أكثر ما أكرهه في نفسي، أعرفه عن نفسي. وعشت سنوات غافلاً لم أفهم لماذا أفعل ما أفعله، ولماذا أتصرف ما أتصرفه. تحملت الكثير من الأذية، والغدر، قبل أن أتحول إلى شبح مؤذ، قذرٍ ولا أخلاقي، أفجر في الخصومة، ولا أمايز بين الذي يكرهني، والذي يريد أن يضرني، حدث الكثير قبل أن أعلم ما أكون.
ابتلاني الله بفئة من الناس، يظهرون الصداقة والود. يدقون صدورهم أمام المجتمع والناس [إذا تريد شيء من معاوية كلمني]، انتهازيون، منهم من سرقَ مالي، ومنهم من تسلق على كتفي، لمصالحٍ تافهة. كنت أظن أنهم الرفاق، والأشاوس الذين يحمونني من بطش الناس، ومن كراهيتهم لقذارتي المُعلنة وسفالتي.
وهم يعلمون وضعي جيدا، فهم أصدقاء الملحد العربيد، الذي لا يمر وقت ووقت إلا ويشتم الشيخ أحمد الخليلي، أو يجدف في الذات الإلهية، أو ينزل في الدين، والناس. كاتب برتبة بلطجي. ولكن الله يعاقب الظالم بظالمٍ مثله، والحمد لله، ابتلاني الله بمن هو أقذر مني، فأذاني حتى تلقنتُ درسي.
وأنا إنسان كثير الكذب على من لا أثق به. وأيضا كثير الكذب على من لا يثق بي. كنت أستغربُ دائما، لماذا يصدق بعض هؤلاء الذين التصقوا بي أي شيء أقوله. أي خطيئة، أي كذبة. ثم بعدها بسنوات فهمت ذلك الفخ الاجتماعي، والسجن الذي كنتُ أعيشه. شخص ممقوت اجتماعيا، وهم وسطاؤه مع الناس.
وبدأت أفتح عيني عن عالم الغفلة تلك. وخرجت وكسرت دائرة العزلة، واختلطت مع الناس رغم صعوبة ذلك علي. ملحد، عربيد، زنديق، لا تعرف له قرارا، ولا تعرف ساسه من راسه. يشتم والده، وعائلته، ويشتم نفسه. كل الذي كنت أفعله مع كل سافلٍ أذاني، صرت أفعله علنا. والغريب أنني أفعل ذلك بهدوء تام.
ثم اكتشفتُ الذي يدور عني، والذي يقال. لم أكن أعبأ بأي شخص يعرف عني كذبة قمت باختراعها، الذي صرت أعبأ له هؤلاء الذين ثرثرتهم كانت الحصار الحقيقي. كان يجب أن أبقى في ذلك الوضع، نافعا لهم، متعلقا بهم، هم الأصدقاء مع الضريبة. ولذلك صارت أخباري تملأ الثرثرات في كل حدب وصوب.
وكما أنا شخص غريب! لم أنشغل بدمار حياتي الاجتماعي بقدر ما انشغلت بهوس المعرفة، وهوس التجربة.كانت تجربة اجتماعية عظيمة تعلمت منها الكثير. وتورطتُ بذلك المحيط، كان الخروج منه صعبا للغاية،وعندما اكتشف من يظن أنه يعرف عني كل شيء،أنه مخدوع بإنسان كذوب،يجيد التخفي والأقنعة. بدأ القتال.
ثم أدركَ كل من أذاني أنني سأؤذيه، وجهز دفاعاته. كان البعض أشد مني ذكاء، وغلبني البعض بحقارته. ولك أن تتسمع الكلام عني لتجد تناقضه الشديد. مرَّة شاذ جنسيا، وقذر، وساقط، مرَّة زير نساء، مرَّة حفّار قبور، مرَّة شخص يقرأ كتب السحر، وكثير وكثير من الإشاعات، كثير منها من تأليفي وكلامي.
كنت أنوي الهجرة، ووقف في وجهي الذي يعلم جيدا أن هجرتي ستكون وبالا على رأسه، وما فعله بي وبالناس. كنت أعلم أن إحراق قيمتي الاجتماعية والسياسية هي التي ستحررني، لكن دخول الحمام ليس مثل خروجه، كان يجب أن أدفع الثمن المر. ودفعته من عُمري، ومن مستقبلي، ومن عقلي. دفعت ثمن قذارتي.
ما زلت أذكر رعب رافق الإلحاد مني ذهاب للعمرة. كل ظنهم أنني سأكون الذي يهاجمهم، وربما سأفضح هوياتهم، ولم أفعل ذلك [ولن] أفعل ذلك.
حتى هذا الذي يشتمني ويكرهني، لن أؤذيه. لكن الذي يقترب مني، ويمثل دور الصديق، وهو ينوي الضرر، هذا الذي لن أفلته من انتقامي، وما صرت إليه من حقارة.
