بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 مارس 2024

جدالات الكلام!

 قاش مستحيل أن يحدث بين شخصين:

1- القادم من منطلق انتمائه لجماعة: هو من الأساس لا يناقشك كفرد، وإنما كجزء من انتماء جماعي. متخيل الليبرالي الأمريكي اليساري الجديد لما يفتك بصاحب رأي في مهرجان الكنسلة الرائج عالميا؟ النقاش جاي من استحقاق من طرف واحد، إنه هو يمثل هذه الجماعة، وبالتالي، ما يقوله انطلاقا من الخير العام، وفي هذه الحالة، الخير الإنساني، ولك أن تقيس ذلك لما تناقش شخص جاي من انتماء جماعي، سياسي، أو ديني، أو فكري، أو قومي. 2- القادم من منطقة فردية: وهو يناقشك أنت كفرد، بشكل مباشر، ويقول آراءه كفرد، وهذا يحدث لما شخص يكون لديه وجهة نظر حول حقه التام في اتخاذ موقفه الفردي، ومتى يتوهق؟ لما هذه الآراء تتصادم مع منطق جماعي، مثل الجدال الأزلي حول مواضيع التفكير النقدي الديني، أو السلوكيات الشخصية "التدين، الحجاب، التدخين، شرب الكحول" مثلا شخص متدين، يقول لك: التدين اختياري، وهذا قرار "فردي" أنا أتخذه بنفسي وأطبقه وأمارسه، يهاجمه شخص آخر ويقول له كلا، هذا ما قرارك، أنت ضمن الفئة الدينية اللي تهاجم حرياتنا، وهكذا دواليك، والنسخة المعاكسة تحدث، لما شخص يتبنى سلوك أو اختيار فكري، فيهاجم كأنه صاحب أجندة جماعية، وأحيانا نعم، الفرداني لديه أجندة جماعية، والجماعي لدي أجند فردانية، لكن بشكل عام، النقاش أصلا يحدث في مكان آخر، وكل هذاك الصدام لم يؤسس له اتفاق حول آلية سيره، لذلك ينزع إلى الصدام وإطلاق الأحكام. وعشان أعطي أمثلة غير قابلة للالتهاب. تخيل النقاش بين شخصين، الأول يقول لك: - أنادي بإنه الدوام الرسمي يكون فيه حرية للاختيار، اللي يلبس بدلة، واللي يلبس دشداشة ومصر. أو شخص يقول لك، المصر ما ضروري، خليه كمة. - الشخص الثاني يقول له: هذا هويتنا، وأنا أشوف إنه أفضل نتمسك بها. الحوار من شخص، إلى شخص آخر، وانتهى صح؟ لكن أيضا ممكن الحوار يتحول إلى إنه الشخص الأول يقول للثاني: - أنتم تنادون بالرجعية والتخلف، [فرد ضد جماعة] وأنتم السبب في إنه الأمور لا تتطور [الحوار خرج وأصبح في مكان آخر] - خطاب [فرد ضد فرد]: أنت مخدوع، وتم غسيل دماغك من قبل التقاليد والعادات أيها المنساق المضحوك عليك. وكذلك من الضفة الأخرى: - أنت مخدوع من قبل العولمة التي تنزع هوية، وممسوخ لدرجة إنك ترفض التقاليد العربية الأصيلة. [فرد ضد فرد] لكن باعتباره جزءا من جماعة. - أنتم مخدوعون بهذه الدعايات، وتريدون الهجوم على تقاليد المجتمع ومسخها لهوية منساقة وراء العولمة الغربية. وهذه الحوارات التي تحدث عادة عندما لا نكون وجها لوجه. حادة، بها شحنة من الأحكام والريبة تجاه الآخر، وهذه طبيعة التواصل غير البشري [ربما!] .. نفسد للود ألف قضية عندما لا يتم مأسسة منابر الحوار، وجعلها محايدة