بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 28 فبراير 2019

ضربة توجع الفؤاد!




 مرحبا يا أصدقاء. مرّت فترة منذ أن التقينا، ولا سيما أنتم الذين لا أعرفكم إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أنا بخير نسبيا، أقضي فترة الانسحاب المؤلمة من تويتر آخر المناطق العامة التي كنت أكتبُ فيها. لا يوجد في حياتي رغبة مجددا في أن أعيش حياةً بديلة، هذا لا يعني أن تويتر سيء، السيء حقا هو أن يغريك أي شيء إلى درجة إذهالك عن باقي تفاصيل الحياة، ومنذ متى يملّ كائن من الكتابة؟
كان يومي عاديا بمعنى الكلمة، يوم آخر على الدراجة. تغير شيء طفيف هذه المرة، الشعور الهائل بالذنب لأنني [أضيع] وقتي في الشوارع، التعاسة الهائلة التي تجعلني لا أشعر بجمال الربيع وأنا أتذكر في كل ثانية تمضي أنني لم أجد العمل المناسب لي. شهورٌ مرت من الموسم الأول وأنا أتمزق في هذا الشعور، حاولت بشكل جزافي أن أقدم لوظائف عشوائية، جازفتُ بجسدي في عمل شاقٍ للغاية كان رائعا لولا اضطراري لقطع نومي للتنسيق لمناوبة الليل. كان اليوم عاديا بدأ في الدراجة وانتهى عليها، الفرق بين الموسم السابق وهذا الحالي أنني هذه المرة أمارسُ هذا كوظيفة، وهذا هو الشعور الجديد كليا الذي جعل وقتي في الخارج وقتا ثمينا، ومناسبا ولا يخدش الضمير ويؤلبه على نفسه.
أشعر بالحزن على دراجتي الجبلية. حدث أوجع قلبي حقا عندما انعجن المحرك في أشواك العجلة الخلفية. كانت ضربة أوجعت فؤادي وشعرتُ أنني أقل تصالحا مع الحياة بسببها. ثمانية وثلاثون كيلو متر، ليس معدلا رائعا. بعض البدايات جيدة لأنها ليست سيئة، هذا ينطبق على اليوم الذي أنهيه بكتابة هذه التدوينة السريعة.
مضى يومي ثقافيا مع جوردن بيترسون، ثمة مدى مدهش لما يمكنك أن تفعله سماعيا وأنت على كرسي الدراجة. جهزت العدة بستة كتب جديدة أسمعها، كتاب عن تاريخ بريطانيا، وآخر في علم نفس الجريمة، وثالثٌ لبرتراند رسل عن تاريخ الفلسفة الغربية، عدة كافية تكفي لساعات طويلة ليتني أمتلك الجسد الذي يلتهم الشارع ساعات أطول. وزني زاد ستة كيلوغرامات في الشتاء الأخير، قرأت عددا لا بأس به من الكتب، والآن الحياة بدون تويتر تصنع لي الوقت من حيث لا أحتسب.
أشعر بالغربة والغرابة. هل حقا عندما أخرج من بيتي لأتجول في الشوارع بالدراجة يسمى هذا عملا؟ أي رحلة غريبة هذه بعد التخلص من ذلك الشعور الترفيّ البغيض، ذلك الشعور بالركود وممارسة النشوة بشكل مستمر، على كرسي الدراجة لا يفصلني عن فعل شيئين في وقت واحد [مثل القراءة بأذني] سوى شاحن الهاتف. أضعت مكان السلك الذي أشحن به ضوء الإنارة الليلي، أشعر بالضيق من نفسي لأنني مجددا أضعت أغراضي. اخترت الدراجة الآلية التي سوف أستعين بها لرفع عدد التوصيلات في اليوم، التقيت بشخصٍ يشبهني في خيارات الحياة، كان تعارفا سريعا بدأ بسؤال منه يقول: هل تفعل هذا من أجل المال؟
أجبته: المال ليست أولوية في حياتي، كما أنني أردت التوقف عن الشعور بالذنب لأنني على دراجتي كل يوم كأنني أحد الأثرياء الملولين من الحياة. كانت تلك إجابة كافية لنقرر أن نعرف بعضنا أكثر.
غدا سأذهب للسوق لإيجاد سلك جديد لكشاف التجول الليلي. أخطط لشراء هاتف، ودراجة، وأشياء كثيرة ولكن ليس قبل إنهاء التخطيط الرئيسي لهذه الرياضة/ المهنة. لا أتنقل في الشارع بانكسار المبتدئ ولا بقلق الضعيف، كل ما في الأمر أنني أحتاج أن أرى الأرقام وهي تتكاثر أمام عيني حتى أثق بالشارع أكثر. كان شعورا مهيبا وأنا أزاحم السيارات في شارعِها، حتى ذلك الباص الهائل يمنحك طريقك المستحق، هواء الربيع أعاد الحياة إلى رئتي، والهواء البارد في نهاية آخر رحلة ليلية كان الإجابة التي كنت أنتظرها لأعرف إلى أي مدى كنت أريد هذه الوظيفة أكثر من أي شيء آخر.
غدا يومٌ خاص، سألتقي بصديقي الروسيّ الذي أحب أن أناقشه كثيرا. سأبدأ البحث عن دراجة جديدة، ويجب أن أحل موضوع السلك اللعين، وربما يجب أن أشرب الكثير من الماء. كل هذا في غدِه والآن يذهب ماريو إلى النوم في سلام.

