بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 22 يوليو 2023

ببجي، وقلة الأدب!

جالس أتأمل هذا النقاش اللي يدور حول موضوع ببجي، وأتسأءَل، أين جوهر الجدال؟ هناك المستوى المباشر السريع: ومفاده أنَّ المتدينين أعداء الحياة، وأنَّ ببجي والغرب تنشر قلة الأدب، وتؤثر على الأخلاق. وهذا مغلوط من نواحٍ عديدة، لأنَّ الجدال لا يدور في هذا الموضوع، ولا نستطيع تسميته بالجدال بل هو حرب دعائية لا أكثر، لذلك لا فائدة من خوض مرافعات الطرفين عن بعضهم البعض، لأنها قادمة من حزازة إلغاء، وكدر، وتشويش في عدسة النظر، وبالتالي سنخرج من الموضوع بدون فائدة معرفية، أو نقدية. ثمَّ نأتي لنقطة أخرى، هل في لعبة ببجي ما يكفي لتحريمِها؟ في الحقيقة هُناك، لأن فتح [الصناديق/البكجات] وغيرها تعتبر من القمار، وفيها ربح عشوائي، ودفع مقابل احتمال، بل وحتى شيء آخر، هناك نص في القانون العماني يمنع الألعاب التي يتغلب فيها الحظ على المهارة، يعني [نظريا] هناك أسباب منطقية تؤصل لهذا القرار الفقهي، وطبعا كأفراد، سنرد بكل سهولة: هذا لا يعني أن كل من يلعب يقامر، ونعم، أذكرك عزيزي القارئ أنا أكتب تحليلا، لا أرجح رأيا، وحتى رأيي الشخصي لم أذكره بعد لأنني سأكتبه في نهاية هذه التدوينة. إن وقف الإنسان على تعلم ما هو مفيد، والحديث في هذا السياق مع طلبة العلم جزء من الضغط النفسي الذي تمارسه أية مؤسسة تعليمية، وهو من طبائع ثقافتنا الشرقية، بتدين، أو بدون تديَّن. فكرة أنَّ الترفيه عدو للعلم، واستخدام الشعور بالذنب لتأنيب الطالب الذي [يلعب لعبة إلكترونية] هو جزء من الأسئلة التربوية المطروحة. لماذا هذا الضغط الشديد على طلاب العلم، واعتبار السلوك الجانبي الترفيهي ضارا ومضرا. نقطة أخرى: يوصف الذي لعب ببجي في الفيديو بأنَّه [قليل أدب] لأنَّه لا يرد. وهنا السؤال، فاللعبة عبارة عن معارك جماعية، وفي حال ترك اللعبة لاعبٌ فهو يمارس على الجانب الآخر تخليا عن أصحابِه، ويتركهم لمصيرهم الافتراضي، ولا جدال أن الأخلاق الواقعية أهم بكثير من تلك الأدبيات الشائعة في اللعبة، ولكن يبقى هناك سبب يجعل اللاعب منهمكاً في اللعبة، ولا سيما إن كانت اللعبة من الأساس وسيلة تواصل بين الأصدقاء أو أفراد العائلة. السؤال ليس في موضوع الأدبيات، مع العائلة، أو مع المجتمع الداخلي في اللعبة، السؤال هو: لماذا نفترض أنَّ واجب التأهب فرضٌ على الطفل؟ هذا افتراض شائع قد يغيب عن النقاش، لأن سؤالا مقابلا له يقول: ما دام الطفل يلعب في وقت راحته؟ لماذا لا يُترك له المجال ليهنأ بوقت راحتِه بدون مقاطعات؟ وهنا أقول رأيي الشخصي: أظنُّ أن الجدال هُنا مجددا يحدث في مكان آخر، ربما كعادة تويتر وضواحيه. كفكرة تربوية، إلقاء اللوم على التلفاز، واليوتيوب، والألعاب لأنَّ ذلك أسهل لا يختلف عن لوم العالم لأنه لا يناسب عينيك. المعضلة في ما يقدمه النظام التعليمي في المدارس، والنظام التعليمي في المنازل، فإن كانت هذه الأنظمة لا تعمل بكفاءة، تبقى خياراتك محدودة. هناك أشياء أكبر في هذه الجزئية من فكرة انزعاجك أن [مطوعا] لديه رأي في لعبة، أو أنَّ كلامه كله خطأ بالضرورة. وهي النظرية التربوية من الأساس التي تجعل الطفل قلقاً، متأهباً، ينتظر المناداة في أي لحظة وعليه أن يترك كل الذي في يديه ليستجيب للمنادي في ضرورة أو في غير ضرورة. هذه النقطة الجوهرية، والتي ببجي مجرد هامش من هوامشها. إن ترسيخ مبدأ أن الفرد له [وقته الخاص] والذي يجب احترامه تنعكس على المدى البعيد جداً، وتؤثر في سلامته النفسية، وترفع عنه أعباء من القلق، أو التعلق ومشاكل أخرى. ليس خطأ أن تحترم أنَّه في وقته الخاص الترفيهي يفعل ما يشاء، وأن تحترم ذلك، سواء ببجي أو غير ببجي، أن يمنع دماغ الفرد فرصة للتركيز في شيء يحبه، دون مقاطعات هذا حق من الحقوق، وكون إنسانا لا يعي أنَّه ينزع ذلك مبكراً، ويذهب إلى تعليم الانقياد، والتبعية، والطاعة العمياء المبنية على القلق والتأنيب، هذه نقطة تستحق النقاش، أكثر من ببجي، أو كون أن متدينا له وجهة نظر عن لعبة أيضا لا تخلو من الملاحظات. المنطلق الذي جاء منه هذا الرأي يحتاج إلى جدال أكبر.


