ارتبكَ في مشيِه وكأنَّه
تلميذ قلق يبحث عن الكلمة المُناسبة، كلمةً يعرفها ونسيها وليس له إلا وحي اللحظة
ليذكره بها. التفتت نحوَه باعةُ الرصيف مستغربينَ. تعلثمت حركتُه فبدأ يدور حولَ
نفسَه، وطفق يحدق في لوحاتِ المحلاتِ التجارية بدهشةٍ بيّنة. انتبهت مجموعةٌ من
الصبية المتجمهرين في نهايةِ الشارع إليه. تقدَّمَ أكبرهم سنَّا إليه مقاوما شبح
ابتسامةٍ لم يجد إخفاءها جيدا. انتبهَ بائع الفخاريات إلى اقترابِ الشابِّ
المُشاغبِ فسارعَ إلى تقديم كُرسيٍّ للرجلِ التائه في وسط الطريق، فتراجعُ الصبيُّ
موحيا لمن حولَه ببحثِه عن الولاعةِ التي سقطت في مكانٍ مجهولٍ ثمَّ عادة إلى
رفاقِه هازَّا كتفيه، ماطَّا شفتيه آسفاً على ضياعِ فُرصةٍ ما.
-
أي أنت أيها الرجل، هل أنت بخير؟
قالها بائع الفخاريات وهو يضع
الكرسيُّ قاطعاً المسار الدائري الذي لم يتوقفُ الرجلُ عن دورانِه. لم يجلسِ
الرجلُ وإنما وضع الكرسيَّ في مركزِ دورانه واتكأ بيده اليُسرى عليه وبدأ بالدوران
بسرعةٍ أكبر. تبادل الباعةُ نظراتِ الاستغرابِ، وتوجهت العيون نحو العمِّ إبراهيم
وكرسيه بحثاً عن إجابةٍ تروي ظمأ فضولهم.
-
هل أصبح السكارى يخرجون نهارا؟
قالت بائعة الخضار لزوجِها الذي
تجاهلَ ما قالته وذهبَ إلى العم إبراهيم زاعما حاجته لمقص. سحب العمُّ إبراهيمُ
الكرسي تدريجيا مُبعدا الرجل عن زحامِ السيارات. استقر طواف الرجل حول الكرسي
ليبقى داخل الرصيف بعيدا عن الشارع. انتصفت شمسُ الظهيرةِ وعادُ الباعةُ إلى
سيّاراتهم لترتيب البضائع. اختفى زبائنُ السوقُ ولم يبق غيرهم وذلك الرجل الذي
واصل الدوران حول الكرسيِّ بلا توقَّف. أثناء تناولِهم القهوةَ تبادلُ الباعةُ النكات
والطرائف والذكريات للأحداث المُشابهةِ التي مرُّوا بها ساردين حكايات السُكارى
والمجانين الذين مرَّوا على السوقِ ساخرين أو شامتين أو متعاطفين مع النهايات
الحزينة والمضحكة التي ختمت قصصهم.
تصبب العرقُ من رجل الكرسي
مما دفع بالعم إبراهيم إلى رشِّه بالماء. لم يبدُ الطائفُ ردة فعلٍ على ذلك مما شجَّع
الباعةَ صغار السنِّ على الصياح ببعض التعليقات الساخرة. مع بدايةِ العصر عاد
الصبية المشاغبون إلى ركنِهم الاعتيادي، واستأنف السوق أعمالَه ونشاطَه وازدحم
الزبائن، وارتفعَ صخب الجدال في جنباتِ الشارعِ القصير.
أخذ العمُّ إبراهيم كوباً من
الماء إلى الرجلِ الذي واصلَ الطواف حول الكرسيُّ بملامح جامدة وأحداقٍ متسعة. حاول
البائع الكهل لفت انتباهِ الطائف المحموم عدَّة مرَّات قبلَ أن يقرر قطع مسارِه ليضعَ
الكوب على الكرسي ليعاود الوقوف على دكة المعروضات.