برمنجهام

الأربعاء، 27 فبراير 2019

خمسون كيلومتر من القلق!




بهدوءِ من يعلم أن عليه أن يستيقظ فتحت عيني على عالمٍ مشمس. إنها التاسعة! والوقت لم يحن بعد للعمل. بتثاقلٍ مررت على مجموعة طقوس الصباح لكائن يعمل على دراجة. مخفوقٌ من العسل والبروتين والحليب، قليل من البيتزا المتبقية من عشاء البارحة الثقيل. الموسم الثاني بدأ ورصيدي فيه رحلة واحدة طويلة إلى المدينة العظيمة برمنجهام. هناك رحلة أخرى ولكنها كانت بلا عودة بعد أن ألزمتني حماقتي التي تركت مصباح الظلام في المنزل لأعود بالقطار. مضى اليوم بشكل هادئ، أصلحت دراجتي الرئيسية وبشكل فادحٍ وأنا أغير إطار دراجاتي الاحتياطية وقع خطأ ما، فات أوان معرفته هرس ناقل الحركة في أشواك العجلة الخلفية مما تركني الآن بدراجتين فقط.
عدت من برمنجهام، فتحت تطبيق العمل من باب تجربة كثافة المدينة. لم تصلني طلبات كثيرة. أكملت ما يقارب العشرين كيلومتر ثم قررت العودة للمنزل لادخار طاقتي. كان استحماما مقززا ثقيلا على النفس لكنني بعده مباشرة ذهبت للوحة المفاتيح. كتبت هذه التدوينة وقررت أن أرحل إلى عالم النوم مبكرا هذه الليلة، على وعدٍ بنهارٍ مشمس وأيام جميلة. وتصبحون على خير يا أصدقاء.


الجمعة، 22 فبراير 2019

عادة اسمها الكتابة!



 عشت هذه الحياة ولم أجد يوما ما تعريفا أطمئن له لكلمة [كاتب]. يمكن لأي إنسان انتحال هذه الصفة في هذا الزمان الجديد. المغرد، كاتب. المدون، كاتب. الكاتب، كاتب! وقس على ذلك كاتب المقال الصحفي، وكاتب القصة، وكاتب العمود، وكاتب فقرات الأبراج، بشكلٍ ما أو بآخر أقتنعُ ولا أقتنع بتعريفات الكتابة لأنها تعبر كليا عن كل حقوق الإنسان في العالم مجتمعه، حقه في أن يكتب، مثل حقه في أن يقرأ، ويعرف، ويتعلم، ويفهم.
للكتابة جانبٌ آخرٌ في تفاعلها مع كائنها البشري، أو التاريخيّ كما يحلو لمتحذلق أن يقول، جانبٌ آخر يتعلق بالعادات والسلوك التي يحترف الإنسان الوقوع فيها. زمنيا، يمكن أن نقارن ساعات الكتابة أو التغريدات بعادة التدخين، فالتغريدة مثل السيجارة تُكتب في دقائق وتحقق مفعولها لساعة، ثم تذهب في ركام الشظايا اللغوية المتناثرة، جانب العادة هذا ــ خارج التغريد ونشوته المؤقتة ــ يتجلى في أيام الكائن الكاتب، أو لأقول الكائن الذي يكتب، الذي لا يتوقف عن المراهنة على الكلمات، الذي يواصل هذه العادة، عادة انتظار الكلمات وهي تغطي سماء معنىً ما بكلماتٍ ما، شيء من أشياء الوجدان وحاجة من حاجات النفس. الكتابة تفعل ذلك بك، أظن وأتوههم أنها تفعل أكثر، تغرس مخالبها في منطق وقتك ومع الوقت تصبح الحياة هامشية وجانبية، فكل ما تعيشه تمر به لكي تكتبه، وما تتخيله وقود لكي يُكتب يوما ما، تتعلق الحياة وأيامك بتلك الشعلة، أو الكهرباء، ذلك الومض المختلط بالطنين الذي يلزمك بالجلوس إلى لوحة مفاتيح لتكتب عن أي موضوع مهم، أو عابر، مثل الكتابة عن الكتابة؛ الاستمناء الفكري الذي يمارسه الكتاب بعد أن يستبد بهم التعب والإرهاق وتستعصي طلاقة الكلمات ورشاقتها عليهم.
الكتابة عادة، أريد أن أتوهم ذلك. أريد أن أغرس في وجداني حقيقةً غير مثبتة منطقيا، أن الكتابة لا تتوقف، وأن الكلمات تمطر للأبد. عادةٌ أخرى أمارسها مع الكتابة، وهي تمنيها، البقاء دائما في دائرتها، عدم الخروج منها، الانكفاء عليها، الانهماك فيها، الانطلاق بها، التوغل في غوامضها، والخروج من منها بسلام بعد كل ذلك الغياب داخل الداخل! إن كنت كاتبا، فربما آن الأوان أن تقول لقرائك أنك إنسان لديه عادة الكتابة. ولعل نفسي تميل في نهاية هذا التأرجح أن تطمئن لذلك، أن الكتابة عادة، والكاتب كائن تعود أن يكتب، وبالتالي أظن أن هذه التدوينة وصلت لنهايتها بعدما فهمت سبب كتابتها، أليست الكتابة عالم مدهش فعلا!



