ينتهي الشتاء
ليأخذ الوقت وتيرة أسرع. الثواني التي كانت تتضخم أصبحت تتناثر مع هباء الأشجار
الذي يرعب العين لبعض الوقت بسقوط الثلوج. الوقت بارد، لكنه ليس إلى ذلك الحد الذي
يدفعك إلى تغطية أصابعك بهلع، أو النفخ في قفازيك لعل القليل من دفئ رئتيك ينتقل
إليهما. بقفاز مبلل، وبدراجة تحمل معي عنادي إلى مسافة أبعد.
بعد عملي
الأخير لم أعد أشعر بمرور الأيام. أحمل تصورا عن اليوم المثالي الذي قد يحدث يوما
ما، وأعني بذلك اليوم الذي أتخلص فيه من أعباء وزني الزائد. تغير سلوكي كليا، لم
أعد ذلك الدراج الملهوف وراء المسافات البعيدة، أصبحت فكرة الترحل لمدينة أخرى
مرتبطة بالوقت، وبجدول الرحلة. عندما تكون وظيفتك على دراجة كل ساعة تقضيها عليها
تضاف إلى الوقت الذي قضيته وأنت تفعل الشيء الصواب، تعمل! ولا تفكر بعد عودتك من
عملك بساعةٍ أو ساعتين لا تروي ظمأ ولا تشفي غليلا ولا تشبع نهما.
ذهبت أبعد من
تصوري البائس عن علاقتي مع الدراجات. كنت أحلم أن أتمكن من قضاء عشرين دقيقة
يوميا، لم أكن أحلم أبعد من ذلك. أصبحت أتنقل الآن بها في كل مكان، ومع الوقت
وعندما تمكنت من قضاء ساعتين متتاليتين عليها يوميا صرت أعرف شيئا اسمه النوم الطبيعي،
والاستيقاظ النشط. ارتبطت عادة قيادة الدراجة بي بشكل مرعب، فمن جانبٍ عملي للغاية
هي وسيلة تنقل عملية وسريعة، ومن جانبٍ صحي، الحياة والأكل والنوم والحركة كلها
تختلف والتركيز والنشاط الذهني يصب كله في معينٍ واحدٍ من الاطمئنان، أنك تفعل
الشيء الصواب، تحاول وتقول: ساعتان لا يكفي!
عندما بدأت في
عملي، كنت أتحمل ست ساعات متتالية من الجلوس على كرسي الدراجة. أتحمل المسافة
المترافقة معها حسب الارتفاعات في الطريق. كانت بدايتي متحمسة. سعي مهووس لمعرفة
سقف ما يمكن أن أصل له وصدمة موجعة عندما قمت من النوم مرهقا لأكتشف أنني نمت
عشرين ساعة متتالية!
هناك أخذت نفسا
عميقا وبدأت أحسب ما يمكنني حسابه. أرقام الطعام ليست معقدة، المعقد هو إرضاء المعدة
والذائقة والشهية في وقت واحد. مارست بعض الحيل، وتعلمت أشياء أخرى ولكنني بشكلٍ
عام لم أعد أنظر لهذا كله. أصبحت لدي مشكلة أخرى مختلفة عن تلك التي أعاني منها.
يمر الدراج الذي يعمل في مجال التوصيل على خمسين كيلو متر يوميا من الشوارع، وهي
ليست كتلك التي يهنأ بها المتنقل في خطوط طويلة ممتدة، إنها رحلة مزعجة من التوقف
والضغط وحساب سرعة المشاة والسائقين الذين يقفزون على المنحنيات بدون تأكد. بدأت
من العشرين يوميا إلى الأربعين، وصلت للستين لكنني لا أظن أنه الوقت المناسب لفعل
ذلك يوميا، ربما في نهاية الموسم وربما في بداية الموسم القادم الذي لا أعرف أين
ومتى وماذا سيكون.
اشتقت لساعات
الكتابة اللانهائية، لكنني لا أشعر بالذنب الآن. أقول في نفسي ساخرا، لو لدي
القدرة على ركوب الدراجة لعشر ساعات متتالية لربما كنت كائنا آخر. أوزع جهدي
بصعوبة وبقياس. أحاول ألا أستفز الركبة أو شيئا من تلك الأربطة العنكبوتية المحيطة
بها، أقسم الجهد وأتذكر كيف أقطع الشارع الذي أعرفه والشارع الذي أعرفه. تمر على
ذهني قصائد، وقصص، وأفكار وحكايات ومشاعر ويمر اليوم في حالة تأملٍ دائمة.
أعود للمنزل،
وأطبخ عشائي، أقضي ساعة في حياة اجتماعية، ربما أخرى، ثم أخطط ليوم آخر، ولرحلة
أطول. ليس لدي ما أباهي به الآن. أحاول أن أتجاوز خمس ساعات من الحركة إلى ست،
وعندما أصل إلى ثمانٍ يوميا سأقف ولن أجازف بالتاسعة إلا بعد شهور تمضي، وعلى أية
حال ثمان ساعات متقطعة أو تسع ليست صعبة عندما تحسب حساب التوقف والراحة، الفكرة
هي مرة واحدة، أربعين دقيقة صافية في كل ساعة. هناك تصبح الحسابات في آفاق المدن،
بل وربما الدول، ولكن منذ متى كان التعجل شيئا جيدا. أراكم بعد ألف كيلو متر ..