خلنا نحلل موضوع لاعب الببجي قليل الأدب ونشوف منبع هذه الافتراضات.
لأنه ما فقط ببجي تشمل [قلة الأدب هذي] هناك شيء آخر.
يلعب ببجي، بالضرورة يحتاج لتركيز. ولأنها لعبة جماعية، التركيز يستدعي [التطنيش]، لذلك اللاعب يحتاج جو، وتركيز، وبسبب ذلك يتجاهل النداء، وتجاهله للنداء هذا ما يجعله قليل أدب.

السؤال الآن:

الافتراض الضمني، إنه الأدب يعني الاستجابة القلقة، والمتوترة، وأن ترمي كل الذي في يديك إن نوديت. أليس من المنطقي أن نقول أنَّ الذي ينادي عليه أيضا أن يراعي أدب تربويا؟ بدلا من أن يكون مصدرا للذعر، والقلق، والتوتر، ويسبب الضيق للجميع لأنه لحوح يريد من الجميع أن يقدر عجلته، وإلحاحه؟

بهذا المنطق، الذي يلعب ببجي، وغير ببجي، بل حتى الذي يلعب شطرنج هو قليل أدب، لأن وصمة قلة الأدب ليست قادمة بسبب ببجي في حد ذاتِها، وإنما لأنه [يتجرأ] أن يركز في شيء ويرفض دوره النمطي المتأهب وكأنه حارس ليلي ينتظر النداء من ضابط الصف. أعتقد أن جوهر المشكلة يلف ويدور حول اعترافنا وعدم اعترافنا بهذا السلوك.

هناك أشخاص في هذه الحياة قلقون، يسببون التوتر لكل من حولهم. تخيل مدربا لك في صالة الرياضة بهذه الطريقة، يصرخ، ويريد كل الناس أن تنتبه له من فورهم. التصالح مع هذا السلوك المنفر هو الذي يقود الناس للقطيعة، والخصومة، وقد يغرس مع الوقت سلوكا تجنبياً طويل المدى.

إذا كان عدم الرد لشأن عاجل [قلة أدب] فهذه تستوي فيها الببجي، والشطرنج، بل وحتى لو كان الطفل يشاهد التلفاز، بل أيضا تستوي فيها حتى المذاكرة، وحل الواجبات. هذا الاستحقاق المبالغ فيه هو المشكلة.

من الخطأ الكبير أن نفترض أن النزق، والإلحاح، والسلوك المسبب لتوتر الجميع هو حق من الحقوق. في المقابل هنالك حقوق منطقية لكل إنسان، ولا أتخيل أن شخصا مليئا بالاستحقاق سوف يحقق نتيجة حسنة لمجرد أنَّه يرفض كل شيء يجعل الجميع متأهبين لخدمته، ولمناداته، ويطلب تركيزهم بهذه الطريقة المتطلبة.

