بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 يونيو 2021

أن تحمد الله على كل شيء

 أتحدث مع صديق وأقول له ضمن سياق الحديث عن تجربتي في السجن وقبلها قلت: أنعم الله عليّ وأكرمني والحمد له بدخول السجن. ضحك، وظن أنني أقولها سخرية.

 لم أكن هازئا، عندما أنظر للمجمل العام والتغييرات الجذرية التي حدثت لي بعد السجن ما زلت أقول أنها أكثر تجربة نفعتني في حياتي.
علمني السجن الانفرادي الغوص في الذات، اكتشاف أخطائها، قضيت مائة يوم ويزيد مع القرآن أنبش في معانيه، وفي الوقت نفسه أعالج بها ذاتي المأزومة وتشوهاتها ونزعتها القبيحة لجلد الذات وتشويهها وذمها، عرفت معنى النفس الأمارة بالسوء في الانفرادي. أما في السجن الجماعي فالدروس اختلفت!
في السجن الجماعي تعلمت معنى الرضى بالقليل، لم تعد زخارف الحياة الدنيا تشدني [ملابس، ساعات، سيارات]، فهمت أن ثروة الحياة هي المعنى أما حطام الدنيا فلم يعد يشدني، صرت أشعر بالثراء، الثراء الشديد لمجرد وجود حياة طبيعية حولي وأعيش فيها، ولكن هذا ليس الدرس الوحيد.
تعلمت في السجن أهمية الصحة، وقطعت التدخين هُناك بصرامة وحزم بدون مساعدات والتبغ يباع في السجن وهو عُملة ثمينة حاله حال الماء المعدني [الصحي]. عرفت قيمة الأدوية التي كنت أتركها ليشتعل عقلي ويخرج عن سيطرتي، عرفت قيمة الصحة عندما اعوج ضرس العقل وعشت آلامه لأسابيع، تعلمت الكثير هناك.
لم أنتبه في السجن إلى خروجي الكبير من الإدمان، كنت مشغولا وقتها بإيجاد حل للمشكلة التي أنا بها، وقدر الله لي البراءة بشهادة من الخصم، وخرجت من السجن إنسانا مختلفا، نعم كنت ممتلئا بالغضب، لكنني صرت أعرف عدوي من صديقي، والمؤسف أنه غيرني لشخص انتقامي لا يسامح أبدا، للأسف الشديد.
بعد السجن متاع الحياة الدنيِّ لم يعد يغريني، أشعر أنني أثرى أثرياء العالم، مندهشٌ بفلسفة الحد الأدنى، سيارتي تعني لي أكثر من فيراري من سراب، وهي مواليد 2006، لست ساخطا على شيء من حطام الحياة، القليل يكفي لتكون مطمئنا، وهذه ثروة الحياة، الطمأنينة.
لذلك، أقول الحمد لله الذي قدر لي تلك التجربة، رغم صعوبتها قوَّت عظامي ورزقني الله أثناءها وبعدها صلابة وشراسة، تعلمت الدفاع عن حقي والممايزة بين الصديق والعدو، وتبت عن أن أكون أداةً أو أضحية يقدمها جبانٌ لئيم لديه خطط ما ولا يعبأ بما يحدث لي لتحقيق خططه.
تعلمت أن أعيش دون أن أخاف إلا من الله وألا أخشى سواه، وآمنت أن قدر الإنسان مكتوب له وسيعيشه لا محالة ولا محيص. تعلمتُ درسا كبيرا في السياسية والمسايسة، وفي حقائق الدول والشعوب وفي حقوق الإنسان، ورأيت ظالمين ومظاليم كثر عشت معهم في عنبرٍ واحد، حكايات تلو حكايات.
عُدت لأجد النعم التي يعيشها السجين، أن يعلم من صديقه ومن عدوه، وأن يعرف حقائق ما وراء الثعابين الناعمة، لولا الغضب لربما كنتُ قد عشتُ في تلك الحياة للنهاية، ولكن الغضب عدو صاحبه، خسرت ثلاث سنوات من حياتي الجديدة بسببه، وجاء كورونا وأخذ عامين، قدر الله وما شاء فعل.
كانت معركة صعبة للغاية، الخروج من كل تلك الدوامات والتجاذبات المريرة بما فيها من حيل وألاعيب ولئام. معركة من الأقنعة والكذب الكثير الكثير من الكذب والتلون، عشتُ الدور كأنني أؤمن به حتى ذهبت إلى عزلتي لأرمم غضبي، هذه المرة كانت المواجهة أصعب وأقسى، ولكنها مرَّت.
عشت دروس السجن وأنا أتعلم دروس الهجرة، شعرت بالثراء بعدما اشتريت خمس دراجات هوائية مستعملة، قيمتها كلها لا تتجاوز 170 ريال عُماني، لكنني شعرت بالثراء، لتجربة الغربة موعد مختلف مع الحروف، أما دروس السجن، فأولها الصبر، وآخرها الطمأنينة.