معاوية الرواحي
في مثل هذه المقالات العويصة، ونظرا لجسامة الموضوع، وتجاوزه حجمي الفكري،
والمعرفي، والعلمي، لا بُدَّ من بادئة أقحمُ فيها عنوة اسم [جرامشي] وتعريفه
للمثقف العضوي، وسأذهبُ مع الاقتباس للنهاية، وأتحول إلى أحدِ كُتابِ [قرأتُ لكم]،
ويتحول المكتوب إلى صراعِ اقتباسات، وشروحاتٍ وسيكون مادة تثقيفية ظريفة للغاية،
تُشبه البرامج التلفازية الثقافية والتي تغدق علينا كل ما قالَه المنظرون الكبار
في عوالمهم المجردة والمنفصلة عن الواقع الذي أعيش به. يمكنني فعل ذلك، أو يمكنني المجازفة
بمحاولةِ صناعةِ المعنى الضئيل الذي يشبهني، وفق حجمي، [وعلى قدِّي] كما يقول المصريون.
سأتحدث بشكل عام عن المثقف الرقيب في العالم العربي، وتداعيات ذلك عليه، وعلى
الثقافة، وعلى السلطة التي جعلته رقيبا.
من المثقف؟ لعل الشعرية هي الإجابة التي توصلُ المعنى، خارجَ المحاولات
العقلية المضنية لإحاطة تلابيب مصطلح ما بتعريف مُحكم. هل سأقول: ذلك الذي يعرفُ
أشياء الكلام والمعنى، ويتصرفُ على ضوء معارفه وخبراته في محيط تأثير؟
تعريفُ يتفق عليه الجميع شعرياً، وشعوريا، ويصلهم [معنى التعريف] أكثر مما
يفتح لهم بابا للتخصيص. لعله هذا أفضل من لطمِ الكبار ببعضهم، والدخول في دوَّامة
المثقف العضوي، والتخصصي، ومثقف السلطة، والمثقف الديني، وغيرها من الكلمات
المتداولة في سياق المعنى الاجتماعي، وكما اتفقنا من قبل، الحديث في عالم المجرَّد
الفلسفي أسهل بكثير من ربط كل هذه المعارف النظرية بالواقع، تفاعل المعارف مع
الواقع عملية مغايرة للتفاعل معها في مكتبٍ مغلقٍ، أو في صندوقٍ ذهني يتفاعل مع
الذات الفردية، هذا هو التحدي الجسيم الذي جعل مقدمة هذا المقال مقالا في حد ذاتِه.
سأشبه المعنى بالمادة الإشعاعية، مادة خام موجودة في الطبيعة. هذه المادة
هي المعرفة البشرية المجردة والصافية والخالية من تدخل البشر، الكامنة في تراكم
النفوس وسجلاتها الجينية، وسأشبه فعل الثقافة، بالمفاعل النووي بكل ما يتعلق به من
مهنٍ مساندة. الجميع متفق على استخراجِ الطاقة، وأنَّ عملية آمنة ذات معايير
وخطوات مدروسة يجب أن تحدث لكي تتحول في النهاية إلى تلك الطاقة. أين هو المثقف؟
هو كل من له علاقة بالتنظير لذهاب تلك الطاقة؟ كل من يعمل في المفاعل النووية
ينحتُ فعلا ثقافيا، وما هي الثقافة؟ هي تلك الترددات التي تسبب النور في بيوت
الناس، وهذا النور سأسميه الوعي، ولا فرقَ بين الوعي المفيد، أو الوعي الضار حسب
تصنيفات عقودنا الاجتماعية، ستنير تلك الطاقة غرفةً لمجرمٍ يصنع المخدرات، وستنير
غرفة عمليات في مستشفى، المعرفة البشرية التراكمية، ومرورها عبر مرشحات [فلاتر]
العقول المثقفة تُشبه إلى حد كبير هذه العملية، ولا داعي لتفصيل التشبيه، إنني
أريد به إيصال المعنى الذي في عقلي، وأظن أنه وصل لك عزيزي القارئ، ولا داعي أن
نناقش التشبيه، ولنناقش المعنى.