وملكا للجميع، وما يحدث في تويتر ليس سببه "جهل الناس" أو سببه "طرح ضحل" أو غيره مما ينادي به رقباء البرج العاجي، الذي يحدث سببه أن هذه الحوارات كلها طاقة نقدية تحدث في غير مكانها المناسب، لأن الذي عليه تهيئة مكانها المناسب يمارس الوصاية والتوجيه والرفض والتسطيح والتجهيل وكافة أشكال رفض هذا النمو والتفاعل لأنه متمسك بنظرية جامدة حول ماهية الصواب، ومعايير غير واقعية عن عدالة المنبر العام. لذلك تويتر هو المنبر العام المرتجل الذي يغطي هذا التقصير الذي كان على مؤسسات كثيرة أن تتولاه، وأن تتحمل منحنى التعلم العام حتى يصل إلى نقاش مثمر، وطاقة هائلة ممكن أن تفعل الكثير من الخير، وتنشر الكثير من قيم الحوار والتعايش فقط بالقليل من الاعتراف بالآخر. المشكلة مستمرة، وستبقى، وللأسف الشديد، هناك من يتخذ من هذه الأحداث الاجتماعية المتتالية حجة لفرض رؤية مؤسسية منهجها إلغاء الرأي العام، واعتباره هامشيا، وبالتالي تأجيل هذا الحوار لأن تأسيس المنابر الاجتماعية العامَّة عملية صعبة، وتحتاج إلى مساحة كبيرة من التفهم للآخر، والأهم الاعتراف به، واحترامه. إذا كان أساس الحوار دعائي، وصدام انتماء للثقافات الشاملة، فهو ليس أكثر من رمي للمزيد من القش في كثبان التحيزات، والحزازات. وإن كان أساس الحوار هو فتك الجماعة بفرد، فهو شكل من أشكال الضغط الاجتماعي، أو القمع الاجتماعي، وإن كان أساس الحوار هو هجوم الفرد على جماعة، فهو شكلٌ من أشكال قلة الحيلة، والشعور بجسامة المشوار، تصرف كاميكازي آخر، انفعالي. هذه الحوارات، هي مهمات متعددة، للجامعات، ولمؤسسات الإعلام، وللثقافة، وللمنابر [العادلة!] غير الموجهة، وغير المتحيزة، الظن بأنَّ تهميش الرأي العام، وتسطيحه، وتجهيله، هو الطريقة لنصرة مدرسة تؤمن بالتوجيه، والأدلجة، ليس أكثر من إضافة إلى جمعٍ إلى الجموع، صناعة لمشكلة، والخطاب سيبقى كما هو عليه، صراع ظنون، وريبات، وتسجيل موقف فرد ضد جماعة، أو جماعة ضد فرد، أو التسلط في أبهى أشكاله بمحاولة طمس كل هذه المنابر المرتجلة والتعويضية من أجل منبرٍ هامد، يعطل تفاعل الأفكار هذا كله لأنه لا يجد وسيلة لقبول الاختلاف. وهنا نجي إلى أس المشكلة الرئيسي، أن يكون موضوع الآراء خاضعا لمدرسة دون أخرى، ومفروضا بأدواتٍ أساسها القدرة على إخراس الآخر، ولي ذراعه، وإعادة صناعة المشكلة بمبرراتٍ مزخرفة وكلام جميل الشكل قمعي المضمون، استعلائي، وإلغائي. الطريق طويل جدا، ويبدو أنَّ عبثية المنابر المتحيزة، وتجنب تأسيسها بعدالة منطقية، وتأجيل شمولها للجميع، وبناء انتقائية شخصية واجتماعية، والتأطير النمطي، وغيرها من الوسائل ليس أكثر من تأجيل فوق التأجيل، وعندما تأتي شرارة في هذا القش المتراكم، سيتنصل من تسبب بكل ذلك من ما فعله، وسيلجأ إلى تفسير سخيف آخر، بحجة أن المشكلة بالناس، وجهلهم، وتخلفهم، وينسى