أشعرُ بالخوف حين أنسى نفسي. عندما أستجيب للقالب الاجتماعي الذي يحبُّ
الصناديق وتأطير الأشياء. يرهقني ذلك الشعورُ المرير، أن أصبحَ فجأةً من العقلاء،
وأنت لست عاقلاً، ليس بالمعنى السطحي الذي يفهمه هؤلاء الذين لا يعلمون دهاليز
أكوانِهم الذهنية. لا أنتمي لكم أيها العقلاء، أنتمي إلى قبيلي من الأذهان
المغايرة. أنتمي إلى هؤلاء الذين تصفونهم بالعباقرة في لحظات دهشتكم بتجليات الأذهان
وفتوحها. وهؤلاء! الذين تصفونهم بالمرضى، والمختلين في ردات فعلِكم تجاه سقطاتنا.
نحن المرضى النفسيون، وغيرها من الألقاب الجاهزة التي تواصلون فيها أنانيتكم،
وسحبَ حياتِنا منَّا، وحتى توجيه علاجِنا ليكون من أجل نمطيِّتكم، وجهلكم، وخوفكم
من المجازفة، ومقاربتكم التي تُرسمُ من أجلِ أنانية عقولكم الجامدة، وخوفكم الهائل
من الوصمة التي تسارعون لوصمنا بها عندما تفلت عقولنا من سيطرتنا، وتخرج من
زمامِها. كم أخشى على نفسي أن أصدَّق أنني، فأنا مجنون في سياقٍ ما، حالمٌ،
رومانسيٌّ ممغنطٌ يهيمُ وراء نداءاته الغامضة، وحبِّه الغامر للخير، وسعيه الدائم
لكي يكون خيَّرا. وفي سياقٍ آخر، أنا مريضٌ نفسي، وكتلة من العقد الجاهزة
للانفلات، والانتقام. أغالبها بكل أدوات الوعي، وأصارعها بكل ما تيسر من علوم
النفس، ومن طبابة الدواء. وماذا عساي أريد من العقلاء؟ الخديعة؟ أن ألبس قناعَهم؟
أن أصالحَهم؟ هذا ليس أنا، هذا ما لن أكونَه، وكم هو صعبٌ أن تشرح لعاقلٍ عالمَ
الجنون، وكم هو عويصٌ أن تقول لإنسانٍ: أنا مريض نفسياً! عقلي يخذلني، أستطيع أن
أفكر كالعاقل، ولدي ذلك الكامن في نفسي، الذي يضع الزيت على الكوابح، ويأتي بالعجب
العجاب، ويشطح خارج الواقع. آهٍ كم أخشى على نفسي عندما أنسى حقيقتها. حقيقتي
وقبيلي الذين أنتمي لهم، وهؤلاء الذين أنسى قضيتهم لأجد نفسي [مؤثرا] اجتماعياً،
يشار له بالبنان الأحادي، في إطارِه، كمثقف من العقلاء، لا تنس نفسك يا معاوية،
أنت لا تنتمي لهؤلاء، وقضاياهم ليست أكثر من غبار متطاير يختفي وراءه النداء
الواضح، ألست طالبا في علم النفس؟ ألم تختر خيارات حياتِك؟ لا تنس الذين تنتمي
لهم، ولا قضاياهم، ولا حقوقهم، وإن تيسرت لديك من أدوات الوعي القليل، فهم أولى
بجهدك وتعبك، لا تنس رسالتك التي اخترتها يا صديقي الذي بدأت أحترمه بعض الشيء.
ما جدوى أن تسرد للعقلاء كل ما
يعرفونه من قبل، ما يخافون قولَه؟ سيبهرهم سردك المتين، وسيغالون في المديح
المجاني، لفتوح بصيرتك، ولا يعلمون كم هو عاديٌّ في عالم المجانين. ذلك الكون
الفسيحُ في عقولِهم، واختلاط الخيال بالواقع، والمنطق بالهذيان، والجنون بالحكمة.
يبدو لهم مدهشا. قضيتهم ليست قضيتي، قضيتي هي [نحنُ] هؤلاء الذين يعيشون في كوكب
العقلاء، وفق شروطِهم، وقانونهم الذين يحمينا في شؤون كثيرة، ومجتمعهم الذي يدمرنا
شرَّ تدمير، وينزعُ منَّا أبسطَ حقوق الحياة، أنا نصفُ عاقل، أنا مجنون من مجانين
عُمان، وهؤلاء هم الذين أنتمي لهم.
