت إلى إنجاز نسبي في كل متر تقضيه في الصعود، لقد امتلأ هذا العالم بنصائح الناجحين، هؤلاء خذ الخطة منهم لا الروح، الفاشلون أيضا يستحقون من ينصت لهم، ومن يسمع تجاربهم وحكمهم، وهؤلاء خذ منهم الروح لا الخطة، لا يوجد إنسان في هذا العالم يخلو من الإنسانية والرغبة في الخير، هذا المتيسر الضئيل يكفي أحيانا لكي تعرف أنَّ القيعان، والقمم مسارات لا أكثر، وأن الرحلة ستتنوع، وأن كل من يعيش قمَّة من القمم جرَّب ظلام القيعان الدامس. إن كنت في أسوأ ظروفك فلا تستخف بمعلم بارع اسمه [الفشل]، فكل الذين أنجزوا العجائب في هذه الحياة جربوه، وعاشوا مرارته، وليس المهم أن تجرب الفشل مرة واحدة، المهم أن تجهز نفسك لرحلة الخروج، الفاشل الحقيقي ليس الذي وصل للقاع، الفاشل الحقيقي هو الذي نسي أنَّه في القاع وانشغل بكل شيء إلا في إيجاد الحلول لظلامِه الدامس، الفاشل الحقيقي هو من انشغلَ بالسخرية من الذين هم أشد بؤسا منه، أو انشغل برمي الحصى من قاع بئره العميق. هذا هو الفاشل الحقيقي، عدا ذلك كل فشل هو معلم بارع لقصة نجاح عظيمة.

الجمعة، 17 فبراير 2023

عن منظومة الحماية الاجتماعية

 

 

 

سمعت أخبار منظومة الحماية الاجتماعية، ودارت في بالي مجموعة من الأفكار والأمنيات التي أتمنى أن تتبع هذا التغيير. الأمنيات أن تكون هذه المنظومة ضمن خطوة جادة للذهاب إلى مرحلةِ الاقتصاد الكبير، ولا أقصد بذلك المصطلح المتعارف عليه في علوم الاقتصاد، أقصد [اقتصادا كبيرا]. الرأسمالية العالمية كافية للغاية لكي تقوم بإنشاء دولةٍ من الصفر وتجعلها ساحقة النجاح، فعلت ذلك النماذج الشرقية، ودولٌ انتشلت نفسها من الفقر والجهل والجوع إلى محطات عالمية وعواصم جاذبة للمال، وللبشر، تنتج المعارف، وتصنع الفرص، وتضيف إلى مائدة المجتمع الدولة صنوف الابتكار والتجديد.

إن فكرة رأس المال الجامد التي سيطرت على الاقتصاد العُماني لسنوات فعلت ما فعلته في واقع المعيشة، وجاءت سنتي كورونا لكي تكشف لك تراجع ملحوظ في القوة الشرائية، وفي عامل المجازفة الذي تأخذه الوحدات الاقتصادية الصغيرة، ما زال السوق العُماني كما هو عليه رهينة في يد مجموعة متمكنة سلاحها الرئيسي هو الاحتكار، ماذا نفهم من هذا الزخم الذي يدور حول هذه المنظومة؟ مبدئيا يمكننا أن نفهم أن التوجه إلى دعم قاع الهرم يعني تغييرات قادمة ستؤثر عليه بالضرورة، كيف ستكون هذه التغييرات؟ لا أحد يدري، لكن المأمول هو أن تكون في صالح اقتصاد عُماني جديد في الشكل والمضمون، أساس إنتاجيته إكثار الوحدات الاقتصادية الصغير والمتوسطة، وبالتالي تحولنا مع الوقت إلى دولة القطاع الخاص.

قد حان الأوان منذ سنوات طويلة أن نتوقف عن فكرة أن الميزانية العامَّة للدولة تأتي من النفط، ثم تتحول إلى رواتب، هذه النظرية الجامدة فعلت الأفاعيل وحان وقت تغييرها.

أمنياتي لعُمان تتلخص في أمور قليلة، أولها صناعة سوق قادر على النمو، إيقاف فكرة التعليم بناء على سوق العمل وترك ذلك للقرار الشخصي، إنشاء منظومة تبدأ من قاع الهرم [وهذا ما يحدث حاليا] وأن تكون المبالغ المصروفة غير جامدة، وأن تكون مرتبطة مع التضخم والغلاء الطارئ.

أتمنى أن تلتحق عُمان بالركب الكبير، وأن تنجح في معركتها ضد غيلان كثر في القطاع القاص يعتبرون كل هذا الذي يحدث كابوسا يهدد مصالحهم الاحتكارية. أتمنى أن تكون هذه المنظومة فاعلة، ومتفاعلة قادرة على التأقلم مع ظروف التغييرات الاقتصادية المأمولة في عُمان.

المؤشرات المتتالية تقول لنا أن كل شيء يحدث ببطء، البعض يقول لنا ذلك لحكمة، والبعض الآخر يقول لنا ذلك لإخفاء، في كل الأحوال، كل ما يدعم معيشة الأسر الأقل دخلا، ويحميها، يفتح الباب للمزيد من المجازفة الاقتصادية، وضخ الأموال في السوق، وثمة أعراض جانبية ستحدث، الغلاء، ارتفاع أسعار العقار.

أتمنى هذه المرة الانتباه إلى سوق العقار لتجنب المصائب التي حدثت من قبل، في أسعار الأراضي، وفي حالات الطرد التي قام بها المؤجرون لمستأجرين فقط من أجل رفع سعر الإيجار.

الذي يتبع منظومات الحماية عادةً هو تغييرات اقتصادية، كيف ستكون؟ لا أعرف، الذي أعرفه أن منظومة الحماية هي استعداد لشيء قادم، وكل ما أرجوه أن أرى الأمرين يتعاملان بذكاء مع الواقع، الضريبة الذكية التي تؤدي إلى نمو القطاعات الاقتصادية لا تلك الجامدة التي تشبه الجباية، ومنظومة الدعم التي ستشمل رعاية الطفل، المرتبطة بظروف الغلاء. وربما جمعيات تعاونية تجعل الأسر الأقل دخلا في مأمن من تقلبات السوق الاقتصادي، إن تم ضخ المليارات في السوق، نحن أمام تغييرات كثيرة، والغلاء أولها.