من تسبب بذلك أنه هو الذي صنع كل الظروف لهذه الأزمات الاجتماعية والفكرية. لذلك، وإلى حين تخلق هذا المنبر العادل، سيواصل ما يحدث الحدوث، وستبقى هذه الجدالات بلا نتائج تعايشية، وستبقى رهن مساحات تأثير الأفراد والجماعات، وقوة الصدام بينها، وستبقى رهن قوة المؤسسات، وهشاشة وصولها، أو قوة تأثيرها، وفي النهاية، لأنَّ الذي يفكر بشكل قمعي من الأساس ينتظر هذا اليوم المجيد، سيخرج لنا من العدم المقص الرقابي كحل رئيسي لكل هذه المشاكل التي سببها، وتركها تتفاقم، وتتراكم، لأنه غير قادر على بناء تعايش مع الاختلاف، وإنما هي لغة الدعاية والتوجيه، والتي أصبحت فكرة سخيفة في هذا العالم الذي تحررت فيه المعارف، والمعلومات، والحقائق من سلطة الرقيب مهما حاول واهما أن يتمسك بمعطيات زمانه الذهبي، وقدرته على إعادة تشكيل الحقائق للجموع، فسوف يواصل الفشل مرة بعد أخرى حتى يقبل بأن العالم تغير، وتجاوز تلك المرحلة. النقاشات في تويتر مكشاف جيد على الفارق الهائل بين تجربة الفرد في التعامل مع العالم المتفاعل، وتجربة المؤسسات في ملاحقة هذا الزخم العالمي الجارف، ومن أراد خيرا للناس، فليحترم الناس أولا، وليصنع لهم منبرا عادلاً خاليا من تحيزات الرقيب، ومشاكله الكثيرة، ولكن على من تقرأ زبورك يا داوود! القمعي يدعي أنه يدرأ المشكلة وهو يصنعها. الاستعلائي يدعي أنه يحترم جميع الآراء، وتستمر صناعة الخطاب منزوع الدسم، منزوع القيمة المعرفية، العمومي، الدعائي، المزخرف، والذي يفعل ذلك هو الذي يطلق الأحكام هو الذي يمنع التبرعم الفطري للرأي والإبداع والكلمات، ويبقي الدائرة تدور، عود أبدي لحكاية الرأي، والحرية، والحقيقة، والمعرفة، والنقد، وهكذا دواليك، حركة لولبية، لن تسفر عن تغيير إلا بعد حدوث الأزمات! والمثير للغيظ، أن الذي صنع الأزمة، هو الذي سيتحرك لحلها! وكأننا لا نتعلم مطلقا من أي شيء حدث من قبل!


ما يحدث في تويتر، ليس سيئا، وليس خطأ، وليس مزعجا، ولا يفترض أن ينزعج منه أي طرف إلا ذلك الطرف الذي يودُّ أن يقسر الآخرين على تبني وجهة نظره. ما يحدث هو اتفاق على الاختلاف، وكل إنسان يجود بما لديه من حجج ومجادلة، وهذا هو الجانب الصحي في المسألة الرقمية. ما يحدث ليس "ضحلاً" وليس "خاليا من المعنى" وليس "سيئا" .. ما يحدث هو طاقة جماعية هائلة والذي لا يجيد التعامل معها باحترام، وتقدير لكل فرد فيها على حدة هو الذي يصنع الأزمة الكبيرة، وهو الذي يكهرب كل شيء، لأنه لم يحترم الطرف الآخر بما يكفي لكي يعطيه قيمةً لرأيه، وبالتالي، سواء كان هذا الطرف من الناس، أو من الرقيب، أو رقيب من الناس، أو فردٌ متمسك بفردانيته، أو منتمٍ متمسك بانتمائه، أو صانع زخم، أو قائد جموع، أو "مؤثر" أو مجرب، أو ما يكون! كل هذه الطاقة الجماعية، تضخُّ الكلمات، والمجادلات، واللغة، والإبداع، والصورة، والصوت، والرسمة