للعقلاء قدرة على نفعِ الذين يعانون من الأمراض النفسية، ومن المجانين من
هم أنصاف عقلاء، ومن العقلاء من هم أنصاف مجانين، ومن المجانين من لديهم عقلٌ
متكامل الأركان، منطقي وقادر على التحليل السببي، وبناء قيم الحياة الساعية
للفضيلة، والنازعة للحفاظ عليها. من العقلاء أيضا من لديهم جنون متكامل الأركان،
قد يستولي عليهم كليا، وقد يستولي عليهم جزئيا، وهؤلاء أكثر العقلاء نفعا للمرضى.
قبل أن أشرعَ في كتابة فكرتي يجبُ أن أشرحَ بعض الشيء، لزملائنا في كوكب الأرض، من
العقلاء الذين جزؤهم المجنون لا يتجاوز عُشرَ ذهنهم العاقل، هُم وخيالهم السجينُ في
مصالحهم السريعة، والبعيدة، وطموحهم الشاطحُ في السيطرة، والسلطة، والقوَّة،
والبحث المهووس عن فرديَّتهم، وعقدهم الاجتماعي، وحقوقهم الكثيرة، واستحقاقهم
العالي، وركضهم للمكانة، هذه التي لا تعني للمجانين شيئا.
كمجانين ومرضى، يجب أن نقبل صفقة الحياة الصعبة وأن نعترف أننا نحتاج
للعقلاء أحيانا، وأنَّ منَّا من عليه أن يقف نصفه العاقل من أجل العدالةِ في هذه
الدنيا، عدالة المُعاملة، وحماية حقنا في أن تكون لنا أحلام نسعى لتحقيقها، وحقوق
لا نتنازل عنها. يجبُ أن أشرح لك يا عزيزي العاقل، أننا نعرف مشاكلنا، ونسعى
لحلِّها، فإن كان الجنون هويتنا الذهنية، فالمرض جزءٌ من أيامِنا، نتعب أحيانا،
ونفقد السيطرة، وننفصل عن الواقع، ولذلك نحتاج إلى العقلاء، ولكن ليس لك أنت، بما
يرهق كاهلك وكاهلنا وأحلامنا بالأحكام والمخاوف، نحتاج إلى العقلاء الذين يفهمون،
والأطباء الذين يعالجون، والمتخصصين الذين يحللون المشاكل والعقد والصدمات
والسلوك، ويزرعون بذرة الوعي التي تعمل على مدار السنين لتصنع في النهاية عقلا
مستقرا، وحياةً هادئة، ومحيطات دفاع متعددة تعين الذي ابتلاه الله بالمرض في عقله،
وتحتوي ذهنَه الذي يخرجُ عن سيطرته، ليعيش في عالم العقلاء الجارح، والحاد. نحن
بحاجةٍ للعقلاء، لديهم نفعٌ كبيرٌ جدا، وفي عُمان أن تعاني من مرضٍ نفسي فأنت على
وعدٍ مع مرض آخر، وربما سجنٍ من السجون الاجتماعية، وستعيشُ غير مفهوم لنهاية
المدى إلا إن رحمَك الله وجعلك عوناً لبني جلدة ذهنك، ورزقك فهماً يجعلك نافعا،
يمكنك أن تنشغلَ عن قضايا رفاقك بعالم العقلاء، فتصنع تلك المكانة البراقة، وتمدُّ
من فيوض ذهنك أنانية العقلاء، ويمكنك أن تكون نافعا، وهذا ما أذكرُ نفسي به، لستُ
من العقلاء، وما أفكرُ به هو ما يمكن فعله من أجلهم.
