بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 يناير 2022

صناديق

 

 

لقد ضاقَ

هذا العالمُ

بالكلمات، وبالقصائد، وبالألحان.

ضاق ذرعاً

بنفسه

وبضجيجه المكرور،

وبانطفاءاته المُنتظرة

واشتعالاته المكرورة!

امتلأت صناديق المُعاني

فاضت الكلماتُ، حتى أدركَ الصدى معنى النهر، وحتى أدرك النهر معنى الصدى.

ونحنُ ضقنا بأنفسنا!

تشابهنا في ظل الذعر على الذعر.

واختلفنا في امتلاكنا للغيومِ والحيتان.

وانتبهنا متأخراً

لننتمي لضجرنا،

وسخطنا من المفقود،

وعمانا عن الموجود،

ورغبتنا في المزيد

وعبأنا صناديق الآمال بالمعاني

ولم تخذلنا الكلمات!

ولكن خذلنا الوقت!

ذاك الذي ضاق أيضا

ليقرر إنهاء هذه القصيدة!

 

الأربعاء، 19 يناير 2022

عن الحضور الذهني

 الحضور الذهني والأمراض العقلية: ملاحظات وانطباعات.

  أكمل الآن ما يُقاربُ العشرين عاما منذ أن تم تشخيصي لأوَّل مرة بمرض عقلي جسيم. الصدمةُ التي خرجت من فم الطبيب الذي يقول لي أنك تعاني من الاضطراب الوجداني ثنائي القطب. أصيب ابن بدايات العشرين بالذعر، ورفض التشخيص، ورفض التعامل معه
مرَّت عشر سنواتٍ كاملة، أسرفت فيها على نفسي، وتجاهلتُ حالتي الصحية كل معاني التجاهل. كان الجميع يعلم أنه ثمة خطب بهذا الإنسان، ولكن كعادة كل البشر، يقولون ذلك همسا، بعيدا عن مشروع الجنون الإنساني الذي حولهم. عشر سنوات مرت بشبه سلام حتى بدأت النكسات بالحدوث واحدة تلو الأخرى.
اختلف الأطباء حول تشخيصي، ولم أعد أهتم مطلقا لتشخيصاتهم المتعددة والمتشابهة، هذا يقول الاضطراب ثنائي القطب، ذلك يقول اضطراب الشخصية الحدية،ما صرتُ أتعامل معه هو أنني أعاني من نوبات هوسية تخرج عن السيطرة، ونوبات اكتئاب تستمر عاما في أسوأ الأحوال.وهذا ما أتعامل مع النتيجة لا السبب.
مرت سنواتٌ متتالية من الاضطراب تلو الاضطراب حتى قررت قبل ثلاثة أعوام أن أتمالك نفسي وأن أتخلص من بعد العادات الإدمانية. وفي شخص مثل حالتي، فإن العلاج الدوائي واجبٌ بل وهو ملزم قانونيا. بدأت العناء والتعب نحو الاستقرار ولا يزال مستمرا، إنها ليست رحلة سهلة مطلقا.
تعرفتُ على تمارين الحضور الذهني قبل ثلاث سنوات، وأخذت بجدية قبل عامين فقط. فما هو الحضور الذهني؟ وكيف يمكنك أن تتحول إلى مراقب محايد يرصد ما بعقله، ولا يتدخل في عمليات التفكير لمدة من الزمن، يترك عقله ينطلق في كل مكان، ويتابع بحيادية ما يحدث به.
بالنسبة للأشخاص الذين لا يعانون من أمراض نفسية، أو نوباتٍ أو حالات عقلية جسيمة تجعلهم تحت سيطرة أذهانهم، لا العكس فإن تمارين الحضور الذهني نافعة في معرفة أهدافك في الحياة، واستحضار همومك الأولى، وتبصيرك بذاكرتك، أو بتطلعاتك تجاه نفسك وتجاه غيرك.
