بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 11 مارس 2024

مساحة اسمها عالَمُك!

 

 

 

 أكادُ، بين الحين والآخر، أفقد أعصابي، وأنفجرُ في وجه هذا العالم المكتنز بالعقلاء. للعاقلِ تعريفٌ سخيفٌ في قاموسي، هو ذلك العاجزُ عن فهم الجنون! المكتفي بقمة جبل الثلج، بالنذر اليسير من الوعي الذي يوهمَه أنَّ وجودَه الواعي هو قمة جبل الثلجِ التي تبدو له طافيةً أعلى سطح ماء المحيط. العقلاء مزعجون، بمعاييرهم، وأنانيتهم، ونزعتهم للشر، وللظلم، وللبدائية، والهمجية باسم كل ما هو حضاري وعادل وينتمي أحياناً لقيمٍ مطلقةٍ يمارسها المجانين ضمن أيامهم العادية واليومية، ويقاتل العقلاء من أجلها بمجادلات معقدة، مفعمة بالحزازات، والحساسيات، والخوف من المجهول، وهذا الخوف الملعون! هذا المجهول! يسكن في دواخلنا البشرية، ويعشعش في سرائرنا، يراه المجانين بوضوح، ويعجز العقلاء عن فهمه، والمجانين، هؤلاء، هم الذين أنتمي لهم رغم كل هذا الهذيان الطافح بالمنطق الذي تجبرني الحياةُ على عيشه!

هذا ليس عالمي أنا فحسب. إنه عالمُ الجَميع. كل ما يخرجُ عن وجودنا، ووجداننا، وأفكارنا، ومخيلتنا، وأذهاننا، يتحول إلى عالمٍ آخر. جزءٌ منه هو ذلك الكبير جداً، الذي يحلو لنا أن نسميه كوكباً، وجزءٌ آخر هو ذلك الذي يحدث فيها تفاعلنا مع الوجود. وعينا أصغرُ من كوكبنا الحقيقي، كوكب وجودنا الحتمي. قمة جبل الثلج التي تبدو للبعض كافية لكي تسمى حياةً، ووجوداً، تخفي وراءَها وجودنا الحقيقي، وسواء كان ذلك المكتوم، أو المكبوت، أو الذي يجنُّ عنَّا، أو الذي لا نستطيع السيطرة عليه، نحنُ نكمنُ في تلك المنطقة المظلمةِ التي لا نستطيع السيطرة عليها، وإلا فلمَ نعجز عن السيطرة على خفقات قلبنا؟ وعلى تحركات عضلاتنا الناعمة في أحشائنا؟ نعجز عن ذلك لسبب وجيه، لأننا لا نستحقُّ أن نوجد بشكلٍ كاملٍ، لا نستحق أن نتذكر كل شيء، ولا نستحقُ أن نعرف كل ما عرفناه، نعيشُ في هذه الخدعة من الوعي ونتوهم بكامل إرادتنا العقلية، بكل ما فيها من ضمني وجليٍّ، أننا نعيش كما نريد أن نعيش!

لأكون صادقا معك عزيزي القارئ، توقفت عن الانتماء إلى عالم العقلاء منذ زمن بعيد. ولا أقصد عالم العقلاء في سياق المرض، والغفلة، والجنون الذي يوصفُ بلسان اللئام. أعني ذلك العالم المنطقي المرتهن بالمصالح، والذي تسمى فيه الأنانية ذكاء، وتسمى فيه القسوة ضرورةً. أنتمي، وأعيشُ وأكتبُ لعالمٍ آخر من المجانين هم الذين يهمني أمرهم، ويعنيني شأنهم. أكادُ أخرجُ من جلدي عندما أعيش موسماً اجتماعياً مشبعاً بالغرباء. هل أصدقك القول أكثر يا صديقي الغريب؟ كل هذا ضغطٌ يشبه المهنة، أنجو منه، هذه هي الكلمة الدقيقة. أن تنجو من الموسم الاجتماعي، وأن تنجو من كل اعتبارات الضوء والتحقق، وأن تتجاوزَ كل هذا إلى تلك الذات الحقيقية التي تعرفها تنتمي لمن، لهؤلاء الذين يحملون أوجاعهم الخفية، ويقاتلون معاركهم الداخلية، وقليلٌ من يشعرُ بهم.

أحتاجُ للكتابة دائما لأذكر نفسي، وأحتاجها أكثر لأفهم عالمي. لذلك أكتب، وعندما أخلو بنفسي إلى هذه المدونة بعيدا عن تلك المنصات المكهربة بالتفاعل السريع أتذكر أنتمي لمن. أتعلم أيضا، على صعيد هامشي، طريقةً جديدة للكتابةِ عن ذاتي بعيدا عن اللغة النمطية، أنا مجنون، لست مريضا، أنا مبدع، لست سياسيا، أنا كاتب، ولست متحدثا باسم الحقيقة البشرية. نصف عُمري ذهبَ في عالمٍ مضطربٍ، ونصف نصفه ذهب في عوالم المرض العقلي، وغياب الواقع، وبينما يبدو للبعض بسخفٍ بالغٍ أنَّ القيمةَ في تجاوز كل ذلك، أعيش عالماً مختلفاً، القيمة فيه هو مواصلة الحياة وجعلها منتجةً، ومثمرةً، ومليئة بالحب، والسلام، والعطاء، وأسعى بجنون لكي أكون خيِّراً، وأقاوم بضراوة استعدادا هائلا للشر، كيف أشرحُ لإنسانٍ رومانسي يعيش حياةً ورديةً معنى أن تكون جاهزا للشر في كل لحظةٍ من لحظاتك، وأن بينك وبين إعلان أقصى وأقسى حروبِك سلسلةٌ من المواقفِ، أو حالةٌ من العداوةِ قد تؤدي إلى رمي الشرارة في كل ذلك الجحيم الذي ينتظر سبباً واحداً فقط لتفرَّ منه كل المسوخ الحبيسة!