هل تعرف معنى أن تخافَ الحديث مع أحدٍ، وأنت في غمرة خيالاتك، وربما تفكيرك
في الانتحار! هل تعرف معنى أن يفتك بك عقلك وينهشك من الداخل وكل الذين حولَك
هلعون منما ينزف من جروح ذهنك الذي أصيب بالحمى، وصار يهذي، فلا هو في الواقع، ولا
هو في الخيال، يحبُّ ما ليس موجودا، ويكره ما هو موجود. أنت لن تعرف شعوري، ولن
تفهمَه، حتى تصاب بالصدمة! الذي تسميه أمُّه [كبير الشيمة] يفقدُ أعصابَه أحيانا،
ويشتمها شتما، لأنها جلبته للعالم، يشتم أباه، ويشتم أخاه، ويشتم عائلته، ويشتم كل
شيء، ثم ينهار باكيا! من أنت أيها العاقل الحقود لتغفرَ هذه الزلِّة! العاقل
المضرُّ لكل إنسانٍ أقصى نصيب له مما يقوله هو [الكلام] ستعتنق ما تشاء من أحكامٍ
وستعجل لحظةَ المرض نصبَ عينيك، ستعاملُ نصف المجنون كعاقل عندما تحبُّ وتشاء،
وستعامل نصف العاقل كمجنون عندما تحبُّ وتشاء. مثاليتكم أهم من الحقيقة، وسعيك
لسحق الضعفاء بكل [نيتشويَّةٍ] جاهزٌ
للانقضاض، وتنتظر لحظة الهشاشة المثالية لكي تسحقَ هذا الذي توقف عقله عن حمياته،
فتفعل ما تشاء.
بعض الحالات المرضية ليست كما يتخيل العاقل. لا تتحول إلى أفعالٍ، تبقى في
حيز الكلام وغرابة الأطوار، تختنق بالريبة، وتشطحُ في الثقة بالناس، وأنت أيها
العاقل هو ذلك الكابوس الذي يمكن أن يحوَّل حياةَ مريض إلى تعاسة. كيف أشرحُ لك،
أن الجنون هبة من الرحمن، والمرض ابتلاءٌ. فالمجنون يمرض، ثم يعودُ إلى حالته
الإبداعية وذهنه الخلَّاق وقدرته على الخيال، تلك التي لا تملكها أنت، وإن امتلكت
ذرَّة منها فلديه الأكوان اللانهائية منها. نحن نحتاج إلى العقلاء، وأقصى حاجةٍ
لنا هي أحيانا أن تسمعَ، أن تكون مؤتمنا على ما تسمعه، وأن تُدرَّب قليلا لتعرفَ
أن حديث النفوس يمكنه أن يخرجَ في محيطٍ آمنٍ، وقد يساعده على تجاوز نكسته
المؤقتة، أو يهديه خيطا من خيوط العودة إلى سيطرته على ذهنه، ذلك الذين تسمونه
أنتم [العقل]. لهذا نحتاج لكم أيها العقلاء، ولا نحتاج إليكم أجمعين، نحتاج إلى
بعضكم الذي يفهم، ذلك الذي يعرفُ كيفَ يتعامل مع تلك اللحظات، ذلك الذي لا
يستغلها، وذلك الذي لا يطلق الأحكام عليها. ونأتي الآن إلى كلام النصف العاقل
منِّي، وليبدأ المنطق في التفاعل مع نفسِه!
عندما كنت في بريطانيا في ذلك الزمهرير من البردِ والتعب والشوق والحرقة،
مررت بتجربةٍ شاقَّةٍ تتعلقُ بحالتي المرضية، وذلك التشخيص الضائع بين الأطباء
النفسيين، فضلا عن وضعي الاجتماعي والقانوني الذي جعلَ حالتي منحصرة في المسؤولية
الجنائية، أما استقراري وصحتي وسلامة حياتي فلم تكن مهمَّة. عشتُ صدمةً هائلةً
عندما ذهبت إلى بعض الأطباء، كانَ مصرَّا على أنني أعيش تهيؤات وخيالات ومبالغات
مرضية. ما رآه هو مريض يتوهَّم أنَّه كاتب! بل ومهاجرٌ لأنَّه تعرض للسجنِ، وفوق
ذلك لديه خيالاتٌ عن استهدافِه من قبل دولةٍ أخرى، هذا غير عن دولته التي يدعي
أنَّه تعرض فيها للسجنِ، والتهميش، وبدأت الأنذال يحومون حول نزع أهليته منه وسحب
رخصته العقلية، لم يصدقني الطبيب وأصرَّ على أنني أتوهم كل ذلك، وبقيت في حالةٍ من
الصراعِ وأنا أبحث عن الأدوية التي تساعدني على الاستقرار، ولم أجدها. أسقط في
يدي! أقول للطبيب أنني مؤلف لثمانية. يطلب مني نسخةً منها. أرد عليه: ليست لدي
نسخة ورقية! لكن لدي نسخة إلكترونية.