وأخذت وقتا من الزمن حتى أعرف من يستحق أن أكون حقيرا تجاهه. حياتي صارت كذبة كبيرة، وصرتُ تساؤلا غامضا من قبل الذي يحبني، ومسخاً متناقضا من قبل الذي يكرهني. لم أعبأ بالطرفين وقتها، كنت أعبأ بالعدو الذي خدعني، والحقير الذي قررتُ أن أعامله بالمثل. وفعلا، صرت مسخاً، ولسنوات.
لعبت شخصيتي الانتقامية والمضطربة دورا كبيرا. فكبار الذين أذونني حموا أنفسهم جيدا، أما صغارهم، فإذا بي أفعل مثلهم. قريب، وصديق، ومتعلق بهم شكليا، وبشكل مزيف. ألف وأدور حتى أجد المقتل، ثم أضربُ بكل قسوة، علنا، وسرا. حياةٌ من المكائد، والقسوة، والقذارة، والكيد.
وبدأت سياسة الرد بالمثل، ولاحقا تحولت إلى الرد بالضعف. والبعض كان ضحيةً بلا سبب، ضحية ردة فعل دفاعية في غير موضعها. أما هؤلاء الذين نلتُ منهم الأذى، فلم يسلم منهم أحد. الذي يجعلني أشعر بالذنب، هم هؤلاء الذين لم يفعلوا أكثر من أن يكرهونني. وهذا حقهم، وقد أذيت بعضهم بلا وجه حق.
وهزمت في معارك كثيرة، مع خصوم أقوى مني بكثير. وسايرتُ كثيرين حتى وجدت الوقت المناسب، لم يهمني مطلقا الفضائح، ولم أهتم مطلقا لسمعتي، كل همي كان الانتقام من هؤلاء. ولاحقا الانتقام من نفسي. كنت جاهزا إما لإزهاق روحي، أو للرحيل بلا عودة. صرتُ مسخا لا ينجيه إلا الله من نفسه.
ولم أعرف إلى ماذا سيؤول حالي؟ إلى الجنون في مصحة نفسية، أم إلى السجون، أم إلى أن أصبح قاتلا أو مقتولا. كان الوضع معقدا للغاية، وكنت أختفي، وأختفي، وأختفي، وأصبح شبحاً حتى اختفيت عن نفسي. كل ما بقي مني هي كتلة من الحقد، والقذارة، والاستعداد للانتقام بكل حقارته الممكنة.
وأنا أكتب هذا الكلام، ثمَّة نفوسٍ تغلي. كما كنت أغلي، كما كنت أشعر أنني خُدعت، وأنا أكتب هذا الكلام ثمة أعداء لا يؤذيني ضميري مطلقا عندما أذيتهم، في السر، وفي العلن. لقد ظهر في العلن والسر كائن قذر وانتقامي، وظنَّ أنه سيكون كذلك للأبد، وتقبل مصيره المرَّ، ومعركته القذرة.
وفعلا كانت معركةً قذرة،من الجانبين. يمكنك أن تؤذيني بالكلام، وأن تكرهني، وأن تشتمني، والله لن أرد عليك بأكثر من الشتم بالمثل، وربما لن أفعل، وسأعتزلك مليا. لكنَّ هذا الذي لعب دور [صديق معاوية المخلص] وأذاه، وغدر به، أو سرق ماله، كان صراعا قذرا وحقيرا من الطرفين. حياتي لم تكن جنة.
وكشفت الأوراق، وأصبح المجهول معلوما. وتحول ذلك الشاب الذي انتظر الجميع أن يكون كاتبا، وأديبا، أو إعلاميا مفيدا إلى [معاوية] القصة المحزنة لشاب كان طيبا، وكان خلوقا، وأصبح مسخاً خطرا. كان الألم فوق طاقتي، وعدما انتهى صبري، صرت أسبب الألم فوق طاقةِ خصمي، بغتةً دون أن يتوقع.
كنتُ الكلب النبّاح الذي أصبح يعضُّ. من سلم من لساني؟ والله لا يؤنبني ضميري إلا على الأبرياء منهم، هؤلاء الأنقياء الذين سببت لهم درساً مؤلما لا ينساه من تعرض له. أما هؤلاء، الذين لم تجمعني بهم سوى طاولات الخمر، وجلسات المخدرات، فكان لي معهم التصرف الأنسب، والأقذر، والأخطر.
واكتملت أركان الشبح. بغبائي أضفت إلى معاركي صداما مع الدولة والنظام ومؤسسات الدولة. الحجة الأقوى التي مكَّنت الأذى، ولاحقتني الفضائح، وابتكرت ما يكفي منها لأظهر الضعف، لم تكن مشكلتي مع الدولة هي ألأبرز. فهي كيانٌ يردعك عندما [تتبلعس به]، كانت مشكلتي اجتماعية من الطراز الأول.