الخميس، 21 فبراير 2019

أشياء يفعلها "الآخر"



 للآخرِ نزعات غريبة في التعامل معك. يظنُ أحيانا أنه يتكرم عليك بفهمك، بإسباغِ ما يمكنه من تصورات وشكوك وظنون ليحولها بعد العجن والقليل من الحب والكراهية إلى نتائج دامغة ليس عليك أكثر من اتباعها. يبالغُ الآخر أحيانا في هذا الدور عندما يضع في وجهك العذر البائد الشهير [إنني أهتم لأمرك]، أو الجوكر العاطفي الأقرب للسان: [يحزنني عندما يحدث ذلك لك].
 يتحمس الآخر لنتائجه السريعة. يمضغُ القليل من المشاهدات، ويختار أسرع أدوات الربط سطحية ليخرج لك بنتيجة مطلقةٍ أخرى عنك، وربما بخلاصةٍ وجوديةٍ ماحقة عن ما ينبغي أن يكون وجوده عليك. تتجاهل في لحظاتِ الحرجِ هذه الأشياء التي يفعلها الآخر، ربما يقولها لك بعين زائغة، متيقنة من الحقيقة والنتائج، بشيء من البلاهة الواثقة بلحظة شعورية، بخطوات بحذاء ثقيل ملطخ بالوحل يطأ الآخر الساحات البيضاء في وجدانك، وهناك تصاب بالذعر، وتشعر بالحزن لكنك في خضم وقت القلوب النابض مع دقائق الزمان تختار أن تسالمَه، ولو مؤقتا، ولو لمرةٍ أخيرة. لا يدرك الآخر عادةً أنك تتربص بظنونه كما يتربص هو ويتمسك بخيالاته، يواصل النقر على الأوتار الميتة ويصنع رجع الصدى من تلقاء ذاته، تلتقيان، تفترقان والحسرة هي كل الألحان التي ترمي بحزنها في وقتكم اللاحق بعد اللقاء وقبل الشوق.
نحن في الحياة إما أن نفهم أ ولا نفهم أنفسنا، وبالتالي دربنا الشاق في الحياة لن ينجو من إحدى الصفتين، إما الذي يسبر الرحلة ويبحث عن نفسه ويجربها، أو هذا الذي اطمأن إلى جهله بها وقرر أن يواصل الحياة مقامرا بما سيحدث. إن قسمنا وجداننا إلى نصفين سنجد أننا ننقسم إلى هذين الكائنين عبر مراحلنا الزمنية، بل وربما عبر ساعاتنا التي تقيم بالمزاج والنشوة. الآخرُ آخِرُ صديق ممكن لك بعد أن تتخلى عنه كمرآة تفهم فيها نفسك. يحل الهياج غير المبرر في صداقات هادئة والسبب دائما مثل هذه المفترقات الحادة. عندما تتجاهل الحصى الصغير القادم من الآخر الحانق إلى الجلمود الذي تحمله على كتفيك. تمضي مع أعبائك، ويحترق الآخر في ابتسامات بلهاء لاحقة يفرزها الحبّ والندم ليقول: ليتني لم أعتبر خيالي مرجعا من مراجع الحقيقة!



الأحد، 17 فبراير 2019

ذعر الأشياء المتأخرة



 قمتُ مفزوعاً كأن سيارة مطافئ ستدهسني في سريري إن لم أغادره فورا. بروحٍ شبه مُكَذِّبَةٍ فتحت باب المنزل ومددت يدي للخارج لأصافح الطقس بنهايات أناملي. لم ترتعد يدي، ولم يشق البرد بسكاكينه الملهوفة أصابعي. وقع في قلبي أن الشتاءَ رحلَ.
هيأت نفسي أقلّ مما فعلت بالأمس. تخليت عن طبقة كاملة من البلاستيك المضاد للمطر، وضعت الخوذة الصوفية على رأسي. أحكمت وضعَ كمامة الوجه التي تحمي منطقة جلدية هشّة من الهواء الذي لا يتوقف عن صفع وجهك.
أنهيت رحلةً طويلةً في المنتزه القريب، المليء بكل أنواع المنحنيات التي أرهقت عضلاتي صعودا. لم أشعر بالهزيمة، ولم أعد للمنزل مرهقا، ما زال في هذا الجسد ما يذهب إلى مئات الكيلومترات في موسمٍ طرقاتٍ طويل. إنه ذعرٌ طفيف، نمو عادةٍ انقطعت عنها مؤقتا. هذه المرة، لا هزائم، وإنما شعور طفيف بالانتماء، وبالتصالح مع الهواء البارد الذي تخفيه عن ذقنك بكمامةٍ صديقة. تأخرت هذه العودة، ولم تتوقف الدروب يوما ما.