يهز رأسه باستخفاف وضيق: كنت أعلم أنَّك ستقول ذلك، هل تريد أن تجمع لي
ملفات [PDF] ثمَّ تقنعني أن هذه الكتب التي ألفتها؟ أنت
مؤلِّف معروف في بلادِك، وتزعم أنَّ كنت مؤثرا في مجتمعك، وكاتب يشار له بالبنان! لا
أرى كل ذلك!
بإنجليزية مهشمة أشرحُ له: أنا في بلادٍ قليلة
السكان، هذا ليس صعب المنال.
ينظرُ بضيق إلى ذلك المستهدفُ، المضطربُ الذي
يصرُّ على أنَّه اعتقل في سجون مخابراتيَّة في دولة أخرى، ويتأفف عندما أقول له:
السبب تغريدات، وكتابات!
يشرحُ لي بغيظ شديد، أنت تعمل في محكمةٍ، موظفٌ بسيط،
كيف تقول لي كلاماً والسجلُّ والأوراق التي قدمتها لي تقول أنَّك موظف في محكمة.
شؤون البلاط السلطاني الذي كنت أعمل فيه يُكتب بالإنجليزية [Royal Court Affairs] هذا الذي [يكذب] عليه ويحكي له القصص، بما فيها من أجهزة
مخابرات، وسجونٍ، ويزعم أنَّه يعمل في [بلاط الملك] فكلمة سُلطان ليست حاضرة في
ذهنِه، سجلي يقول شؤون البلاط السلطاني، والترجمة تقول [شؤون المحكمة الملكية] ولم
يعد الحديث ممكناً، كان درس الله لي صعبا، وشعرت أنَّ الله عاقبني على كل تلك
الأدوية التي كانت تصرف لي من مستشفيات عُمان ولا أستخدمها، برنامج علاجي يكلف [300]
ريال عُماني تقريبا. شعرت في قلبي أنَّه عقوبة جديدة من رب العباد على كفري ببعض
النعم التي لم أحسب حساباً لقيمتها. يصل الحوار إلى طريق مسدود، فأحاول متوسلا أن
أشرح له: لدي الأدلة، لدي أفراد من عائلتي، لدي أصدقاء يمكنهم أن يقنعوك أنك ترتكب
خطأ.
وكأنني رششت عليه كوبا من الماء قال بحدة: نعم،
ستجلب لي من هبَّ ودبَّ ليقول لي أنَّك هذا الخيال الذي تسرده عليَّ، إنني أقوم
بهذا العمل منذ سنوات طويلة، ولا أظنُّ أنك تريد مساعدة نفسك. يصعِّر خدَّه، ويصبح
الحديث محتدَّا.
ينزعج ذلك البريطانيُّ أكثر وأكثر، يسأل بحدة:
حسنا أيها الكاتب الكبير الذي تنفق الدول وقتا لسجنه لأنَّه كتب شيئا ما، الذي
يعملُ في بلاطِ الملك، تقول أنَّ لديك كتاباً نفذ من الأسواق، أين ذهبت نقوده
لماذا أنت في عوزٍ وفاقة؟ أين ذهب ذلك المال؟
أردُّ بكل صدقٍ: أنا من كتَّاب العالم العربي!
الكتاب لا يكسبون من كتبهم! عدد ضئيل جدا منهم يصل إلى الكسبِ من الكتابة! لم أكسب
مالاً من كتابي!
كنت أشير إلى كتابي [جمجمة مهترئة] والذي عشت دهشة
نفاد نسخه من معرض الكتاب. أمَّا هو فقد قال بتأفف الكون: أقوم بهذا العمل منذ
سنين طويلة، أنت تصر على أن تلقمني هذه الأوهام.
