بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 24 يونيو 2021

تأملات في عهد كورونا

 

 

 

في هذي الدنيا، أقصى ما عليك فعله إنك تحاول تنفَّذ حياتك.. ولا في الحقيقة، المدنية غيرت سلوكنا البشر إلى الحد اللي أدبنا فيها كورونا، واجد اغترينا بصناديق الكبريت إلى أن جاء اليوم يصلي فيه من سكن الغابة إلى الإله شكرا أنه ليس معنا في هذه المدن العمياء!

وشوف كيف غرورنا البشري! طلعنا القمر! باغيين نروح كوكب ثاني، المدنية علمتنا حيل جيدة لتعزيز سيطرتنا على هذا الكوكب، نسينا أن تكدسنا هو سبب الموت الأكبر، حرب عالمية ثالثة أو فيروس لئيم، كلها واحد! خذ درسك أيها الإنسان المتعالي، أين صناديق الكبريت التي تباهي بمصابيحها؟ هل نفعتك؟

إن الوقت الذي انعزلنا فيه عن طبيعتنا يُسمى عمرا، وسنموت في هذه القطيعة وهذا الانبتات الحاد، لن تأكل من حقلك، لن تعيش في ريفٍ حُر تشرب حليبا وتأكل بيضا وعسلا طبيعيا، كانت هذه حياة الجميع يوما ما، اليوم هي خيار مجموعة الفلاحين القلة الذين يعيشون حياة طبيعية، بمعنى الكلمة!

وجالسين نضحك على أنفسنا، إنه هذي الحياة، هذه المدنية، التي لا تتجاوز أن تكون إسمنتا تحسب فيه حساب أسلاك الكهرباء، ومصابيح الليل. لم نعد نعيش في كوكب، إننا نعيش في مدينة، واحات من الإسمنت تمنعك أن تعيش طبيعيا، تزرع، وتصطاد، وتربي عسلا ودجاجا في ريف قليل السكان، تعلب كل شيء!

نحن نعيش عصر الكهرباء، سجناء في زنازين على هيئة مدن، لا نهرَ لك نصيب فيه، ولا أرض يحق لك الصيد فيها، ولا بحر تذهب إليه لتأخذ [راشن] بيتك وتملحه في كهفك أو مزرعتك لأسابيع، الكهرباء تغدق علينا الديمومة، ونزعة البقاء البشري أصبحت تتجلى في سلك من الأسلاك! نحن أبناء عصر الكهرباء!

المدنية لعبة بطاريات وأسلاك، ما تغير شيء منذ عصر الهاتف النقال وغير النقال، بدلا من ارتباطنا بشبكة الكهرباء، أضفنا لصناديقنا من المدن عامل الشبكات، الإنترنت ونواقل البيانات، صرنا ننعزل معناً وأصبح صندوق الحياة مليئا بالبشر، والكل يتسلى بشاشات عصر الكهرباء الفردية! عصر السرعة!

وهذا درس كورونا القاسي، عشان شوية الإنسان يتذكر إنه يتكدس في المدن مضطرا، آلة المال اختطفت طريقة الحياة في هذا الكوكب حتى حدوث الكارثة العالمية القادمة، لم تشتعل الحرب العالمية الثالث بعد، ولكن قد تشتعلُ يوما ما، نتوجع الآن من دروس كورونا قبل أن نحارب بعضنا البعض في الغد!

طال أوان التربص والحروب الباردة، لم تعد الحروب رفع أعلام على ترابٍ بعيد، أصبحت مصالح متشابكة، لم ننقرض بعض لكننا صنعنا كل ما يقربنا للانقراض الحضاري، الذين سيبقون سيعودون إلى الأخطاء نفسها، وسنتكدس إلى الحد الذي تكفي فيه جرثومة لتزلزل ما كنا نسميه حياة طبيعية.

