ما هو أسوأ شيء يمكن أن يصاب به كاتب؟ ألا يستطيع الكتابة. هذه كوابيس الكتاب الذين ألفوا الكتابة، والتفكير بالكتابة، والتذكر بالكتابة، والسرد بالكاتبة، ونسج عواطفهم في القصائد، وكتابة أفكارهم وتأملاتهم في المقالات. الكتابة قبل كل شيء تحدث في الذهن، أما الأدوات فهي كثيرة جدا.
أن تكتب بشيفرة مورس، أو تنقر على الجدران فتعطي قبضة اليد قيمة (10) ونقرة الإصبع قيمة (1) وتملي الجمل عبر حائط، أو تكتب حتى بدخان الهنود الحمر، أو شيفرة مورس، أنت تكتب عندما تكتب، بيد أو بدون يد، حتى بلغة الإشارة.
أعادني مقال سليمان المعمري الحياة بيد واحدة إلى ذكرياتٍ أخذت حياتي إلى مسارٍ مختلفٍ تماما. هيثم البوسعيدي يسدد كرةً إلى مرمى فريق المازن السداسي، تتلقاها يدي منثنية، ويحدث ذلك الكسر الفارق الذي جعلني أعيش هذه التجربة وأنا طالب في الإعدادية، يبدو حدثا عادياً، لكنه لم يكن كذلك. ترك هذا الكسر آثاره العصبية على يدي، ومن يومها وأنا أعاني في الكتابة بالقلم، وخطي السيء من الأساس تلقى ضربةً موجعةً للغاية. بالكاد أكمل ساعة ونصف الساعة قبل أن أصاب بآلامٍ مزعجة تجعل الخط سيئا أكثر وأكثر.
مرَّ عامان لأبدأ بعدها حُلمي الطفولي أن أصبح كاتبا. وضعت خطةً أنني لن أبلغ الثلاثين من العُمر إلا ويكون لي كتاب، ذلك الشبح في ذاكرتي لكاتبٍ عُماني كان يوقّع كتابه في معرض الكتاب بقي يلاحقني طوال سنوات النشأة. يجب أن أكون كاتباً يوما ما. اضطررت لكتابة الشعر فقط لهذا السبب السخيف. لأنني وجدت عناءً هائلا في كتابة السرد. كنت أكتب، وأكتب، وأكتب، وكان الوقت يمضي لأكتشف بعد عدة ساعات أنني كتبت ثلاث صفحات فقط.
حاولت أن أكتب بعض القصص مستخدما جهاز تسجيل، ولكن من هذا الذي يفرّغ ما كتبته (بصوتي) وبقي هذا الحلم مستحيلا. جاء عام 2002، ودخلت جامعة السلطان قابوس، واستطعت عبر بطاقة الائتمان التي كان يمنحها بنك مسقط بصفة مؤقتة لطلاب الجامعة شراء أول حاسب آلي لي، سميته (أفلاطون) وقضى معي سنوات وسنوات هو وشاشته الضخمة.
عرفت عن شيء اسمه (برامج الطباعة السريعة) بالصدفة، أخذت نسخة مقرصنة من البرنامج، وقضيت الليالي الطوال وأنا أحاول تحقيق ذلك الحلم، سرعة الكتابة، ذلك العطش القديم الذي جعلني أعيش ألما هائلا وأنا أحلم بكتابة السرد القصصي، والرواية، والعائق الكبير تلك اليد البطيئة للغاية، والآلام التي أدفع ثمنها الآن وأنا أدرس في الجامعة.
كسر اليد، قادني إلى هذه المهارة المحورية التي صنعت في حياتي الكثير، ومع نصحي الدائم لكل من يعشق الكتابة أن يمنح ربع ساعة في اليوم لهذه المهارة إلا أن داوود الذي كان يقرأ زبوره كان أكثر حظا مني في إقناع أحد ما أن يسلك هذا الطريق. ما توفره من وقت، ومن عمر، ومن قدرات لاحقا تتحول مع الوقت إلى فن من الفنون القديمة يمكن التدريب عليه، الكتابة داخل الرأس.