يقرر مقاربةً دوائية مبنية على أنني متوهم لكل
ذلك، وأخرج بخفَّي حنين. محاولةٌ أخرى للوصول إلى أدويتي فشلت، وهُناك بدأت خطتي
الأخرى للعودة إلى العقل المستقر، كنت في وضعٍ لا يتعلق بالخناق الاجتماعي، لم يكن
مهما أن أكتب في الإنترنت، أو أسجل الفيديو، كل هذا اسمه [حرية تعبير] لا أكثر، هذا
الذي مارستُه حتى أدركت أن حرية التعبير فحسب ليست هي التي تغير كل شيء، وإنما هي
بداية الطريق لا أكثر، وجزء من الرحلة الحضارية لأي دولة. كانت تجربة فكرية ولست
بصدد الكتابة عنها الآن، خرجت بخلاصةٍ تقول لي: العقل المستقر أهمُّ للحرية من فكرة
كسر المسكوت عنه. ماذا يحدث بعد أن تكسر المسكوت عنه؟ لا يحدث أي شيء، تكتشف أن الجميع
يعلمُ الذي قلتَه، وأن دهشة القالبِ الجنوني، أو الأدبي، أو الغرائبي هي التي تشغل
العقلاء الذين يتغذون على جنونك. كانت هذه التجربةُ المرَّة التي جعلتني أتمسك
بعقلي وبهدوئه، وأؤمن بأن استقراره خيرٌ لي، وللحياة، ولكل شيء وأوَّل ذلك عائلتي.
ماذا كان أمامي وقتَها؟ العودة لعمان لم تكن في متناول اليد، والضغط على أقصاه،
والهجوم والكراهية الذي أرسله وأتلقاه صنع دائرةً تعيسة من فقدان الاتصال بأي شيء
اسمه أحلام وآمال. بعد صراعٍ مع الإدمان على مخدر [الماريجوانا] ومعه استهلاكٌ غير
صحي للكحول، اتخذت دراجةً هوائية لتكون الطبيب الذي يصدقني، وبدأت رحلتي مع العودة
لعقلي. لن أكتب عن الإدمان والخروج منه، أو أثر الرياضةِ على حياتي في هذا السرد،
سأكتب عن فكرةٍ أخرى، عن أولئك [الأصدقاء] الذين صادقتهم في برنامجٍ لم أحسب
حساباً لتأثيره الكبير على حياتي. [خدمة خط الانتحار] ولاحقا خدمة [أستمع لك]
والتي كانت برنامجا خيرياً، غيَّر المعادلة، وصنع لي [الأصدقاء/ الغرباء] الذين
أكملوا نقصا كبيرا كنت أعيشه في تلك الظروف الصعبة. [أصدقاء الهاتف لأنصاف المرضى
نفسيا].
عندما نتكلمُ عن مراتب الحقوق للبشر، لا أهتمُّ
عادة لحقوق العقلاء، لديهم ما يكفي من القوانين، والأنظمة واللوائح التي تنظم شؤون
حياتهم. أنا من المجانين، ولا أقصد كلمة الجنون التي تنظر لها أنت بنرجسيتك وظنك
أنك [عاقل] أقصد تلك الكلمة الإبداعية للناس الذين حباهم الله قدراتٍ رائعة، وفي
الوقت نفسه ابتلاهم بأمراض صعبة.
وهذا الذي يكتب أحدهم، وأحمد الله أنني منهم، له
في صحوِه صولات وجولات في الفكر والأدب والشعر والكتابة، وله في نكساته وسقطاته
صولات وجولات في قلة الأدب والسفالة واللغة الساقطة فضلا عن مآزق من الشخصنة، وأمراض
النفس وربما حتى الحسد، والغيظ، والغل، وعقد النقص، غير العامل الوظيفي المتعلق
بدماغِه المضطرب إما بثناية القطب، وشخصيته المضطربة، واختلاف الأطباء في علاجه
فضلا عن أشياء أخرى متعلقة بإدمانه للمخدرات في فترة ما، خلطة من الصعب أن أشرحها
لك وأنت إنسان مذعور للغاية. ولكن هل أنا أقع ضمن الناس الذين تُظلم حقوقهم
بشدَّة؟ تخيل الإجابة، كلَّا، مع كل هذه الظروف الصعبة أنا من هؤلاء الذين أنعم
الله عليهم بأن مرضهم جسيم وتم تشخيصه، لا أعاني في صمت، ومكنني الله من أدوات من
القلم والبيان يسمح لي أن أحمي نفسي، ورحمني الله رحمة جليلة، وكتب لي العودة لعمان،
بعفو كريم من جلالة السلطان، ومن مريض نفسيا، إلى [شاعر/ مجنون] وأفضل كلمة [شاعر]
ولكنني أستخدم كلمة [مجنون] عن قصد ودراية، لأصدمك أنت عزيزي العاقل الذي ربما من
أشد حالات رعبك أن توصف بهذه الصفة.