المثقف صانع معنى. هذه الكلمة نضع تحتها ألف خط، فالمعنى أزلي وقديم، يسبغ
عليه المثقف قيمته [واسمه] بقدر تأثيره في محيط البشر، وببصمته اللغوية، وأسلوبه
الذي يشبه جيناتِ ما أنتجه من معنى. هو عادةً في السياق التنظيري ذهنٌ متفاعلٌ مع
محيط الناس، سواءً هؤلاء الذين يلاحق بهم الخلود، ويتمنى أن يتأثروا به ويخلدوه،
أو هؤلاء الذين يعيش معهم لحظتهم وأيامهم، ويريد منهم حضور محاضراته، وأمسياته،
ومعارضه، وحفلاته، وندواتِه الدينية. ونعم، أضفت عامل الدين لفكرة [الثقافة] بشكلٍ
عام، أفعل ذلك متعمدا لأنني أبقى ضمن سياق هذا التعريف، الذي أنحته لغرض اجتماعي
في دولة عدد سكانها أقل من عشرة ملايين لم تتعدد بما يكفي لتتمايز مؤسساته
الثقافية الضمنية فنصنع لكل حقلٍ ثقافيٍّ تعريفاته الخاصة بناء على توجهات الجمع
المتفق ضمنيا على نداء غامض تلزمه به خصوصية معارفه واختياراته الفردية، وتأثرها
بالاختيارات الجمعية.
ضمنَ تجليات هذه الظاهرة الثقافية الكبيرة، الأزلية، والبشرية، يظهر على الجانب
مجموعةٌ من ضابطي الإيقاع الثقافي، وهؤلاء اتفق الجميع على تسميتهم [الرقيب]، وهذا
هو نكدُ الدنيا على المرء، قد يكون نافعاً، ومفيدا، وصالحاً عندما يكتسب عمله
الرقابية صفة البطولة، فيحمي المؤسسات من الفساد، ويحمي الناس من الخديعة والكذب،
ويفند، ويقوم بدور الناقد، ويستخدم لائحة قانونية واضحة المعالم، ويضع في اعتبارِه
أن تصرفه من تصرفات الضرورة، وهدفه الأوَّل والأخير هو الصالح الكبير للمجتمع الذي
يعيش فيه. القوَّةُ/ السُلطة هي التي تُعطي الرقيب صلاحياته، والضمير، والمنهج النقدي
الذي نُسجت به لوائح الرقابة، وقوانينها هي التي تحدد إن كان دور الرقيب لضبط
إيقاع المعنى، والتأكد من إنتاجيته ونفعه، أو لقمع فئة دون أخرى، وحصر المسموح به
ليكون ضمن الدعاية الكبيرة للسلطة، أو للفئة الدينية، أو لليسار الثقافي
الليبرالي، أو للتيار المحافظ كما يحدث الآن في صراع العالم الغربي من أجل تحديد
قيم الوجود والحقيقة وماهية حق الفرد، وحق الإنسان، وحق البشر ككل في الاختيار.
هذا هو الرقيب في تعريفه الكلاسيكي، ذلك الإنسان، الذي لديه لائحة يقوم
بتطبيقها. يستخدم أدوات الرصد في كشفِ المعنى الذي خرجَ عن السياق الذي حددته
السلطة ويتدخل بعدها حسبَ نوعية المجتمع الذي يعيش فيه، رقيب يكتفي بتعديل كلمة في
جريدة، ورقيب يمنع أغنية من التداول، ورقيب في كوريا الشمالية يذهب بمقال به خطأ
غير مقصود لينسف حياة كاتبه للأبد، مهنة ككل المهن في هذه الحياة مهمتها التأكد من
موافقة المعنى للسلطة، هل يذهب الرقيب لما هو أبعد؟ نعم، ولعل نماذج مثل جوبلز في
ألمانيا النازية تكفي لكي تقول لنا خطر الرقيب، عندما تُصبُّ كل الجهود الرقابية
لطمس المعنى، وإفراغ المجتمع من قيمته، وصناعة مجتمع موجَّه بالقسر والمنع والقمع
والإجبار بدلا من القيام بالدور الصعبِ وهو الجدال، والإقناع، والتأثير بالحجة،
واستخدام العدسة الكبيرة لتوضيحِ أسباب السلطة لفعل ما تفعله.
