عندما أراجع الآن تاريخ تفاقم الاضطرابات السلوكية التي كنت أواجهها، يعود للذاكرة أمران. الأوَّل، المشكلة الاجتماعية التي كنت أواجهها! تعاند المجتمع، والدولة، والدين، فقط لأنك تريد فعل ذلك، هنا المشكلة، أن تفعل ذلك من أجل العناد، ولأنك لم تحسم بعد موضوعات فكرية لا مساحة هادئة لحسمها، والنتيجة، إما تمرد أهوج، أو امتثال اجتماعي غاشم، وكلا الأمرين لا يتجاوز أن يكون ردات فعل.
وهكذا بدأت الحكاية، الفضول الشديد، والاستعداد للخسارة، وغياب الشعور بالعواقب، وكنت أظن أن الأمر لا يتعدى أن يكون لعبة لغوية مرتبطة جذريا بنزعة التعبير الحر عن الرأي، ولكن الحياة لا تسير بهذه البساطة، هذا الوضع المليء بالضغوط يتحول لاحقا إلى مشاكل حقيقية، وحتى تلك الروح المفعمة بالتمرد، والطاقة تتناثر لاحقا إلى مواجهات صغيرة جانبية، معظمها داخلي، حتى يصل الحال إلى ذلك الوضع الذي تكون فيه المعارك الداخلية أشد شراسةً من تلك الخارجية!
بعد السجن لأوَّل مرة، لا أظن أنني عشتُ قسما هائلا من الاضطرابات الداخلية، انشغلت بالغرق في عالمِ الإدمان، والغياب الاجتماعي وتأقلمت مع حياتي كشبح، واضحٌ للملأ، وغامض عن نفسي وعن الجميع، وضعٌ ينذر بالكارثة بعد حين ولو بعد سنوات، وفعلاً تتابعت هذه الكوارث واحدة بعد الأخرى.
السجن للمرة الثانية، ثم الثالثة، وكلها تلفُّ وتدور حولَ العدمية نفسها، غياب للشعور بالتعاطف مع الذات، فقدان للحقيقة، وبدأت المواد المخدرة في التأثير بشكل عاصف على بصيرتي، وحتى تعاملي مع الواقع، ثم السجن لمرة ثالثة!
لم تكن مشكلتي وقتها اجتماعية بقدر ما كانت مشكلة مادية بحتة، مؤثر إدماني متغلغل في جهازي العصبي، ومشكلات سلوكية تتراكم، وسنوات متتالية من الحياة في معمعة الشكوك، والظنون، ولاحقا كائن شديد القسوة ينمو مع الوقت من رفاتِ ذلك الذي كان يضرب به المثل من فرط طيبته، واستعداده للغفران، وتسامحه الزائد عن الحد. وأيضا، لم تكن المشكلة خارج خطوط العودة الممكنة، طبيا، ونفسيا، واجتماعيا!
السجنُ الكبير الذي امتدَّ 13 شهراً كان هو الحاسمُ في عملية التغيير للأسوأ، بعدها! لم تعد هناك خطوط عودة وانطلقت القسوة من عقالها. أذكرُ جيدا الغليان اليومي الذي كنت أعيشه، والغضب المحتقن والمتراكم، والشعور العارم بالرغبة في أن أكيل الأذى لمن أذاني، والذي للأسف الشديد طال بعض هؤلاء الذين لا ذنبَ لهم. مأساة التحول من إنسانٍ لا يعرف الشر إلى إنسان يعيش لأجل الشر! مأساة لا تخلو من الألم اليومي الشديد، والذي لا تنفع معه مخدرات، ولا تنفع معه مواساة! وكان ما كان من فصول المواجهات، والخسارات.
النتيجة النهائية لكل تلك المغامرات أنتجت مسخاً جاهزا لإيقاع الأذى، هجوما، أو دفاعا عن النفس. وكم هو صعب أن تكون قاسيا بعد طيبة! تمزق مع كل تصرف مؤذ جزءا من نفسك التي تمنيت أن تبقى عليها، تمزق شعورك بالسلام، وتبدد خطوط العودة المأمولة. واستقر بي المطاف بين مشاكلي وأزماتي، ولا عقل مستقر يمكنني من التفكير في أي وسيلة تعيد لي الطمأنينة!
هُنا أدركتُ أنه يجب علي أن أستبعد عامل الإدمان على المخدرات تماماً من حياتي، لأحظى بحياةٍ مستقرة، يجب أن يكون عقلي مستقرا، وببصيرة واقعية، تلك الأيام التي كنت أنقطع فيها عن المواد المخدرة شكلت لي نقلة هائلة في التفكير، هل تعرف معنى أن ترى الواقع مجددا؟ دع عنك أن تتصالح معه أو أن ترفضه، ودع عنك أن تطيعه أو أن تحاول إنقاذ دائرتك الخاصة منه، فقط أن تراه! أن تبصر الواقع هذا في حد ذاته ملاذ أوَّل، لتفكر بعدها في الطريقة التي تنجو فيها من كل تلك التراكمات المعقدة التي تحولت إليها حياتك!
الرياضة كانت الوسيلة التي قاومت بها ردات فعل الجسد المدافع بشراسة عن إدمانه، وهذا ما لايعلمه كثيرون عن عالم الإدمان، المدمن مستعد للدفاع عن إدمانه، ويصنع كل الظروف الممكنة التي تجعله يلف في الدائرة نفسها، قراراته الاجتماعية، صداقاته، حتى طريقة تنظيمه لوقته كلها تلف وتدور حول الهدف النهائي نفسه، الجذب المغناطيسي الشرس لكي يسخر حياته من أجل المكوث في عالم التعاطي.
