لدي بعض الكلام الذي أريد قولَه عن الأخت العزيزة جدا عائشة السيفي، وعن برنامج أمير الشعراء، وعن مُجملِ الفكرة من الأساس. نشتكي في عُمان دائما من قلة ظهورنا الإعلامي، ومن قلةِ مشاركة أدبائنا وكتابنا وفنانينا في المحافل الدولية، والسؤال هو: لماذا؟
لماذا يحدث ذلك؟
يعيش البعض مثاليةمفرطة يلوكُها مجموعة من المُشترطين للإبداع، فالمبدع كائن مثالي شبه متطوع يقدم بالضرورة [رسالةً]. وبمجرد ما نشترط هذا للتعريف، يفقد أي مبدع نصفَ داعميه، وينفصل المتلقي إلى ثلاثة أقسام، الأول يؤيد الرسالة، والثاني ضدها والثالث يهتم بالإبداع فقط خارج سياقاته الأخرى.
وهذه للأسف طريقتنا الدائمة في عُمان، التحطيم الذي ندمر به المبدعين، نحملهم فوق طاقتهم ونضع على أكتافهم شروطا كالجبال الثقال، ومن هذا المبدع العُماني الذي حقق هذه الشروط إلى هذه اللحظة؟ من هذا المبدع الذي اعترفَ به جموع المتشرطين؟ قليل جدا، بمعنى الكلمة.
العالم لا يسير وفق مثاليت شروطنا كدولة قليلة السكان. الفنان عندما يخرجُ للخارج يجد شركات إنتاج، ولقمة عيش وباختصار [مهنة] تقود هذا المبدع إلى الاحتراف، ألا نفعل ذلك مع كرة القدم؟ ماذا عن وضعنا الداخلي؟ سترانا نطالب المبدع بأشياء معنوية كثيرة، وماذا نقدم له بالمقابل؟ التصفيق؟ فقط؟
التشجيع والتصفيق والمكافأة المعنوية؟ أليس هذا ما نحن "شُطَّار تماما" فيه؟ هل سيصبح الفنان مبدعاً بلا أدوات؟ السينمائي هل سيصنع له التصفيق موقع تصوير يكلف مئات آلاف الريالات؟ الشاعر إن طالب المتلقي بتذكرة ليتفرغ لاحترافه ماذا نقول عنه: نسميهم [شعراء الفلس، مشاهير الفلس وغيرها]!
فنانوا الفلس، لماذا لا نقول عن لاعب كرة القدم [لاعب كرة قدم الفلس] ثم ما هذا الخراب المنطقي؟ منذ متى طلب اللقمة الحلال عيب وتكئة للتعيير! هل سأذهب لموظف في شركة واقول له [أنت موظف الفلس؟] منطق مضروب من الأساس، وبسببه يتهيّب كثيرون دخول معترك الإبداع لأنه طريق للفقر وسموم التلقي!
ولنضع بعض النقاط على الحروف بعيدا عن الكلام الشاطح في البعد عن الواقع، برنامج أمير الشعراء برنامج تجاري، نعم له رسالة أدبية ما، وله حضور في الساحة الشعرية، هو أيضا مشروع [رأسمالي] حاله حال أي مشروع رأسمالي، حاله حال أي نادي، وأي مؤسسة فنية، وأي مسرح يدخله الجمهور بتذاكر!
إن السُمَّ الحقيقي الذي دمر كثيرا من أشياء الثقافة، والإبداع في عُمان هي هذه العقلية المليئة بالاستحقاق! تريد شاعرا عظيما، لكنك تريده مفلسا، تعيسا، لا يستطيع استئجار شقة، يجب أن يعيش العذاب الذي يخشى المتلقي الواهم أن يعيشه.
وكيف يعيش هذا الشاعر؟ غير مهم، المهم تلك القصائد العشر التي تلخص لنا "معاناته" وبعدها ماذا؟ هيا ندمر الشاعر التالي، والذي بعده! نعم في معايير كثيرة نتمنى أن نصنع معجزةً شعريةً، كلنا نتمنى ذلك، ولكن هل هذا هو الواقع العُماني! أين هذه المعجزات لأطلب منها التحقق بدون معيشة!