والغبي الذي له ألف عدو، يصنع المزيد منهم. الخصوم الكبار كانت مهمتهم سهلة جدا، افتراس إنسان بلا دفاعات، لم يكن قذرا بما فيه الكفاية ليخافوا من ردة فعله، وظنّوا به الهزيمة والضعف. تلك الجمرة لم تخمد، كانت بحاجة لريحٍ تذكيها. لكن الغبي، حارب كل شيء، حتى عائلته، وأباه، ومن أحبه.
وهذه حقيقتي، وحياتي. صدقني أيها الإنسان الذي تظن بي الظنون، الخيّرة، والسيئة. لقد قاتلت كل شيء، وقاتلت نفسي، لأنني أحلم أن أكون إنسانا خيّرا. جننت الجنون الأكبر، وأنا أحلم أنني سأكون إنسانا نافعا. وخسرت مستقبلي وكل شيء. ودخلت حالة انتقامٍ صنعت مسخاً عُمانيا لا يشبهه سوى قلة.
وهؤلاء المسوخ يولدون من العدم مجددا. بعضهم باسم السياسة، وبعضهم باسم الدين، وبعضهم باسم الفكر. لكن هل شابه قبحي أحدا؟ لا أظن. كنت أعلم أني بي بذرة صغيرة، كنت أحتاج إلى أن أسقيها بالحب وبفعل الخير، وتلك البذرة هي التي أعيشُ بسببها الآن. وأظن أن الله رحمني بها.
وهذه حياتي، وحقيقتي المرة. أنا إنسان لا يخاف، وأخطر ما يمكن أن تفعله به هو أن تلوي ذراعه. أقول لكل إنسان:لا تقترب مني. لكنني أعرف نفسي جيدا،لا أخون من لم يخن، ولا أؤذي من لم يؤذني، وإن فعلت، لا أستنكف أن أقتص له من نفسي. معاوية من أشرار عُمان القلة الذين يمقتون فعل الشر ويفعلونه.
وأنا شخص سياسيٌّ من الطراز الأوَّل. واكتملت تجربتي بالسجون، وبالجنون. وعندما سعيت لأتصالح مع كل شيء، تصالحتُ فقط مع الذين ظننت أنهم يستحقون الصلح. وبنيتُ حياةً جديدة، بلا سياسةٍ، دون أن أكون أداةً، أو أكون مروجا للهزيمة، وبدون أن أكذب على نفسي وكأنني انتصرت في شيء. أنا عدمٌ كبير!
وهل تعرفون ما المحزن؟ عندما كنت أقذر من أن تحترمه! وألعب اللعبة فوق اللعبة، كنتُ محترماً،وكان من الصعب أن يتعرض لي إنسان، ووجدت من يشبهني في القذارة. أنا كثير الكلام. كنت أهددُ ولا أفعل. ثم صرت كمن أذاني.ألتصق بعدوي، أتيقن من غدره، وبعدها للأسف الشديد: أطعنه طعنة نجلاء لن ينساها.
والذي يجعلني أحتمل نفسي هو شيء واحد. أن حياتي حقيقية، وأنا أعرفها، وقلة من الصالحين والشهود يعلمون ماهيتها. أعيش وأبتعد عن الأذى،أدافع عن نفسي، وأردع نفسي عن الظلم ما استطعت. أنا كتلة من الجحيم، ونار حارقة،وقذارة جاهزة للانطلاق، وتحتاج لقذر واحدٍ فقط كي يذكيها، فأستهدفه بكل مكري.
وأنا ماكرٌ، ولئيم. وما يجعلني أتحمل نفسي، هو أنني أعرف ذلك، وأبذل جهدا لكي أوقف نفسي عند حدودها. ولذلك أعيش هذا الصلح، وهذا السلام مع كل شيء. حياتي ليست سهلة، وأعدائي خطرون بمعنى الكلمة، ومسلحون بالكذب، وبالقذارة، بل وبعضهم لديه مصداقية اجتماعية عالية، وهو أقذر مني بألف مرة.
أنا مسخٌ ضعيف، يرهقه ضميره مع الأبرياء. وأنا مسخٌ قذرٌ لا يعرف الضمير، ولا الأخلاق،ولا القانون، ولا الدين، ولا العرب. أعامل عدوي بمثل أدواته، ولاحقا، صرت أعامله بأدواتٍ جديدة. ما أقبح عندما يعاديك من يطمئن إلى أخلاقك في الخصام. لقد تمزقت كل تلك الأخلاق دفعةً واحدة. أنا مسخٌ ضعيف.
