هُنا؛ لأنني هُنا. هل
هذه الفاصلة المنقوطة في مكانِها الصحيح؟ ليس مهما! أليس كذلك؟ ما هو المهم حقَّا
في هذا العصر العجيب! كم بقي من الوقت قبل أن يتولى الذكاء الصناعي الكتابة نيابةً
عن الكتَّاب! هل سنقول لأبنائنا بعد سنواتٍ بعيدة أننا كنا الأمَّة الأكثر حظا،
تلك التي تأخر طوفان الذكاء الصناعي عن تدمير الإبداع فيها فقط لتأخرنا في هذه
العلوم المرعبة؟ أقول ذلك وأنا للتو أنهيت [تصميم/ رسم/ خلق] ثلاث لوحات غريبة!
تخيل! ثلاث لوحات يرسمها إنسان بإدخال مجموعة من الأوامر إلى برنامج حاسوبي؟
قلت للحاسب الآلي ارسم
لي إنسانا يمنح عقله قرداً ليفكر نيابةً عنه. لم يعلم الذكاء الصناعي أنني أسخر
منه! أم تُراه علم وتجاوز عن ذلك بسماحة إلكترونية منقطعة النظائر وقرر أن يرسمني،
أنا الإنسان الذي يسلم عقله لقردٍ كي [يبدعَ] نيابةً عنه! أليس هذا ما أفعله؟ هل
ستمر السنون لكي أجد شاعراً يكتب بالذكاء الصناعي؟ يضع الفكرة، ويختار الوزن
والقافية ويأتي هذا [القرد] الصناعي العبقري كي ينسج قصيدة متكاملة الأركان،
مترامية المعاني، تحلِّق حول [تخوم] المعنى؟ هل هذا هو قرد اللازورد القادم بكل
قوته؟ أتساءل بحيرة وبحسرة، ماذا عسى أن أفعل بنصف عمري الذي قضيته في الكتابة؟
أصبر كل هذه السنين منذ أن كنت طالباً في جامعة السلطان قابوس وأنا أحلم باليوم
الذي أتفرغ فيه للكتابة لأجد قرداً من قردة الذكاء الصناعي يكتب نيابة عني؟
وياللهول! قرد مزود بخاصية الولوج إلى قواعد البيانات! حتى حياتي السابقة سيكون
لهذا القرد علم بها! وسيكتب نيابة عني! هذا الذي أحلم به منذ عشرين سنة سيصبح نصا
برمجيا، والأشد والأدهى سيكون أكثر دقة من ذاكرتي البشرية القابلة للخلط، ومن نفسي
البشرية المؤهلة للكذب والتزييف والإنكار! هل هذا هو عصر الذكاء الصناعي؟ حُلمي
ككاتب يتحول إلى مجلد يُصاغ في ثوانٍ معدودة، مجلد لا يقرؤه أحد! حتى القراءة كما
يبدو ستتحول إلى نص برمجي، لماذا تقرأ كتابا؟ الأسلوب الفردي سوف يفصل لك النصوص
التي تحب قراءتها، بل ويمكنك أن تقول له اكتب لي باللغة العربية الجاهلية، أو بسرد
المستطرف في كل فن مستظرف، أو سيختار أحدهم نصا صوتيا بصوت مورجان فريمان ليقرأ
قصة حياتي، أو على الأقل مختارات منها وهو يقود دراجة طبعها في طابعة المنزل ثلاثة
الأبعاد! كيف سيبدأ اليوم بعد مائة سنة؟ وكيف ستكون الحياة؟ نظرية؟ ثلاثية الأبعاد؟
مصممة مسبقا؟
كانت علوم الهندسة في
عصر سابقٍ حجر الزاوية في تفوق أمَّة على أخرى، لديك مهندس مدني يبني لك الحصون
أنت في سلامٍ وأمان، أضف إلى ذلك كيميائي بارع يصنع لك البارود، ويدهن لك قماش
ذخيرة المنجنيق بالنفط لتدك به خيام القرى الغافلة عن جيوش المحتلين. عصر الحديد
والصلب، والثورة الزراعية وبعدها عصر اللدائن التي صنعت لك مسَّاحات أقلام الرصاص،
إلى عصور الشبكات، والإنترنت، والآن ماذا؟ الذكاء الصناعي؟ قبل عشرين سنة عندما
بدأت في حياة التدوين كنت أظنُّ أن التضحية التي أقوم بها ستكون مما أدفعه من
حياتي الواقعية إلى تلك الافتراضية! لقد انقلبت الموازين، في عام 2003م كان بعض
الكتاب يسخرون من عصر النت، لقد كان من السخف المُبين أن تترك عالم الورقة والقلم
والكتب المنشورة لتكتب في صفحات إلكترونية قابلة للحذف! لقد صدق نقاد الأمس، تلفت
الكتابة وماعَ الأسلوبُ وأصبحنا في عصر الجُمَل المجَّانية ولم تفرز ظاهرة الكتابة
الإلكترونية من الكتاب إلا قليلا!
