اخترتُ أشياء كثيرة في هذه الحياة، أن أكون مدوناً، أن
أدخل عالم الإدمان من أوسع أبوابِه، أن أعيش راهباً، عازفا عن الحياة، أن أتعلم
القليل من كل شيء، أن أقرأ حتى أنسى الحياة حولي، اخترتُ أن أتصعلك، اخترتُ أن
أهاجر، اخترتُ أن أعود، اخترتُ الأصدقاء النرجسيين الذين يروق لهم أن أحقّر وأجلد
ذاتي أمامهم، اخترتُ العداوات، اخترت الشقاء بدلاً من الراحة، اخترتُ أن أكسر كل
علاقاتي السياسية المؤذية، اخترتُ الجنون ثم اخترت العودة الصعبة منه، اخترت
الإيمان بالله كما اخترت الإلحاد، اخترت تغيير ذاتي من مدمن مخدرات بائس يائس إلى
إنسانٍ مختلف، اخترت أن أحب الرياضة، أن أعشق الحركة، اخترتُ أن أسحب معي إلى عالم
الحياة بلا إدمان كثيرين، كتبتُ، صرت ــ كما يسميني البعض ــ مشهوراً، اخترتُ أن
أتعايش مع هذه الحياة، مع كل هؤلاء الذين ينظرون إلى جنوني بفضول أو يفهمون شقائي
بتفهم، اخترت كل شيء تقريبا ما عدا أن أكون ثنائي القطب، هُنا لم أختر أي شيء، لم
أختر نوباتي، لم أختر مواجهاتي العبثية مع السلطان رحمه الله، الإنسان الذي أحترمه
وأحبه كثيرا، لم أختر نوباتي، ولم أختر كل ما يتعلق بها من جنونٍ واضطراب وسعادةٍ
بلا سبب واكتئابٍ حادٍ يفقدني كل شيء، لم أختر هذا وصفقة الحياة تستمر بدوني.
أعترفُ أنني متعب. منهك بأثر رجعي، سنوات طويلة مرَّت
عليَّ وأنا في ساحةِ معركة عبثيةٍ تحدث لكي تحدث، لقد غدر بي من ظننتهم أصدقاء
عشتُ نصف حياتي معهم، أصدقاء يكرهونني ويحسدونني على ما لا أشعر به، ذلك التأثير
الكاريزيمي الذي وصل إلى مجتمع بلادٍ بأسرِها، أن تكون حديث الناس وأن تحلل أفعالك
وأنت مضطرب، تنسب لنفسك ما لم تفعله، تدين نفسك بجرائم لم ترتكبها، تحقّر نفسك
لتتجنب الأذى ممن يحسدك على ما لا صفة له أبرز من [لعنة] لن تفهم وطأة تأثيرها
عليك حتى تصاب بها، لم أختر نوبات اكتئابي، ولم أختر نوبات هوسي، ولم أهتم يوما ما
بأي شيء في الحياة سوى حياةٍ هادئة طبيعية فات الأوان أن أعيشها، لقد انكسرت عميقا
في داخلي، تشظّت ذاتي التي كنت أحاول الحفاظ عليها ووقعت أسيرا لكل أخطائي، لكل
صداقاتي مع مرضى النرجسية الذين يحلمون أن يكون لهم بعض ما تربطني من علاقة مع
الكلمات، أحدهم قالَها بغلٍّ بالغ يوما ما: إن الكلمات طيّعة لدى أصابع معاوية،
قالها أم كتبها لها ذلك التأثير العَميق، هذا الإنسان من الصعب أن تنافسه في
الكلمات!
يا له من أحمق! ألا يعلم أن الكلمات هي درب الخاسرين؟
هؤلاء الذين ضاعت أعمارهم وذهبت زهرة شبابهم غارقين في مهارةٍ عمياء تصطف فيها
الكلمات تلقائيا أمام أعينهم وهم ساهمين بعيدا عن الحياة؟ يا له من أحمق أن يحسدني
على لعنةٍ استولت على حياتي، تلك الحياة التي يعيشها بأريحيةٍ، بعيدا عن الغرباء
وضغوطهم الكبيرة، وبعيدا عن الأصدقاء المزيفين الذين يريدون قطعة من فتات الحياة
الذي لا أعبأ به؟ أنا مكتئب بشدة في هذه اللحظة؟ من الذي يمكنه أن يقنعني أن هذه
الحياة لها طعم، أو لون، أو رائحة؟ من الذي يمكنه أن يعيد لي كل تلك السنوات التي
انفرطت من عقد العمر بلا فائدة ولا معنى؟ يا إلهي كم أنا متعب!
