يتلقى الشتاء
الضربات الأخيرة قبل أن يسقط صريعا في حلبة الطقس البريطاني المتذبذبة. يوصفُ
الطقسُ البريطانيُّ [بثنائي القطب]، هكذا يختصر البريطانيون حديثا مطولا عن طقس
بلادهم المتناقض وغير الثابت مطلقا. لم أكن أفكر بالشتاء كثيرا هذا النهار.
استيقظت وأنا أشعر بالذنب لتأخري في النوم، وضعت في قلبي نية تقديم موعد الاستيقاظ
ولكن حتى بالمنبه ذي الجرسِ العالي، احتضنت الساعة التي ترن كأنني أعانق حبيبة عمر
ستسافر غداً، وواصلت النوم.
قمت متعكرا، لا
أعرف ما أفعله بالضبط. قضيت ساعةً تقريبا وأنا أرثي لحالي في هذه الحياة، أن أعيش
بلا هدفٍ وبلا طموحٍ لأي شيء. مرت الساعةُ، ثم قمتُ لقضاء شؤون الغذاء. بروتين، مع
فواكه والقليل من العسل، كبسولة زيت كبد الحوت ومجموعة فيتامينات. تناولت جرعة من
المغنيسيوم لأهيئ جسدي لحالة التحطيم والبناء الدائمة التي تترافق مع موسم الدراجة
القادم. لم يبدأ الموسم بعد لكنني بدأت، ولأنني أعيش ندم فوات الشتاء بلا دراجة
صنعت مزيجا من الأغراض التي تكفيني لرحلة مطرية في نهايات الشتاء.
رتبت أغراض
الرحلة السريعة في ذهني كأنني مستعد لرحلة خارج حدود الغلاف الجوّي. إطار الدراجة
تحت ضغط [40] من الوحدة التي لا أعرف اسمها. تأكدت من المكابح، ومن ناقل الحركة المرتبك
في مكانه. بنطال المطر البلاستيكي، مع جاكتة بلاستيكية مضادة للمطر، قفازات حافظة
للحرارة، هاتفي، سماعة البلوتوث، خوذة صوفية تلعب دور الكمامة. كالمسروع طفقت
أتأمل جدران منزلي بصعوبة، أقاوم النفسَ وحيلها لأخرج من هذه الجدران. كدت أن أعلن
استسلامي وأركن للجلوس للمنزل مضروب المزاج ربما لعشر ساعات متتالية لولا أن
أدركني من فيوض النفس طائفٌ من العزيمة، لبست قفازاتي، أغلقت باب المنزل ركبت على
الدراجة وأنا أشعر بتكوين العالم الحركي وهو يتغير أمام عيني.
تختلف رؤيتك
للحياة وأنت على الدراجة. أتحدث بالطبع عن ما بعد الشهرِ الأول من القيادة اليومية،
شهر الإصابات وآلام الظهر الطفيفة والمفاجئات التي قد تصيب وتراً، أو عضلةً أو
مفصلا لم تكن تعرف بوجوده من قبل لولا الألم الغريب الذي أصبح يسببه. تتحول نظرتك
للسرعة، وللوقت وتتفاعل مع رؤيتك للحياة وقتها، تشعر أنك أنت الآلة التي يجب عليك
أن تعتني بها، وتصاب قليلا بوهمٍ طفيف أنك تحلق في الهواء وأن رغبتك الحرة هي التي
توصلك من النقطة ألف إلى النقطة ياء في نهاية اليوم.