مرَّت سنوات التجربة،
وجاء زمان المنصات، وتغيرت الحياة. الكاتب النحرير الأعظم المُعظَّم ملك ملوك
اللازورد غادرَ أوراق الجرائد التي ينشر فيها أسبوعيا لكي تتضاءل قيمتها فتصبح
تذكارا من الزمن الكلاسيكي العتيق، لقد أصبح ينشر في الألياف الضوئية نتاجه
اللازوردي! هو نفسه الذي يسخر من ظاهرة النت، أصبح الآن يفهمُ كيف تضاعفت مساحة
تحققه الذاتي لتشمل دولا كثيرة، وليتفاعلَ معه آلاف وآلاف بضغطة زر. قليل ما هم
الذين تعاملوا مع عصر حبر الألياف الضوئية بموقف "طوبى لمن أهدى إلي
عيوبي" الذي دخل متأخرا لهذا العالم الضوئي جاء باحثا عن ما ينقصه، [الضوء]
فما الذي يحوجُ مؤرخا بخبرة أربعين سنة في مجالِه إلى شيء آخر، هؤلاء يدخلون عالم
الألياف الضوئية ليُكتَشفوا من قبل الفئة الناجية من المتعاملين مع هذه الأدوات
المجنونة التي استعمرت أيامنا. لقد انتهى الهراء القديم، عن الحاجة إلى منبر نتكلم
خلاله، عن الظن أن الحقيقة التي نؤمن بها لا تحتاج إلى أكثر من الوصول للأفئدة والعقول،
نعيش في عصر تعدد الحقائق، وانكسار المنطق وسقوط حتمية البديهية، أين ذلك الزمان
الذي كانت فيه البداهة سرطانا يضايق أهل الحق والعقد في عوالم الفكر والثقافة
والنخب! كم نحن بحاجة إلى بداهة الأمس!
جئت إلى هذه الورقة
البيضاء هارباً من ضجيج ذلك العالم المجنون الذي أبلي فيه بلاء حسنا فوق طاقتي.
لست بحاجة لأتذكر أنني كاتب، ولست بحاجة لأقنع نفسي بذلك، عشتُ حياة ضحيتُ بجل ما
فيها لكي أعيش هذه اللحظات متحرراً من أعباء أي شيء آخر. سنوات طويلة من الصعلكة
والنكسات عبرتُها وكل أملي النجاة لأتمكن من كتابة كل ذلك، كنت أظن أنني أريد
كتابة ذلك لأجل قارئ، أو لأجل [الآخر] الذي يتجلى في تعريفات سارتر عن الجحيم، كنت
أظن أنني سأريد الكتابة لأجل أي شيء غير هذا الذي أكتب [بسببه] الآن، أكتب بسببه
أكثر مما أكتب لأجله! كم نتغير في خضم الحياة! وكم نتحول إلى أشخاص آخرين يختلفون
عمَّا كنا عليه ذات يوم، حالمين، مليئين بالآمال، ومشحونين ببراكين الرغبة في تحقيق
الذات!