هذا ما فعلته الدراجة الهوائية لي، مهرباً مدته خمس ساعات أو ست ساعات أعود فيها إلى التفكير بشكل شبه صحي، الجسد، والصحة، وأسئلة جودة الحياة، ومن ثم العودة للمنزل، والاتصال [بالديلر] والعودة إلى ذلك الجو المكفهر، المقبض، المليء بالكوابيس، والشكوك، والظنون، والذهان، واضطراب المزاج، والتناول الأعوج لعمليات التفكير، والقرارات السريعة والمرتجلة التي يمتاز بها الإنسان الحشَّاش عادةً.
هكذا بدأت كفة الميزان تختلف. الساعات الطويلة من التعاطي [والسطلة] بدأت تنافسها ساعات أخرى من الرياضة والدراجة الهوائية. وبقيت المعركة مستمرة لأكثر من عام! حتى بدأت المحاولات للانقطاع النهائي تصبح أكثر استمرارية. شهر، ثم فشل، شهران، ثم فشل، ثلاثة شهور ثم فشل.
كل هذه ساعات تُكسب في التفكير المنطقي، ساعات تُكسب في حلحلة مشكلات نفسية، وفكرية، واجتماعية، وسلوكية، ونعم تحدث النكسة، لكن شتان بين نكسة حدثت دون تأمل وتفكير وتبصر، ونكسة حدثت سريعا!
أذكر أنني وقتها قد بدأت دراسة علم النفس في جامعة في بريطانيا، وكانت إرهاصات كورونا تحدث، كنت وقتها دراجاً لا بأس به يقود دراجته لمدته تفوق الست ساعات يوميا ولا يتنقل إلا بها، ومنها اتخذت القرار الصعب، دفعة واحدة الانقطاع عن جميع المؤثرات العقلية والاكتفاء بالقهوة! ويا إلهي! كانت أياماً أصعب بكثير من أي تجربة عشتها في حياتي التي لم تخل من حبس انفرادي تجاوز المائة يوم!
من الظالم للحقيقة أن أزعمَ أن عملية التجاوز لكل هذه الفصول المتعاقبة من الاضطرابات كانت سريعةً، لم تكن سريعة، وقد أخذت وقتها الذي امتد لسنوات، وفرت دراستي في تخصص علم النفس وقتا طويلا عليَّ من التجارب، ومن الاعتماد الهائل على المعالجين، ولكن مع ذلك، احتجت للعلاج بالتوعية الإدراكية، واحتجت للعلاج الدوائي، وقطعت شوطاً هائلا، وعشت نكسة واحدةً صغيرةً انتفضت بعدها بوحشية ضد فكرة الإدمان. المادة المخدرة قادرة على تحطيم أذكى العقول، وأجمل القلوب! الاستخفاف بها ليس أكثر من خطأ استراتيجي يرتكبه الإنسان تجاه سلامته وسلامة غيره.
كانت رحلة صعبة للغاية، بمعنى الكلمة، ولكنها مرَّت. الشهر الذي كنت أحلم أن أكمله بدون مخدرات أصبح سنوات، والسنة التي تمنيت أن أعيشها بدون انتكاسة نفسية أصبحت أربع سنوات، والمزاج الذي كنت أسيطر عليه بجرعة عالية من الأدوية النفسية صرت أسيطر عليه بتنظيم النوم، وبالكثير من تنس الطاولة والرياضة، والتفكير الذي كنت أحار في التعامل مع إعوجاجه صرت أناقشه مع المعالج النفسي، وأتعلم المزيد من الأدوات والمهارات العلاجية في التخصص الذي أدرسه، وهكذا انتهت حكاية إنسان مضطرب اكتسب ما يكفي من القسوة ليدافع عن نفسه عند الضرورة، وما يكفي من الإنسانية ليواصل الحياة كرب أسرة، وفرد من عائلة، وابن لمجتمع، وصديق لبررة صالحين يجعلون منه أجمل مما كان عليه في كل خطوة يخطوها.
وكان ما كان، والحمد لله، من اتصال عبد العزيز الهنائي بي، إلى رحلة العفو، إلى كل ما فعله أبي من جهود من أجل العودة لعُمان والاستقرار بها ..
جزاك الله خيرا أيها السلطان هيثم بن طارق، وجزاك الله كل الخير يا صاحب السمو السيد ذي يزن.
وشكرا لعُمان التي وقفت معي في غربتين ..
لا أعرف ما الذي ينبغي مني فعله بعد كل هذه الفصول، كل ما في ذهني هو الأمل أن أكون شخصا نافعا، وأن أحاول دائما أن أبقى إنسانا صالحا، لا أتمنى أن ينجح إنسان في جعلي مسخاً مجددا، أترك كل شيء في حياتي لكي أؤذيه، ولا أتمنى أن أعطي أحدا الفرصة لينجح في ذلك، حياتي ليست ورديةً، لكنها لم تعد كابوسا، وليست بقدر أحلامي وطموحاتي، ولكنها ليست في طريق معاكس لهذه الطموحات، هي حياة أخرى، لإنسان لا يعني أي شيء سوى للقلة الذين آمنوا بحقه في الحياة، وحقه في أن يحاول، عدا ذلك، الرزاق هو الله، والحافظ هو الله، والحامي هو الله، والغفور هو الله، والمنتقم الجبار هو الله. عليه توكلت، وإليه أنيب.
والحمد لله على كل حال.