كل ما أرجوه، هو عدم اعتماد فكرة [المخصص الجامد]، فهذه الفكرة دفعت عمان ثمنها طويلا، يجب أن ترتبط مخصصات الأسر قليلة الدخل بمؤشر اقتصادي واضح يحدد متى تُرفع، ويحدد متى تبقى مكانها.

كل ما أتمناه من عُمان، هو سوق نامٍ، يبدو أننا بدأنا نتحول إلى دولة القطاع الخاص، وكل الأمنيات تقول قطاع خاص، لا قطاع قاص.

 

الخميس، 16 فبراير 2023

رسالة شكر إلى عيلون!

 

 

 

تغيرت معادلة الكتابة! ولم تتغير معادلات السوشال ميديا. سدنة الكلام القليل باستحقاقهم الغريب! لا يريد أن يقرأ، يريد من هذا العالم أن يصنع له تروق لعينيه. إن لم تستطع أن تكتب ذلك الطنين المرير في أفكارك فماذا عليك أن تفعل! قبل أن أنطلق في إدانة عصر تويتر البائد، تويتر [140] حرف، والذي لم يفعل أكثر من أن يتضاعف ببخلٍ منقطع النظير والنظائر، لم تكن تستطيع كتابة فقرة كاملة، النقاش مبتور، الأفكار تقتصر على المجردات الصافية، وكأنك تكتب صورة مجازية لا أكثر. فقد الكلام معناه بسبب سطوة هذه الأداة، وانهارت أدوات كثيرة، شارحة، ومعللة، وموضحة، لماذا؟ لأن إنسانا [مستكاوداً] يفضل أن يقول العالم ما لديه على هيئة رشقات سريعة؟ على الأقل، تستطيع الآن أن تكتب فقرة كاملة، أن تكتب يومياتك، أن تستفيض في الحديث وتقول ما لديك وأنت لست خائفا من مقصلة النهاية التي فرضها عليك مبرمج متسلط هو وحزمة ملفات الأكسل التي يعبدها، وأوثان الأرقام [والتريند]، حذفت تويتر بالأمس، بعد أن أصبت باليأس منه، أقضي ساعات يوميا وأنا أكتب، وقبل أن أدين عصر تويتر البائد، أستطيع أن أقول له شكراً لأنه علمني الاختصار، في عصر سابق وصلت تدويناتي إلى مئات الصفحات، والآن، أستطيع أن أقول ما لدي في عشر صفحات، المحزن هو قدرتك على توثيق ذلك، على وضعه في مكان يضمن لك خلوده وخروجه من [تايملانيَّته] المقيتة. لا مزيد من الكتابة الماشيئفائدية [التايملانيَّة] القادم هو الحروف، والسطور، والكلمات، والكتابة، الكثير الكثير من الكتابة. لقد كتبت فقرة كاملة ولا أشعر باقتراب المقصلة، أكتب بانطلاق حقيقي وصادق وهذا العدد السخيف قد امتلأ فقط إلى ثلاثة أرباعه!

ما فعله عيلون عظيم، أعاد بعض الإنصاف لمن ينتجون اللغة، أعطاهم قليلا من مزايا العصر الخوارزمي المجيد، تويتر جمع ما في الضفتين، التدوين القصير، والتدوين الحقيقي، هذا الذي تستمتع بالكتابة فيه، لأنك تحب أن تكتب، لأنك تمرن أصابعك، سئمت من تدريب [المعنى] الذي مارسه علينا تويتر، وقد جاء عيلون، من أقاصي بطاريات التسلا ومحركات صواريخ المريخ، جاء ليعيد الكتابة إلى نصابها الصحيح، يمكنك أن تقرأ مقالات، لا مزيد من الثريدات، ولا حاجة للضغط النفسي، والعصبي، والقرف، والقلق، نفس الكتابة سيرتفع، القدرة على التعبير، كل ما عليك فعله هو أن تضع خلاصة الخلاصة في أول مائتين وثمانين حرفا، والباقي يمكنك أن تخوض بحار التداعي، والتأمل باللغة، والتفكير بخط مقروء، يا إلهي، وكأنني في لحظة من لحظات التدوين المجيدة.

ينتصر النثر، يمكنك أن تنشر قصيدة كاملة، هذه المنصة التي تعودت العين عليها، وتعودت الأصابع على رؤية الكلمات تتكون خلالها ستصبح خلال وقت قصير منصة اللغة، كاد تويتر أن ينهار، وكاد أن يصبح منصة مقرفة مخصصة لكل هؤلاء ذوي النفس القصير، إن كنت من ذوي النفس الطويل، من الكبار، من عمالقة الصبر، ووصلت إلى هذه الجزئية، فاعلم أن الزمن القادم يحتفي بك، وقد حجز لك عيلون مقعدا فيه، يمكنك أن تكتب وأن تقول ما لديك، لا تخش بخسا، ولا رهقا، لقد عادت الكتابة إلى ما كانت عليه، إنها شهور بسيطة قبل أن تتعود على ذلك، وستقرأ للأصدقاء الكتاب تأملاتهم، وتعرف أكثر، وتفهم أكثر، يا إلهي! تستطيع أن تترك الكلام وتستبدل ذلك بهذه النقرات على الأزرار، تستطيع أن تقاوم تقدم العمر بالكتابة، تستعيد رشاقتك، وفي الوقت نفسه تحافظ على منصة عالية المقروئية.