لم يعد يرهقني حسن ظن الناس بي، ولم يعد يزعجني سوء ظن الناس بي. كلاهما سواءٌ لدي أمام هذا العالم الذي أعيشه. معركتي مختلفة عن ذلك الذي يبدو للإنسان الغريب الذي يعرفني منذ عام واحد. معركتي مع هذا المسخ المشوه بالآلام والصدمات، المصارعُ الأزلي للندم، والمقاوم اليومي للشر، هُنا مساحةُ وجودي التي تغنيني عن تصديق تلك المشاهد الاجتماعية المتتالية، بكل ما فيها من رغبةٍ لتصديق أفضل ما يكون عن الإنسان، أو تلك الجاهلة المرتجلة التي تضع حياة المرء في علبةِ كبريت.  أن تعرف عالمك، يعني أن تمسك بقرارات حياتك، وأن تسعى إلى خطةٍ أفضل لتعيش، وأن تعلمَ أن الحياة ستفنى وأنت في ميدان المقاومة، تحاول جاهدا الحفاظ على هذه البضعة الخيرة التي بك، وتقاتلُ بشراسة أن تؤذي إنسانا آخر بلا سبب وجيه.

لا أعرف ما الذي دفعني لكتابة هذا الكلام، ربما هو إدراكي لتلك العزلة التي تمنع العموم الكبير عن الخوضِ في هذه الكتابة التفصيلية، هل تتخيل أن الكتابة العلنية أصبحت أيضاً شكلا من أشكال العزلة. لكي تنعزل في هذا الزمان الجديد عليك أن تكتب مقالا! تخيل أي عصر تنقلب فيه معادلات الإنسان الداخلي والإنسان الخارجي. لتخرج من ذاتِك، ولتعيش مع الناس، عليك أن تخرج بتدوينة قصيرة للغاية لا تتجاوز الخمسين كلمة في منصة رقمية، ولتنعزل عن الناس ستفعل الشيء نفسه، ولكنك ستكتب ألف كلمة تشرحُ فيها فكرة شبه متكاملة، يمكن للقارئ أن يخرجَ منها بقراءة أكثر دقةً عن ذلك الذي تمرُّ به، وعندما يصل قارئك إليك، تصل الحلول، هذا غير المعالج النفسي الذي يقرأ كل حرف في مدونتي ويطلب مني بإلحاح تقليل الكلمات المحلية التي تخرج من لساني، ليسمح للذكاء الصناعي بترجمة كلامي قبل أن يعود لي بخطةٍ جديدة من دماغه الألماني العتيد! أكتبُ هنا لأنني أحبُّ عزلتي، لأن هذا هو عالم الحقيقي، أما ذلك المشحون بعشرات الآلاف من الذي أصبحوا يسمون الآن "متابعين" فلا أعرف ما الذي أشعر به حيالهم، جئت لهذه الحياة لكي أكتب، أعيش لكي أكتب، حياتي مرتبطة بكل من يقرأ لي، موهبةٌ بسيطةٌ في الوقوف أمام الكامرة لا تصنع عالما حقيقيا، ما أسخف هذه الورطة، أن تكون إنسانا مضطربا يقاوم الشر الحبيس به، يتجنب أن يكون مؤذيا وضارا، متحفزا للدفاع عن نفسه، وتجدُ نفسك في ذلك السياق الاجتماعي الذي يثقلك بالتوقعات. ورطة جميلة عندما أنظر لها من سياق القيمة العلاجية التي تحققه له، ومرهقة عندما أنظر لها من زاوية القلق الذي تسببه.

ماذا عساي أن أقول لك عزيزي القارئ، إن كنت قد وصلت لهذه السطور، فربما لأنها نشرت في كتابٍ من المقالات، سأوقعه في معرض الكتاب، على أملٍ أنني وقتها لم أضطر لخوض أشد معاركي ضراوة، وأكبر انتقاماتي شراسةً، على أمل أن كل الحياة المليئة بالأعداء التي أعيشها قد وصلت إلى تلك الهدنة العمياء، على أملٍ أنني فعلا سأعيش الحياة الطبيعية التي قد تكون أنت ممن يعيشونها، ماذا أقول لك عزيزي القارئ؟ لعلك جئت هنا لتتفرج، أو لتتعلم، أو لكي تبحث عن ثغرةٍ في منطقي، أو ربما لأنك عدو قديم جاء يقرأ واقع الحال الجديد، على أملٍ أن يعاود إيذائي، أو على أمل أن يجدَ طريقةً ما يسمم بها سعادتي المسممة وجوديا. لا أعرف ما الذي جاء بك إلى هنا عزيزي القارئ، لكننا هنا وحدنا، في عزلة عن ذلك الانتشار الجارف السريع، وفي وحدةٍ مع اللغة، نتفق على الإشارات، ونختلف في التأويل. لقد أتممت الألف كلمة التي جئت لكتابتها، سنلتقي في مقالٍ آخر أيها الصديق، وسنلتقي في حالٍ آخر أيها العدو، أيا ما كنت، شكراً لأنك قضيت بعض عزلتك في هذه الصفحة الملطخة بكل هذا السعير القلق.

 

 

معاوية الرواحي

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.