لو قال مثلا قليل أدب لأنه يؤخر الصلاة، أو قليل أدب لأنَّه يتأخر عن واجباته في المنزل، أو قليل أدب لأنه يُنادى لاتفاق سابق، أو لطلعة عائلية، وكان هناك تفصيل يوضح شخصية [الجيمر] المتنصل عن واجباته الاجتماعية، فهذا يشمل ببجي وغير ببجي، وستمر الكلمة مرور الكرام، ارتباط وصف [قلة الأدب] باستحقاق مليء بالتطلب، وغامض التسبيب أظن هو السبب الذي جعل من الموضوع صراع تعميم وإطلاق.

نفترض أن القائل وضعها في هذا السياق؟ هل كانت ستقود لردة الفعل نفسها؟ ستجد الذي يدافع تلقائيا يقول: ولكنه خصص الأسباب التي تجعل مني يلعب ببجي قليل أدب. ربما كانت هذه هي المعضلة الاستفزازية في المقولة، والتي فتحت باب الردود على مصراعيه.

شيء آخر، القائل مطوع، هذا يعني لدى كثيرين حدوث ردة فعل دفاعية، فمن المعلوم أن المطوع يكتسب استحقاقا من النصوص الدينية لكي يأمر بما يراه الدين ويراه هو معروفا، وينهى عن ما يراه الدين وما يراه هو منكرا. هذه الدفاعية مرتبطة بنزعة الحريات الشخصية، وحق كل فرد في حماية اختياراته في الحياة من بطش أو سوء تقدير فردٍ آخر، وهذا متوقع. لذلك جاءت الردود خارج موضوع [الجيمنج] والببجي وغيرها ..

هناك أشياء أخرى في السياق، ولكنني منتبه إلى هذه الجزئية، الاستحقاق هذا، من هذا الذي يطيق إنسانا ضيق الفؤاد، سريع الغضب، إذا ناداك ولم ترد وصمك بكل الصفات السيئة؟ هذا النوع من الناس متعب، والمثير للاستغراب، أن الشخص اللحوح في النداء مع الوقت يتأقلم مع حوله على عادة [تطنيشه] لأنه لحوح، ويريد انتباه الآخرين في نفس الوقت.

سلوك نمارسه كلنا أحيانا ولا نحسب حسابا لعواقبه طويلة المدى. هل تساءلت عن ذلك الشخص الذي يغلق هاتفه ولا يرد على أحد، ولا يرد على الاتصالات؟ لهذا السبب، لأنه كوَّن عزلة دفاعية بسبب وجود من يزعجه، سواء لمشكلة تتعلق في تركيزه، وحاجته للهدوء أثناء فعل ما يفعله، أو لسبب آخر، لأنه منزعج من هذا الاستحقاق المقلق لشخص يفترض أن عدم الرد عليه يعني بالضرورة: قلة أدب.

"رد علي يوم أكلمك"
"إييييييييييييييييييييييه مالك صم"
"طب هذا اللي في يدك واسمعني"

إخراج إنسان من تركيزه يسبب القلق، وهو تصرف يجب أن تُحسب عواقبه. تنادي طفلا يشاهد التلفاز من أجل الغداء هذا شيء، تنهره هذا شيء آخر.

ببجي محرمة من قبل الشيخ كهلان، وأظن كل الظن أن السبب هو وجود المقامرة بها، لا أظن أن اللعب الإلكتروني في حد ذاته سبب للتحريم.
البعض يستخدم هذا التحريم المسبب ليقول لك: كل ما ليس دينا، وليس فقها، وليس حديثا، وليس قرآنا هي أشياء سيئة، وهذا أيضا ليس من جوهر الدين، هذا من جوهر الاختيارات الفردية، لا يختلف عن المدرب الرياضي الذي يسمم كل من حوله بالشعور بالإثم ويذكرهم بالموت وأمراض القلب إن أكل أحدهم برجر وشرب بعده سفن أب .. هي مشكلة الشخص القلق، المليء بالاستحقاق، الذي يفسد جو الآخرين فقط لأنه: على صواب فيما يقول.


لا عجبَ أن يثير هذا الموضوع جدالا طويلا وعريضا، لأنه من الأساس مرتبط بعدة مناطق حيوية في تفكيرنا، وحياتنا، وا ختياراتنا، خارج الموضوع الديني، والالتزام، أو المطاوعة وما يقولون، وخصومهم وما يقولون.