حتى هذه اللحظة، أشبعت فكرةً كاملةً بكل ما لدي من قوة وطاقة على الكلام والطباعة، وتويتر يقول لي كما تقول نار البرد والسلام في الذهن: أكمل الكتابة، لا تخش بخسا ولا رهقا، يمكنك الآن العودة إلى ملف [الوورد]، وكتابة ما لديك، وتنقيحه، ونشره دفعة واحدة، لا داعي لتجزئة القصائد، لا مزيد من الكتابة في صورة ونشرها لاحقا، كل ذلك انتهى! كل هذه السنوات شبه العشر في تويتر قد انتهت إلى نتيجة جميلة، العالم يسير في الاتجاه الصحيح، نحن لسنا روبوتات، لسنا مثل [شات جي بي تي] الذكي صناعيا الغبي معنويا، العالم ليس كتلة من المعنى المجرد، نحن بشر، أسلوبنا هو نحن، الكتابة هي حمضنا النووي الذي يضمن لنا الامتداد خارج نطاق وصولنا المادي، ماذا نريد أكثر من ذلك؟ لا نريد شيئا، نريد أن نكتب، وأن يسمح لنا العالم بالجمع بين هذه اللذة العارمة، والقدرة على التواصل مع الناس، الأصدقاء هُنا، تويتر يقول لنا أهلا، ولا داعي للرحيل هذه المرة، إنه المكوث الكبير، والفرحة العارمة، لا داعي لملف [رتبها] وتحويل التغريدات إلى تدوينات، يمكن فعل ذلك دفعة واحدة، دون خشية من المقصلة التي لطالما بترت نهايات الأفكار وهي على وشك البدء في التفاعل التلقائي مع نفسها، أي حماسة هذه التي في فؤادي، وأي فرحة هذه، بكل سخافة وضحالة اللغة الممكنة، شكرا عيلون!

مسمار في جسر متباعد الضفتين!

 لدي بعض الكلام الذي أريد قولَه عن الأخت العزيزة جدا عائشة السيفي، وعن برنامج أمير الشعراء، وعن مُجملِ الفكرة من الأساس. نشتكي في عُمان دائما من قلة ظهورنا الإعلامي، ومن قلةِ مشاركة أدبائنا وكتابنا وفنانينا في المحافل الدولية، والسؤال هو: لماذا؟

