كُلما أسمعُ جُملة: معاوية لا تقل عن نفسك مريضاً، شخص بعقلك مستحيل يكون مريض! تجرحني سكاكين كبيرة في عقلي، وفي قلبي. سكاكين الحقيقة المُرَّة، ولا أفكر بنفسي أو بمصيري، أفكّر في كل هؤلاء الذين أقاسمهم التصنيف الواقعي، والطبي نفسه: المرض العقلي!
وأقول: المشوار بعيد جدا جدا!
المرض، والجنون، والاختلال العقلي والسلوكي أنواعٌ كثيرة. أسوأ ما يفعله العقلاء بمريضٍ حولهم هو محاولتهم أن يكون مثلهم، وأن يفكر مثلهم، وأن يُعامل نفسه كما هم يعيشون. يفعلون ذلك للتنصل من التعامل مع معضلة شديدة الجسامة على حياة إنسان: المرض العقلي! وما أصعبه على الجميع!
كثيرون يظنون أن التعاطف هو أفضل الطرق للتعامل مع الذين يعانون من الأمراض العقلية، معاملته كأنه إنسان غير قادر على اتخاذ القرارات بنفسه، ونعم بعض الأمراض تحتاج ذلك بشكل مزمن، بعضه مؤقتة، تأتي على هيئة نوبات، أو حالات تستفحل لبعض الوقت ثم تخف، وتصبح مثل العقل النمطي: هادئة.
يحتاج المرء سنوات لكي يتعايش مع مرضه النفسي، أما هؤلاء الذين لا يعانون من أمراضٍ نفسية فلن يفهموا مطلقاً معنى أن يكون الإنسان مريضا في أهم عضوٍ في جسده. الذهاني الذي يرى التهيؤات ويسمع الأصوات، ثنائي القطب الذي يتعايش مع تقلب المزاج، والوسواسي صاحب المعايير المستحيلة.
لا يكلف كثيرون أنفسهم جهد البحث البسيط عن التشخيص الطبي لأخيهم، أو لأمهم أو لأبيهم أو لابن عمهم. الجنون لديهم حالة واحدة [الغياب]. بعض الذين يعانون من أمراض عقلية محظوظون، تم اكتشاف مشاكلهم، وعلاجها، ولديهم أسوار حماية متعددة تحميهم من الموت، أو الخطأ، ماذا عن كل المختبئين خوفا؟
وكم هو مؤسف عندما يغالي إنسان تم تشخيصه بمرض عقلي في إخفاء ذلك، وكأنه سيصبح عقلا نمطيا، معياريا بمجرد إخفاء مشكلته. من الذي يضغط عليه لفعل ذلك؟ كل من يؤمن بالوصمة الاجتماعية. المرض النفسي ليس نزهةً في حديقة، ونتائجه وخيمة، بعضها تؤدي للموت، وبعضها تؤدي للقتل، وبعضها تؤدي للجنون.
والله يعلم بعناء هؤلاء. ولعل من أصعب هذه الأمراض الوسواس القهري، والشقاء الذي يعيشه الذين يعانون من هذا الابتلاء. المعايير العالية، والسلوك القهري الذي يجعل حياتهم جحيما.
ماذا يفعل العقل النمطي، ما يعتاده، يستغرب! لماذا يتوضأ فلان عشرين مرَّة ويعيد صلاته عشرين مرَّة!
وكيف يتعامل العقل النمطي مع المرتاب؟ الذي يشكُّ في كل شيء؟ مزاجه متقلب، ويظن أن كل شيء يستهدفه، وحتى عندما تحمل له أخبارا سارَّة يظنُّ أنك تريد شيئا بالمقابل، تريد به سوءا حتى وأن أردت به خيرا! إنه لعناء شديد، للمصاب ولمن حوله. وإخفاء المشكلة ليس حلا، ويزيد تفاقمها.