في أيام بريطانيا، بعد أن عشت بدون علاجٍ دوائي
لبعض الوقت. نهشني عقلي نهشاً، أخطئ علنا، أندم، ثم أهاجم نفسي، وهي دائرة لا
نهاية لها. بدأت بالتوازي مع حلمي بالخروج من عالم الإدمان عالم رياضة الدراجة،
وحكاية التعافي والاستقرار هذه ستكتب بتفصيل في مكان آخر، فهذا ليس موضوعي في هذه
اللحظة، الموضوع يتعلق بذلك الجانب من الدعم من [الغرباء]. ولكن أي غرباء؟
سيكون كلامي صادما لك، وأرجو منك أن تتحملَه.
أتحدث بكل التخشبِ الموضوعي الذي أتعلمه في جنبات تخصصي الجامعي في علم النفس،
وأسأل الله أن أتخرج من هذا التخصص لأفعل شيئا لبني جلدتي، كل مريض نفسي، بالطبع
لن أذهب لعالم العلاج النفسي، ولكنني سأفعل شيئا ما يتعلق بهذه القضية إعلاميا.
وهذا ما أريد طرحه اليوم. تلك الفترة التي انتقلت فيها من مريض نفسي كامل الأركان،
إلى نصف مريض، ثم إلى إنسان مستقر. وأخيرا بعد الاستقرار أعود إلى كوني شاعرا
أتمتَّع بالهبات التي منحني إياها رب العباد، وأكتب بهذه الغزارة.
في لحظاتي المُرَّة، هناك جانب قبيح أعيشه أنا
فقط. ذلك العذاب الشديد الذي يعزلني عن الناس، ويعزلني حتى عن أقرب البشر لي. وإن
ابتلاك الله بأناسٍ سفلةٍ يستغلون مرضَك، بل وربما يبتزونك بما يبدر منك في حالاتك
المرضية فلا عجب أن يعاني الناس في صمت.
ضمن انهياراتي، بقيت لدي رغبة ملحةٌ في الكلام، وماذا
عساه أن يكون كلام إنسان لديه دماغ مضطرب، بعض هلاوسي ذهبت إلى البث المباشر في
اليوتيوب وغيره، وبعضها هاجمت فيه أبي، وأمّي. الرغبة في الكلام للمريض النفسي
شديدة، والحاجة لها مهمة جدا، ومن ضمن مآزقي في هذه الحياة ذلك الجلد المروَّع
للذات، والذي أعوِّض فيه شعوري بالندم. ثمَّ حالات الكراهية المفرطة. وهذه تصل إلى
البعيد، البعيد جداً.
تسميني أمِّي كبير الشيمة، فأنا من أحبِّ أبنائها
لها. وكانت صدمتي كبيرة عندما اتصلت بها ذات يوم لأعترف لها بشيء. ضمن آلام الوجود
التي كنت أعيشها، ورغبتي لسنوات في الانتحار كنت في لحظاتٍ ما سوداء جدا، ومظلمة،
أصرخ لاعنا كل شيء، وتخيِّل من ضمن ذلك تلك الأمُّ التي أحبها بجنون، والتي تحبني
بجنون. هذه الأم التي صبرت كثيرا، هل تتخيل أن هذا الذي يحدثك الآن وصل به الحال إلى
[لعنها!] ليس بالشكل الذي تتوقعه، ولكنه في حالة إنسان منهارٍ يلعن أمَّه وأباه،
لماذا جلباه لهذا العالم. هل تتخيل خطورة مثل هذا الكلام إن كنت تقوله للشخص
الخطأ؟ هناك مرضى عقليا، ولكن هُناك مرضى في نفوسهم وطبائعهم القادرة على استغلال
أي إنسان في لحظة هشاشة أو ضعف، أو يغرق في تقصيرِ وجهل وتسلطِ الذين لم يتعاملوا
مع مرضه بعدالة وإنصاف. أعيش لحظة انهيار أخرى، أتصل بها، تقول لي أنك اتصلت وقلت لي نفس الكلام عدة مرات، وأنني أفهم يا ولدي الذي تمر به. حسرة أنني لست بخير تفوق بمراحل أنني كنت ألعن يوما ما الأم التي جلبتني للحياة، ألعن الحياة، وكل ما جاء بي إليها. هذا ملمح صغير، من عالم المرض، ومن ما به من مآزق يجب أن يُحمى البشرُ منها، المصاب بها، والقريب منه.
