بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 يونيو 2021

لماذا أهذون؟

 

 

مرَّ ما يكفي من العُمر دون أن أسأل هذا السؤال؟ ما الذي يا تُرى يجعلني مهذوناً؟ قبل استرسالي في السرد، والتداعي الهذوني دعني يا عزيزي المتلقي أضع بعض النقاطِ على حروفها. لستُ ألتزم بتفسيرك لهذه الكلمةِ، لديك الحق في تصوراتك المسبقة عن ماهيَّة الهذيان، هذا هو استحقاقك النقدي المقدَّس والذي، بلا شك، تتمسك به بشراسة. الهذونة كلمةٌ تخصُّني، أصفُ بها هذا الذي تقرؤه الآن، والذي تشاهده أحياناً في اليوتيوب، ليس دائما، فقط عندما أنفصل عن كائني الاجتماعي إلى هذا الكائن المعنوي [المهذون] المتمسك بمعناه، وبخياراته.

الهذونة شكلٌ من أشكالِ التدوين، ألا يكون لك هدفٌ براغماتي من كلامِك، أن يكون هدفك هو التعبير عن اضطرابك وحيرتك، وأن تتمسك بحقك في اللامبالاة، وفي السخرية من هذا العالم، وفي الهذيان عنه، في تحويلِه إلى عالم متخيَّل تهاجُم فيه الأشباح التي ترعى في خيالِك أكثر من الأشباحِ التي تَسكن الواقع. الهذونة مسٌّ من الذهان، هو كيان لغوي منظَّم الشكل عبثي المضمون، المهذون هو ذلك الذي يهذي ويبحث عن نور الحكمة في جنونِه، هذه هي الهذونة في تعريفها الخاص بي، أن يكون لك تعريفك الخاص فلا بأس في ذلك، حاول ألا تحشرني في علبة الكبريت التي تبادرت إلى ذهنك عندما ارتطمت عيناك بهذا المصطلح العبثي، وما دمنا قد اتفقنا على أن نختلف، أعود إلى سؤالي غير الإشكاليِّ، لماذا أهذون؟

أهذونُ لأنني أتمردُ عن قصدٍ على نظرية المكانةِ التي ارتبطت بالكتابةِ في هذا الكوكب. لا شيء مميز في أن تكون كاتبا، ولا شيء مهم، أو وضيع في أن تكون كاتبا. هذه الحروف ظلٌّ للكلام، إحدى تجلياته التي استطاعت أن تبقى بعد أعمارنا، نحن نقدُّس إناء الكتابة أكثر من الكتابة نفسها، ولهذا السبب تحديدا أفضل الهذونة، هذا الارتماء الحر في مُطلقِ الكلمات والتصورات، هذه العجينة الذهنية التي تُفلت بعض شعراتها من العجين، شعرة معاوية إن أردت التحذلق، أو فلأقل الخيط الفاصل بين ما هو واقعي، وما هو حتمي. إنه خياري، وقراري، وأحترمُ ابتعادك عنه، ونعم قد تمارس استحقاقك بعيدا عني، ولا بأس في ذلك، لكنك قد تقترب لتفرض عليَّ ما أرفضه وهُنا سأختلفُ معك، سأرد عليك بتهذيب، أو ربما إن كنتُ في إحدى لحظاتي السعيريَّة فسأشدُّ عليك، ولعلنا نتحول  إلى خصوم وربما أعداء، وقد يصبح الأمر شخصيا، هذه من المآسي الذاتية التي أعيشها في هذه الحياة، لا ذنب لك في ذلك، ولا حق لك أن تجعلها قضيتك، فمربعي في الكلام حقِّي كما هو حقّك، وليلتزم كلٌّ منا بحقوقه في الحياة بعيدا عن اعتبار تحيزاتنا المسبقة تجاه الآخر حقا من حقوق القمع والإخراس.

أهذون لأنني أختارُ ذلك، فالكتابة أداةٌ يملك الجميع استخدامها، لها وظائفها الكبيرة في الحياة ولست بصدد تعريف المُعرَّف، أستطيع أن أقول أنني خائف من نفسي، ومن كل التناقضات التي تمزقني، وأنني رغم كثرةِ ما أبوح به للعالمِ ما زلتُ في لحظة الكلام الأولى، تلك الصافية الشعاعية التي تكمن خلف الكلمات، وحتى الذي يشعر بها لا يملك لغةً ليشرح بها ما يشعر به. شعاعٌ هالتنا البشرية الذي ينبلج منه الحدسُ وتشتعل به شموع البصيرة. لا أنتمي لشيء لأنني لا أعرف ما يكفي عن الانتماء لأي شيء. عشتُ هذه الحياة كأنني شجرة جرفها الطوفان، لستُ جافا، لكنني لستُ ثابتا، وأخاف كثيرا أن تكون الأفكار موضوع صدام وصراع. عشتُ هذا الصراع بما يكفي لأفهمَ أن هذه الحياة لا تُعاش مرتين، وأنني لست في العشرين من عُمري غافلا عن وجود البؤس، والشياطين وحتمية وجود الظلم، والظالم والمظلوم. أهذون لأنني لست يائسا ولست مريضا بالأمل.