لماذا يحدث ذلك؟
يعيش البعض مثاليةمفرطة يلوكُها مجموعة من المُشترطين للإبداع، فالمبدع كائن مثالي شبه متطوع يقدم بالضرورة [رسالةً]. وبمجرد ما نشترط هذا للتعريف، يفقد أي مبدع نصفَ داعميه، وينفصل المتلقي إلى ثلاثة أقسام، الأول يؤيد الرسالة، والثاني ضدها والثالث يهتم بالإبداع فقط خارج سياقاته الأخرى.
وهذه للأسف طريقتنا الدائمة في عُمان، التحطيم الذي ندمر به المبدعين، نحملهم فوق طاقتهم ونضع على أكتافهم شروطا كالجبال الثقال، ومن هذا المبدع العُماني الذي حقق هذه الشروط إلى هذه اللحظة؟ من هذا المبدع الذي اعترفَ به جموع المتشرطين؟ قليل جدا، بمعنى الكلمة.
العالم لا يسير وفق مثاليت شروطنا كدولة قليلة السكان. الفنان عندما يخرجُ للخارج يجد شركات إنتاج، ولقمة عيش وباختصار [مهنة] تقود هذا المبدع إلى الاحتراف، ألا نفعل ذلك مع كرة القدم؟ ماذا عن وضعنا الداخلي؟ سترانا نطالب المبدع بأشياء معنوية كثيرة، وماذا نقدم له بالمقابل؟ التصفيق؟ فقط؟
التشجيع والتصفيق والمكافأة المعنوية؟ أليس هذا ما نحن "شُطَّار تماما" فيه؟ هل سيصبح الفنان مبدعاً بلا أدوات؟ السينمائي هل سيصنع له التصفيق موقع تصوير يكلف مئات آلاف الريالات؟ الشاعر إن طالب المتلقي بتذكرة ليتفرغ لاحترافه ماذا نقول عنه: نسميهم [شعراء الفلس، مشاهير الفلس وغيرها]!
فنانوا الفلس، لماذا لا نقول عن لاعب كرة القدم [لاعب كرة قدم الفلس] ثم ما هذا الخراب المنطقي؟ منذ متى طلب اللقمة الحلال عيب وتكئة للتعيير! هل سأذهب لموظف في شركة واقول له [أنت موظف الفلس؟] منطق مضروب من الأساس، وبسببه يتهيّب كثيرون دخول معترك الإبداع لأنه طريق للفقر وسموم التلقي!
ولنضع بعض النقاط على الحروف بعيدا عن الكلام الشاطح في البعد عن الواقع، برنامج أمير الشعراء برنامج تجاري، نعم له رسالة أدبية ما، وله حضور في الساحة الشعرية، هو أيضا مشروع [رأسمالي] حاله حال أي مشروع رأسمالي، حاله حال أي نادي، وأي مؤسسة فنية، وأي مسرح يدخله الجمهور بتذاكر!
إن السُمَّ الحقيقي الذي دمر كثيرا من أشياء الثقافة، والإبداع في عُمان هي هذه العقلية المليئة بالاستحقاق! تريد شاعرا عظيما، لكنك تريده مفلسا، تعيسا، لا يستطيع استئجار شقة، يجب أن يعيش العذاب الذي يخشى المتلقي الواهم أن يعيشه.
وكيف يعيش هذا الشاعر؟ غير مهم، المهم تلك القصائد العشر التي تلخص لنا "معاناته" وبعدها ماذا؟ هيا ندمر الشاعر التالي، والذي بعده! نعم في معايير كثيرة نتمنى أن نصنع معجزةً شعريةً، كلنا نتمنى ذلك، ولكن هل هذا هو الواقع العُماني! أين هذه المعجزات لأطلب منها التحقق بدون معيشة!
أن تعيش كمبدع هو خيار ضرورة في عُمان الحالية، هذا ما يفعله المصورون، وما يقوم به الموسيقيون والمنشدون. هو موضوع وقت قبل أن تلتحق عُمان بالواقعية التي تعيشها كل دول العالم. واقعية أن الإبداع عمل شاق ودؤوب، ويحتاج إلى لقمة عيش. كم مبدعا تحطم في عمان لهذا السبب؟
أتمنى أن تفوز عائشة بجائزة أمير الشعراء، وليتني كنت صاحب شركة إنتاج ضخمة وفخمة أو مستثمر عقارات مليونير وإلا كنت [سأحس] على دمي وأفهم كم سيعني هذا الفوز لمئات المبدعين العُمانيين، ليس لأن عائشة السيفي ستحقق به، ولكن لأنها ستفتح بابا كبيرا لكثيرين، وستكسر حاجزا كبيرا لمبدعين كثر!
من السهل جدا أن [يستقعد] إنسان متشرط على تجربة عمرها عشرين سنة مثل تجربة عائشة، المتلقي ليس مطالبا بأن يكون ناقدا مُحترفا! [وأين هؤلاء النقاد!] يعانون أيضا من نرجسية المؤسسة الإعلامية التي تطلب منه أن يعمل مجانا! لماذا؟ سأعطيك منصة! يالهذا العالم البخس بكل ما فيه من تناقض!
عشرات المبدعين غادروا عمان؟ لماذا غادروها؟ كلنا نعلم السبب، وعلى الجانب الآخر يقعد مجموعة من البائسين من الحرس القديم الذين كل همهم هو [الدعم، الدعم، الدعم] ولماذا الدعم؟ المبدع الحقيقي يحول إبداعه إلى مهنة، اصنع سوقا للإبداع، أما دعم شيكات الخمسمائة ريال وتذكرة لندوة! هذا تحطيم!
ولا تعجب أن ترى مثقفا عظيماً يرفع عقيرته مستحقرا، ومستسخفاً [الإبداع التجاري]، ولا تعجب أيضا أن تراه [يضارب] ويدخل في الفتن والقيل والقال للحصول على تذكرة في رحلة ثقافية، أو يضارب من أجل مكافأة قدرها 300 ريال؟ لماذا، هذا هو أقصى شكل [للدعم] الذي يبحث عنه! عقلية مدمرة وتعيسة!
ولا تعجب أن ترى في عمان مبدعا وراء الآخر يتحطمون،لماذا؟ ما أن يصنع لنفسه منصةً أو حضورا اجتماعيا إلا وتخطفه شياطين المعارك الاجتماعية، يؤطرونه، ويسرقون ضوء عينيه، وعمره، وحياته، وعندما ينتهي به الحال كهلا تعيسا مُحبطا يشتغل على مثل هذه النظريات العفنة، نظرية المبدع المتطوع للأبد!
ولماذا انتصر نجوم السوشال ميديا على مختلف أشكال الإبداع! هو انتصار مؤقت وستستيقظ عُمان من غفوة طويلة، أن خير ما تفعله عندما يتحقق إنسان ويصنع حضوره هو أن [تتركه لشأنه]، أن تجعله يكمل قصة حياته الإبداعية، وأن تصنع له سوقاً يكسب الرزق منه، من موهبته، ومن إبداعه لا من خططك له!
بدون مكاشفة صريحة، وعقلية تتحدى هذا المنطق السقيم لا فائدة من التعب في ما يسمى [رعاية المواهب، دعمها، احتضانها] وغيره من الكلام الفاضي، هذه المواهب تشق طريقها في قلب الجبال إن فقط توقفت عن تسميمها بالاستحقاق المبالغ فيه. لا يوجد شيء اسمه [إبداع بلا مقابل]. إن لم يكن مهنة، مات!
مئات الموهوبين، مئات الأدباء والرسامين، لماذا لا يكملون؟ لماذا لا يستمرون؟ لأن تعاملنا مع الموهوبين في عمان يحتاج إلى إعادة نظر، العقول السقيمة تنظر لهم كمنافسين لأجندتهم، والتيارات الفكرية تعاملهم بالتهديد والوعيد ونظرية المع والضد، وإلى ماذا ينتهي المبدع العُماني؟ إلى القنوط!
وماذا بعد أن يقنط المبدع العُماني؟ تتلقفه أنصاف المؤسسات الإعلامية شبه الميتة، ويصبح حديث الهاشتاجات لبعض الوقت، ثم ماذا؟ يضمحل كما حدث لسابقيه. ينشغلُ بالهمز واللمز أناسٌ لا قيمة لهم في عالم الفكر والأدب والشعر والإبداع، أما الذين في الميدان فيعلمون صعوبة التحدي، وجسامة المسار.
لذلك، أتمنى أن تفوز عائشة، كما تمنيت فوز بشرى خلفان، كما فرحت بفوز جمال الملا، كما فرحت بعائشة السيابية، كما طربت لفوز بدرية البدري، كما سأحتفل بفوز أي عماني أو عمانية في أي محفل دولي، بينما غيرهم يضرب المسامير في تابوت المبدعين ،غيرهم يضربها في جسر ليعبر منه الجميع إلى غد أجمل.
شركة! عمل تجاري! مؤسسة ربحية! ماذا فعلت المؤسسة غير الربحية بالثقافة؟ ألم تصنع مثقفا مدجنا؟ أو بوقاً دعائيا؟ أو ما هو أسوأ، ألم تصنع مثقفا موَجَّها؟ ماذا تريد من المبدع أن يفعل بحياتِه؟ ينصاع تحت هذه الشروط العويصة ليكون [مبدعاً] يتسول من ينشر له كتبه، ويعطيه [شيك الدعم]؟
الواقع الثقافي في عُمان محزن ومرير، والعقلية التي حتى هذه اللحظة تدمر الشباب مستمرة، على هيئة أفكار تجوس في العقول، لا عجبَ أن يستولي على جيل فجيل شعور بالدونية أمام مبدعي دول الجوار، ودول العالم! لأننا نحن من نحطم مبدعينا، ونحن من نصنع العراقيل في وجوههم، ونحن من يسحقهم بشروطنا!
لم تنتصر البداهة، والبذاءة بسبب جهل المجتمعات، لقد انتصرت بسبب حماقة النخب، وسخافة الذين يظنون أن المبدع لا يحق له أن يعيش، وأن يحاول الحياة. العالم بأكمله يصنع منظومات وأسواق هائلة يخرج منه الإبداع ويصل للعالم، أما نحن في عُمان فكل ما نبحث عنه هو المبدع المجاني! واجد علينا!
أتمنى أن تفوز عائشة بهذه الجائزة، ليس لأنها عائشة، ولا لأنها شاعرة، ولا لأنها مبدعة. أتمنى أن تفوز لأنها عُمانية، ولأنها تفتح بابا من أبواب الأمل لمبدعين كثر حرمتهم عقلياتنا في عمان من أبسط آمالهم. الطريق طويل، والمعارك الفكرية لا تحسم في يوم وليلة، عسى نموذج عائشة أن يكون بداية!
وسواء كان أمير الشعراء، أو نجم العلوم، أو كأس الخليج، سأبقى كل أمنياتي أن ينجح المبدع العُماني في كسر هذا الحصار الخانق من التفكير السقيم، أو من فرضيات مثل [المجتمع غير مستعد، المجتمع لا يريد] الناس لا تهتم للإبداع. الناس تلتهم الإبداع ليل نهار، ولكن أين العقول التي ترى!
كل ما أتمناه لكل المبدعين العمانيين الذين استطاعوا التفاعل مع العالم الخارجي ومعرفة ما به، كل ما أتمناه لهم هو النجاة. النجاة من هذا الطوفان من الإحباط، والتبخيس، والتعايش مع هذه العقليات التي كل همها من المبدع تحويله لأداة، أو طمسه لأنه ينافس خطابا آخر فشل في إقناع جناح بعوضة!
وختاما، فازت عائشة أم لم تفز، عمان بحاجة لأكثر من عائشة واحدة، ولعشرات لفنانين، والمبدعين، والمفكرين، والمثقفين، والنقاد، بحاجة إلى إنعاش منظومة الثقافة التي عانت الأمرين لسنين طويلة وآن الأوان أن يشق المبدع طريقه إن لم يكن محفوفا بالعناية فعلى الأقل: بدون عراقيل!
وماذا عساي أن أقول لعمان! إن لم تصنعوا حياة للمبدع، فلا تحطموه، ولا تعرقلوه، ولا تجعلوه زينةً في المنابر. إن لم تستطيعوا وضع نظرية شاملة ومتكاملة تسمح لجميع المبدعين بالإنطلاق، فلا تجعلوهم رهن نظريات رقابية ميتة، أو تعتبروه منافسا! سيجد الجد، وستظهر قيمة هذا المبدع في وقتها!
أما فيما يخص فوز عائشة، فهنا معركة فوق قدرة الفرد وحده. ما تفعله شركة واحدة يعادل مئات ألوف الناس، وملايين تتنافس. إنه مزاد رأسمالي ساحق وماحق، شرس وليس من السهل الفوز به. لم تفعله عائشة، الطريق طويل، فعلتها، الطريق طويل، وهو مسمار أوَّل في جسر متباعد الضفتين. انتهى