وبينما العالم يستعد للصراع، والجيوش مجهزة، التي تدافع لتدافع، والتي تغزو لتغزو، يزورنا هذا الكائن اللامجهري اللعين! وتبدأ عملية تأديب الجنس البشري، دروس مدتها عامان من التخبط، وتخيل! العالم اللي متخبط! هذي أول مرة نقدر نقول فيها إنه العالم كله ليس على ما يرام!

وكل يوم شغال فيه هذا المؤدب، كوكب كامل متعطل، وأنظمة صحية مرهقة، وتلخبطت كل الأرقام، الحالات، الموتى، الناجين، أخبار متناقضة وهجوم ضد اللقاح، وهجوم مع اللقاح ولعبة خنازير الرأسمالية على أعلى مستوى أممي، والآن المتطورات! كورونا أدبنا بما يكفي! أدب الكوكب بكل احتراف ودقة!

والمؤدب شغال! على أعلى مستوياته، لا ترك مستشفى، ولا سجن، ولا كبير، ولا صغير، حد يسبب له جلطة، وحد يفقده رائحة العطر يومين، كابوس فوضوي عشوائي شرير بمعنى الكلمة ولا يرحم، فيروس صغير شغال يؤدب الجنس البشري كل يوم بدرس، والإنسان مذعور على مدنيته، خائف من فقدان أورامها الشهية.

 

لقد أدبنا هذا اللعين، أوه بالمناسبة عزيزي القارئ إن كنت تستغرب هذه النقلة، كنت أكتب في تويتر حين أدركت أن هذا الدفتر هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يفكر إنسان بالكلمات فيه، أن تكتب يعني أن تفكر، وأنا كنت أكتب، في ضيق تويتر لأجد نفسي الآن في الباحة الواسعة لمدونة مكتوبة، يمكنني أن أعيش ستة أعمار أكتب هُنا ولن يعني هذا أي شيء في زحام الكلمات في الحياة، يعني لي قبل أن يعني لأي شخص آخر.

كيف ستكون الكتابة في عصر كورونا؟ حيث تسبغ الحياة درسا فلسفيا يوميا على أدمغتنا البشرية الموهومة بالقوة والمشحونة بالأمل، نريد أن نؤجل الموت أقصى ما نستطيع، ولكنه يزورنا بكل أسلحته الجرثومية، وما تحت الجرثومية. يؤدبنا كورونا خير تأديب، يسلخ ظهورنا كبشر بكل ما يمكنه من قوة، هل عرفتم من هو الأقوى يا بشر؟ أنتم وأسلحتكم النووية، والجرثومية وبكل ما أعددتموه من أدوات الموت والفناء لبعضكم البعض، بكل ما ابتكرتموه من لغات، ومن حضارات، ومن ثقافات وانتماءات كبيرة، أدبكم هذا اللامجهري، أذاقكم ويلاتٍ ظننتم أنها تحدث فقط في عصور ما قبل التاريخ، أيها الإنسان المفتتن بأشعة أكس، وصناعة اللادائن، وتلهو وتمرح في عصر البطاريات، مر عليك عصر الكهرباء ليعزز أوهامك، ليخرجك من الحياة الطبيعية، والآن تدخل بعدا جديدا من حياتك في الشاشات، بعيدا عن أبقارك وحضائر الماعز، من إنسان طبيعي يصارح للبقاء إلى سائح يعيش حياته في مدينة، والقلة الذين يعودون للحياة الطبيعية، ويتسلقون الجبال، ويهيمون في الوديان، هذا هو غير الطبيعي في تعريفنا! إنه المضروب على رأسِه؟ لقد تطاولت في غرورك كثيرا أيها الكائن البشري، وهذا درسك الوجودي ما زال مستمرا، يلسعك كل يوم بأخبار جديدة، وتحورات تُخجلك أيها العارف بكل شيء، يا إنسان العلم الحديث والأشعة المقطعية وحواسيب تشفير البروتين وتحليله، بكل ما أوتيت من سعة خيالك لم تكن تتوقع أن يفعل بك هذا اللامجهري كل ذلك، غير مجرى التاريخ، أوقف تضخم الورم الرأسمالي وربما إما جنبنا الحرب العالمية الكبرى، أو ربما أجلها لبعض السنوات، من يدري بالغد؟ ألم يحدث كورونا؟ ماذا يمنع حربا عالمية ثالثة؟ ماذا يمنع صداما جديدا؟ لا شيء إلا شرارة أما القش فقد تناثر ما يكفي عبر أيام التاريخ المدني الحديث، نحن نسير في منحدر بشري وقد يكون من المؤسف أن نحرف أن كل ما نحن فيه الآن هو بداية الانحدار الكبير، إما انتصر كورونا بتحوراتها، وجاعت المدنية إلى الحروب، أو انتصر هذا الإنسان ونال فرصة يكمل فيها مدنيته، ليبني جسوره، ويمد أليافه الضوئية ويعزز محطات الشبكات الإلكترونية والأقمار الصناعية، لقد أعجب الإنسان بعصر البطاريات، ويعيشه بحماسة لم يفسدها إلا فايروس، ماذا لو كان كورونا هو أبسط الدروس التي سيلقننا إياها العالم والكوكب في السنوات القادمة؟ هل تتخيل فداحة الكابوس؟ أن هذا الذي نعيشه من زمن كورونا قد يكون أجمل أيامنا! يا إلهي الرحيم! ما الذي سيأتي على هذه البشرية المنهكة؟