من الصعب شرح هذه الفكرة لمن هو من الأساس راض للغاية بأداته الكتابة، الورقة والقلم والمبالغة في مديحهما لا يختلف عن تقديس عشاق القهوة لطقوسهم. لا مفاضلة بين لوحة مفاتيح وقلم إلا ربما لكاتب لا يخلو من بعض التسلط في اعتبار طقوسه واجبا على الجميع. أن تكون لوحة المفاتيح في رأسك يشبه تماما برامج الرياضيات للأطفال الذين يؤطرون على أنهم (موهوبون) والحقيقة لا علاقة لها بالموهبة، هم مُدربون بشكل جيد. الآلة الحاسبة الخرزية الصينية، تلتقص بالرأس لاحقا وتصبح أداة حساب، ومن باب العادة يستخدمون أصابعهم لملاحقة التذكر المادي ويحققون ذلك الذي يبدو مبهراً، وموهبةً بينما هو في الحقيقة عملية تدريب واستمرارية.
من كسر اليد هذا أخذت حياتي بأكملها مسارا مختلفا. تساءل الجميع يوما ما عن سر السرعة الهائلة التي كنت في عمري الشاب أمتلكها، تدوينات بعشرات الصفحات عدة مرات في اليوم، كم يقضي هذا الإنسان في كتابة ما يكتبه؟ الحقيقة، مجددا، ليست موهبة، وليست عبقرية، وليست ذكاء، إنها مهارة تشبه مهارات كثيرة في الحياة، لا تختلف عن تنس الطاولة، ولا تختلف عن أي شيء آخر نقضي فيه ما يكفي من الوقت لكي نتقنه ويصبح جزءا من حياتنا.
بكسر في اليد دخلت عالم الكتابة السريعة مضطرا. والذي يريد دخول هذا العالم عليه التعامل باحترام مع لوحة المفاتيح، الطباعة العوجاء، وعدم استخدام زر (Shift) الذي أترجمه بزر (الطبقة الثانية) هو الذي جعل عالما كاملا بطيئا للغاية. مشاهدة الكلمات وهي تتكون أمام عينيك هو الهدف المرجو، وكذلك إيقاف دائرة المقاطعات التي يحتاج لها من ينظر للوحة المفاتيح، ثم يصعد بعينه ليتأكد مما كتب ويعاود هذه العملية، هذه ليست كتابة هذا اسمه (حرق أعصاب). مهارة عادية، يمكن اكتسابها بربع ساعة في اليوم ومع الشهور والسنوات حياتك ستدربك على أن تكتب بما يوفر لك الوقت والعمر.
أعاد لي سليمان ذكريات كثيرة. وربما ما يمكن أن أسميه عقدة حقيقة في حياتي، دفعت ثمنها في وظيفتي، ودفعت ثمنها في دراستي الجامعية لكنني رفضت دفع ثمنها في حياتي ككاتب. والنتيجة النهائية، مهارة يحتاج لها كل إنسان يقضي مع لوحة المفاتيح أكثر من ثلاث ساعات يوميا.
أعاد الله لك أناملك بصحة وسلامة يا سليمان، وأرجو أن تأخذ نصيحتي الصادقة لك من القلب، في لوحة المفاتيح ما يكفي لكي تصنع الوقت من الوقت، لكي تكتب دون تضحية هائلة من حياتك الطبيعية، لكي ترى الكلمات تتكون في رأسك إلى الحد الذي يجعلك تنفصل عن لوحة المفاتيح وتكتب في خيالك، والوصول إلى لوحة المفاتيح ليس أكثر من لحظة تنفيذ.
تخيلت هذا المقال في رأسي، ترتبت فقراته في رأسي وأنا أقود السيارة في الطريق إلى قضاء الوقت مع ابني (الملهم بن معاوية) هو الآن بجانبي يحاول استنتاج صوت النقرات من أين جاء، ويتأمل الوجود بعين متسائلة. لم يأخذ التنفيذ أكثر من ربع ساعة، أما التخيل، فيأخذ وقتها تماما، كنت تكتب بسرعة، أو ببطء. على أية حال، آن لهذا المقال أن ينتهي، وربما حان لسليمان أن يدخل هذه العقدة الجميلة، فيكتب بتلك السرعة التي تعوضه عن هذا الفقد الذي جعله رجلا يساريا مؤقتا.
معاوية الرواحي