من الذي معي في هذه اللحظة؟ كل هؤلاء الذين يحزنون
لانطفائي، الذين يحبونني حقا! يا لهم من مساكين! إلى أي مدى يحزنون لحزني؟ أعلم أن
حزني عميقٌ للغاية، ولا وسيلة لأفكر بها سوى الكتابة، إعاقة عقلية أخرى تمنعُ
وجداني من الشعور بكل ما في الحياة من مغريات، مضاد الاكتئاب يعمل ببطء شديد،
الحسرة التي تغلف قلبي تعمل بوطأة أشد من هذه الكيمياء الحمقاء التي صرت معتادا
على تأثيرها على دماغي، الطبيب يقول لي: إنها نوبة اكتئاب! أقول في نفسي: إنها
نوبة حياة يا معاوية! نوبة إدراك لا أكثر لإنسان خسر كل شيء حتى أصبح كل ربح لا
يساوي أي شيء أمام هذه الحسرة الكبيرة التي صارت إليها حياتي، ماذا لدي في هذه
الحياة سوى الكلمات؟ لا شيء إلاها، ولا شيء بعدها، ولا شيء قبلها، خسارةٌ في
خسارةٌ والمأساة أن هُناك من يحسدني على مأساتي؟
لقد تعبتُ من كل شيء، من كوني معاوية الرواحي! من يكون
هذا الكائن الغريب؟ أليس شخصا يثير الفضول؟ اللعنة على كل السنوات التي قضيتها
وأنا أسامحُ من يؤذيني، من يسممني، من يحلو له أن يعتبرني تابعا غبيا ممسوخ العقل
وإمعة من الإمعات يخدم مشروعا نرجسيا لكائن لا يعبأ أن يكذب حتى أعمق أعماقه على
نفسه وغيره، من أجل ماذا؟ من أجل شيء من الأشياء التي أتركها على رفوفي المنسية!
لم أرد يوما ما أن أكون شخصا مؤثرا، أو مشهوراً، كانت أحلامي بسيطة للغاية وكلها
تتعلق بمربع صغير أكتب فيه دون أن يطمع في مربعي الشخصي إنسان! كل ما حدث كان عكس
ما تمنيت وامتلأت حياتي بالغرباء الذين أجنَّ لأعيش بطولة التضحية لأجله بأي شيء،
حتى تحول ذلك إلى مرضٍ جديد من أمراضي، مرض السعي للبطولة، مرض الوهم، دون كيشوت
الرواحي الذي ملأ بلادَه قليلة السكان شغبا وصخبا وجنونا، معاوية الرواحي،
بمطولاته الكتابية التي تخرّف أحيانا، وتصيب كبد الحقيقة أحيانا، كنت أهذون في
حالي وحال سبيلي في دارسيت قبل أن تحدث قصة العُمر التي تثقلني بالحزن والحسرة، هل
حقا يمكن للأصدقاء أن يفعلوا كل هذا؟ أي أذى تعرضت له قبل أن أصبح متوحشا؟ أي ألمٍ
عشتُه قبل أن أبدأ برد الكيل، ورد الصاع لمن وزنه! إلى أي مدى يذهب من كان صديقا
في ألاعيبه! ومن أجل ماذا؟ من أجل بعض الأكاذيب الممنهجة التي يريد طرف بعيد أن
أنثرها في ركام الكلمات الذي أنثره في عبث الحياة، عن عبث الحياة؟ وحدث كل شيء؟ لأتفه
سبب ممكن، لأن وضعا كاملا يحرك خلاياه المناعية ضد جسده، لأن حالةً من العدائية
تجاه الكلمات أصبحت جزءا من الهوية التي يجب أن تنصاع لها، أن تخاف حتى وإن كنت
تزيف الخوف، أن تطيع حتى وإن كنت تزيف الطاعة، أن تزعم بكلامك ما لا تؤمن به لأن
الجميع يفعل ذلك! أي عبث هذا! ألا يعلم كهنة الظلام أن الكلمات هي الحياة؟ وأن كل
حياة ممكنة لأي جمعٍ وقومٍ لن تكون بدون كلمات؟ وأننا في الطريق لغدها مهما حاول
تأخير يومه السامي أي كائن بشري تحت أي حجة كانت! ليت قومي يعلمون!