الاثنين، 11 فبراير 2019

بعد أن تهاجر!



 تبصرُ كل شيء غفلتَ عنه. حياتُك في ترددها المرير، طنين الحوارات مع الأصدقاء. تدرك كم كانت حياتك تعيسة، وتقف أمام هذه الحياة قلقا، لا تعرف تذهب إلى أين. معك الكلمات طوال الوقت ولكن أين هذه الحياة التي تسمح بكلماتٍ بالانهمار بلا توقف! تدركُ بعد الغفلة أيامَك. تتذكر بتمزقٍ وألمٍ أيامَ الحيرة. أيام الجنون، والأرق، والحب، ومساءات مسقط. تتناقض، بين الحب، والشوق، والعزلة الشاحبة.
تقطع الحبال وأنت تلقي بسفينة العمر في محيطاتِها الشاسعة. تدرك مرة أخرى، كم كانت حياةً تعيسة، عندما يصبح الصديق عدوا، وعندما تجد الغدر حيث ظننت أنك ستجد الأمان. عندما ترى في عيون أصدقاء الأمس قترة المخطئ، وتعاسة النادم. عندما يمر عليك الناس، والبشر، والوجود وأنت ترثي تلك النجمات التي لم تضئ في سماك، ترثي رفاق الدرب الذين تخاذلوا واحدة بعد الآخر.
بعد الهجرة، تعرف إنك ستكتب. تعرف ما ستكتبه، تعرف ما تريده. تعرف ما لا تريد أن تكونه. بعد الهجرة، تصبح كل حياتك السابقة رمادا يمكنك أن تجمعه في صرّة صغيرة، في ورقةٍ واحدة مكونة من أسماء الخذلان، ومن ذاتك التي تعلمت الدرس جيدا، وأن الحياة ليست حتميةً بالقدر الذي يتوقعه شاعر، وأن البشر يتغيرون، وأن الأصدقاء يغدرون، وأن الحياة والمصالح الشخصية أقوى من حماقات الصعاليك، وأن الدول أقوى من الأفراد، وأن الناسَ لا مزاج لهم، وأن الحقيقة هي آخر ما يهم أي كائن، باسمٍ أو بلا اسم، لا فرق! كل شيء بعد الهجرة يصبح واضحا، ولا يبقى سوى الذكريات التي تجمّل بانوراما الكتابة، وتصنع يومها السعيد، بعد عدة جمل أو سطور.

المجد للصعاليك أولا وأخيرا.

قصص الحياة الطويلة!



 هل دار بخلدِ كائن أن الحياة دائما أطول من كل قصص الحياة التي لا نهاية لها؟ ما نعرفه من كائن بشريٍّ لا يتجاوز مراحلَ عاشَها هو يوما ما، أكملها ليلقي بثقلِه لاحقا في أيامِ الحكاية، حيث يسرد كل شيء، ومع ذلك تكتنفه الحياة هو وحالته الحكائية ليكتشف أنه لا إنسان يوما ما عاش حياةً أطولَ من قصته فيها.
كذلك حال الكتابة بشكلٍ ما أو بآخر. تتجلى في وجداننا بأعمارٍ لن نعيشها، نسفك ما تيسر من دماء الوقت لنكتب. نظن أن الحياة يمكن احتواءها بالكلمات، مثل الوقت، والعمر. في نهاية الطواف، يكتب الكائن البشري عن حياةٍ ناقصةٍ، وربما مهما حاولَ جهده أن يمنح الحياة كلمات تحيط بها، تراقبه الحياة من غرفة جانبية وهو يذبل وربما تتلطف عليه بمرآة أو عدسة يبصر بها وجوده قبل أن يكتب جزافا كلمة أخرى، ويفكر في هذا الهباء المرير ونهاياته المحتملة!