-
العم إبراهيم يريدُ استعادة كرسيه وهذا الرجل فقد عقلَه!
إنَّه يدور حول هذا الكرسي منذ الظهيرة؟ أنا أقول اجلبوا له الإسعاف تأخذه إلى
مستشفى المجانين!
قالت بائعة الخُضار العجوز!
أخذت الشمسُ طريقها نحو
الغروب، وبدأ الباعة في ترتيب بضائعهم في سيّاراتهم. وزَّع العم إبراهيم نظراتِه بقلقٍ
بين الرجل الذي لم يتوقف عن الطواف حول كرسيه وثلَّة المشاغبين في نهاية الشارع،
ونقَّل نظراتِه بين الساعةِ الثمينة التي يلبسها الرجل، والإيماءات التي كانت
تصدرُ منهم. بعد أن فرغَ السوقُ من المرتادين أجَّل الباعة جلاءهم منه وتحلقوا
أمامَ دكَّة العم إبراهيم متبادلين التحليلات حول ما حدث للرجل.
-
لقد أصيب بجلطة، استدعوا له الإسعاف هذا الشخص قد يكون
في خطر!
-
كيف أصيب بجلطة؟ إنه يمشي منذ أربع ساعات بلا توقَّف! من
المؤكد أنَّه هُنا لسبب آخر!
-
ربما كان شرطيا من التحريات! ألا ترى خوف أولئك
المشاغبين منه؟ إنَّه يستهدفهم بلا شكّ!
-
أيها الناس أليس في قلوبكم رحمة؟ هذا الشخص مجنون، ويجب
أن تبلغوا الشرطة لتعيده إلى أهله سالما.
أظلم الوقتُ وبدأ الباعة
بالانفضاض عن التجمَّع الجزافي الذي جمعهم أمام دكة العمِّ إبراهيم.
شعرُّ العم إبراهيم بمسؤولية
ما تجاهَ الرجل، وفضلا عن رغبته في استعادة كرسيه فإنَّه أيضا شعرَ بالخوف من مصير
الرجلِ إن تُركَ في الظلامِ.
-
ربما كان جائعا؟
تساءل العمُّ إبراهيم فأخذ
صحنا من التمر وذهب به للرجل الذي تجاهله وواصل الدوران حول الكرسي. حاولَ العمُّ
إبراهيم أن يلفت انتباهه بلا فائدة. تناقصُ عدد مرتادي السوق ولم يبق إلا ثلاثة
تجارٍ لا غير كلُّهم انشغلوا بالنظرِ إلى الرجل الذي واصل الدورانَ حول الكرسي بلا
توقَّف.
-
لولا كوب الماء في الكرسيُّ لربما قُلنا إنه يعبدُ صنما
من تمر.
نهرَ العم إبراهيم البائع
الشاب بنظرةٍ مؤنبة وقال منزعجا:
-
أريد الكرسي، وليحدث ما يحدث، سيموت هذا الرجل هذا
المساء بسبب ساعته الثمينة! فليغفر الله لي لم يعد بيدي شيء أفعله لأساعده.
قال البائع الشاب: خذ كرسيك،
لقد مرَّت خمس ساعات وهذا الرجل لا يتوقف، سيحل الظلام قريبا وليس من الحكمة أن
نبقى هُنا ومعنا أموال بيع اليومِ كلّها، إن لم تفعل شيئا سأرحل وأتركك لوحدك.
تنهَّد العم إبراهيم تنهيدة
طويلة ثمَّ هزَّ رأسه موافقا بضيقٍ لا يخفى من الاضطرار الذي نزل بساحتِه. قرر أن
يحاول تنبيهَ الرجلَ الطائفَ لمرَّة أخيرة.
بخطواتٍ لم تخلُّ من العرج
الطفيف نتيجة الوقوف طوال اليوم وقفَ العمُّ إبراهيم في مسار الفلك الدائرِ للرجل
الطائف. اصطدمُ الرجلُ بالعمِّ إبراهيم وكأد أن يعود لمساره لولا أن البائع الكهل
أمسكه من كتفيه وهزَّه بشدَّة.
