تتدافعُ المقدسات في دمي. إنها لحظة بصيرة، نادرة،
عدمية، صافية، تتكلسُ كأنها خيط عنكبوتٍ متسرعةٍ صنعت خيوطها بالجبس المنمنم. لا
أعرف لماذا أكتب؟ أي نداء غامض أتقصاه هذه المرَّة، لقد سئمت من لعبة وصف اللاوعي،
وكأنها صفقة الاعتراف بيني وبين الغرباء، أن أشرح لهم كيف يعني أن تعيش في غيمة
بعيدة في سماء ذهنك، منفصلا عن الواقع، هائما، مهلهل المنطق حاد البصيرة، هذه
صفقتي مع العقلاء في هذا العالم، أن أكون كشافهم التجريبي عندما يقترب أحدهم من
الجنون، لست حزينا لأنني مجنون، أنا حزين لأنني إنسان!
لماذا أكتب؟ منسابا كقطرة ماء لا خطة لها وهي تسقط
للطين، هذا ما أشعر به الآن، في بيتٍ طال مكوثي فيه، في قلب عزلتي، وعدم اهتمامي
وتجاهل العالم لي، وتجاهلي العالم، لحظة لا عدو فيها، ولا صديق، عُزلة العُمر
الأقرب للقلب، ومضة اللغة وصفائها المقدس في عروقٍ من الحبر، تلك الأنهار الصغيرة
التي نتحدى بها مصيرنا البائس بين رفَّات أجنحة الحمام الذي يطوي الأيام. اليوم
يمر، وبعده اليوم، والزمن يحمل توابيته المنسيَّة إلى ذكراك، أي مصيبة ظننت أنها
ستعيدك لله أعادتك للحياة، وأي حياة؟ هل بعد كل الذي حدث حياة؟ الجروح الشديدة تشفى
ببطء شديد، وأنا أكتبُ لأنني أريد أن أكتب، لأقول شيئا ما عن هذه الحياة وأسئلتها
الغريبة وإجاباتها الفادحة، أعرف سؤال عمري الكبير، أما هذه الحياة فهي أغرب ما
جربت، هدوؤها ليس مخادعا، اللامبالاة ليست حنقا يحترق داخل القلب، لقد أصبحتُ لا
مباليا، لا أعبأ بأي شيء في الحياة، لست مقبلا عليها، كم هدمتُ من أجل لحظة
الكتابة هذه؟ هل سيهون عليها القليل من العُمر! لم يهن، وعشت قصتي، أقمت في حكايتي
بما يكفي لأحكيها دون حزن وغضب، حدث الكثير، وتشظت أيامي بين الغرباء، عُشتُ تجربة
أكبر من استيعابها، أكبر من أن أتشكى أنني عشت ولم أجرب شيئا في الحياة، وصلت
للحياة الطبيعية حُطاما، أن أكتبَ لكي أكتب، أن أرمم هذا الحطام، لا يضير القليل
من الفهم، ولا يمنع الكثير من التذكر، مع مراوغة مسامير الألم التي تحرق الرئتين
من الداخل، مع الهرب الطفيف عن الحياة، إلى اللغة، ومعانيها، وعلاقتها الوطيدة بالوجود
متعدد الملامح قليل الصفاء، إن كان للزمن لوحة فهي بألوان رمادية، إنني أكتب، ولا أعرف لماذا، لأهرب من كل الأيام التعيسة
التي حدثت حقا، الجروح التي لا تُطاق والألم القاسي في حنايا الروح، شوك يسير في
كل فكرة، صراخ داخلي، وكثير من الحسرة والغضب! أيا أيام عشت أيها الصعلوك؟ كل ما
حدث قد حدث، وتمزقت لسنواتٍ في جروحك حتى ألفتها، عرفت أنك ستحمل ندباتٍ إلى نهاية
عمرك وأن وقتك لتفهم من أنت قد حان، لماذا أكتب؟ لأنني انتهيت من رحلتي الأصعب
داخل حواف جمجمتي، لأنني مستعد لسرد ما حدث، لأكتب، متجاهلا الأشكال مؤمنا
بالتداعي هاربا من أوعية العرض التي تعرض في فاترينات النخبة، أكتب لأكتب، خارج
استعراضات المهارة اللغوية، وألعاب المجاز، وشفافية الشعر في جملة غامضة غامقة،
إنها لعبة ذاكرة، وسرد وتذكر، تذكر ذلك وأنت تقفز مجددا إلى عالم الكلمات، فلتكن
الحكمة قبل القفزة في المحيط البعيد، حيث تنطق الكلمات بعيدا عنك، لحظة لستَ
خطيباً، ولا ثائرا، لحظة من العلاقة الغامضة مع هذه الرسوم الملتوية، حبر اللون الأسود،
في شاشة وكلمات تتشكل أمام لوحة المفاتيح، أكتب لأنني غائب، ضعت في سماء المعنى وعدت
منه بجرحٍ الزجاج على وجهي، أكتب لأنني تذكرت كل ما أنا عليه، وأن طريقي بدأ بهذه
الكلمات وسيذهب إليها مهما كانت الرحلة صعبة، كنت أعلم أنني سأعود إلى هذا الدفتر.