في المكان الذي يستوعبها بطريقته. تويتر ليس جنة الله في الأرض، وليس حريةً موعودة، إنها منصة رأسمالية تبيع وتشتري في كوكبٍ كامل، بخوارزميات هدفها الربح، حاله حال الانستجرام الذي لا يحبك لسواد عينيك، الأمر نفسه. الذي يجعل هذه المنصات جاذبة، وخيارا أول، لتلقي المعلومة، ولإرسالها لأنَّ التقصير في الاستفادة من هذه الطاقة الجماعية [الاجتماعية] يجابَه بمدرسة قديمة، تميل إما لتعطيل الكلام، أو لنزع معناه وتحويله إلى عموميات لم تعد تنطلي على أحد، أو ما هو أسوأ. الخلل أكاديمي، وإعلامي، وتلام المؤسسات الأكاديمية قبل مؤسسات الإعلام. الخلل الكبير، هو عدم وجود مساحة اعتراف، واعتبار أن المنبر المؤسسي قيمة لمن يرتقيه! وهذه معضلة الفرد في هذا العالم الحديث. تكون رقميا: قيمتك هي "تايملاين" وملفات رقمية، وتأثيرك وانتشارك تحدده اشتراطات رقمية غامضة مبنية على إعلاء المربحين للمنصة. تكون مؤسسيا: تتعامل مع رقيب يريد من البشر القيام بدوره بدلا عنه، يفشل في الوصول للناس وإقناعهم، وبالتالي يستخدم منابره كوسيلة لي ذراع، وسيتلف عقلا وراء آخر، ومبدعا وراء آخر، ويتحيز، ويمارس الشخصنة واللف والدوران ولا يبالي أن يتسبب بأزمة شعبية بين الناس وبلادهم فقط ليحافظ على موقعه كرقيب، لعل، وعسى أن يخفف هذا عنه مسيرة الخفوت، وتضاؤل التأثير، والشعور العام بأنَّه يؤدي واجبا شكليا على الرغم من تضخيمه المستمر لمنجزه الذي يُسأل عنه بكلمة "أين؟" أكثر من كلمة "كيف!" وككل مشاكل الكلام، الجميع يعرف ما هي المشكلة، والحل يحتاج إلى أن تغضب الجميع! بالتالي، من هذا الذي سيجازف بأن يكون شجاعا في اعتبار الرأي الفردي العام وسيلة إنتاج، ونمو، ورقابة تفيد الدولة والمجتمع، ومسؤولية تغرس في الأجيال؟ الجميع سيختار تلقائيا خيار السلامة، وعندما يكون الأمر بيده، سيختار ما هو أسلم، وما هو أصمت، وما هو أبعد عن المجازفة والتجربة، وهذه حكاية الكلام المستمرة التي لا يريد شخص أن يتقدم إليها لفرط ما فيها من غموض المجهول، ومن احتمالية الخروج عن المألوف، فضلا عن المعضلات الآخرى السياسية، والاجتماعية، والفكرية التي لا حل لها. انتظار العربة، أو انتظار الأزمة، ووقتها إما الفوضى أو الجمود، الفوضى تقود إلى حلول الصمت، والجمود يقود إلى حلول التسليم واليأس، ودائرة، كلها تصب في النهاية في تعطيل مصدر نمو اجتماعي لأن هذه المهمة يقوم بها بالنيابة عن مجتمع كامل، مجموعة من الأفراد الذين يظنون أنهم يملكون مفاتيح الصواب! عموما، كما قلت وأقول من قبل #الماشيئفائدية هي إحدى تقنيات التأقلم مع وضعٍ مثل هذا. هنيئا للرقيب كل ما يفعله من تعطيل لهذه الطاقة الهائلة والمثمرة فقط بحجة أن خطأ واحدا يشمل بالضرورة الجميع! أمَّا تفكير منتج ومثمر بصراحة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.