عصفت الريح
الباردة في وجهي، لعبت خوذة الصوف بشكل جيدٍ في تدفئة الرقبة. تذكرت إصابةً في
موسم السنة الماضية جعلتني أفهم ضرورة تغطية الجسد أمام الهواء البارد. جاكتة
داخلية، ثم أخرى خارجية، ثم ثالثة مضادة للريح والمطر. كان الدفء سيد الموقف. قطعت
المسافة من منزلي إلى نهاية الشارع الذي أسكن فيه لأجد المرتفع الدائم الذي
تحداني. آخر عهدي بهذا المرتفع كان عندما اشتريت دراجتي هذه التي صرت أحبها كثيرا،
مرتفع يحتاج إلى ضغطٍ متتالٍ وحتى السيارات التي تمر من عليه تلتزم بعض الحذر،
بالنسبة لدراجة هوائية التحدي يأخذ شكلا مختلفا ففي رحلة الصعود عدد صغير من عضلات
الساق والفخذين يتعرض للضغط، وضعت ناقل الحركة على الغيار الثقيل وكافحت حتى صعدت
الهضبة التي ارتجلتها الطبيعة والتي زيّنها البشر ببعض الإسفلت.
وقفتُ لأتنفس
قليلا وأشعر بالحرارة وهي تتدفق في أرجاء جسدي. شتان بين المرة الأولى التي صعدت
فيها هذا المرتفع، وهذه المرة. كان وزني وقتها قريبا من المائة وعشرة، وكنت قد
قضيت سنوات بلا رياضة لم يكسر تتابعها سوى حالاتٍ مفاجئة من النشاط تجعلني أشترك
في نادٍ رياضي أدفع له عادةً ولا أذهب إليه. قارنتُ بين الحالتين وشعرت بالقليل من
الطمأنينة. ليس هو الجسد نفسه الذي حملني أكثر من ست مرات إلى مشوار مائة كيلومتر
في اليوم. ليس الجسد نفسه الذي سوف يرحل للمدينة المجاورة ويعود في اليوم نفسه قبل
غروب الشمس، وعندما تغرب شمس الصيف في العاشرة ليلاً فأنت أمام نهار طويلٍ بمعنى
الكلمة.
بقيت في عقلي
أقارن بين الموسم الأول، وهذا الذي لم يبدأ. قست كميات الطعام التي أحتاج لها،
وكذلك أيام الراحة الإلزامية. كنت أظن أن مائة كيلومتر في اليوم إنجاز مستحيل، على
الأقل بالنسبة لي. وفي الموسم الفائت، كنت أقول أنني سأتمرن هذا العام وفي العام
القادم سوف أقوم بالرحلة المستحيلة، ومائة كيلومتر ليست سهلة أبدا، تحتاج إلى ست
ساعات صافية من التبديل ومن التمركز على كرسي الدراجة، تظهر فيها كل عيوب الأدوات
وحتى عيوبك أنت كقائد دراجة. ظننت أنها رحلة بعيدة حتى مر الشهر الثاني من الصيف،
ووجدت نفسي أكمل أربع ساعاتٍ على الدراجة، ثم خمس، ثم أصبحت أخرج من المنزل نهارا،
وأذهب إلى برمنجهام، وأطوف بها وأعود. هنا كان اكتشافي لسر المائة كيلومتر، السر
الذي أصبح الآن [رحلة أخرى] تحتاج إلى تخطيط، وإلى شهرين قبلها من الالتزام شبه
اليومي بالدراجة والغذاء.
ليلة الأمس
كانت ليلة العودة. ليلة حمض اللاكتيك، مرّت بسلام. اليوم، كانت تجربة العدة
المطرية في الشتاء، ومرت بسلام. غداً ينحسر الشتاء، وأخطط لرحلة جديدة، غداً يصبح
الطقس جميلا ويصبح المشي ليلا لذةً معيشية نادرة لا يفهم أهميتها إلا الذي أكمل
مواسم السنة كلها في بريطانيا لعامٍ واحدٍ على الأقل. بعدها تمضي الحياة هنا وأنت
أقل خوفا من الطقس، ولا سيما أننا نحن القادمين من البلاد الحارة نتأقلم بصعوبة
بالغة مع الجو البارد، ولا تخلو عملية التأقلم من زكام مفاجئ، أو حالة صحية في قلب
الشتاء تجعلك تتساءل عن حكمة مواجهة الحياة برئة مدخن وبسلوك غذائي سيء وبحياة بلا
رياضة.
