بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 فبراير 2019

الأشياء التي تنمو مجددا في الذاكرة



 أستيقظُ كأن أجراس القيامة قرعت بجانب أذني. يوم آخر في المعركة. معركة الوجود والبقاء. قضيت يومي في فرز كل شيء أحتاج ولا أحتاجُ له. جمعتُ الزوائد المبعثرة، وإبر الخياطة، وبعض الأشياء التي لن أحتاجها ووضعتها في صندوق بعيد رفضت رميه. نهض العام كاملا من غبار الأشياء المتناثرة.
أخرجت دراجتي من المخزن. الإطار لم يذهب كليا، وضعت عليها الزيت الحامي من الصدأ. جُلتُ بها في الطرقات والأرصفة. عدت وأنا أشعر بالقليل من الحياة. جربتُ لأول مرة الخوذة الصوفية التي تعيد صواب الدفء للدماغ. شعرتُ بهزيمة الشتاء القاسية، وكونت فكرة أوضح عن الشتاء القادم، ولا سيما الملابس التي يجب أن تدفئك بما يكفي لتتحرك دون أن تشعر بجحيم الساونا وهو ينبعث من جسدك بعد ربع ساعةٍ من الحركة. مرت ذاكرة  الصيف على دماغي، شعرت بالقليل من التفاؤل وذهبت في جولة حول مدينتي الهادئة.
اختلفت آلام البداية عن هذه، تذكرت الموسم الأول الذي قدت فيه الدراجة في محاولة شرسة لعدم الاستسلام للاكتئاب، نجح ذلك نجاحا رائعا. نسيت في خضم فرحتي بالموسم اللطيف أن أحسب حسابا للموسم الآخر الشرس، الذي يجب أن تحسب لها حساب الكمامة، بل وربما النظارة التي تحمي قرنية عينيك من التجمد. لم يكن موسما ممتدا، ولم يطل زيادة عن اللازم. ورثت حسرة لا داعي لها بعد أن حسبت الأشياء التي كان يمكنها أن تجعل السنة تمتد مع الدراجة. لا أشعر بالكثير من الندم، مع ذلك هناك ما ألوم نفسي عليه، شيء مثل شراء القفاز المناسب لم يكن يجب أن أفوته. مر هذا الشتاء، الشمس تعود بشكل شاحب، الدفء يعبر مع الريح البسيطة. الدماء تتحرك في الجسد، الروح تقاوم تخاذلها، هناك ما ينبلج من كل الهزائم المتتالية، ليس أكثر من نور طفيف، لكنه أجمل ما يمكن أن يحدث في ليل دامس، هذا النور الطفيف الحالم. تنمو الأشياء مجددا في ذاكرتي. عدة الترحل، واحتياجات الحديد، الفارق بين الرحلة التي تأخذ معك إطارين احتياطيين، والرحلة التي تُمضيها بلا احتياطات. الهواء الذي يُشعرك أنك شراع يمضي عكس قدره، المطر المفاجئ، وعدة البلاستيك التي تُشعرك أنك تتزلج على الموج. النور المضاد للمطر ليلا، البطارية الاحتياطية، النور الاحتياطي، عدة التصليح، لصق ثقوب الإطار الصغيرة، عدة الثقوب الكبيرة، وضوء الإنارة الأحمر، ثم الأبيض، ثم الاحتياطي لهما. كلها دفعة واحدة أصبحت أشياء نامية في ذاكرتي، وكأن محفظة وهمية من القلق أصبحت تصوبُ اهتمامها تجاه ما تريد أن تحمله دفعة واحدة. مجموعة متغايرة من احتياجات الذاكرة للقلق، وتفاعل لم يعد يزعجني بعدما كشفت الأشياء حاجتي لها رحلة بعد رحلة.
في الموسم الفائت كنت أكثر ثقة بنفسي. الآن لا أشعر بحاجة للثقة أو للإحباط. أقود الدراجة لأن هذا هو الطبيعي، هذا هو المنطقي خارج الشتاء، وإن فرض هذا الشتاء أحكامه القاسية على خطط البسيطة لا أتمنى أن يتقدم الشتاء القادم لي بمشروعٍ فوضى كما حدث مع أخيه الذي ولد في العام الفائت. لم أعد أحتاج الثقة بالنفس لفعل كل شيء، تلك الدقائق، كانت نافذة أولى للحياة الطبيعية، ويبدو أن هذا الشتاء فعل أشياء كثيرة بدأت أدركها الآن فقط وهو ينحسر بخجلٍ أمام الشمس التي لم تعد شحيحة كما كانت لشهورٍ خلت.
أنهيت رحلتي مع تقليل أغراضي. خلعت بهرجات كثيرة عن دراجاتي الثالث. أترحل بخفة، أضع كتابا صوتيا على أذني وأقرر ألا أستسلم لكابوس العدم الذي لا نهاية له. كانت دقائق ثمينة، وهناك إرادة تنمو بشكل ضئيل، لا أحتاج إلى أي شيء سوى أن أتركها تفعل ما حددته مسبقا وما حملته النفس من نداءات غامضة أصبحت كلها الآن تُختصر في دراجةٍ واحدة.
دراجة! ووظيفة!
لا توجد فكرة رائعة في الكون أكثر من هذه.

وللحديث بقية.