وهي صور نمطية بسبب قلة المادة المتاحة للعلن عن تجارب المرضى النفسيين، لذلك لا أحد يعرف بالضبط كيف يتعايش هؤلاء مع مشاكلهم. لا يعرفون حياتنا، ولا ما الذي نعانيه. كيف أشرح لشخص أن سبب كثرة كلامي هو نشاط ذهني مؤقت يتحول بعد حين إلى اكتئاب قد يكون حادا إن لم يتم علاجه بتدخل عاجل؟
كيف يشرح المصاب الوسواس القهري حالته للآخرين؟ المصرين على أنَّ خير علاج للمرض النفسي هو العلاج الذي يطوي صفحته عن معرفة العموم بمرضه. وكأن مهمة المريض نفسيا أن يتخفى، أن يجد العصا السحرية التي تجعله مثل البقية. للأسف الشديد. الخفاء، والخوف من الوصمة، لإخفاء المرض لا لعلاجه.
وهات يا هبد عندما يتعلق الموضوع بالاكتئاب، وكأن الدماغ الذي يعجز عن إفراز الهرمونات الكافية لتشغيل آلة الحياة والسلوك سببه نقص الإيمان، وكأن الأفكار هي العلاج لكل شيء. مشاكل الغدد، والإصابات في الرأس، والصدمات، والإعاقات. علاجها الجاهز وصفة وعظية سريعة، أو خزعبلات شائعة ومرتجلة.
وما أكثر المصابين بالفصام في عُمان، من الذي يحميهم؟ ومن الذي يسعى لكي يعيشوا أقرب نموذج للحياة الطبيعية؟ إخفاؤهم هو الحل الأوَّل والأضمن.
والأمراض الخطرة تجول بيننا، غير مشخصة، وأبرزها الأمراض المتعلقة بغياب التعاطف، أو العنف. هؤلاء لا يعاملون كمرضى، ولا يُظن بهم ذلك إلا قليلا.
إنه لعالمٌ واسعٌ من الصعب أن تتخذ تصرفاً موحدا تجاهه. إخفاء المشكلة لن يحلها، وفي معظم الأحوال يزيدها سوءا. المريض النفسي حاله حال أي إنسان، يستطيع الحياة، والعمل، والإبداع، بل والنجاح الباهر.
كونك تاخذ معلوماتك عن المرض النفسي من الأفلام هذا لا يجعلك شخصا مناسبا لتساعد مريضا.
بعض الأمراض السلوكية، أخطرُ من التي تبدو على السطح، فالمريض بها يبدو هادئا، ووديعا. بعضها المرتبطة بالنرجسية والتلاعب الآخرين تتحول إلى ظواهر إجرامية مُرعبة تزلزل المجتمعات. هُناك أمراض بلا أعراض ظاهرة، المصاب بها يقتل، ويغتصب، وربما يتحول لزعيم عصابة. هؤلاء لا يظهر عليهم مرضهم.
ومن الذين يدفعون الثمن؟ ثمن الصورة النمطية؟ هؤلاء الذين يعبث بهم خيالهم، وتخذلهم عقولهم، أما الأمراض السلوكية المنتشرة فهي خارج المعادلة، خارج التأطير.
الطفل الذي يخنق الأرانب يتحول إلى مجرم وقاتل متسلسل، أما الذهاني الذي يخرج عن الواقع فيرميه السفهاء بالحصى.
مُتلازمة داون، التخلف العقلي، التلف الدماغي، وأي مرض يجعل صاحبه في حالةٍ غير لائقة اجتماعيا هي الأمراض التي تدفع الثمن الباهظ. للأسف الشديد، يسقط في هذه الحياة الأكثر ضعفا.
حتى وإن كنت مشخصا بمرض نفسي، أن تستقر حالتك هذا لا يعني أن تنسى من أنت، وأن تتشبه بالنمطيين.