ورقة باسم صديق!

 بين الأصدقاء، وفي حال الاختلاف الفكري يجب أن نفرِّق بين حقنا في قول رأينا، وتبني مواقفنا أو إجبار بعضنا البعض عليها. إفساد الود هو [تسييس للصداقة] قولا واحدا!

صديقك ليس أداةً سياسية تمرر بها أجندة مهولة وثقيلة عليك وعلى وجودك، يجب أن تفهم ذلك إذا أردت أن تلوك شؤون الأفكار.
التفكير فطرة في الإنسان،الموقف قرار تنفيذي. أسئلة الصداقة يجب أن يُجاب عليها قبل الخلاف الفكري لا بعده، لا توجد جدوى أن تقيم صداقات كثيرة وأنت جاهز لخساراتها لتقدمها كقرابين في آتون أجندتك. يجب أن تفهم نفسك جيدا، وتفهم مساحة الاختلاف لديك، وسياقه، عدا ذلك، ستكرر الخطأ نفسه مرارا.
ولا حل لهذا الإشكال، الآمال شكل من أشكال النوايا. إذا نويتَ أن تكون حادا فلا تكن نذلا، الصديق ليس بيدقاً لكي تحقق به ما عجزت عن فعله بنفسك، الصديق ليس درعا تصد به هجوم الغرباء عليك، الصديق اسمه صديق، تصدقه القول، ويصدقك القول، وليست مهمته أن يحارب في معاركك نيابة عنك!
على أية حال، لم تعد الصداقة ثمينة كما كانت في أجيال سابقة. كل يوم يأتي بهلاوس الاكتفاء بالذات ونظرية [الذي لا يطاوعك اتركه]، أصبح البشر يبحثون عن من يشبههم، العشرة، وغيرها من العواطف الكلاسيكية أصبحت ركاما تذروه الرياح. في عصرنا الحالي، ما أسهل خسارة الأصدقاء بسبب نقاش.
وهي ليست مسألة أجيال بقدر ما هي مسألة أعمار،إلى متى ستحتاج إلى الخسارات أن تعلمك أن الصديق له حياته المستقلة، يمكنك أن تكون مُسيَّساً كما تشاء،مواليا، ممانعا، معارضا، مطوعا، ملحدا، شيطان جهنم الرجيم، أو ملاك المثالية الرحيم. صديقك ليس ورقة تحرقها في ألاعيب خيالك فلا تخسر أصدقاءك.
ويجب أن تفهم الفارق بين الصديق الضعيف اليائس الهش، وذلك النذل الجبان الذي يريد أن يرمي بك في آتون المواجهات كأنك جندي من جنوده. اليائس الهش يشكو لك قلة حيلته، يلجأ إليك وإن بدا لك أنه يضغط عليك، النذل الجبان يعتقد أنه ذكي، ويظن أنه يلعب بك في اللعبة الكبيرة ضعيف النفس والضمير.
إذا أردت أن تحارب في معركة فكرية كبيرة، لا تكن جبانا، حارب بنفسك، وتحمل الخسائر بنفسك، لا تبحث عن مكبر صوت على هيئة صديق لكي تختبر أفكارك، مهما بدت لك أنها صواب، ومهما شعرت أنك تعتنقها، حارب بنفسك، هذه معركة ترفية أنت اخترتها، المعارك الحقيقية هي التي تختارك دون سواك.
لذلك، هذا موقف يجب أن يتضح من جانبك، لا تحاول أن تتمسك بالصداقة وفي الوقت نفسه تجعل موضوعا فلسفيا اختلفت الخليقة حوله شرطاً لاستمرار صداقة من عدمها. لا تتخذ أصدقاء حتى تتبين من أمرك رشدا، وإن استدعى الأمر أن تجد بيئة مؤقتة كل ما فيها هو من يشبهك فهو أفضل من خسارات وحسرات.
الاختلاف الفكري يقود مع الوقت إلى اختلافات شخصية كثيرة، هُنا تأتي أهمية التفاوض وتحديد المساحات بين كل شخص تختلف معه [فكريا]، هذا فقط في حالة الخلاف الفكري الذي قاد لخلاف شخصي، أما الخلاف الشخصي، فلا حل له، لا أفكار يمكنها أن تجعله منصفا. البغضاء لا منطق لها ولا فيها ولا منها.
وأنت تعيش هذه الحياة سيدهشك كم [لا يعبأ] الآخرون بك ولا بما تفكر به، هذه الحياة مصالح متشابكة، [نفع] متبادل عادةً. قد تظن أنك مهم جدا في عالم الأفكار، وأنَّك تشبه الذين تؤمن بهم، قوي مثلهم،وستلطمك الحياة على وجهك عندما تكتشف أن كل أفكارك لا تهم ما دمت إنسانا لا يسيّس صداقاته.
وإذا كانت قناعاتك صلبة ولا تتزحزح، هُنا افعل الصواب، وارحل إلى المحيط المسيّس الذي يمكنك أن تمارس فيه ما تشاء من ألاعيب، حيث لا أصدقاء، ولا صداقات، ولا آمال، ولا إنسانية، عش في الخوارزمية التي تناسبك واخرج منتصرا أو مهزوما، لا يهم، فقط لا تقحم الصداقة في حساباتك الفكرية المسيسة!