 

لقد أدبنا كورونا فأحسن تأديبنا، عرفنا حدودنا كبشر، وإلى أي مدى يمكننا أن نعبث بسلامتنا في هذا الكوكب، أخبرنا الكثير عن سحر المدنية، وحياتها المؤقتة والمقيدة بأسلاك الكهرباء ونواقل البيانات، لقد أدب عصرنا اللاسلكي، عصر البطاريات والشاشات، عصر الإنسان الذي يدخل ليرى نفسه، ويصورها، ويشارك حياته مع مجموعة أخرى من البشر أيضا تعيش نفس مشاعره اللاسلكية، نعيش ونوثق العمر كأداة مجانية، لم تعد تحتاج أن تكون رساما مبدعا، أو ناحتا على الصخر بإزميل لتكتب قصيدة، الكون كله ورقة بيضاء وأنت نقطة في بياضه المشع، لقد أدبنا كورونا وأحسن تأديبنا، أعادنا للعزلة، والقنوط، والشعور بأن قيامة البشر ستكون قاسية وشرسة، وهؤلاء البؤساء الذين يقاومون هذا المؤدب اللامجهري، يحاولون الخروج من عنق الزجاجة، يعلمون أن عصر المجاعات سيبدأ، وأن هذه الصناديق التي كونت المدن قد تخلو من سكانها، وأن بقرةً سمينة قد تصبح أثمن من كل عملات البتكوين الرقمية، كوابيس المبدعين تتحول إلى حقيقةٍ يقترب منها الإنسان كل يوم، لقد أدبنا هذا المجهري، أدبنا وأحسن تأديبنا. والآن عرفت لماذا آثرت أن أعيش لحظة الكتابة هُنا، إنني مشتاقٌ كثيرا لهذا الانطلاق. إلى أن تتحقق مشيئة الفيروس، فلتكن مشيئة اللغة، إما نجونا فكسبنا أياما نحكيها، وإما هلكنا فرحلنا بكل أسئلتنا، عشنا يومنا التعيس، وتلقينا درسنا، وغداً يوم جديد، ممتد من أيام كورونا ودروسه اليومية القاسية. إيه أيها المؤدب! كم صبرت إلى أن قررت التمرد على كوكب الإنسان؟

 

 

معاوية

 

يونيو

2021