لكي تكتب ما هو حقيقي، يجب أن تكون مستعدا لخسارة أصدقائك، ومصالحك، وعلاقاتك الاجتماعية. ولكن! قبل أن نتكلم عن هذه المظلومة دائما [الحقيقة] دعني أوضح بعض الأشياء. أن تكون ساخطاً، يطلق الأحكام، يتعرض للغرباء باسم مستعار، أو إنسانا سيء الطباع، مشحونا بالغيظ، والغل، لا يعجبك العجب ولا الصيام في رجب، أنت هنا حالة من حالات الحقائق، وهي حقيقة رأيك.
الحقيقة، تلك المثبتة، التي لا يختلف عليها مجنونان. تحتاج إلى خسارات فادحةٍ كيف تتمكن من قولها دون أن تثير حفيظة أحد. انظر مثلاً للواقع الإعلامي، هل من مؤسسة إعلامية استطاعت النجاة بموضوعيتها؟ لا بد من شركة ما تسكت عنها، وفي حالة الإعلام السياسي لا بدَّ من نظام ما تمالئه، وسياسة تحريرية تملأ موضوعيتها بالتناقض، وأقصى النصيب الذي تحصل عليه هو بعض الحقائق، ولا بأس أن [تحلو اللعبة] فتختصم الدول، وتتجلى الحقائق المتضادة بما يسمحُ للعقلاء هذه المرة بالوصول إلى أقرب الأحكام للمنطق.
ولهذا يميل البعض إلى الاحتفال الكرنفالي المفعم بالنشوة بجملة [لا توجد حرية مطلقة] يقولها وكأنه في فرحة عقد القران على محبوبة حياتِه، ونعم لا توجد حرية مطلقة، ولكن أيضا، لا يمكن القبول بالقيد المطلق، عدم إطلاق الحرية لا يعني [حرية القيد] ولأفسر كلامي بلغة أبسط. غياب الحرية المطلقة، لا يعني إمعانك في الافتتان بالأغلال، والقيود.
أن تكتب ما هو حقيقي، يعني أن تكون جاهزا للخسارة، وقادرا على الدفاع عن مساحة حقوقك. لأن قول الحقيقة يملأ حياتك بالأعداء، والخصوم، فهو لا يستفز من تتناولهم هذه الحقائق، وإنما يستفز أيضا قطيع الواهمين الذين يفضلون إغلاق عيونهم، [الدوغما] كما يحلو للبعض أن يسميهم.
حرية التعبير المطلقة هي الخسارة المطلقة لكل مصالحك، وقد يشمل ذلك خسارة حياتك في بعض الحالات. وهنا يأتي حساب العقل والمنطق لكي تعرف ما هي الحقائق التي تستحقُ تضحياتك.
عندما تبذل السنوات والعمر في خساراتٍ متتالية من أجل أن تقول أشياء يعرفها الجميع، هذا ليس فعل [نشر حقائق] هذا مجرد [فعل نشر] وإعادة تذكير، لا يقل أهميةً عن قول الحقيقة، أو [قول الحق] ولأن الحياة لا تسير كما نتمنى وكما نرغب تبدأ الخيارات في هذه الحياة بمحاصرة هذا المنطق المتسامي. تريد أن تقول كلمة حق؟ الخسارات قادمة في الطريق، فالعموم الكبير لا يحبُّ الحقائق، والناطق بالحقائق مزعج بالفطرة، ولديه قيم لا يتنازل عنها، ومن أبسطها: أن يقول الحقيقة! الناطقون بالحق يعيشون رضا داخليا قد يعوضهم عن خساراتٍ فادحة في هذه الحياة، لكنهم لا يعيشون الحياة الاجتماعية النمطية التي يستحقونها. وهذا ما يجعلُ [قول الحق] موضوع مرحلة، في بعض الدول نهايتها الموت، وفي بعض الثقافات نهايتها السجن، وفي بعض الأنظمة القانونية هي من الأساس لعبة سيطرة على الجموع، الحقيقة غير مهمة، ما يقوله الحزب هو الحقيقة!
سيبقى هذا العالم دائما وأبدا مستعمرة للأوهام، وللأكاذيب، وللباحثين عن الإجابات السريعة، وأيضا سيبقى في هذا العالم هؤلاء الذين يحاولون، ويعلنون عجزهم عن حسم المعركة، وأيضا يرفضون إعلان الهزيمة، ويتمسكون بجوهر وجودهم: حقوقهم، ومن أهمها حقهم في التعبير. ولأن الحياة بها واقع يقع على الرأس، تفقد من حريتك قدرَ ما تقبله من تصالحٍ مع الواقع، الأمر له علاقة بالممكن فعله أكثر من الممكن قوله، وهذه من طبائع العقل لا الجنون، إدراك واقع الحال، والتعامل بالممكن.
لكي تعبر عن ما تؤمن به، وما تراه حقيقةً، عليك أن تضع سلالم أولويات لخساراتك، حياتك سوف تمتلئ بالكراهية، وسوف يتوجه الغل عليك شئت أم أبيت، ومع الوقت قد تنهار تحت وطأة كل ذلك، أو قد تتأقلم في نهاية المطاف وتتعلم عدم الاكتراث، قد ينتهي بك الحال إلى أن تكون إنسانا سيء الطباع، غاضبا، لا أحد يطيق الحديث معك، وقد ينتهي بك الحال إلى أن تكون مجاملا، بلا حماسة لتجادل أحدا، قد تصبح قطبا من أقطاب الحقائق في الإعلام، وفي وسائط النشر، وقد تصبح أداةً، أو كلبا مربوطا، ينبحُ عندما يُطلب منه، ويعض عندما يؤمر بذلك. كل الاحتمالات واردة عندما تقرر الخروج عن السائد من الصمت، والمقبول من السقوف الوضعية لحق الإنسان في الكلام.
الحرية المطلقة، هي تلك الكلمات الأخيرة التي تقولها وأنت على وشك الموت، وإن كنت مستعدا للموت من أجل حقك في الكلام، فكلماتك الأخيرة هي النصيب الوحيد لك من الحرية، لأنَّه بعد الموت، لا توجد عواقب سوف تفكر بها، والمثير للأسى، أن كل ما كتبته يوما ما سيصبح له ألف معنى فقط بعد أن ترحل عنه، سمةٌ مأساوية في الكتابة يعرفها جيدا كل من يخوض بحر الخسارات هذا، وينفردُ بذهنه بعيدا عن الغرباء ليلاحق المعنى باندفاعٍ قد يخلط فيه بين النور والنار.
معاوية الرواحي