الأحد، 10 فبراير 2019

رحلة ليلة ممطرة



 يتلقى الشتاء الضربات الأخيرة قبل أن يسقط صريعا في حلبة الطقس البريطاني المتذبذبة. يوصفُ الطقسُ البريطانيُّ [بثنائي القطب]، هكذا يختصر البريطانيون حديثا مطولا عن طقس بلادهم المتناقض وغير الثابت مطلقا. لم أكن أفكر بالشتاء كثيرا هذا النهار. استيقظت وأنا أشعر بالذنب لتأخري في النوم، وضعت في قلبي نية تقديم موعد الاستيقاظ ولكن حتى بالمنبه ذي الجرسِ العالي، احتضنت الساعة التي ترن كأنني أعانق حبيبة عمر ستسافر غداً، وواصلت النوم.
قمت متعكرا، لا أعرف ما أفعله بالضبط. قضيت ساعةً تقريبا وأنا أرثي لحالي في هذه الحياة، أن أعيش بلا هدفٍ وبلا طموحٍ لأي شيء. مرت الساعةُ، ثم قمتُ لقضاء شؤون الغذاء. بروتين، مع فواكه والقليل من العسل، كبسولة زيت كبد الحوت ومجموعة فيتامينات. تناولت جرعة من المغنيسيوم لأهيئ جسدي لحالة التحطيم والبناء الدائمة التي تترافق مع موسم الدراجة القادم. لم يبدأ الموسم بعد لكنني بدأت، ولأنني أعيش ندم فوات الشتاء بلا دراجة صنعت مزيجا من الأغراض التي تكفيني لرحلة مطرية في نهايات الشتاء.
رتبت أغراض الرحلة السريعة في ذهني كأنني مستعد لرحلة خارج حدود الغلاف الجوّي. إطار الدراجة تحت ضغط [40] من الوحدة التي لا أعرف اسمها. تأكدت من المكابح، ومن ناقل الحركة المرتبك في مكانه. بنطال المطر البلاستيكي، مع جاكتة بلاستيكية مضادة للمطر، قفازات حافظة للحرارة، هاتفي، سماعة البلوتوث، خوذة صوفية تلعب دور الكمامة. كالمسروع طفقت أتأمل جدران منزلي بصعوبة، أقاوم النفسَ وحيلها لأخرج من هذه الجدران. كدت أن أعلن استسلامي وأركن للجلوس للمنزل مضروب المزاج ربما لعشر ساعات متتالية لولا أن أدركني من فيوض النفس طائفٌ من العزيمة، لبست قفازاتي، أغلقت باب المنزل ركبت على الدراجة وأنا أشعر بتكوين العالم الحركي وهو يتغير أمام عيني.
تختلف رؤيتك للحياة وأنت على الدراجة. أتحدث بالطبع عن ما بعد الشهرِ الأول من القيادة اليومية، شهر الإصابات وآلام الظهر الطفيفة والمفاجئات التي قد تصيب وتراً، أو عضلةً أو مفصلا لم تكن تعرف بوجوده من قبل لولا الألم الغريب الذي أصبح يسببه. تتحول نظرتك للسرعة، وللوقت وتتفاعل مع رؤيتك للحياة وقتها، تشعر أنك أنت الآلة التي يجب عليك أن تعتني بها، وتصاب قليلا بوهمٍ طفيف أنك تحلق في الهواء وأن رغبتك الحرة هي التي توصلك من النقطة ألف إلى النقطة ياء في نهاية اليوم.
عصفت الريح الباردة في وجهي، لعبت خوذة الصوف بشكل جيدٍ في تدفئة الرقبة. تذكرت إصابةً في موسم السنة الماضية جعلتني أفهم ضرورة تغطية الجسد أمام الهواء البارد. جاكتة داخلية، ثم أخرى خارجية، ثم ثالثة مضادة للريح والمطر. كان الدفء سيد الموقف. قطعت المسافة من منزلي إلى نهاية الشارع الذي أسكن فيه لأجد المرتفع الدائم الذي تحداني. آخر عهدي بهذا المرتفع كان عندما اشتريت دراجتي هذه التي صرت أحبها كثيرا، مرتفع يحتاج إلى ضغطٍ متتالٍ وحتى السيارات التي تمر من عليه تلتزم بعض الحذر، بالنسبة لدراجة هوائية التحدي يأخذ شكلا مختلفا ففي رحلة الصعود عدد صغير من عضلات الساق والفخذين يتعرض للضغط، وضعت ناقل الحركة على الغيار الثقيل وكافحت حتى صعدت الهضبة التي ارتجلتها الطبيعة والتي زيّنها البشر ببعض الإسفلت.
وقفتُ لأتنفس قليلا وأشعر بالحرارة وهي تتدفق في أرجاء جسدي. شتان بين المرة الأولى التي صعدت فيها هذا المرتفع، وهذه المرة. كان وزني وقتها قريبا من المائة وعشرة، وكنت قد قضيت سنوات بلا رياضة لم يكسر تتابعها سوى حالاتٍ مفاجئة من النشاط تجعلني أشترك في نادٍ رياضي أدفع له عادةً ولا أذهب إليه. قارنتُ بين الحالتين وشعرت بالقليل من الطمأنينة. ليس هو الجسد نفسه الذي حملني أكثر من ست مرات إلى مشوار مائة كيلومتر في اليوم. ليس الجسد نفسه الذي سوف يرحل للمدينة المجاورة ويعود في اليوم نفسه قبل غروب الشمس، وعندما تغرب شمس الصيف في العاشرة ليلاً فأنت أمام نهار طويلٍ بمعنى الكلمة.