هذه من أعظم مآزق الذين يعانون من أمراضٍ نفسية،
وقوعهم أحيانا مع الأشخاص الخطأ، الذين يستغلونهم. وفي حالة ثنائية القطب، الذي لا
يخلو من اضطراب في الشخصية، وضلالات، وخيالات، تتحول الحياة إلى مأساة بمعنى
الكلمة. هذه كانت معركتي، والحمد لله الآن أقترب من السنوات الخمس في حالة
الاستقرار، وأكتب عن هذه التجربة بانفصال تام عن خوفي من عودتها. الحاجة للكلام
فطرةٌ لأي إنسان مريض وغير مريض، والذي يئن تحت وطأة آلام عقله الذي يلتهبُ ألما،
وخيالا، وذاكرة، وقهريةً، ووسواسا، يحتاج إلى الكلام، يحتاج جدا إلى الكلام ولكن
مع من؟
حاجة المريض النفسي للكلام مهمة جدا، ولكن مع من؟
هذا هو السؤال. الإجابة سهلة، هم [الأصدقاء الغرباء]. كان تأثير تعرفي على هذا
العالم في بريطانيا جذريا في تغيير لحظاتٍ كثيرة من حياتي. بدلا من الذهاب إلى
اليوتيوب والهبوط على العالم بكل ما لدي من أمراض وخيالات، وما لا يخلو من
الانحطاط الأخلاقي المخجل، تعرفت على هذه الخدمات التطوّعية. فكرتها بسيطة جدا [خط
الانتحار] كلمتهم لبعض الوقت ومن ثمَّ دلوني على خط لمؤسسة تطوعية شعاره [تحدث
معي، أنا أسمعك]. وهي جمعية منظمة قانونيا ملزمة بحفظ سرية الأحاديث. هذه الخدمة
كانت حلا سحريا لي في فترة ما في حياتي في بريطانيا، كنت أتصل بالساعات الطوال،
وكل ما كنت أفعله في المكان الخطأ، مع الشخص الخطأ، أو في اليوتيوب صرت أفعله
هُناك، وفعلا عشت فترة من الاستقرار كان ظاهرها الهدوء وباطنها الاتصال الذي يصل
لدرجة الصراخ، حد أن جارتي ذات يوم اشتكت علي في [الكاونسل/البلدية] وجاءتني رسالة
رسمية تحذرني من رفع صوتي في الليل. خدمة أربعة وعشرين ساعة.
هذا الذي نحتاج إليه في عمان. ومثل هذه الفكرة،
تطبيقها ليس صعبا، يحتاج إلى حماسة واعتناقٍ من قبل البعض. البعض يؤدي هذا الدور
في مراكز الإرشاد النفسي، وهذا مكلف، أحيانا لا تحتاج للعلاج بقدر ما تحتاج
للفضفضة في مكانٍ آمن، ليس مع إنسان سوف يبتزك لاحقا ويقول [كنت تشتم أمَّك] أو
تصف نفسك بأوصاف مقذعة، كلَّا، مع إنسانٍ متخصص سيعاقب عقاب عسيرا أن قلَّ أدبَه
وهتك سرَّك المرضي بأي شكل ما تصريحا أو تلميحا، أو ربما في نصِّ أدبي ناقص
الأخلاق قد يدفعك أيضا إلى الرد بلا أخلاق، فنحن لا نتكلم عن مريض عاديِّ،
هذا إنسان مريض في عقله وفكرة [تنزيه]
عملية العلاج لتكون هي الحل الجذري هذا مجرد وهم، هناك احتمال دائم للنكسات،
والمهم هو صناعة منظومة متكاملة تحمي الفرد، وتحمي من حوله من نكساته النفسية.