أحاول الفلاتَ من اللغة
المؤقتة التي آل إليها الحال الكبير لكل غرباء هذا العصر الضوئي العجيب! اللغة
البيضاء الخالية من الموقف والتعقيد، والتي يبدو فيها التفكير إمَّا جريمة اختلافٍ
عن السائد الغالب، أو تحدياً من تحديات الفردانية الجديدة التي تملأ العالم بسموم إنسان
العصر الحديث! إن كان إنسانُ عصر الشبكات، والهواتف المحمولة قد تحول إلى هذا
الجنون المسعور فماذا عساه أن يكون جيل الذكاء الصناعي! تكلم البشر بدهشة عن وجود
كل المعارف بضغطة زر، ما الذي سيأتي في الغد؟ كل المعارف برمشة عين؟ الذكاء
الصناعي سيراقب ضربات قلبك؟ ويعرف متى يجب عليك أن تأكل، وتشرب؟ ويخبرك أنك في
الفترة القادمة مؤهل لتتعلم البيانو، والجيتار، ولغات البرمجة وفي الأيام التي
بعدها عليك أن تخرج أكثر لكي تخفف من هرموناتك التي تأخذ ساعة ذكية قياسها كل
دقيقتين؟ كُل هذا ممكن تقنيا حتى تقرر الرأسمالية أن تجعله للجميع، وقتها في أي
عالم سنعيش؟ الذي في الأربعين الآن سيكون في الستين عندما يجد نفسه غريبا! يا للهول!
الذي الآن في العشرين سيجد نفسه غريبا بعد عشرين سنة! إن لم يتحطم العالم في حرب
نووية شعواء، أتمنى أنني وقتها أكتب، تقاعدت عن الحياة، وتركت هذه الحياة التي
أعيشها الآن! يا إلهي! كيف سأخبر أصدقائي الذين رحلوا عن الحياة عمَّا تحول إليه
الحال! نحن كائنات ضوئية نعيش في كوكب رقمي، كوكب سوف تتغير فيه كل تعريفات
الإبداع إلى واحدة جديدة، لم يعد مهما ما يُسمى في المصطلح القديم [المُبدع] نعيش
في عصر المهم فيه هو [الإبداع] ومضحك كيف تنقلب الرأسمالية على نفسها، الملكية
الفكرية والفردانية المجنونة التي كادت أن تؤطر كل شيء، من الموسيقى، والرسم،
والصورة، والفيديو، إلى هذه التقنية الجديدة التي مع كل يوم تستطيع أن تجعل
الإنسان العادي جدا فنانا تشكيليا، أو ربما مبدعاً أو صناع ألعاب إلكترونية، كل
هذا يلوح في الأفق وكل الذي علينا أن نفعله هو أن ندفع دولارات الاشتراك الشهري
ونسمح لمجانين العصر الحديث مثل الملياردير إيلون ماسك أن يغير خارطة العالم
البشري، الكوكب البشري يتحول إلى طوفان من العلم التراكمي الشرطي، خوارزميات،
وسطور مترامية الأطراف من الحمض النووي البرمجي، إن لم يكن هذا هو الوقت المناسب
للهروب فأي وقت سيكون مناسبا!