أن تعيش كمبدع هو خيار ضرورة في عُمان الحالية، هذا ما يفعله المصورون، وما يقوم به الموسيقيون والمنشدون. هو موضوع وقت قبل أن تلتحق عُمان بالواقعية التي تعيشها كل دول العالم. واقعية أن الإبداع عمل شاق ودؤوب، ويحتاج إلى لقمة عيش. كم مبدعا تحطم في عمان لهذا السبب؟
أتمنى أن تفوز عائشة بجائزة أمير الشعراء، وليتني كنت صاحب شركة إنتاج ضخمة وفخمة أو مستثمر عقارات مليونير وإلا كنت [سأحس] على دمي وأفهم كم سيعني هذا الفوز لمئات المبدعين العُمانيين، ليس لأن عائشة السيفي ستحقق به، ولكن لأنها ستفتح بابا كبيرا لكثيرين، وستكسر حاجزا كبيرا لمبدعين كثر!
من السهل جدا أن [يستقعد] إنسان متشرط على تجربة عمرها عشرين سنة مثل تجربة عائشة، المتلقي ليس مطالبا بأن يكون ناقدا مُحترفا! [وأين هؤلاء النقاد!] يعانون أيضا من نرجسية المؤسسة الإعلامية التي تطلب منه أن يعمل مجانا! لماذا؟ سأعطيك منصة! يالهذا العالم البخس بكل ما فيه من تناقض!
عشرات المبدعين غادروا عمان؟ لماذا غادروها؟ كلنا نعلم السبب، وعلى الجانب الآخر يقعد مجموعة من البائسين من الحرس القديم الذين كل همهم هو [الدعم، الدعم، الدعم] ولماذا الدعم؟ المبدع الحقيقي يحول إبداعه إلى مهنة، اصنع سوقا للإبداع، أما دعم شيكات الخمسمائة ريال وتذكرة لندوة! هذا تحطيم!
ولا تعجب أن ترى مثقفا عظيماً يرفع عقيرته مستحقرا، ومستسخفاً [الإبداع التجاري]، ولا تعجب أيضا أن تراه [يضارب] ويدخل في الفتن والقيل والقال للحصول على تذكرة في رحلة ثقافية، أو يضارب من أجل مكافأة قدرها 300 ريال؟ لماذا، هذا هو أقصى شكل [للدعم] الذي يبحث عنه! عقلية مدمرة وتعيسة!
ولا تعجب أن ترى في عمان مبدعا وراء الآخر يتحطمون،لماذا؟ ما أن يصنع لنفسه منصةً أو حضورا اجتماعيا إلا وتخطفه شياطين المعارك الاجتماعية، يؤطرونه، ويسرقون ضوء عينيه، وعمره، وحياته، وعندما ينتهي به الحال كهلا تعيسا مُحبطا يشتغل على مثل هذه النظريات العفنة، نظرية المبدع المتطوع للأبد!
ولماذا انتصر نجوم السوشال ميديا على مختلف أشكال الإبداع! هو انتصار مؤقت وستستيقظ عُمان من غفوة طويلة، أن خير ما تفعله عندما يتحقق إنسان ويصنع حضوره هو أن [تتركه لشأنه]، أن تجعله يكمل قصة حياته الإبداعية، وأن تصنع له سوقاً يكسب الرزق منه، من موهبته، ومن إبداعه لا من خططك له!
بدون مكاشفة صريحة، وعقلية تتحدى هذا المنطق السقيم لا فائدة من التعب في ما يسمى [رعاية المواهب، دعمها، احتضانها] وغيره من الكلام الفاضي، هذه المواهب تشق طريقها في قلب الجبال إن فقط توقفت عن تسميمها بالاستحقاق المبالغ فيه. لا يوجد شيء اسمه [إبداع بلا مقابل].
إن لم يكن مهنة، مات!
مئات الموهوبين، مئات الأدباء والرسامين، لماذا لا يكملون؟ لماذا لا يستمرون؟ لأن تعاملنا مع الموهوبين في عمان يحتاج إلى إعادة نظر، العقول السقيمة تنظر لهم كمنافسين لأجندتهم، والتيارات الفكرية تعاملهم بالتهديد والوعيد ونظرية المع والضد، وإلى ماذا ينتهي المبدع العُماني؟ إلى القنوط!
وماذا بعد أن يقنط المبدع العُماني؟ تتلقفه أنصاف المؤسسات الإعلامية شبه الميتة، ويصبح حديث الهاشتاجات لبعض الوقت، ثم ماذا؟ يضمحل كما حدث لسابقيه. ينشغلُ بالهمز واللمز أناسٌ لا قيمة لهم في عالم الفكر والأدب والشعر والإبداع، أما الذين في الميدان فيعلمون صعوبة التحدي، وجسامة المسار.