الأربعاء، 15 فبراير 2023

أن تكون بعيداً!

 

 

هُنا؛ لأنني هُنا. هل هذه الفاصلة المنقوطة في مكانِها الصحيح؟ ليس مهما! أليس كذلك؟ ما هو المهم حقَّا في هذا العصر العجيب! كم بقي من الوقت قبل أن يتولى الذكاء الصناعي الكتابة نيابةً عن الكتَّاب! هل سنقول لأبنائنا بعد سنواتٍ بعيدة أننا كنا الأمَّة الأكثر حظا، تلك التي تأخر طوفان الذكاء الصناعي عن تدمير الإبداع فيها فقط لتأخرنا في هذه العلوم المرعبة؟ أقول ذلك وأنا للتو أنهيت [تصميم/ رسم/ خلق] ثلاث لوحات غريبة! تخيل! ثلاث لوحات يرسمها إنسان بإدخال مجموعة من الأوامر إلى برنامج حاسوبي؟

 





 

قلت للحاسب الآلي ارسم لي إنسانا يمنح عقله قرداً ليفكر نيابةً عنه. لم يعلم الذكاء الصناعي أنني أسخر منه! أم تُراه علم وتجاوز عن ذلك بسماحة إلكترونية منقطعة النظائر وقرر أن يرسمني، أنا الإنسان الذي يسلم عقله لقردٍ كي [يبدعَ] نيابةً عنه! أليس هذا ما أفعله؟ هل ستمر السنون لكي أجد شاعراً يكتب بالذكاء الصناعي؟ يضع الفكرة، ويختار الوزن والقافية ويأتي هذا [القرد] الصناعي العبقري كي ينسج قصيدة متكاملة الأركان، مترامية المعاني، تحلِّق حول [تخوم] المعنى؟ هل هذا هو قرد اللازورد القادم بكل قوته؟ أتساءل بحيرة وبحسرة، ماذا عسى أن أفعل بنصف عمري الذي قضيته في الكتابة؟ أصبر كل هذه السنين منذ أن كنت طالباً في جامعة السلطان قابوس وأنا أحلم باليوم الذي أتفرغ فيه للكتابة لأجد قرداً من قردة الذكاء الصناعي يكتب نيابة عني؟ وياللهول! قرد مزود بخاصية الولوج إلى قواعد البيانات! حتى حياتي السابقة سيكون لهذا القرد علم بها! وسيكتب نيابة عني! هذا الذي أحلم به منذ عشرين سنة سيصبح نصا برمجيا، والأشد والأدهى سيكون أكثر دقة من ذاكرتي البشرية القابلة للخلط، ومن نفسي البشرية المؤهلة للكذب والتزييف والإنكار! هل هذا هو عصر الذكاء الصناعي؟ حُلمي ككاتب يتحول إلى مجلد يُصاغ في ثوانٍ معدودة، مجلد لا يقرؤه أحد! حتى القراءة كما يبدو ستتحول إلى نص برمجي، لماذا تقرأ كتابا؟ الأسلوب الفردي سوف يفصل لك النصوص التي تحب قراءتها، بل ويمكنك أن تقول له اكتب لي باللغة العربية الجاهلية، أو بسرد المستطرف في كل فن مستظرف، أو سيختار أحدهم نصا صوتيا بصوت مورجان فريمان ليقرأ قصة حياتي، أو على الأقل مختارات منها وهو يقود دراجة طبعها في طابعة المنزل ثلاثة الأبعاد! كيف سيبدأ اليوم بعد مائة سنة؟ وكيف ستكون الحياة؟ نظرية؟ ثلاثية الأبعاد؟ مصممة مسبقا؟

كانت علوم الهندسة في عصر سابقٍ حجر الزاوية في تفوق أمَّة على أخرى، لديك مهندس مدني يبني لك الحصون أنت في سلامٍ وأمان، أضف إلى ذلك كيميائي بارع يصنع لك البارود، ويدهن لك قماش ذخيرة المنجنيق بالنفط لتدك به خيام القرى الغافلة عن جيوش المحتلين. عصر الحديد والصلب، والثورة الزراعية وبعدها عصر اللدائن التي صنعت لك مسَّاحات أقلام الرصاص، إلى عصور الشبكات، والإنترنت، والآن ماذا؟ الذكاء الصناعي؟ قبل عشرين سنة عندما بدأت في حياة التدوين كنت أظنُّ أن التضحية التي أقوم بها ستكون مما أدفعه من حياتي الواقعية إلى تلك الافتراضية! لقد انقلبت الموازين، في عام 2003م كان بعض الكتاب يسخرون من عصر النت، لقد كان من السخف المُبين أن تترك عالم الورقة والقلم والكتب المنشورة لتكتب في صفحات إلكترونية قابلة للحذف! لقد صدق نقاد الأمس، تلفت الكتابة وماعَ الأسلوبُ وأصبحنا في عصر الجُمَل المجَّانية ولم تفرز ظاهرة الكتابة الإلكترونية من الكتاب إلا قليلا!