أكتب لأنني أشعر بالحزن الخفيف، ما يكفي من القتامة كي أبصر الشمعة في المدى، أكتب
لأن الحياة قد تناثرت إلى أيامها العادية، أكتب لأنني هذا الذي عرفته عقدا ونصف من
حياتي، ما المهم حقا؟ أن تكتب؟ أن تعيش علاقتك مع اللغة كما تشاء؟ أم أن تهتم
بوعاء اللغة المستخدم، لأن الكتابة تتعبك لكنك تحب نتائجها في النهاية، بعد أن
تتحول إلى وهم جامدٍ سيقرؤه الأصدقاء في العام القادم وسيقولون لك رأيهم بعد أن عرفت
من قرائك كل ردة فعل يمكن أن تنفعك في مسارك القادم مع متاهات الحروف، أنت تكتب لأن
هذه اللحظة من العزلة جزء من حدوث الحياة في أيامك، البعد، والمنع عن الحركة،
والعزلة، كل هذا ليس جديدا عليك، الجديد عليك أنك عدت إلى كراستك الأثيرة، وأصبحت
وثيرة وأنت تنحت الحروف بعيدا عن الحسابات المعقدة، والألعاب الدونكيشوتية العبثية،
وصراع الإشارات والخطابات والدعاية، لقد فعلت حسنا بنفسك عندما أرحت رأسك من هذه
الحياة المشحونة بالصداع، وأنت تكتب لأنك تحب أن تكتب تعيش الحياة مرتين، تلون
أسئلتك بالفهم، وغموض الماضي بالتصور، وستعيش آخرَك كما تعيش الآخر، ستكتفي من
النبش في أسرار ذاتك معتمدا على الماضي وتفكر بالقليل من الغد. كلنا سجناء ماضينا،
أتبعنا بما يكفي لنتذكره كل يوم، نحن ماضينا وأخطاؤنا التي لم تحدث، كل ما نخاف
منه وعليه، في السابعة والثلاثين ولا يعرف لماذا يكتب؟ لأنه يكتب؟ لأن لحظةً قررت
ذلك، وكأنك تعتذر لنفسك وتخفي ترفيَّة فعل الكتابة وخموله الحركي الفادح، تُنطق
اللغة بالحياة لكنك عالقٌ في دوامة الافتتان الكلمات، تجعل منها صناعةً مضنية من
الوسواس والسعي للجماليات، ثمن حياة أخرى من الانهمار والاحتفاء بالذاكرة، أي
تناقضات تحفل به آلة اللغة باحتمالاتها غير مدركة النهايات، نعيش لأننا لم نمت
بعد، من الغموض وإليه، ويا للطرافة! لدينا أحلام وطموحات وتعلقٍ شديد بحب أيامنا،
كيف سيفهم الذي لم يفقد أيامها عبثا هؤلاء الذين عاشوا أيامهم بالتصاقٍ فائق
الحماسة بها. أكتب لأنني انعزلت عن لحظتي ولم أعد مثل الآخرين، لستُ آلة في
مجتمعٍ، ولستُ في قلقي المستمر على لقمة العيش، أو الصحة، أو المستوى الرياضي! أنا
في لحظة لغة، جذبتني وبدأت ألعابها في أناملي، اللغة التي كنت أجس بها نبض الغموض
أصبحت تضج بالواضح، واتجهت للسرد، تخمر الشعر حتى اختمر، أما السرد فهي لعبة
الوقت، الغياب التأملي الأجدى للذهن في عالم يكرر فيه الإنسان كل شيء، نحن البشر
نتشابه إلى درجة مقرفة، واتفاقنا في ماهية الأنانية، والمصلحة، وصناعتنا للممكن
المنطقي من كل مدارس الحياة والدول، علبتنا المدنية حتى أضحى من الصعب أن نعترف
أننا تحررنا من علب كبريت، الصندوق المدني الكبير الذي نعيش فيه هو ذلك السجن المعقول،
الذي تدمج فيه قلق الماء، والمجاري، والمكيف، وربما المدفئة، وكل أشياء القلق
المدني الحديث، قلق لا يتوقف لتكمل الحياة، لتتجنب الانزواء والمكوث بعد عاصفة صعقتك
حتى جحظت عيناك!
أكتب لأنني وجدت سؤالا جديدا! لأن اللامتوقع في اللغة هي
المغامرة الأخطر في الحياة من المكوث في عدة زنازين لوقت قليل من الزمن، أكتب
لأنني مصاب بلعنة الكلمات، ولن أستطيع منها فلاتا، وسأعيش كل الحياة ثلاث مرات،
مرة حين أتخيلها، ومرة حينا أعيشها، ومرة حين أتذكرها، أي لعنة هذه أن تعيش كل
حياتك ثلاث مرات؟ لعنة الحياة التي تنفذها، كأي أسير لموجوداته العقلية تتجه
للحياة بما يجب عليك من اللامبالاة.
إنني أكتب، لا لشيء، لأنني شعرت أنني أريد أن أكتب، وفي
لحظة قادمة سأعود هنا لأقرأ، لا لشيء، وإنما لأعرف ما الذي كنت أشعر به وقتها،
للكتابة وظيفة أهم في حياتي من كل ما ظننته عن الكتابة، إنها وسيلة بقاء، صدامٌ
يكفي لتدرس العالم وأنت بعيد عنه، لستُ في معركة، ولا اتجاه لدي، أكتب لأنني أطوف
في أفلاك اللغة، بلا خطط، ولا توقعات، أكتب لكي أكتب، وأغوص في هذا الغياب لأعرف
ما الذي كنت أقوله لنفسي، ما الذي انسكب من أصابعي، أين يأخذني همي، وإلى أي مدى
كنت غافلا عن الألم الشديد الذي يقض مضاجع النفس ولا أراه، ها قد رأت آلامي مفتتة
بين الجمل، يمكنني أن أترك هذه التدوينة مع وعدٍ لطيف بالعودة إلى اللغة بسلام.
معاوية
يونيو: 2021