ما يحدث لدينا في الدول العربية يكفي لكي نفهم أسباب ارتباط عمل الرقابة
الضروري، بالسلطة وبالإكراه الذي يتعرض له المرء بمجردِ اضطراره للتعامل مع رقيب
يشبه الآلة، وهذا هو أفضل الرقباء، والتعامل معهم أسهل، فهو يتبع لائحة، ويمكنك
التعايش مع تلك اللائحة دون الحاجة إلى التعامل مع الرقيب شخصيا. يقول لك [هذه
الجملة بها تعدٍ صريح على المؤسسة الدينية] فتقوم بتغيير الصياغة، وينشر مقالك في مجلةٍ
ثقافية في دولة تغلِّب الثقافة الدينية على شيء آخر، والعكس صحيح عندما يكون
التوجه العام ليبراليا، فيضطر إمام مسجدٍ لتغيير مقطع من خطبته لكي يتمكن من
إلقائها للحصول على التصريح المناسب، هذه أمثلة عامَّة عن الرقيب كفعل سابق.
تبدع الدول العربية في مفهوم الرقابة، وعلى صعيد المعنى [الثقافة] وشؤونها،
وأشيائها الكثيرة هناك خلط طبيعي جدا بين مفهوم [السلطة] ومفهوم [الرقابة]،
فالرقيب ليس سلطةً، ولكنه يحدثُ أحياناً أن يلبس ملابس السلطة، ويتشبه بها حتى
يتحوَّل إلى غولٍ يحارب المعاني في عقول الآخرين. هذا هو المثقف الرقيب الأكثر
خطرا على الحرية، والأكثر تحييدا للثقافة، والأكثر تسبيبا للمشاكلِ للسلطة التي
يريد من الأساس خدمتها.
عندما تكون النظرية الرقابية واضحة المعالم، ولا سيما في الدول العربية،
تتحول الثقافة النقدية والتحليلية من كيانٍ معارض للسلطة، ومحرض للناس إلى كيانٍ
يشمل الجميع. الرقيب النافع يتبع القانون، وهذا الأخير [القانون] هو موضوع حضاري
بحت، لا توجد أمَّة بدون قوانين، تطبيق القانون موضوع حضاري، وتغييره هذا أيضا
موضوع حضاري، واجتماعي، وأنت وحظك في الحالة الجغرافية التي تعيش فيها، برلمانية،
أم دكتاتورية، أم دولة العادل المستبد، أم دولة من الفوضى وصراع الأحزاب، أو ما هو
أسوأ في دولةٍ تفتك بها الصراعات المسلحة ويسيل الدماءُ في شوارعِها.
نأتي الآن إلى صديقنا الإشكالي. [المثقف الرقيب]. قبل أن يصبح المثقف رقيبا
نتذكرُ أنَّه كان جزءا من الفريق المقابل، من صنَّاع المعنى، والمشتغلين عليه، جزء
من الحركة الثقافية التي تسعى دائما إلى أنسنة الطموحات، وهي بالفطرة نازعة للشؤون
الكبيرة في الفكر، على رأس الهرم مجموعة المنظرين والفلاسفة، ويأتي بعدهم النقاد
والأكاديميون، ثم تأتي باقي موجودات الثقافة [وموجوديها]، كالشعراء والكتاب
والأدباء والعازفين ورسامي الكاركتير والكوميديين والمسرحيين، وفي الأخير يأتي
الموجود الأهم لكل هذا الجهد الثقافي وهو المتلقي. على جانب هذا المفهوم الكبير
[الثقافة كمعنى] نستطيع أن نشقَّ نموذجين منافسين، يحاولان استحواذ المعنى بفطرة
النموذج. السُلطة كقوَّة مهيمنة، والدين كعاملٍ مسيطر، هُنا تختلف الدول كلها في
تمازج هذه النماذج ولكنها لا تختلفُ في أن طريقة وصفها واحدة، ومن هنا تُنحت كلمة
[مثقف ديني] أو كلمة [مثقف سلطة] وكلنا نعرفُ معنى ذلك، هل نستطيع كلنا كتابة آرائنا
بسلاسة ويسرٍ تقبله النخبة الثقافية؟ لا نستطيع ذلك كلنا، ولكننا كبشر يحق لنا أن
نحاول.
