بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 أغسطس 2025

من المريض حقا؟

 أستاذ هاشم، أنت من بين القلائل، إن لم تكن الوحيد، ممن يجعلونني أهرع إلى لوحة المفاتيح بعد أن أكاد أهشِّم هاتفي في الحائط من فرط ما تطرحه يوميا من أسئلة إمَّا عميقة، أو صادمة، أو شرسة أحيانا!

هذه التغريدة لك فتحت ألف بابٍ في عقلي، وألف جرحٍ مرتبط بغربة النفسانيين، هؤلاء الذين يدرسون داخل الحقل، ويتلقون تعاليمه، ويكتشفون مع الوقت خطر تحيزاتهم، بل وفداحة الاستخدام اللغوي لوصف ما يسمى بالمرض النفسي.


المرض النفسي، كحال مرض السكري، مرض الضغط، هو مرض، ويرتبط أو لا يرتبط بعالم الشر، السوء، الجريمة، الظُلم.


لذلك مثل هذه الجملة لا تخلو من آثار مضللة بعض الشيء. فالمريض مريض، يمكنه أن يكون خيرا، أو شريرا، ظالما، أو مظلوما.

سأعطيك مثالا:

شخص في حالة غضب يهشم رأس طفل صغير لأنه رمى حجرا على سيارته! هل أفترض معاناته من مرض؟ سيرتكب الجريمة، ويندم، ويتقطع ندما في طريقه لحبل المشنقة، هل أسميه مريضا؟ وهل أسميه إنسانا طبيعيا؟

هو إنسان به خصال الخير، وخصال الشر.

طيب، هل أبرر لإنسان يعاني ومشخص رسميا من ثالوث الشر المظلم؟ (الميكافيللية، النرجسية، السيكوباثية) لكنه لم يقتل أحدا (ليس بعد) هُنا تبدأ الأشياء تدخل في مناطق رمادية ليس من الحكيم أبدا الانهزام اللغوي أمام مصطلحاتها.

هذا قتل، وذلك قتل، ما علاقة المرض بالمسألة؟

هذا نرجسي سام، ومريض باضطراب الانتباه، أو بالوسواس القهري، هل ألوم الوسواس القهري على باقي حالته؟ واكمل النموذج فقط لأن التعريف الاجتماعي للمرض النفسي مرتبط بشكل لصيق بعمومية إطلاق الحكم والتحيزات التي تأتي مع المصطلح الذي اكتسب معناه مع الوقت من ضياع معناه؟ تلك الميوعة في الوصف التي جعلت كلمة "مريض نفسيا" كلمة متقلبة في المعاني؟


الإنسان به شر، والسياق هو الذي يتحكم في استخدامنا للمعايير. جندي يدخل حربا في الدفاع عن وطنه، يقتل العدو بكل ما لديه من إقدام. وجندي آخر يدخل الحرب نفسها، ويستمتع بكل ثانية وهو يبحث عن (العدو).

في استماراة تشخيص علمية، سيسمى ذلك الثاني (مريضا) ويسمى الأول طبيعيا؟ لأن السياق مهم للغاية في فهم العلاقة بين المرض النفسي والشرور.


ثمة حالات علمية مثبتة لأشخاص لديهم خصال حقيقية من خصال مثلث الشر، لكن لم يمارسوا الشر، ربما ليس بعد، لا يوجد أي رابط بين المرض وبين فكرة (الظالم/ الضحية) وإنما معاملتهما بانفصال وفق المسؤولية الفردية هي ما يحتكم إليه أولا وأخيرا.

القاتل المدان في السجن يستحق العلاج النفسي، ليس لأنه قتل، بل لأنه يصاب بالمرض النفسي بشكل طبيعي، أو كان مصابا به، سواء كنا نميل لسينمائية وصفة بالنرجسي السيكوباثي الميكافيللي، أو من الأساس كان شخصا ينتقم من حادثة فردية (مثل عامل محطة البنزين الذي قتل ثلاثة) الاحتمالات واردة.



علم النفس يعطي للمصطلح أولوية صارمة للغاية لكي لا تميع معاني مقاربات المساعدة، والعلاج، والردع، والعون. وقطعا، هو علم اجتماعي، فلسفي، قانوني، ونتيجة كل هذا التداخل احتاج الأمر كل هذا التراكم العلمي، والمؤسسات التي تضبط إيقاع عمله كوكبا بأكمله ليصل إلى ما وصل إليه من فتوحات علمية تساعد الناس وتحميهم، وأيضا تحمي الناس من أنفسهم.