ها هو عبء حياتي يثقل كتفي مرَّة أخرى، أخشى الاعتراف
أنني متعب، وأخشى أن أقر أمام نفسي أن صبري قد مل من الصبر. مكتئب، وأتذكر أيامي
في الهجرة، ذلك الضياع الموغل في الضياع، ألاعيب السياسة القذرة التي كانت تلاحقني
حتى وأنا في بُعدي عن كل شيء، الأصدقاء! لا أصدقاء في هذه الحديقة! الأعداء! لا أعداء
في هذا الكون، الذات هي الصديق والعدو وهي كل تجليات الوجود المرير الذي أعيشه كما
لو كنت أنفذ حكما بالمؤبد في جريمة لم أرتكبها، ياااااه إنني متعب من التعب!
أعيشُ كأنني في مباراةٍ أؤدي دوري فيها لكيلا أخسره فقط.
أمضي مع شروط اللعبة، لا أشعر بما نجحت فيه، أشعر بما خسرته فقط، أدين بالفضل في
حياتي لتلك البؤرة من البصيرة التي جمعتني بالله مرة أخرى، عدا ذلك لا أشعر بشيء
سوى الألم، سوى الحسرة التي تغلف روحي وتؤجج جمرها الحارق في صدري، لقد تعب قلبي
من الحرقة، تعب عقلي من ذاكرتي، تعبت كلماتي من سطورها، وتعبت حروفي من كلماتها،
متى ينتهي كل هذا الألم؟ متى أنعتقُ من حياةٍ لا توصف سوى بالمأساة؟
كنت يوما ما طيبا، وساذجا، عشت أجمل سنوات العمر غافلا
ولكن السكاكين لا تعلمك الغفلة، تعلمك الحذر، وها قد امتلأت محازمي بالسكاكين،
وضاعت سنواتٌ أخرى من الهدر الفادح الجزافي، الغضب، والعدائية، والحزن العميق على
ما كان أملا، وها هو الاكتئاب الآن قد حل كأي ضيف ثقيل على النفس ليطلق أسرار
البصيرة مجددا، ليخبرني إلى أي مدى أسرفت في حق الحياة، وإلى أي مدى يمكن إصلاح أو
إتلاف أي شيء بما في ذلك الإنسان.
آخر عهدي بنفسي كنتُ قد أصبحت رياضيا، أقود دراجتي إلى
آفاق لم أكن أستطيعها وأنا في عمر العشرين المليء بالحيوية والشباب، أعالج مرضي
بالحركة، وأعود محملا بالسعادة والأمل مع كل مرة أكمل فيها مشواراً طويلا، أحقن
جوفي بالسكريات، وأعلم قلبي الخفقان، خطأ ساذجٌ يكلفني الكثير، كسر في الكتف، وقطع
من الحديد أصبحت تثبت كسوري وسقطت أسلحتي أمام إعاقتي الذهنية التي لم أخترها، أكتئب
لأكتئب، لا أستطيع الحركة ولا فعل أي شيء سوى مضغ الوقتي بدماغ تساقطت أسنانه
الطاحنة مع الفراغ، يصيبني هذا الرماد الذهني بالجنون. لقد مللت من الملل، وسئمت
من كوني أنا، أنا أعرف من أكون، وما أكون وأعلمُ أنني صرت إلى الذواء المبكر، من
الذي يحدث له كل هذا الحزن والخسران ويستطيع أن يصيب نفسه بلعنة الأمل مجددا! يا
إلهي! هل أنا الذي يكتب هذا الكلام أم شيطان الاكتئاب مجددا أحال نظرتي للحياة إلى
هذه السوداوية؟ لا أدري! الذي أعرفه أن هذا هو ما أشعر به في هذه اللحظة، وأنني إن
شاء الله أن أعيش خارج كوكب الحزن المرير هذا قد أقرأ هذا الكلام وأقول منبهرا:
إلى أي مدى كنتَ مكتئبا يا ماريو!
معاوية
ديسمبر 2020
في بقعة ما في الخوير