بقيت في عقلي أقارن بين الموسم الأول، وهذا الذي لم يبدأ. قست كميات الطعام التي أحتاج لها، وكذلك أيام الراحة الإلزامية. كنت أظن أن مائة كيلومتر في اليوم إنجاز مستحيل، على الأقل بالنسبة لي. وفي الموسم الفائت، كنت أقول أنني سأتمرن هذا العام وفي العام القادم سوف أقوم بالرحلة المستحيلة، ومائة كيلومتر ليست سهلة أبدا، تحتاج إلى ست ساعات صافية من التبديل ومن التمركز على كرسي الدراجة، تظهر فيها كل عيوب الأدوات وحتى عيوبك أنت كقائد دراجة. ظننت أنها رحلة بعيدة حتى مر الشهر الثاني من الصيف، ووجدت نفسي أكمل أربع ساعاتٍ على الدراجة، ثم خمس، ثم أصبحت أخرج من المنزل نهارا، وأذهب إلى برمنجهام، وأطوف بها وأعود. هنا كان اكتشافي لسر المائة كيلومتر، السر الذي أصبح الآن [رحلة أخرى] تحتاج إلى تخطيط، وإلى شهرين قبلها من الالتزام شبه اليومي بالدراجة والغذاء.
ليلة الأمس كانت ليلة العودة. ليلة حمض اللاكتيك، مرّت بسلام. اليوم، كانت تجربة العدة المطرية في الشتاء، ومرت بسلام. غداً ينحسر الشتاء، وأخطط لرحلة جديدة، غداً يصبح الطقس جميلا ويصبح المشي ليلا لذةً معيشية نادرة لا يفهم أهميتها إلا الذي أكمل مواسم السنة كلها في بريطانيا لعامٍ واحدٍ على الأقل. بعدها تمضي الحياة هنا وأنت أقل خوفا من الطقس، ولا سيما أننا نحن القادمين من البلاد الحارة نتأقلم بصعوبة بالغة مع الجو البارد، ولا تخلو عملية التأقلم من زكام مفاجئ، أو حالة صحية في قلب الشتاء تجعلك تتساءل عن حكمة مواجهة الحياة برئة مدخن وبسلوك غذائي سيء وبحياة بلا رياضة.
لا أحلم أن أكون رياضيا، ولا أحلم أن أكون محترفا وأن أنافس أي إنسان في لعبة رياضية، مع ذلك أحلم أن أكون درّاجا لا بأس به. حققت ذلك العام الفائت لأجد نفسي في مأزق جديد، مأزق غياب الهدف. ظننت في خضم غياب ثقتي بنفسي أنني سأحتاج عاما لأتمرن على رحلة بسيطة من ست ساعات أقطع فيها المسافة من سمائل إلى مسقط! ظننت أن هذه مستويات عالية تحتاج إلى شهور من التدريب للإنسان العادي، وربما سنة بالنسبة لي! هكذا ظننت في البداية. إن كنت تقرأ هذا الكلام أتمنى أن تستفيد من الدرس الذي مررت به، لا تستخف بقدرات جسدك، ولا تقع في تقدير خاطئ لها، لا تمنحها أعظم مما تستطيع فتنهار، ولا تحرمها من حسن الظن فتضعف روحك المعنوية.
كانت جولة شاحبة حول المدينة. لم يتغير حال الناس بعد، ما يزالون في قنوط وكآبة الشتاء ومع ذلك لا يفوتك أن ترى أشباح ابتسامات المزاج الجيد في وجوه الخارجين رغم المطر والهواء. اليوم الذي لا يؤلمك فيه وجهك من البرد في بريطانيا هو يوم دافئ، اليوم الذي لا تتجمد فيه أصابعك بدون قفاز هو يوم صائف كان ذلك في الشتاء أم في فصلٍ آخر من فصول بريطانيا. شعرت بالقليل من الحماسة تجاه الحياة، حاولت أن أقلل تذكير نفسي أنني أعيش الأيام وراء بعض وليس لدي أي هدف في هذه الحياة، حاولت ولكنني لم أفلح. ما زلت ضائعا في الحياة، وليس لدي مشروعٌ آخر سوى هذه الدراجة.
ستكون مغامرة صعبة ربما. أن تكون دراجة ووظيفة. ربما سأحاول أن أجد أي عذرٍ لاحقا لكي لا أكمل هذه المغامرة، ربما لن أكملها، ربما سأنتقل لوظيفة أخرى تناسبني، كما كانت وظيفتي السابقة الرائعة مناسبة لي، ظننت أنني لن أغيرها، ظننت أنني سأمكث فيها ما استطعت حتى رمتني الصدفة إلى إعلانٍ مخصص محدد يطلب سائقي دراجة في المدينة التي أسكن بها! هنا لم أستطع سوى أن أعاند كل شيء، وأن أنتمي لدراجتي أكثر وأكثر.
لن تكتمل تجربتي مع الدراجة حتى يحدث الشتاء ويمر وأنا لم أتوقف. أقول في قلبي: هذا الشتاء الذي مرّ كان سهلا، ربما كان ينبغي مني أن أتحمس أكثر ثم ما ألبث أن أقول: كل شيء في وقته جميل.
في رحلة العودة مرت في ذاكرتي أيام الصيف الماضي. رحلات القنوات المائية والخضرة على الجانبين، ذكرياتي مع الدرّاجين الذين تعرفت عليهم. المركب الجميل في برمنجهام الذي يصلح الدراجات ويذهب ريعها للعمل الخيري، كل هذه الذكريات التي انطفأت مع زمهرير الشتاء اكتسبت القليل من دفء الأمل، والحماس، والتطلع إلى يومٍ قادمٍ جميل، والشعور العميم بالهدوء، وجمال الهدوء على النفس والروح. غدا يوم جديد، غدا رحلة جديدة، وسأقول: بإذن الله؛ لأنني صرت أؤمن بذلك.