ولذلك أعيش هذا التجاوز الكبير. وأهزأ بمن جاء لكي يكرهني متأخرا! أين كنتَ عندما كنتُ في أشد حالات حقارتي! أنا أكره معاوية وكل ما كان يمثله، وأكره جانبي القبيح وكل ما يمكن أن يفعله. ولكن أين كنت عندما كنتُ ما كنتُ عليه؟
آلآن؟ وأنا مسالمٌ، ومتصالح مع الحياة؟ آلآن جئتَ بأحكامِك؟
وأنا لست خيّرا، ولست طيّبا، لكنني توقفت عن الشر. لم يتوقف الشعر عن كونه طبيعة من طبائعي، لكنني أوقفه عند حده. لا أعادي أحداً، ولا أقبلُ أن أكون الكلب الذي يعضُ تحت الطلب، ولا أقبل أن يتم استغلالي. ولا أقبل الذي يدعي الصداقة ولديه أجندة. ولا أقبل أصدقاء الأمس، والرجس.
وقد رحمني الله. أنجاني من المأزق تلو المأزق. والحمد لله على عقابِه، درسي في الحياة كان قاسيا. لدي قسوة خطرة جدا جدا، ولولا الإيمان لكنت أخطر الناس. لذلك، أنا لست متصالحا مع نفسي، أنا متصالح مع ذاكرتي، وكل يوم يمضي، أحارب لوثاتها، وأحاول النجاة من نفسي بالصالحين والناصحين.
ولا أعرف من هؤلاء الذين يروق لهم حالي السابق.أعاملهم كخطر. ولا هؤلاء الذين يحاولون جرجرتي للصدام مجددا، ولا موقعو الفتن، ولا شجعان طاولات القهوة. كل هؤلاء لا يساوون لدي سوى بعرةِ بعير.أعرف أنني أحتقر المسخ الذي بي، ولا أقبل أن تحتقرني إن كان بعيدا عنك، سلمتَ منه، فاسلم بنفسك مني.
وأنا أكتب هذا الكلام، بمنتهى البرود والجمود. كحقائق مجرّدة، كنقاطٍ تتبلور في الذاكرة فتتحول إلى لغة. كمستندٍ علاجي أعود له عند الحاجة، كتذكرة لمؤمنٍ، كمكاشفةٍ للحياة، كتوضيح للأبرياء، وكرد اعتبارٍ لنفسي وحقيقتها، وللآخر الذي ظُلمَ مني. بعض الحقوق لا تسترد، وبعض الغفران لا يجدي.
وهذه حياتي. أضع نقاطها على حروفها. أسأل الله أن يوفقني لما فيه الخير، لأسرتي، وللناس، ولأصدقائي، ولنفسي. أسأل الله أن يوفقني لأفعل صالحا، أسأل الله أن يقيني شر نفسي. أسأل الله ألا أتحول إلى ظالم انتهازي، أو شبحٍ جديد. لا أعداء جدد لي، أما من سبق، فلا سلام، ولا كلام، ولا غفران.
فأمَّا من ظلمني، فابتعد عنّي.وأما من ظلمتُه، فلتأتِ، فإن أردت اعتذارا سأعتذر، وإن أردت تعويضا سأفعل المقدور عليه، أما إن أردت انتقاما فلا فرق بيننا، وليعترك المسخ بالمسخ، وليحدث ما يحدث. إن أردت أن تنتقم ممن يريد أن يردَّ لك حقك، فأنتَ تبحث عن العداوة، لا حقك، أنت من فصيلتي. مسخ.
وأسأل الله العلي القدير أن يعوَّض كل من ظلمتهم، وأن يعرفوا، أن الله يعوضُ المظلوم، ويذيق الظالم عذاباته. من له حقٌّ عليَّ فليسعَ إليه منِّي. أمَّا إن كان همّك الناس وكشف حقيقتي! أي حقيقة بالضبط؟ تلك التي من تأليفي؟ أم من تأليف خصمي؟ أم من تأليف أمراضي؟ أم من تأليف المحب الأعمى؟
ولتكن أقدار الله، ولتكن مشيئته في عبادِه. أحمد الله على الخير والشر، وأسأل الله أن يحميني من أن أظلِم، ومن أن أُظلم. فما بيني وبين الله، بيني وبين الله، وما بيني وبين الناس دينٌ، فما لي لا أتنازل عنه، وما عليَّ أؤديه. فمن أراد حقا فله حقُّه، ومن أراد رد الظلم بالظلم، فله العدوان.
وسلام الله على الجميع، كانت معكم الفقرة الدورية لاعترافات معاوية الرواحي. أستئنف صلاحياتي كمهذون أكبر بعد هذه التغريدة متمنيا لكم حياةً هجلية خالية من كل هذا البؤس، والحقد، والكراهية والانتقام. نعود إلى موضوع برشلونة وريال مدريد، وفقكم الله لما فيه هجل القلوب والعقول.