-
أنت على هذا الحال منذ أكثر من خمس ساعات، إمَّا أن تعود
لرشدك أو أخذت الكرسي وتركتك لمصيرِك في الشارع.
تلفَّت الرجلُ الزائغ حولَه وقال: ولكنني أريد الكرسي! لا تأخذ الكرسي!
قال العم إبراهيم بضيق: هذا
ليس كرسيك، لقد قضيت معظم اليوم واقفا بسببك.
ثم قال وهو يقدِّم له كوب
الماء والتمر: ألست جائعا؟ ألا تريد أن تشرب القليل من الماء؟ من المؤكد أنَّك
مرهق بعد كل هذا المشي!
حاول الرجل الزائغ أن يعاود
المشي إلا أن العم إبراهيم سدَّ عليه الطريق. وضع الرجلُ يده على كتفِ العمِّ
إبراهيم محاولا إزاحته مما دفع بالبائع الشاب إلى التدخلِ. زاغت عينا الرجل الطائف
وبدأ متردداً في اتخاذ خطوته القادمة. صمتَ الثلاثة متبادلين النظرات قبل أن يقول
العم إبراهيم بلطف:
-
أنت تحتاج للقليل من الراحة، اشرب بعض الماء ودعني
أوصلُك إلى منزلك.
رد عليه الرجل بلوعة: ولكنني
أحتاج للكرسي، أريدُه لأستمر.
صرخَ البائع الشاب في وجهه:
تستمرُ في ماذا؟ الدوران حوله! لقد حل الظلام يا هذا، وسوف يفتكونَ بك هُنا إن لم
تعد لمنزلِك!
علت ملامحُ الطائف الدهشة
أمام صرخة البائع الشاب وبدا كما لو كان خسر نزالا ولا مفر من الاعتراف بهزيمته. هدأ
تشنجه بعض الشيء ورمق العم إبراهيم بنظرة متوسلة.
-
لقد انتهى وقتك مع الكرسي، إنه وقت العودة للمنزل، ساعات وأنت على هذا الحال، ترفق بنفسك يا رجل!
جالَ الطائف بنظراتِه في كلِّ
ما حولِه. مدَّ العم إبراهيم يديه بكوب الماء وصحنِ التمر. رفض الرجلُ الزائغُ اليدين
الممدودتين وبدأ يرتجفُ بشكل واضح!
-
إنَّه مصاب الصرع! هذا مصروع!
أسقط في يد العم إبراهيم ولم
يعرف ماذا عساه أن يفعل، أما البائع الشاب فقد دفع بالكرسي ليلزم الطائف بالجلوس.
استمرَّت رجفتُه لدقائق قبل أن يميل برأسه للجانب ثم يُطلق تنهيدةً طويلة!
قال البائع الشاب: يبدو أن
الشياطن الذي لبسَه قد خرجَ منه أخيرا!
لم يكد العم إبراهيم أن يردَّ
إلا لتلفح أنفَه رائحةٍ كريهةً قادمةً من الكرسي. ارتدَّ البائع الشاب متقززاً أما
العمُّ إبراهيم فقد صرخَ في وجه الجالسِ بغيظ:
-
أيها الأحمق هل ظننت أن هذا الكرسي حمام عموميّ، اذهب
للجحيم لعنة الله عليك!
ركبَ البائعان سيارتيهما
وغادرا المكان تاركين الرجلَ في كرسيه، وفور رحيلهما اقتربُ زعيم الصبيةِ من الرجل
الجالس على الكرسي وبعد أن تلفَّت بما يكفي وتأكد من خلو المكان سحبَ الساعة
الثمينة وأخذها وانصرف هو ورفاقه. أظلمَ الشارعُ، وعندما تيقن الجالس على الكرسيِّ
من خلوِّ المكان، قامَ وواصلِ الدوران حول الكرسي غير عابئ بالكتل غير المتجانسةِ
من الأوساخِ التي تساقطت ببطء في مساره الدائري.