مرَّت سنوات التجربة، وجاء زمان المنصات، وتغيرت الحياة. الكاتب النحرير الأعظم المُعظَّم ملك ملوك اللازورد غادرَ أوراق الجرائد التي ينشر فيها أسبوعيا لكي تتضاءل قيمتها فتصبح تذكارا من الزمن الكلاسيكي العتيق، لقد أصبح ينشر في الألياف الضوئية نتاجه اللازوردي! هو نفسه الذي يسخر من ظاهرة النت، أصبح الآن يفهمُ كيف تضاعفت مساحة تحققه الذاتي لتشمل دولا كثيرة، وليتفاعلَ معه آلاف وآلاف بضغطة زر. قليل ما هم الذين تعاملوا مع عصر حبر الألياف الضوئية بموقف "طوبى لمن أهدى إلي عيوبي" الذي دخل متأخرا لهذا العالم الضوئي جاء باحثا عن ما ينقصه، [الضوء] فما الذي يحوجُ مؤرخا بخبرة أربعين سنة في مجالِه إلى شيء آخر، هؤلاء يدخلون عالم الألياف الضوئية ليُكتَشفوا من قبل الفئة الناجية من المتعاملين مع هذه الأدوات المجنونة التي استعمرت أيامنا. لقد انتهى الهراء القديم، عن الحاجة إلى منبر نتكلم خلاله، عن الظن أن الحقيقة التي نؤمن بها لا تحتاج إلى أكثر من الوصول للأفئدة والعقول، نعيش في عصر تعدد الحقائق، وانكسار المنطق وسقوط حتمية البديهية، أين ذلك الزمان الذي كانت فيه البداهة سرطانا يضايق أهل الحق والعقد في عوالم الفكر والثقافة والنخب! كم نحن بحاجة إلى بداهة الأمس!

جئت إلى هذه الورقة البيضاء هارباً من ضجيج ذلك العالم المجنون الذي أبلي فيه بلاء حسنا فوق طاقتي. لست بحاجة لأتذكر أنني كاتب، ولست بحاجة لأقنع نفسي بذلك، عشتُ حياة ضحيتُ بجل ما فيها لكي أعيش هذه اللحظات متحرراً من أعباء أي شيء آخر. سنوات طويلة من الصعلكة والنكسات عبرتُها وكل أملي النجاة لأتمكن من كتابة كل ذلك، كنت أظن أنني أريد كتابة ذلك لأجل قارئ، أو لأجل [الآخر] الذي يتجلى في تعريفات سارتر عن الجحيم، كنت أظن أنني سأريد الكتابة لأجل أي شيء غير هذا الذي أكتب [بسببه] الآن، أكتب بسببه أكثر مما أكتب لأجله! كم نتغير في خضم الحياة! وكم نتحول إلى أشخاص آخرين يختلفون عمَّا كنا عليه ذات يوم، حالمين، مليئين بالآمال، ومشحونين ببراكين الرغبة في تحقيق الذات!

 

أحاول الفلاتَ من اللغة المؤقتة التي آل إليها الحال الكبير لكل غرباء هذا العصر الضوئي العجيب! اللغة البيضاء الخالية من الموقف والتعقيد، والتي يبدو فيها التفكير إمَّا جريمة اختلافٍ عن السائد الغالب، أو تحدياً من تحديات الفردانية الجديدة التي تملأ العالم بسموم إنسان العصر الحديث! إن كان إنسانُ عصر الشبكات، والهواتف المحمولة قد تحول إلى هذا الجنون المسعور فماذا عساه أن يكون جيل الذكاء الصناعي! تكلم البشر بدهشة عن وجود كل المعارف بضغطة زر، ما الذي سيأتي في الغد؟ كل المعارف برمشة عين؟ الذكاء الصناعي سيراقب ضربات قلبك؟ ويعرف متى يجب عليك أن تأكل، وتشرب؟ ويخبرك أنك في الفترة القادمة مؤهل لتتعلم البيانو، والجيتار، ولغات البرمجة وفي الأيام التي بعدها عليك أن تخرج أكثر لكي تخفف من هرموناتك التي تأخذ ساعة ذكية قياسها كل دقيقتين؟ كُل هذا ممكن تقنيا حتى تقرر الرأسمالية أن تجعله للجميع، وقتها في أي عالم سنعيش؟ الذي في الأربعين الآن سيكون في الستين عندما يجد نفسه غريبا! يا للهول! الذي الآن في العشرين سيجد نفسه غريبا بعد عشرين سنة! إن لم يتحطم العالم في حرب نووية شعواء، أتمنى أنني وقتها أكتب، تقاعدت عن الحياة، وتركت هذه الحياة التي أعيشها الآن! يا إلهي! كيف سأخبر أصدقائي الذين رحلوا عن الحياة عمَّا تحول إليه الحال! نحن كائنات ضوئية نعيش في كوكب رقمي، كوكب سوف تتغير فيه كل تعريفات الإبداع إلى واحدة جديدة، لم يعد مهما ما يُسمى في المصطلح القديم [المُبدع] نعيش في عصر المهم فيه هو [الإبداع] ومضحك كيف تنقلب الرأسمالية على نفسها، الملكية الفكرية والفردانية المجنونة التي كادت أن تؤطر كل شيء، من الموسيقى، والرسم، والصورة، والفيديو، إلى هذه التقنية الجديدة التي مع كل يوم تستطيع أن تجعل الإنسان العادي جدا فنانا تشكيليا، أو ربما مبدعاً أو صناع ألعاب إلكترونية، كل هذا يلوح في الأفق وكل الذي علينا أن نفعله هو أن ندفع دولارات الاشتراك الشهري ونسمح لمجانين العصر الحديث مثل الملياردير إيلون ماسك أن يغير خارطة العالم البشري، الكوكب البشري يتحول إلى طوفان من العلم التراكمي الشرطي، خوارزميات، وسطور مترامية الأطراف من الحمض النووي البرمجي، إن لم يكن هذا هو الوقت المناسب للهروب فأي وقت سيكون مناسبا!