لذلك، أتمنى أن تفوز عائشة، كما تمنيت فوز بشرى خلفان، كما فرحت بفوز جمال الملا، كما فرحت بعائشة السيابية، كما طربت لفوز بدرية البدري، كما سأحتفل بفوز أي عماني أو عمانية في أي محفل دولي، بينما غيرهم يضرب المسامير في تابوت المبدعين ،غيرهم يضربها في جسر ليعبر منه الجميع إلى غد أجمل.
شركة! عمل تجاري! مؤسسة ربحية! ماذا فعلت المؤسسة غير الربحية بالثقافة؟ ألم تصنع مثقفا مدجنا؟ أو بوقاً دعائيا؟ أو ما هو أسوأ، ألم تصنع مثقفا موَجَّها؟
ماذا تريد من المبدع أن يفعل بحياتِه؟ ينصاع تحت هذه الشروط العويصة ليكون [مبدعاً] يتسول من ينشر له كتبه، ويعطيه [شيك الدعم]؟
الواقع الثقافي في عُمان محزن ومرير، والعقلية التي حتى هذه اللحظة تدمر الشباب مستمرة، على هيئة أفكار تجوس في العقول، لا عجبَ أن يستولي على جيل فجيل شعور بالدونية أمام مبدعي دول الجوار، ودول العالم! لأننا نحن من نحطم مبدعينا، ونحن من نصنع العراقيل في وجوههم، ونحن من يسحقهم بشروطنا!
لم تنتصر البداهة، والبذاءة بسبب جهل المجتمعات، لقد انتصرت بسبب حماقة النخب، وسخافة الذين يظنون أن المبدع لا يحق له أن يعيش، وأن يحاول الحياة. العالم بأكمله يصنع منظومات وأسواق هائلة يخرج منه الإبداع ويصل للعالم، أما نحن في عُمان فكل ما نبحث عنه هو المبدع المجاني!
واجد علينا!
أتمنى أن تفوز عائشة بهذه الجائزة، ليس لأنها عائشة، ولا لأنها شاعرة، ولا لأنها مبدعة. أتمنى أن تفوز لأنها عُمانية، ولأنها تفتح بابا من أبواب الأمل لمبدعين كثر حرمتهم عقلياتنا في عمان من أبسط آمالهم.
الطريق طويل، والمعارك الفكرية لا تحسم في يوم وليلة، عسى نموذج عائشة أن يكون بداية!
وسواء كان أمير الشعراء، أو نجم العلوم، أو كأس الخليج، سأبقى كل أمنياتي أن ينجح المبدع العُماني في كسر هذا الحصار الخانق من التفكير السقيم، أو من فرضيات مثل [المجتمع غير مستعد، المجتمع لا يريد] الناس لا تهتم للإبداع. الناس تلتهم الإبداع ليل نهار، ولكن أين العقول التي ترى!
كل ما أتمناه لكل المبدعين العمانيين الذين استطاعوا التفاعل مع العالم الخارجي ومعرفة ما به، كل ما أتمناه لهم هو النجاة. النجاة من هذا الطوفان من الإحباط، والتبخيس، والتعايش مع هذه العقليات التي كل همها من المبدع تحويله لأداة، أو طمسه لأنه ينافس خطابا آخر فشل في إقناع جناح بعوضة!
وختاما، فازت عائشة أم لم تفز، عمان بحاجة لأكثر من عائشة واحدة، ولعشرات لفنانين، والمبدعين، والمفكرين، والمثقفين، والنقاد، بحاجة إلى إنعاش منظومة الثقافة التي عانت الأمرين لسنين طويلة وآن الأوان أن يشق المبدع طريقه إن لم يكن محفوفا بالعناية فعلى الأقل: بدون عراقيل!
وماذا عساي أن أقول لعمان! إن لم تصنعوا حياة للمبدع، فلا تحطموه، ولا تعرقلوه، ولا تجعلوه زينةً في المنابر. إن لم تستطيعوا وضع نظرية شاملة ومتكاملة تسمح لجميع المبدعين بالإنطلاق، فلا تجعلوهم رهن نظريات رقابية ميتة، أو تعتبروه منافسا! سيجد الجد، وستظهر قيمة هذا المبدع في وقتها!
أما فيما يخص فوز عائشة، فهنا معركة فوق قدرة الفرد وحده. ما تفعله شركة واحدة يعادل مئات ألوف الناس، وملايين تتنافس. إنه مزاد رأسمالي ساحق وماحق، شرس وليس من السهل الفوز به. لم تفعله عائشة، الطريق طويل، فعلتها، الطريق طويل، وهو مسمار أوَّل في جسر متباعد الضفتين.
انتهى