هذه الخدمة ليست خطَّا ساخنا، إنها منظومة برعاية
حكومية هدفها الأوَّل حماية هؤلاء الذين يريدون الحديث لا أكثر. من الذي يتطوع؟ وهذه
معضلة كبيرة، فإن جلبتَ هؤلاء الذين بلا خبرة في الحياة، وبلا قدرة على كتم
الأسرار، والذين يثرثرون فقد صنعت كارثة كبيرة. المتخصصون في علم النفس أولا،
والأمر الآخر أن تكون هذه الخدمة [مجهولة] بمعنى، يوضح للمتصل ألا يعرف بهويته،
وأن يحكي فقط. إننا نعتمد كثيرا على وزارة الصحة في كل شيء، وكأن المجتمع مكتوف
الأيدي عن مساعدة المرضى نفسيا. وبالمناسبة، المريض نفسيا هذا محظوظ أكثر من [نصف
المريض] الذي يعاني في صمت، هذا الذي في طريقه للمرض، وفي طريقه للانهيار العقلي
يحتاج إلى هذه الخدمة أكثر، ليست لدي طريقة لتنظيم هذه الفكرة، ولا لتحديد من الذي
يتطوع، لكنني أنقل تجربتي لك أيها القارئ لتساعدني على تحويل هذه الفكرة لواقع
عملي، لخط يمكن لأي إنسان أن يتصل به [ويفضفض]، هذه مسؤولية كبيرة ولا يجب أن توضع
تحت يد أي إنسان، من هب ودب أو ذلك الذي سيتدخل في الحدي مع غريب، أحيانا يحتاج
الإنسان ليتصل ويكذب، فقط يكذب إلى أن يشبع، بدلا من أن يمارس ذلك على من حوله،
يكذب لأنه يتخيل، أو يكذب لأنَّه يتأمل. خطر هذه الخدمة كما تتبعت، مدمني الجنس،
والذين يحكون عن مغامراتهم الجنسية، وهذه نزعة مرضية أخرى، ومشاكل هذه الفكرة
كثيرة جدا جدا، لكن نفعها للذي يحتاج لها كبير جدا جدا، يجب أن أضع هذا على
الطاولة بوضوح، هذه الفكرة ليست سهلة التطبيق، لكنها ليست مستحيلة، وأتمنى أن
يعتنقها أحد، الجميع يفكر في الخط الساخن للانتحار [وهنا مسؤولية وزارة الصحة]
وهناك مناطق أخرى يمكن للمجتمع ومنظومة التطويع أن تساهم فيها، ربما البدء بساعات
تطوعية من قبل الأطباء النفسيين، والأخصائيين النفسيين، مع تحديد قائمة ولائحة
واضحة لفكرة هذه المؤسسة التطوعية، ومن الضروري أن تشمل دوراتٍ تخصصية بل وربما
توعية أمنيَّة للحفاظ على سرية هؤلاء الذين سيفضلون الحديث هاتفيا مع شخص لا
يعرفهم، ولا يعرفونه، بدلا من عيشهم للحالات المرضية مع الأشخاص الخطأ وبالتالي
تتراكم الوصمات الاجتماعية عليهم بسبب نوبة مرضية، أو بسبب حالة ضغط وتوتر شديد،
أو أحيانا تراكم الشعور بالوحدة والحاجة للشكوى. خدمة تطوعية مثل [أنا أسمعك] ستحل
كثيرا من المشاكل، وستريح الكثير من الذين يعانون في صمت، وأرجو أن تتحقق هذه
الفكرة في عمان.
هذا الذي يريده المرضي نفسيا من العقلاء. الحديث
أحيانا، وليس العلاج، وليس بالضرورة التشخيص. يحتاج إلى أن يتكلم، ومن واجبنا
كمجتمع أن نصنع له هذه الفسحة لنحميه من كل إنسان قذرٍ يتربص بلحظاتهم الضعيفة
والهشَّة. هناك من بيده فعل كل ما أقوله، لا أعرف من، ولا أعرف كيف أصل له.
ماريو