المرض العقلي أيا كان تصنيفه قد لا يكون عارضا، قد يكون مزمنا، وقد يقضي المصاب به سنواتٍ طويلة من الاستقرار والهدوء، لكنَّه سيبقى دائما حالةً متفاعلة، تحتاج لاتزان، ولحسابات مسبقة، ولحقوق من المجتمع، ولثقافةٍ عامَّة وتوعية دائمة. ظُلم كثيرون لأنَّ كلمة [مريض نفسيا] وصمة عار!
وإن كنت تسألني أنتمي لمن! أنتمي لهؤلاء الذين تخذلهم عقولهم، وخذلني عقلي كثيرا. لقد نجوت بحمد الله من الكثير، لكنني لا أنسى من أكون، وأعيش هذه الحياة مُحاذرا، بانيا كل ما بوسعي من الدفاعات لكي لا أسقط في فخاخِه، أو في سلوك أعلم أنه سيودي بي للمهالك: كالمخدرات مثلا!
وكيف تشرح لإنسان اضطراب المزاج! وألا ينام الإنسان لعدة أيام؟ كيف تشرح لشخص أن الذي يراه من تصورات ليس جنا، ولا عفاريتَ، وأن الدماغ المشبع بهرمون الدوبامين يلعب بعقل صاحبه! كيف تشرح لأحدٍ أن هذا العاقل الهادئ كان يوما ما يحاربُ أشباحا يراها أمام عينيه؟ كيف وكيف؟
المشوار طويل!
ثمَّة أمراض متعلقة بعائلة السايكوباثية، والسوسيوباثية. هذه أحيانا بلا أعراض واضحة كالتي اعتدت على رؤيتها في المجتمع. كالمراهق الذي فجأة يصرخُ صراخا هائلا، أو كالذهاني الذي يتكلم من خياله الصافي.
هل تعرفون ما هو الأمر الصعب؟
المريض النفسي الواحد يحتاجُ لمجتمع كامل كي يحميه! يحتاج لفريق طبي كامل كي يعينه على العودة لحياة مُنتجة وظيفيا. يحتاج للكثير، ولكن من يعطيه حقوقه! إن كانت عائلته تتخلى عنه وتتنصل منه وتربطه بالسلاسل! ماذا تتوقع من باقي المجتمع؟ أن يقوم بالواجب؟
وقد أفرزت ظاهرة التكتم والخفاء سوقا كبيرا للدجالين وباعة الخزعبلات. الباصر، والذي يعالج الناس من السحر، وغيرهم من المجرمين الذين يشربون من دماء المصائب. ومن المنتصر؟ الجهل ينتصر، والغباء يستشري، والعقلاءُ الجبناء يقررون مصير إنسان آخر كان يمكن أن يجد علاجه في مكان آخر.
هذه الحياة لم تكن عادلةً يوما ما لكي نتمنى منها أن تكون مثالية. العدلُ هو السعي للعدل. لستُ الآن في محاكمةٍ أو في تحقيق جنائي لكي أستخدم حجة المرض العقلي. وأعلم أنني أخسر فرصا كثيرة في هذه الحياة بمجرد اعترافي بذلك. الحقيقة أهم من تصورات الخائفين على صورتهم أمام الناس. أهم بكثير!
والمشوار طويلٌ جداً، ويحتاج لصبر. لا أعلم متى سأصاب بالاكتئاب مرة أخرى، ولا أعلم هل سيفلتُ عقلي من عقالِه لنوبة هوسية، ولا أعلم هل اضطراباتي ستتغلب علي في القريب العاجل، أو في البعيد الآجل. أعلمُ أن الله ابتلاني لسببٍ، وأنني أقبل قدر الله. وأقبل حقيقتي لأنها حقيقتي.
وخِتاما عزيزي العاقل لا بأس أن تعترف أنك حمار في موضوع الأمراض النفسية، وأن تتوقف عن اعتبارا حالات الآخرين العقلية، والنفسية موضوعا للتجارب. اعترف إنك حمار، واترك الأمر للمختصين وللمحترفين ولا تتدخل في أمراض غيرك. فربما مرضه له علاج، أما غباؤك، فقد يكون مزمنا ولا علاج له.