أما هؤلاء الذين لا يملكون زمام عقولهم مؤقتا، كالذين في حالات النوبات، أو الذهان، أو اضطراب التركيز الحاد، أو طيوف التوحد الطفيفة، فإن ممارسة الحضور الذهني والتمرن عليه دون إتمام الجانب العلاجي مهمة صعبة للغاية. فمن الأساس هي أذهان جامحة، وجموحها هو سبب المشكلة.
لذلك تنفع الكتابة كعملية لاحقة للنقد الذاتي. لقراءة الأفكار التي كانت تمر عليك، وكانت من الشدة في التفاعل تمنعك من استحضار تمارين الحضور الذهني، هذا ليس مقلقا، إن كنت كتبت، أو وضعت مذكراتٍ في مكان ما، أو كنت غير مبالٍ وظهرت علنا في تلك الحالات، فثمة فائدة لاحقة لذلك التوثيق.
المرتكز الرئيسي للحضور الذهني هو الرصد قبل التصنيف. يجب أن تتعلم قراءة أفكارك، الإنصات لها،وتركها تصول وتجول في رأسك. يجب أن توقف ذلك الذهن الكابح لها، الذي يخاف منها، فأنت تضع نفسك في حالة ذهنية مغايرة، حالة مراقب، راصد، يريد معرفة نهايات الأفكار، وبداياتها، واشتعالها وانطفائها.
يجب أن تتقن عملية الرصد قبل كل شيء. ألا تستعجل الوصول للجذور العميقة لمشاكلة، أن تفكر عن التفكير [بوعي] عن [اللاوعي]، وإن كنت تعاني من مشكلة عقلية جسيمة فمن المهم أن تتمرن على الحضور الذهني وأنت مستقر دوائيا، يحدث أحيانا أن تتذكر تمارينك وأنت في أوج اضطرابك النفسي. وسينفعك ذلك.
بعد إتقانك لعملية رصد الأفكار، ستلاحظ مع الوقت ظهور أنماطٍ بها، ومتواليات فكرية أصبحت واضحة التشابه بالنسبة لك. خزّن ذلك، لا تستعجل الوصول للأحكام، اكتب ملاحظاتك، ووثق اكتشافاتك. بعد أن تتقن عملية الرصد، ستبدأ عملية التحليل، والتجريب، بعد شهور ستكون اكتسبت مهارة ذهنية جديدة.
بعد أن تتأقلم على حياديتك في الرصد، على عدم تدخلك في تشجيع أو كبح الأفكار التي تفكر بها رغما عنك، التي تقفز من بركة اللاوعي إلى يابسة الوعي، وبعد أن تكون قاعدة بيانات عن تشابهها، وبعد أن تربط بين تفكيرك وبين ظروفك. تأكد أن تتمرن وأنت مستقر، وأن تحاول تذكر تمرينك وأنت منفعل.
تلعب تمارين الحضور الذهني دورا وقائيا. إنها مثل كاميرات المراقبة التي توضع في المحلات، قد تمر سنوات طويلة قبل أن يحتاج أحد إليها، ولكن عندما تحين الحاجة لها فإن دورها محوري. كذلك تمارين الحضور الذهني، تشبه هذه الكامرة، التي كلما حسنت دقتها، نفعتك في الشدائد.
ويجب أن تتذكر، إنها مهارة ذهنية، شيء تمارسه ضمن عمليات التفكير بينك وبين نفسك، هذا ليس حلا جذريا لمشكلتك، ولا يغني عن الحلول الدوائية، ولا يلغي الحاجة لها، هذا علاج تكميلي، ومهارة تساعدك على وصف مشكلاتك بدقة، واكتشاف الروابط والأسباب بين ما تشعر به وما تريده وما تعيشه.
بعد عامين من التمرين،ومن الرصد، بدأت أفهم سرَّ نوبات التذكر المؤلمة التي تمر علي. تخبرني الساعة أن ضربات قلبي ارتفعت، وبدأت أفهم متى تنجرف أفكاري إلى الغضب،أو الكراهية، أو مقت الذات، أو العدوانية. لم يوقف الحضور الذهني ذلك، لكنه استطاع تنبيهي إلى بداية خطب جلل. إلى انتكاسة قادمة.