أعيش في أزمة سخيفة
للغاية، سجن يمكن كسره بسهولة عكس سجوني السابقة، سجن تلك المنصات التي أصبحتُ
مضطراً لكسب الرزق خلالها، لقد غيّر هذا أشياء كثيرة بي، منها أنني اضطررت للعب
دور النجم الاجتماعي، هذا الدور الذي يكلفني ما لي طاقة به من التصرف ولا طاقة لي
به من الخسارة، مزيد من الخسارة من العمر والوقت أريد مع سبق الإصرار والترصد أن
تذهب إلى لوحة المفاتيح، أعلم أنني هربت وجهزت العدة جيدا، رتبت أوراقي، وصرت
جاهزا للحياة هُنا مع الحفاظ على لقمة العيش هُناك، كان لا بد أن أجد طريقةً ولم
أكن ذكيا بما يكفي لأنتبه لذلك في سنواتٍ سابقة، الآن! أعلم أن هذا هو الذي يجب أن
أفعله. سنلتقي في هذه الورقة البيضاء أكثر وأكثر، لن تكون بكثرة الأيام الخوالي
التي كنت أرمي فيها كل حياتي هُنا، هُنا مكان للذاكرة، وللتأمل، وللتفكير بخط
مقروء، أما باقي الأمكنة فكل ما فيها سيكون امتدادا لهذا المنبع الأصلي، هُنا
امتداد النسب الأول للكلمات والأفكار وهُناك سيأخذ كل شيء مكانه المناسب، يفتت،
ويُعلَّب، ويُجزَّأ ويختصر ويتحول إلى فناجين مركزة لذة للشاربين، أما هؤلاء الذين
يبحثون عن المدى البعيد، فهُنا سنلتقي، كل يوم ربما، سنلتقي بما يكفي لنحكي ما
حدثَ في هذه الحياة، ولعل بعض الأيام الخوالي ستعود إلى سابق عهدها، المليء
بالعزلة، والأغاني. لم أتعب بما يكفي لأدمر كل شيء فوق رأسي، ولم أصب باليأس بما
يكفي لأعتقد أن الكتابة عبث، العبث هو أن تعيش وأنت لا تكتب كل يوم، العبث هو ألا
تعيش لتصنع المزيد من الوقت للكتابة، بعد خمس سنواتٍ من التعب أستطيع أن أقول إن
وقت الكتاب قد حان، وكل ما بقي هو الرجاء بالله، أن يكفي العُمر لسرد سابق العُمر.
أن تكون بعيدا يعني أن تكون قريباً من صفحة بيضاء، أن تكتب لأنَّك تريد أن تكتب،
أن تقول ما لديك لأنك تريد اكتشافه أكثر مما تريد قوله.
لقد حسمت خيارات حياتي
منذ خمس سنوات، وعلمت أن حياتي ستتعلق بلوحة المفاتيح والقليل من البيانو والجيتار،
لم أحسب حسابَ تغير الحال، ولا ما صرت إليه من حضور اجتماعي يدمر أعصابي أحيانا،
في لحظةٍ ما عرفت أنني يجب أن أكون قويا أمام شهوة الحضور، أو شهوة النجومية التي
تطفئ التحدي في الكلمات، شهوة المنصات الحاضرة سريعة الانتشار، لست هُنا لأعلن
موقفا حنبليا، أنا هُنا لأعود إلى العهد الذي أعلم انتمائي له، أما تلك المنصات
فهي كما هي، لن تموت، لن تتوقف حالها حال أي استثمار طويل المدى، كُل ما في الأمر
أن مركز الإمداد لن يكون مشتتا كما كان، من هنا سيبدأ كل شيء، هُنا سأفكر، وسأكتب،
وسأقول ما لدي، أما ما تبقى، فهي مهنة حالها حال غيرها من المهن، هُنا لأنني أعيش،
وهُناك لأنني أعمل، وأظن أن هذه الصفقة مع الحياة هي أفضل ميزان يمكنني أن أعيشه
في هذه الحياة المليئة بالصدمات الموجعة، لا أعلم ما الذي سيفعله الذكاء الصناعي
في الغد، إلى حين سيطرته على حياة الكتابة واللغة سأكتب وكأن كل هذا لن يحدث في غد
قريب.
Muawiya Alrawahi
معاوية الرواحي
فبراير 2023