ماريو



الجمعة، 8 فبراير 2019

السؤال المرير!



 الكابوس يتكرر. كلما أقترب من الكتابة تشتعل كل شياطين جهنم في دمي. أسأل نفسي مائة مرة في اليوم، أنت الكائن نفسه الذي يكتب بلا رحمة. مجرد، منساقٌ وراء المعاني التي لا تتوقف عن التقافز أمام سهام اللغة التي تسقطها فتصبح كلمات. الكابوس نفسه يتكرر، هل يجب عليك أن تكتب أم تتوقف؟ أن تكمل هذا الدرب أم تتوقف؟ وكم هو سؤال مرير! يا إلهي متى ينتهي هذا العبث!

الأشياء التي تنمو مجددا في الذاكرة



 أستيقظُ كأن أجراس القيامة قرعت بجانب أذني. يوم آخر في المعركة. معركة الوجود والبقاء. قضيت يومي في فرز كل شيء أحتاج ولا أحتاجُ له. جمعتُ الزوائد المبعثرة، وإبر الخياطة، وبعض الأشياء التي لن أحتاجها ووضعتها في صندوق بعيد رفضت رميه. نهض العام كاملا من غبار الأشياء المتناثرة.
أخرجت دراجتي من المخزن. الإطار لم يذهب كليا، وضعت عليها الزيت الحامي من الصدأ. جُلتُ بها في الطرقات والأرصفة. عدت وأنا أشعر بالقليل من الحياة. جربتُ لأول مرة الخوذة الصوفية التي تعيد صواب الدفء للدماغ. شعرتُ بهزيمة الشتاء القاسية، وكونت فكرة أوضح عن الشتاء القادم، ولا سيما الملابس التي يجب أن تدفئك بما يكفي لتتحرك دون أن تشعر بجحيم الساونا وهو ينبعث من جسدك بعد ربع ساعةٍ من الحركة. مرت ذاكرة  الصيف على دماغي، شعرت بالقليل من التفاؤل وذهبت في جولة حول مدينتي الهادئة.
اختلفت آلام البداية عن هذه، تذكرت الموسم الأول الذي قدت فيه الدراجة في محاولة شرسة لعدم الاستسلام للاكتئاب، نجح ذلك نجاحا رائعا. نسيت في خضم فرحتي بالموسم اللطيف أن أحسب حسابا للموسم الآخر الشرس، الذي يجب أن تحسب لها حساب الكمامة، بل وربما النظارة التي تحمي قرنية عينيك من التجمد. لم يكن موسما ممتدا، ولم يطل زيادة عن اللازم. ورثت حسرة لا داعي لها بعد أن حسبت الأشياء التي كان يمكنها أن تجعل السنة تمتد مع الدراجة. لا أشعر بالكثير من الندم، مع ذلك هناك ما ألوم نفسي عليه، شيء مثل شراء القفاز المناسب لم يكن يجب أن أفوته. مر هذا الشتاء، الشمس تعود بشكل شاحب، الدفء يعبر مع الريح البسيطة. الدماء تتحرك في الجسد، الروح تقاوم تخاذلها، هناك ما ينبلج من كل الهزائم المتتالية، ليس أكثر من نور طفيف، لكنه أجمل ما يمكن أن يحدث في ليل دامس، هذا النور الطفيف الحالم. تنمو الأشياء مجددا في ذاكرتي. عدة الترحل، واحتياجات الحديد، الفارق بين الرحلة التي تأخذ معك إطارين احتياطيين، والرحلة التي تُمضيها بلا احتياطات. الهواء الذي يُشعرك أنك شراع يمضي عكس قدره، المطر المفاجئ، وعدة البلاستيك التي تُشعرك أنك تتزلج على الموج. النور المضاد للمطر ليلا، البطارية الاحتياطية، النور الاحتياطي، عدة التصليح، لصق ثقوب الإطار الصغيرة، عدة الثقوب الكبيرة، وضوء الإنارة الأحمر، ثم الأبيض، ثم الاحتياطي لهما. كلها دفعة واحدة أصبحت أشياء نامية في ذاكرتي، وكأن محفظة وهمية من القلق أصبحت تصوبُ اهتمامها تجاه ما تريد أن تحمله دفعة واحدة. مجموعة متغايرة من احتياجات الذاكرة للقلق، وتفاعل لم يعد يزعجني بعدما كشفت الأشياء حاجتي لها رحلة بعد رحلة.
في الموسم الفائت كنت أكثر ثقة بنفسي. الآن لا أشعر بحاجة للثقة أو للإحباط. أقود الدراجة لأن هذا هو الطبيعي، هذا هو المنطقي خارج الشتاء، وإن فرض هذا الشتاء أحكامه القاسية على خطط البسيطة لا أتمنى أن يتقدم الشتاء القادم لي بمشروعٍ فوضى كما حدث مع أخيه الذي ولد في العام الفائت. لم أعد أحتاج الثقة بالنفس لفعل كل شيء، تلك الدقائق، كانت نافذة أولى للحياة الطبيعية، ويبدو أن هذا الشتاء فعل أشياء كثيرة بدأت أدركها الآن فقط وهو ينحسر بخجلٍ أمام الشمس التي لم تعد شحيحة كما كانت لشهورٍ خلت.
أنهيت رحلتي مع تقليل أغراضي. خلعت بهرجات كثيرة عن دراجاتي الثالث. أترحل بخفة، أضع كتابا صوتيا على أذني وأقرر ألا أستسلم لكابوس العدم الذي لا نهاية له. كانت دقائق ثمينة، وهناك إرادة تنمو بشكل ضئيل، لا أحتاج إلى أي شيء سوى أن أتركها تفعل ما حددته مسبقا وما حملته النفس من نداءات غامضة أصبحت كلها الآن تُختصر في دراجةٍ واحدة.
دراجة! ووظيفة!
لا توجد فكرة رائعة في الكون أكثر من هذه.

