يحدث موقفٌ ما، فأمسكُ أعصابي. قد تغلي عروقي غضبا، أنفقُ كل ما تعلمته من تمارين الحضور الذهني، والتأمل وأحاول عزلَ نفسي عن ذلك المؤثر السيء. أنجحُ أحيانا فأشعر بحبور الكشفِ الجديد، وأفشل أحيانا فأشعرُ بضخامة مُشكلتي في هذه الحياة. معركة مستمرة لا تتوقف والأدوية ليست حلَّها الوحيد.
أعي مشكلتي النفسية، وأعرف حلولَها الدوائية والسلوكية. اعتلال المزاج والشخصية ليست مشاكل سهلة لتتعايش معها بسهولة. أن تكون حاضراً في المجتمع، ونشطاً في الكتابة، وفاعلا في التعبير عن رأيك، كل هذا يجعل الأمر أصعب وأصعب، أعترف أنني أصاب بالتعب من مغالبة هذه النفس القابلة للاشتعال.
تغيرت الظروف كثيراً، وجزاه الله خيرا الذي يسّر ذلك. لست في مواجهة لا مع نظام، ولا مع أجهزة دولة، ولست من الأساس في معركةٍ خارجَ وجودي الفردي وحقوقي في الحياة. سنواتٌ من الفوضى والمواجهات العبثية انتهت، كانت معارك أسهل بكثير من هذه التي أواجهها بمفردي، وحيدا في كوكبي النفسي.
أقاوم ما استطعت لكنني لن أتجرأ أن أجعلَ الوهمَ صديقا. حدثَ ما حدثَ وأصبحت حالتي النفسية، والعقلية، وتشخيصي حديث الغرباء. إنَّه مجرد سلوك تعويضي على الجانب ما أحاول فعله من توعية، كل ذلك هباء في هباء، المرض العقلي وصمةٌ شئتُ ذلك أم أبيت، وهُناك من سيتخذ ذلك متكأً مهما كنتُ منطقيا.
لذلك وجدت في الفردية ملاذي، يمكنك أن تحولها للوجودية إن كنت من عشاق تصنيفات لائحة الفيفا الرسمية، أكتفي بتسميتها بالفردية. فهي معركتي الأصعب، مع العدو الأخطر على حياتي. أقاومُ وأناضلُ ولقد سلّمت بالأمر الواقع، هذه المعركة الوحيدة التي لن تنتهي من حياتي، أبدا!
والحمد لله، شتّان بين عُمر العشرين وذلك الجنون الجامح، والآن. أحماضُ الاكتئاب تنخرُ الرئتين، ويخففها ماء الكلام ودفق المشاعر. أما الانطلاق المجنون نحو الجحيم فقد تغير أيضا، يبقى كامنا، جاهزا للانطلاق، ولكن شتّان بين ما كان وما هو كائن الآن. هل ضعفَ المرض؟ أم قويتُ عليه! لا أدري!
لم أعد أستغربُ ردَّة فعل الغرباء، ولا تجنّيهم على الحقيقة بل وحتى التناقض الفادح لعشاق التأطير في وضعي! عبقري، أو خبلة! ذكي جداً وداهية يخطط لكل شيء، أو مريض يقوده المرض إلى ما هو عليه، لعبة إسقاطات، وتاريخٌ معقّد من الأخطاء من الآخر تجاهي، ومني تجاه الآخر، الأمر معقد جدا جدا!
وإن كان لا بد من إنصاف الخصم، أستطيع أن أقول أن معاركَ كثيرة في حياتي كانت ملهاةً لتشغلني عن هذه المعركة الأصعب. بيني وبين الاكتئاب أسبوع بلا رياضة، أو تسعة أيام من لخبطة النوم، وهذا ليس الجانب الأصعب. هُنا ذلك الاشتعال في القلب الذي أتعلم حرق القش الذي حوله ببطء، وبحذر شديد.
ولا تعلمُ من أين ستلقاها؟ من المحب؟ أم من المُبغض؟ فالمحب يرهقك بالآمال، والأمنيات، ويسبغ على حياتك صفات ليست بها!
ماذا يكون معاوية؟
ليس أكثرَ من كاتبٍ استطاع بعد سنوات أن يتعلم الدفاع عن حقوقِه، هل ترى هذه السطور؟ هذا الذي قاتلت السنين لأتمكن من الحفاظ عليه. حقي في الكتابة.
ولا انتصارات كبيرة في حياتي غير عودة الطبيعي. الحُكم القاسي الذي قد يصدره المحب أو المبغض، أو المتنصل من واجبه في التحليل المنطقي أن فلانا مريض نفسياً. طيّب وماذا بعد ذلك؟ يُقمع، ويُهان؟ يُسجن في مرضه للنهاية؟ يُسحب منه حق الكلام؟ أي قسوة في هذه الحياة تجعل الإنسان غاضبا!
سبحان الله الرحمن الرحيم! ذقتُ درسا صعبا بعد عودتي لعمان، كسرٌ في الكتف كان كافيا لأجدَني في مواجهة مع هذا الكابوس مجددا، ما أصعب أن تعيش وأنت تعلم أن عدوَّك بك، ومنك، أن عدوّك هو أنت، أنك أخطرُ على نفسك من أي مؤثر خارجي! نصف عام بلا دراجةٍ ويستيقظ الكابوس مجددا!
المعركةُ في مكانٍ آخر، في قعرٍ سحيقٍ من محيطات اللاوعي المفزعة. ذهبتُ في رحلةٍ في عالم الجنون وعدتُ منها غير عاقلٍ وغير مجنون. ما أصعب أن تكون أقصى أمنياتك حياةً عاديَّة مملةً، ما أفدحَ أن يكون أملك الوحيد أن تتقي شرَّ نفسك. ما أقسى أن تحبَّ هذا الذي يراك مريضا ميئوسا منه!
رحلةُ دراجة ويتفشى المنطق في ذهني كلون الزعفران في الماء. لم أكن هذا الشخص الذي يكتب الآن قبل أمس! كنت أعرفُ دائي ودوائي، لكنني الآن أعرفُ الصواب وأريد فعله، وأتجنب الخطأ وأخشى فعله، قبل أمس لم أكن هذا الشخص، عدتُ إلى وضعي السابق كلغمٍ مرمي في زقاق عبثي في هذه الحياة!
المعركة في مكانٍ آخر، حيث لا ينفذُ من الحياة إلا الأفكار، وصراعها الذاتي، أشعةُ المعنى مع مادة الجسد. أعلم أنني سأقاتل، وسأحاول، وسأبذل ما استطعتُ من الجهد لأبقي كل شيء حولي عاديا، ومملا، وروتينيا. طوبى لمن ظنَّ بحياتِه خيراً، وطوبى لمن آمن بالله بعد شتاتٍ وتعب.
من هذا الذي يكتب الآن؟ ذلك الإنسان المُستجد على ذاتِه، عمره أربع سنوات، أما شاعرُ الشرِّ، الصفيق، الحاقد، الانتقامي، المدمنُ، العنيد، المكابر، المتكبر، المختال، المؤذي فهو يتربصُ أسفل هذه العروق الجديدة، ينتظر فرصة للخروج. يعلمُ الله نهاية هذه المعركة، وما أعلمه أنني سأقاوم.