النتيجة النهائية لإنسان أناني، ناقم، حاسد، تختلف عن النتيجة النهائية لإنسان يعاني قهريا من هذه الأفعال. النتيجة النهائية لإنسان باضطراب هرموني قابل للعلاج يقوده للغضب، يختلف عن الشخصية المتلاعبة الخالية من التعاطف التي تسرق أموال المتقاعدات كبيرات السن. 


عندما كتبت مقالا ذات يوم وخلطت فيه بين المرض والشر، تعرضت لتأنيب هائل من معلمين رئيسيين لي في تخصص علم النفس. ومع الوقت، بدأت أنتبه إلى هذه الممايزة. 


ما ألاحظه من العالم أن هناك تاريخ صلاحية، وتاريخ انتهاء لأي مصطلح يصف الحالات النفسية، يلف ويدور قبل أن يعود إلى الوصمة الأزلية التي هي جزء من غربة النفساني الأقصى في هذه الحياة.


اكتمال صفات الشر والتلاعب وفقدان التعاطف في إنسان لا يعني بالضرورة تحوله لشرير، وربما يكمل حياته وهو لم يرتكب فعلا شريرا واحدا، وهو من الأساس بلا تعاطف مطلقا. 


ووجود إنسان طبيعي نفسيا تماما، ومستقر هرمونيا، وعصبيا، لا يعني غياب احتمال ضلوعه في الشر، سواء المبرر في السياق كالحرب العادلة، أو غير المبرر في السياق كعامل محطة البنزين الذي قتل ثلاثة أشخاص في مشاجرة.


المريض النفسي يمكن أن يكون ضحية

المريض النفسي يمكن أن يكون ظالما

المريض النفسي يمكن أن يكون خيرا

المريض النفسي يمكن أن يكون شريرا.


وقس على ذلك، الخيّر يصاب بالمرض النفسي

الظالم يمكن أن يصاب بالمرض النفسي.

الضحية يمكن أ، يصاب بمرض نفسي.

الشرير يمكن أن يصاب بمرض نفسي.


الاكتئاب يصاب به الخير والشرير، اضطرابات المزاج يصاب بها الخير والشرير، القلق المرضي، فقدان الانتباه، النشاط الزائد. الأمراض المتعلقة بالشهوة الجنسية، وفرط الرغبة، هذا يتحول لمغتصب وذلك يتحول لمتزوج من أربع زوجات، إن كان السبب مرضيا، فهو مرض، هو جزء من الوجود (جزء من وجوده) لكن هناك من لديه رغبة جنسية عارمة، وهو أيضا قابل للتحول لمجرم، هذا لأسباب عصبية وهرمونية، وذلك لأسباب طبيعية لها علاقة بالتوجه والبيئة والتجربة الشخصية.


المرض مرض، هو جزء من ذات الإنسان وليس ذاته نفسها. قد يؤثر على باقي الذات ويستولي على جزء كبير منها لكنه ليس الذات كاملة، وهناك ما هو مكتسب، وهناك ما هو موروث، وحكاية دماغية، عصبية، هرمونية، وتجربة، وتربية، وبيئة، وعوامل السياق، وعوامل الصدمات، والمرض المؤقت، والمرض الدائم، والمرض تحت السيطرة، والمرض خارج السيطرة.


إخراج كلمة مريض من سياقها الحقيقي، الذي كل البشر تتفق عليه، مريض السكري هل هناك وصمة ضده؟ هل يوما ما وجدت أحدهم يغضب على أحدهم ويقول له (هذا لديه مرض السكري). السياق الطبيعي موجود، لكن التلاعب بلغة النماذج الجاهزة، والتحيزات، ومغالطات الاستعجال المعرفي، وغيرها مما شاع كفاية ليكون شبه حقيقة، انهزام لا داعي له.


الذي يزور العيادة ظالم وضحية، شخص يعاني من وضع نفسي به اضطراب ما بدأ يؤثر على حياته. وصف المرض لأجل التعامل معه، وحماية الشخص من نفسه، أو من غيره، أو حماية الناس منه، أو حمايته من الناس، وقس على ذلك.



عموما، هذه آراء طالب، يتخصص مع الوقت في هذا التخصص الإشكالي المبهر والصادم. 


لا يزور العيادات ضحايا المرضى النفسيين، ولا يزورها المرضى النفسيون بالضرورة، يزورها من يحتاج لمساعدة، أو يحتاج لإجابة، أو يحتاج لدواء، أو يحتاج لحماية، أو يحتاج لفهم. 


وأذكر القارئ العزيز: هذه آراء طالب، قابلة للخطأ، وربما كانت قابلة للمنطقية كما آمل.



مودة وسلام