أعيش في أزمة سخيفة للغاية، سجن يمكن كسره بسهولة عكس سجوني السابقة، سجن تلك المنصات التي أصبحتُ مضطراً لكسب الرزق خلالها، لقد غيّر هذا أشياء كثيرة بي، منها أنني اضطررت للعب دور النجم الاجتماعي، هذا الدور الذي يكلفني ما لي طاقة به من التصرف ولا طاقة لي به من الخسارة، مزيد من الخسارة من العمر والوقت أريد مع سبق الإصرار والترصد أن تذهب إلى لوحة المفاتيح، أعلم أنني هربت وجهزت العدة جيدا، رتبت أوراقي، وصرت جاهزا للحياة هُنا مع الحفاظ على لقمة العيش هُناك، كان لا بد أن أجد طريقةً ولم أكن ذكيا بما يكفي لأنتبه لذلك في سنواتٍ سابقة، الآن! أعلم أن هذا هو الذي يجب أن أفعله. سنلتقي في هذه الورقة البيضاء أكثر وأكثر، لن تكون بكثرة الأيام الخوالي التي كنت أرمي فيها كل حياتي هُنا، هُنا مكان للذاكرة، وللتأمل، وللتفكير بخط مقروء، أما باقي الأمكنة فكل ما فيها سيكون امتدادا لهذا المنبع الأصلي، هُنا امتداد النسب الأول للكلمات والأفكار وهُناك سيأخذ كل شيء مكانه المناسب، يفتت، ويُعلَّب، ويُجزَّأ ويختصر ويتحول إلى فناجين مركزة لذة للشاربين، أما هؤلاء الذين يبحثون عن المدى البعيد، فهُنا سنلتقي، كل يوم ربما، سنلتقي بما يكفي لنحكي ما حدثَ في هذه الحياة، ولعل بعض الأيام الخوالي ستعود إلى سابق عهدها، المليء بالعزلة، والأغاني. لم أتعب بما يكفي لأدمر كل شيء فوق رأسي، ولم أصب باليأس بما يكفي لأعتقد أن الكتابة عبث، العبث هو أن تعيش وأنت لا تكتب كل يوم، العبث هو ألا تعيش لتصنع المزيد من الوقت للكتابة، بعد خمس سنواتٍ من التعب أستطيع أن أقول إن وقت الكتاب قد حان، وكل ما بقي هو الرجاء بالله، أن يكفي العُمر لسرد سابق العُمر. أن تكون بعيدا يعني أن تكون قريباً من صفحة بيضاء، أن تكتب لأنَّك تريد أن تكتب، أن تقول ما لديك لأنك تريد اكتشافه أكثر مما تريد قوله.

لقد حسمت خيارات حياتي منذ خمس سنوات، وعلمت أن حياتي ستتعلق بلوحة المفاتيح والقليل من البيانو والجيتار، لم أحسب حسابَ تغير الحال، ولا ما صرت إليه من حضور اجتماعي يدمر أعصابي أحيانا، في لحظةٍ ما عرفت أنني يجب أن أكون قويا أمام شهوة الحضور، أو شهوة النجومية التي تطفئ التحدي في الكلمات، شهوة المنصات الحاضرة سريعة الانتشار، لست هُنا لأعلن موقفا حنبليا، أنا هُنا لأعود إلى العهد الذي أعلم انتمائي له، أما تلك المنصات فهي كما هي، لن تموت، لن تتوقف حالها حال أي استثمار طويل المدى، كُل ما في الأمر أن مركز الإمداد لن يكون مشتتا كما كان، من هنا سيبدأ كل شيء، هُنا سأفكر، وسأكتب، وسأقول ما لدي، أما ما تبقى، فهي مهنة حالها حال غيرها من المهن، هُنا لأنني أعيش، وهُناك لأنني أعمل، وأظن أن هذه الصفقة مع الحياة هي أفضل ميزان يمكنني أن أعيشه في هذه الحياة المليئة بالصدمات الموجعة، لا أعلم ما الذي سيفعله الذكاء الصناعي في الغد، إلى حين سيطرته على حياة الكتابة واللغة سأكتب وكأن كل هذا لن يحدث في غد قريب.

 

Muawiya Alrawahi

معاوية الرواحي

فبراير 2023

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

شيء تغير!

 

 

ثمَّة ما تغير، ولا أعرف ماهيته. لماذا أعود دائما إلى هذا المكان؟ ربما لأنني بحاجة للطوافِ في الفضاء الخاوي مع أفكاري. أنا وأفكاري ولا شيء آخر. إنني أتغير مجدداً. أنسلخُ من ذاتٍ قديمةٍ إلى أخرى، هل هذه الذات التي أنا عليها الآن هي ما سأكونُه للنهاية؟

النهاية! لماذا أقول النهاية؟ هي الذات التي سأكونها حتى يحدث خطبٌ آخر، فأتغير، وهكذا دواليك أواصلُ التغير في هذه الحياة حتى أستقر إلى موتٍ أرضى به. لم أعد ما كنتُ عليه، لم أعد أريد الحديث مع الغرباء كما كنت. تلك الرغبة المشحونة بالاحتراق للبوح أصبحت رماداً. الآخرون هم الألم الذي نواجه لكي نتوقف عن خشيته. نحن أخطاؤنا الإملائية في الورقة الصحيحة. نحن كل ما توقفنا عن الخوف منه.

هذه المرة أعرف أنني عدت، إلى هذه الورقة البيضاء، أعرف أنني لن أرحل قريبا، وأنني سأمكث طويلا، سأرتحلُ في بياضها اللانهائي إلى العالمِ الذي أحببتُ، وإلى الطريقة التي أردت أن أعيش بها، كاتباً، وشاعراً، وقارئاً. هذه المرة أعلم أنني جئت بعد رحيلي الأخير، هذه ليست استراحة، هذه هي الحياةُ التي كنت أبحثُ عنها منذ الأزل وقد حان لها أن تبدأ. هذه المرة لن تبدأ الحكاية، ولا اللعبة، هذه المرة سيبدأ سرد الحكاية التي قد تنتهي، أما السرد فلا يفعل ذلك، يستمرُ حتى يعطي الحياة كل المعاني التي خلت منها.