لا أحلم أن
أكون رياضيا، ولا أحلم أن أكون محترفا وأن أنافس أي إنسان في لعبة رياضية، مع ذلك
أحلم أن أكون درّاجا لا بأس به. حققت ذلك العام الفائت لأجد نفسي في مأزق جديد،
مأزق غياب الهدف. ظننت في خضم غياب ثقتي بنفسي أنني سأحتاج عاما لأتمرن على رحلة
بسيطة من ست ساعات أقطع فيها المسافة من سمائل إلى مسقط! ظننت أن هذه مستويات
عالية تحتاج إلى شهور من التدريب للإنسان العادي، وربما سنة بالنسبة لي! هكذا ظننت
في البداية. إن كنت تقرأ هذا الكلام أتمنى أن تستفيد من الدرس الذي مررت به، لا
تستخف بقدرات جسدك، ولا تقع في تقدير خاطئ لها، لا تمنحها أعظم مما تستطيع فتنهار،
ولا تحرمها من حسن الظن فتضعف روحك المعنوية.
كانت جولة
شاحبة حول المدينة. لم يتغير حال الناس بعد، ما يزالون في قنوط وكآبة الشتاء ومع
ذلك لا يفوتك أن ترى أشباح ابتسامات المزاج الجيد في وجوه الخارجين رغم المطر
والهواء. اليوم الذي لا يؤلمك فيه وجهك من البرد في بريطانيا هو يوم دافئ، اليوم
الذي لا تتجمد فيه أصابعك بدون قفاز هو يوم صائف كان ذلك في الشتاء أم في فصلٍ آخر
من فصول بريطانيا. شعرت بالقليل من الحماسة تجاه الحياة، حاولت أن أقلل تذكير نفسي
أنني أعيش الأيام وراء بعض وليس لدي أي هدف في هذه الحياة، حاولت ولكنني لم أفلح.
ما زلت ضائعا في الحياة، وليس لدي مشروعٌ آخر سوى هذه الدراجة.
ستكون مغامرة
صعبة ربما. أن تكون دراجة ووظيفة. ربما سأحاول أن أجد أي عذرٍ لاحقا لكي لا أكمل
هذه المغامرة، ربما لن أكملها، ربما سأنتقل لوظيفة أخرى تناسبني، كما كانت وظيفتي
السابقة الرائعة مناسبة لي، ظننت أنني لن أغيرها، ظننت أنني سأمكث فيها ما استطعت
حتى رمتني الصدفة إلى إعلانٍ مخصص محدد يطلب سائقي دراجة في المدينة التي أسكن
بها! هنا لم أستطع سوى أن أعاند كل شيء، وأن أنتمي لدراجتي أكثر وأكثر.
لن تكتمل
تجربتي مع الدراجة حتى يحدث الشتاء ويمر وأنا لم أتوقف. أقول في قلبي: هذا الشتاء
الذي مرّ كان سهلا، ربما كان ينبغي مني أن أتحمس أكثر ثم ما ألبث أن أقول: كل شيء
في وقته جميل.
في رحلة العودة
مرت في ذاكرتي أيام الصيف الماضي. رحلات القنوات المائية والخضرة على الجانبين،
ذكرياتي مع الدرّاجين الذين تعرفت عليهم. المركب الجميل في برمنجهام الذي يصلح
الدراجات ويذهب ريعها للعمل الخيري، كل هذه الذكريات التي انطفأت مع زمهرير الشتاء
اكتسبت القليل من دفء الأمل، والحماس، والتطلع إلى يومٍ قادمٍ جميل، والشعور
العميم بالهدوء، وجمال الهدوء على النفس والروح. غدا يوم جديد، غدا رحلة جديدة،
وسأقول: بإذن الله؛ لأنني صرت أؤمن بذلك.
ماريو