يصنع المثقف الرقيب معناه في عالمِ الثقافة، يشتغل بمهاراتٍ مرتبطة
بالمعنى، وصياغته، وتحليله، والتنظير له، وقد يكون ظاهرة علمية، أو اجتماعية
مؤثرة، كيف يمكن للسلطة أن تجتبي مثقفاً وتأمن جانبه إن لم يكن من الأساس صاحب
قيمة في حقلِه الذي يعملُ فيه. هُنا نصلُ إلى الحالة النهائيةِ التي يتوقف فيها
المثقفُ عن نموه وتطوره، نماذجُ قليلة تتحول إلى طاقة تنويرية في جسد السلطة،
تصنعُ لها المزيد من القبول، والإقناع، تتسابق لتطبيق القيم الثقافية [قيم المعنى]
وتعطي خطاب السلطة معنى [إنسانيا] واجتماعيا وفكريا، وهذا ما يحدثُ في استثناءات
نادرة يواصل فيها الرقيب رسالته الثقافية ويحاول فعل العسير بالتوفيق بين رؤاه
المستنيرة والسلطة التي هي عبارة عن مجموعة مغايرة من المعاني والتي لا تخلو من
الخوف، والريبة وقد يصل بها الحال للقمع، والإخراس، والإسكات وفي حالة بعض الدول [سيبيريا]
ثقافية، والنفي. المثقف الرقيب لم يصنع نفسَه في دوائر السلطة، وإنما حافظ على
[حبله السري] فهو ينمو في محيط، ويستمدُّ قيمه السلطوية والرقابية في محيطٍ آخر،
ولذلك لا عجبَ مُطلقا أن يكون الرقيب القادمِ من عالم الثقافة أشد خطراً على
الإبداع والثقافة من ذلك الرقيب النافع، والذي يطبق لائحةً وقانونا ويقول لك
دائما: الأمر غير شخصي!
لماذا يتدهور حال المثقف عندما يصبح رقيبا؟ ماذا نتوقع من الذي يخسرُ معناه؟
ويتحول إلى صنم جافٍّ، ويكونُ من الأساس أكثر حماسة لكي يثبت موقعه من السُلطة. آخر
من يعترف بالمثقف الرقيب، هو المثقف نفسه، فهذا [الزميل] السابق له قد أصبح اليوم
تحت سلطته وسطوته، والمثقف بطبيعته صاحبُ رأي، وهذا هو الخطرُ في مهنة الرقابة
بشكل عام، سواء كان رقيبا أكاديميا يحدد من يحصل على رسالة الدكتوراة أو لا، كرئيس
قسمٍ لمنظومة أكاديمية متأثرة بالسلطة، أو كان في أي موقعٍ آخر، صاحب الرأي هذا هو
أشد ضررا على مهنة الرقابة، وهو عالم تهييجٍ كبير لكل من يؤمن بحريته أو على الأقل
بحقه القانوني في رأيه.
يغالي المثقف الرقيب في الشخصنة؟ لأن الأمر من الأساس متعلق بالمعنى الذي
فقدَه، ولذلك تراهُ يجمع حوله كل من يمكن أن [يُجنَّد] في أجندته، إنسانٌ فقد
معناه، وتحول إلى لائحة ولكنه بعد أن تبادل الأماكن وأصبح يعيشُ في الوسط الذي كان
يربطه [حبل سري]، تتغير أحواله ويتوق إلى الاتصال [بحبله العلني] فلا تعجب أن ترى رئيس
تحرير جريدة السلطة الأولى وهو يحضر حفلا غنائيا ومسدسه معلقٌ بجانبه، يحضره ببزته
العسكرية ويصفق لمطربةٍ محبوبة من قبل الشعب وكل من حولَه يشيد بتواضعه، وطيبته
ويشكره شكرا كبيرا لأنه: لم يقتل أحدا تلك الليلة!