قد تكون أحدهم، الذين يمارسون جلسات الحضور الذهني لساعات مطولة، وقد تكون دون أن تدري محترفا، ومعلما كبيرا في هذه المهارة الذهنية. لا يحتاج الجميع إلى هذه التمارين، فبعضهم يسيطر على عقله جيدا. هؤلاء الذين تفلت عقولهم من سيطرتهم بعض الوقت، بكيفية مقلقة اجتماعيا، يحتاجون لها كثيرا.
وخلاصة عامين من تمارين الحضور الذهني، أنني تعلمت أكثر عن فيوض الأفكار المتدافعة في رأسي، وعن منابت المشاعر الحادة. لم أجد حلولا جذرية، لكنني اقتربت من وضع إطار عام، وهذا الإطار العام هو ما يتجلى في السلوك، هو ما يتحول مع الوقت إلى صوت داخلي يقول لك: أنت غاضب. أنت مكتئب أنت يائس.
وهُنا تكون قد وصلت إلى الفائدة القصوى من هذه المهارة، قد تحتاج إلى تركيز مسبق منك، وتذكير نفسك بها لممارستها وأنت بعيد عن التأثيرات، والناس، في خلوتك وعزلتك. وقد تستطيع فعلها وأنت [سرحان] وأنت بين الناس. نصف ساعة في اليوم تكفي كثيرا لتفعل آلية الرصد، ومنها الباقي سيكون تلقائيا.
أتمنى أن يكون كلامي قد نفع البعض. الحياة مع مرضٍ نفسي ليست سهلة لكنها ليست مستحيلة. واكتساب المهارات الذهنية التي تمكنك من استقراء استقرارك، وانتكاسك وغير ذلك هي واجب عليك تجاه نفسك. الناس وما يفكرون به عن عوالم الجنون سيبقى ضحلا وتافها، والفضول والتكهن هو أساسه.
وإن كانت حالتك تستقر بالأدوية، كمثبتات المزاج، أو مضادات الذهان، فأمثل ما تفعله هو البحث عن تمارين الحضور الذهني، وهي كثيرة وشاسعة جدا، وابدأ من هناك. إنه من الجارح أن تسمع كلام [العقلاء] وتصوراتهم عن الجنون. كالتعليق الفادح الذي يقول لك [أنت بخير ما فيك شيء]. كلها تصورات.
لن يفهم المستقرون عقليا وذهنيا معنى أن يسمع أحدهم أصواتا، أو يرى خيالات، لن يستطيع عقل مستقر في أقصى خيالاته أن يفهم ما معنى نوبة هوس، أنت عشت ما بداخلك، والآخر عاش خارجك فقط. لا تحاول الشرح، لا تحاول التبرير، قليل من يفهم حالتك فلا تتعب نفسك إلا لمن حقا يريد أن يعرف.
الاستقرار العقلي عمل دؤوب. وبعض الأدوات الداخلية المتعلقة بعمليات التفكير التي تحدث لديك [قد] تحملها معك إلى حالة الاضطراب، هذا ليس مؤكدا، ولكن إن تعمق تدريبك الذهني، ووصلت معه إلى خلاصات، ستجد أنك وضعت عامل تهدئة داخلي، عامل حاسم، وقد ينقذك من كثير من الأزمات.
وفي الختام: تمارين الحضور الذهني، مرتبطة بالتأمل. تستخدم من قبل المستقرين وغير المستقرين عقليا. قد تكون تمارسها من الأساس. راقب عقلك كما لو كنت تتأمل غيوما تسري في السماء. حاول عدم إطلاق الأحكام على نفسك، وعلى أفكارك. ارصدها، وامنح للتمارين وقتا، وعسى أن تستفيد من ذلك. انتهى.