لست مُتفائلا بنهايةِ كل هذا الصخب. كنتُ أتمنى أن يتحولَ إلى طاقةٍ تمد محركات النقد، واللغة، والإبداع بالحوار. أن يصنع هذا الحماس وهذا الجهد مكانا مُشتركا لنختلفَ فيه، ولنتجادل، بل وحتى لنختصم بصدق وبإنصاف. كنتُ متفائلا لوقتٍ ليس بالقصير، والآن بدأت أتيقن: النهاية لن تعجب أحدا!
بم عساه أن يشعر الحالمُ بالحرية؟ الإحباط، وتوقع الأسوأ. من ظاهرةِ الحيطة البالغة، وكثرة الحبس على ذمة التحقيق، وتوالي المآسي الثقافية، والاستهداف الفردي، والاغتيالات الاجتماعية، إلى وضع شبه مبشر وفق المعقول بكل المقاييس المنطقية، وضعٌ مُهدد الآن بتحوله إلى هيمنة طرف دون آخر.
انتشار ثقافةُ المنع! واعتباره سلاحا يمكن استخدامُه، بل وحق مبرر. هذا يُمنع، فهو متدين وينادي بما لا يتسق مع الليبرالية، وذاك ليبرالي فيجب أن يُمنع. سُلطة جماعية تُمارس بوفرة وإفراط، وتسجيل المواقف أهم من الرسالة نفسها. من حقك أن تُنادي بمنع أي شخص، ومن حقي أن أحزن عليك ثم عليه.
وما نهاية كل ذلك؟ منذ عام 2002م، عندما دخلت عالم النت كنت في وهم خطيَّة الحرية الجماعية والفردية، أظن أنني كبرت على هذه الآمال التي لا نهاية لها سوى الخيبة. وكأن سنوات التضييق الخانق كانت بعيدة جدة حد نسيانِها، وكأن اليوم الذي كانت فيه الكلمات مقاصل نهايات لمصير إنسان بعيدة!
وانظر إلى شخصيةِ المُلاحقة. وإلى الزخم الاجتماعي الذي يأتي معها. وكأن القمع خصلة طبيعية، والانسياق وراء انزعاج الرأي الجمعي كحجة لإخراس إنسان أمر طبيعي. انظر للتناقض الكبير بين ما هو مُتاح من قبل العالم، وبين ما هو مطروح في الساحة محليا! هل فهمت لماذا يتأثر أبناء مجتمع بهم؟
هل فهمتَ لماذا أنت مخيب للآمال؟ ولست مغريا حتى بأن يُقرأ لك، وأن يُسمع لمؤسساتك الإعلامية، وأن يتم التعامل مع طرحك الديني بسعة أكبر؟ كُل هذا نتيجة ثقافة المنع، والإخراس، وكتم الآراء وتصنيف الأفكار، وكأن الأفكار ستتغير إن صنفتها! هل فهمتَ لماذا أيها [الفرد الجمعي] لست مُقنعا؟
ونهاية هذا معلومة. فئة تستبدُّ حتى يجتمع كل من يختلف معها ضدها. وبعدها، ودِّع هذه البداية الأولى، بدأت في الإنترنت، وماتت في الإنترنت. ووقتها سيغالي كهنة الخوف في موقفهم، وسيظهر للوقحِ موقفه: هذا المجتمع لا ينفع معه الحرية!
وسيقولها منتصرا، وشامتا، ومتقينا أنَّه على صواب.
ولم نعد نحاسب بعضنا البعض على ما نقوله فحسب. حتى هذا الذي لم نقله صرنا نحاسب عليه. لماذا لم تقف مع؟ لماذا لم تقف ضد؟ لماذا قلتَ شيئا قد يجد فيه خصمي حجَّة؟ لماذا لا تصادم؟ لماذا تُناقش في وقت ارتطام الجموع الكبيرة ببعضها البعض!
لك الله أيها الفردي، ليس لك سوى درعك!
ولا سلاح لك!
ومن يلوم الذي قنطوا! وأصابهم اليأس؟ كيف ستقول لكل متحمس أن الوضع الطبيعي، والصحي هو استمرار الجدال. فهو أزلي، والأبدية نتيجة نجاح حضاريَّته. إن كان الجدال لم يتوقف منذ عصر النبوَّات، فهل تتوقع أنك اليوم ستوقفه؟
بماذا؟ بقرع ناقوس الاستهداف الخارجي؟ والمؤامرات بلا تفاصيل وأدلة؟
وهذا الناقوس شبع ضربا! فالمحافظ يضربه وكأن نت فليكس لا تكفي لأدلجة ربع كوكب الأرض. واليساري يضربه لأن التيار الديني سوف يعيث في الأرض منعا وقمعا، والخائف من السلطة لا يقول أنَّها قد تتدخل في الساحة، وأنها قد تحبس وقد تعتقلُ وقد تعتبر فعلها وأداً لأزمة.
ولأنني خائف: لن أقول ذلك!
وهل تحترمُ من الأساس قومك ومجتمعك وأنت تتهمهم بالأمَّعية، والسذاجة؟ هل سترضى أن أقول عنك: أخاف عليك، نيابة عنك، لأنني أعرف إنه يمكن التأثير عليك، ولذلك أمنع عنك ما أشاء!
هل هذا إنزال الآخر منزلته؟ أم إنزاله من منزلته؟ كيف أصبح هذا الخطاب منطقيا؟
لا أدري!
هذا العالم غريب جدا!
والمنع، المنع، المنع، المنع، الكلمة المفضلة التي يلوكها كل طرف. المنع، المنع، هذا يمنع لأنه يطالب ببيع الخمور، وذلك يمنع لأنه يطالب بإيقافها، المنع المنع.
حتى مع الذي يعبر عن رأيه، ورفضه، وموقفه الذاتي، المنع، المنع، لماذا؟ رأيه قد يؤثر على شخص آخر!
لأنك تفترض أن الآخر إمَّعة.
وكأن سبب الخطاب ولسان حاله يقول [أحب الناس، ولكنهم أغبياء، ساذجون، يحتاجون لي لأحمي عقولهم من خصمي]!!!!
ياه! هذا عالم العقلاء حقَّا؟ وهكذا يفكرون! وكأنه يسألك:
- هل وجدت الفكرة مقنعة؟
إن قلت نعم قال لك: أنت على خطأ، لا تقتنع! يجب أن أحميك بمنع من يقنعك بدلا من أن أقنعك!
هل حقا هذا هو عالمكم يا عقلاء؟ أحمد الله أنني آمنت بالكوميديا! ففي عالم الضحك لا يمكن أن يقول لك أحد [هذا ليس مضحكاً] فحتى هذه الضحكة هي شأن فوق الوعي والقرار، تطبق سننها عليك لا إراديا فتضحك.
إن ضحكت، فقد ضحكت وإن انزعجت فقد فكَّرت وشعرت.
النكتة معنى، والفكرة نسيج!
وشتان بينهما!
وبينما العاقل ينشغل بأن يسجَّل موقفه، ينشغل المجنون بأن يعيش موقفه، والحمد لله على نعمة الجنون. فعلى الأقل يمكن للمجانين أن يفهموا لغة العقل، أما العقلاء! هم وباء هذا الكوكب التعيس، وهم صنّاع الكراهية، وهم عقالُ الحقيقة، ولِجام الكلام!
فلا نامت أعين العقلاء!