لا أعيش لأهذون، العكس هو الذي يحدث، إنني أهذون لأعيش، لأفهم، لأبتكرَ وسيلة تقرّبني من صراع الشياطين التي تعصف برأسي. لذلك أحاول ألا أنتمي لأي اختيار جماعي من اختيارات الحياة، وياللهول! لا أنسي أنني عربي، وعُماني، الحياةُ بهذين الشرطين لهما اشتراطات كبيرة تعلمتُ مع الوقت أن أتقبلَ الممكن منها، وأن أنحازَ إلى كل ما يمنع الواقع من التدخل في خياراتي. لست في حالةٍ تجعلني أخافُ مما أؤمن به، مطمئنٌ إلى عاديَّتي المفرطة في النزوع إلى الحياة المتعارف عليها، لم أعد متمرداً لأنني تمردت على التمرد، ولست تابعا، وليس لي أتباع، أي حياة أكثر منطقية من حياة المهذون؟ لهذا السبب أهذون، لأنني لست جنديا في معركة، ولست طاغيةً يوزع أوامره ونواهيه على أتباعه، لستُ أكثر من إنسانٍ يعيشُ في دوَّامة أسئلته دون أن يرهق العالم بها. أهذون لأنني أضعف من أن أعيش دون الكتابة، وأقوى من أن أعيش لأجلها. وجدت نفسي في قصَّة غريبة أعيشها كأنني شخص آخر، عشت من الجحيم الاجتماعي ما يكفيني لأتجنبَ لعبة التأثير في الناس، أو التأثر بهم. رحمني الله بهذه البداية الجديدة وأتمسك بالحفاظ عليها، وياللغرابة أي سخرية قدرية تجعلك تدافعُ عن العاديِّ في حياتك؟ أن تكون عاديا يعني أن تعيشَ حياة جميلة، لست مرهقا بتلك الامتيازات الوهمية التي تؤججها الذات، والتي يشكل فيها الآخر شرطا لازما لتكونها، ماذا عساه أن يريد الآخر منّي ولستُ أتدخل في أي شيء يخصَّه! وأنت عزيزي المتلقي ألن تغضب وترعد وتزبد إذا تدخلت في شبر من مساحتك! لذلك أهذون، لأقي هذه الورقة البيضاء من خطر الآخر، الغريب، ولأنني عُماني فهذا الآخر له سلطة كبيرة، واشتراطات كثيرة، ومزايا واسعة إن انضممت إلى قانونه الضمني، أن تكون معه ومن خلاياه المناعية، وأن تصمتَ عندما يفتري الغريب على غيرك، وأن تحمد الله أن ذلك الذي يُجلد بالسياط ليس أنت. أن تكون عُمانيا فهذا شيء جَميل، أن تكون كاتبا عُمانيا فهذه معركة صعبة، الناسُ هُنا في حالة النشأة، والمدنية والثقافة الاجتماعية في حالة النشأة، وزاد العصر المعلوماتي الجديد صعوبة الخيارات، هل عرفتَ لماذا أهذون؟ لأنني لا أريدُ أن أحدد للآخر ماهية الصواب والخطأ، لأنني أختار أن أكتبَ لأنني أحب الكتابة، لأن الأفكار ليس أداة، لأنني لا أريد أن أكون طرفا في صراعٍ غير منصف، ولعبة من ألاعيب الشيطنة، لأنني أخاف من نفسي، لأنني متناقض حزين مصاب باليأس من أن يفعل شيئا في محيط الجموع، لأنني لا أريد أن أكون سجين التعبيَّة، ولا أريد قطيعا من الإمَّعات أفكر نيابة عنه، أهذون لأنني أحب هذا الذي يحدث الآن، قشعريرة الصفاء مع النفس، واكتشاف النداء الغامض الذي يجعلني أكتب، هذا يكفي، يكفي كثيراً لأختار خياري، لأنعزل، لأبتعدَ عن لعبة الأثر، والإقناع، والتأثير، لأحمد الله على عودتي إلى مربعي الخاص، وعلى نهاية عصر مريرٍ من سلطة الغريب على خياراتي وحياتي. لم أعد ساخطا على الحياة، ولست غاضبا ولا متحسرا، آمنت أن الله أقدرُ على كف شر مخلوقاته. في الكتابة قوَّة لكنها أيضا فخ من فخاخ النفس، أن تشعر بقوتك فهذا أخطر عليك من أن تكتب وأنت ضعيف، شيطان النفس البشرية، وخطاياها السبع التي لا تُفلت أحدا من براثنها، أن تهذون يعني أنك لست ضعيفا، وفي الوقت نفسه أن ترفض استخدام العنف اللغوي، وإن رحمك الله ولم تضطر لاستخدامه في الدفاع عن نفسك فأنت في خير كبير، ونعمة تستحق الشكر. وراء أمر [اقرأ] من يكتب، وسبحان الله العلي العظيم.