وللحديث بقية.

الخميس، 7 فبراير 2019

الأشياء التي يجب فعلها ..



 تحاصر غوامضُ القلقِ كائنها بشتى أنواع الحيل والألاعيب، فلمعةُ برقٍ مفاجئةٍ من حنايا الروح الجحيميّة تُشعلُ ما يكفي من قش الوجدان المناسب وقتئذٍ مع كائن يعيش ليحترق. وهل عاشَ إنسانٌ الحياةَ إلا وانتهى به المطاف رمادا في أيامها الذاوية؟ سؤال الجدوى! هذا جنديٌّ آخر في الجانب الآخر من المعركة بين الكائن ونفسه، وقلقه الشديد دائم الانبعاث من العدم. من المناطق العمياء في الروح، حيث تولد النار ويتدفق دفء الحياة ليوقف زمهرير الوجود وأسئلته. والدفء لم يكن أكثر من مرحلةٍ طفيفة بين سؤالين، يصوب الأول رمحه بين جفني العدم والحياة، ويصوب الثاني سهامَه إلى طيورٍ كثيرةٍ طائرةٍ في الوجدان، يسقط بعضها، فيولد منها سؤال غامض جديد، مثل لماذا نعيش؟ مثل لماذا نكتب؟ ولماذا من بين كل الأشياء في العالم، يتربص القلق بين واحات السؤال وإجابته ومعه مناجله الحادة تمزق عشب الحقيقة قشةً قشةً. القلق، قبطان الأشياء التي يجب فعلها، وقائدها في الظل، حيث تخفي النفس أحلامها وتركن لهذا العدم الشاسع لتستريح قليلا.



ذعر ورقة بيضاء



تمضي في الحياة، تواصل أيامك، لكنك خائف. مما تراك خائف؟ من الكلمات؟ أم هذا التحدي الهائل الذي أصبح على عاتقك أصبح هو هاجسك المؤرق؟ هذا جيد بشكل ما يا ماريو. أن تصاب بالقلق خارج لحظة [اللحظة] الخاطفة والعابرة، أن تفكر بكتابٍ جديد، أن تتأمل الكلمات بمنظورٍ يختلف عن تلك اللحظة الكائنة بين الناس.
لستَ اجتماعيا، ولا يظهر أي أملٍ واضحٍ إنك ستكون اجتماعيا في أي بلادٍ من بلدان الكوكب. تحاول أن تكتب، وتخاف، تمسح، وتغير، وتتراكم المسودات فوق بعضها البعض، آلاف السطور في مئات من الصفحات تخفي وراءها كاتبا نشطا أصبح الآن شاحبا، خاليا من الطاقة، مستنزفا بكل معاني الكلمة، مجهدا من الفصول المريرة التي تعاقبت عليه، سواء كان في أشد حالات توتره واستفزازه، أو في تلك السياط اللاسعة لشهور متتاليةٍ من العزلة، والبعد عن الناس، والإحباط من كل شيء، واليأس من العالم.
تحتقن الكلمات في غدتها السرية، تنزف مزيجها الملون المعطر على الذاكرة، تتوفز آلة اللغة، ويستعد منطق الأفكار لموسمٍ ممطر، تقف مثل الأرنب المبلل، خائفا، متوترا، كأنك تتحرش بالورقة البيضاء لأول مرة في حياتك، تصاب بالهلع، وتخاف، وتفعل كل ما بوسعك ليعود مطر الكلمات إلى أراضيه الخضراء، تقاتل نفسك، تنازلُ هلعك، وترتمي في نهاية يومٍ مرهقٍ في هذا العناق المقدس البهيّ، تَجِدُكَ فتبتسم، وتكتب كأن العمر لا نهاية لأيامه.

برمنجهام