هذه هي الحالة التي يضطر المثقف الرقيب للتعايش معها. مع مضي الوقت، يفقد
معناه الرئيسي، ويتجمَّد وتقل فرصه للعودة لحياتِه السابقة، ويخسر المجتمع عقلا فّذا
قد يكون من أبرز العقول إنتاجا وتأثيرا قبل أن يدخل في هذه الحالة من الوجود في
الرحمِ الأمِّ الذي ترعرع فيه. هُنا تأتي اللوثات الكبيرة للرقيب المثقف؟
ماذا يحدث لك إن تحولت إلى رقيب مثقف؟
قد يفقد المثقف معناه، لكنه لا يفقد حماسته، وذلك المثقف الذي أصبح رقيبا
لم يفقد معناه كليا، لكن حماسته أصبحت الآن مدعومة من سلطةٍ قادرةٍ على حشد
الأتباع، فضلا عن وجود ظهر شعبي واجتماعي جاهز للفتك بمن يعارضها علنا. تتفاوت
السلطات في السماح بالرأي المخالف لها في الوجود، وقد تكون السلطة أكثر تساهلا من المثقف
الرقيب الذي يعرف نهايات هذه الحماسة، والتي بترت السلطة نهايتها الكلاسيكية
وحولتها إلى قطعةٍ قوية من الخشب، قادرة على تحطيم القوارب الصغيرة، وتحييدها.
يتمسك المثقف الرقيب بسلطاته بهوسٍ وبجنون، وعندما يلاحظُ تراجع تأثيره
الشخصي، والاجتماعي يقف حائرا، ويتساءل؟ لماذا ينقلب أصدقاؤه عليه؟ وما هو المستفز
[في السلطة] بالتحديد؟ وهُنا يبدأ بصياغة الأوهام واحدا تلو الآخر. كل من ينتقده
يحسده، وكل من لا يرضى عن عمله هو في الحقيقة يتحدى السلطة، وقليل من المثقفين
الرقباء تجاوزوا هذه اللوثة النفسية والتي يعلمُ الجميع عنها، ويلاحظها إلا صاحبها
الذي "وإن خالها تخفى عن الناس تُعلمِ" ذلك الإنسان النوراني، المستنير،
المتنور الذي يبث طاقة الأفكار، والمعاني، وحماسة النقد، وقوة المنطق يفقد كل يومٍ
غذاءَه الذي كان في محيطه السابق، يعيشُ في بيئة جديدة تمدُّه بغذاء مختلف، من
الطاعة، والخضوع، ويدركُ كم كان بخير في محيطه السابق، وهُنا يمدُّ حباله العلنية،
يبحث عن الحلفاء، ويبحث عن الأتباع ويحاول إطالة الأمد الذي يبقيه بأنسجته
السابقة، ويتواطأ معه البعض الذي يشبهه، والذي ربما تكون لديه حبالٌ سريةٌ مشابهة،
ولا يستبعد أن يكون منافسا، أو مشروعا للإطاحة به. المثقف الرقيب يعلم جيدا خطورة
الدخول في عالم السلطة، والسلطة نفسها تعلمُ كيف تسيطر على أتباعها وتصنع الصراعات
بينهم، فوجود سلطة متفقة في حزب واحد خطر على السلطة.
هذا السلوكُ للمثقف الرقيب يتحول إلى المأساة الدائمة. العقل النبيه، الفذ
الذي يُراهن عليه الجميع يتحول إلى كتلةٍ بغيضٍ من العفن، والحسد، والحقد، وعندما
تُكمل السلطات بذكاء وعندما تُكمل السلطات بدهاء إفقاده معناه لا يعود معه سوى
التعلق بطريقتها في العمل، لا غرابةَ أن ترى المثقف الرقيب يبرر للموت، وللقتل،
ويخفي أنباء المجازر الجماعية، سيفعل ذلك لأنه يتحول كل يوم إلى [آلةٍ] وخوارزمية،
ومجموعة من النصوص ذات الشروطُ الكثيرة، والمعايير الواضحة. على صعيده الشخصي كمثقف
يخسر كل يوم عودتَه، وفي حالة المثقف الرقيب في الدول العربية يصنع حالة من الغل
والكراهية تجاه السلطة نفسها، فهو لا يعمل وفق مصلحة السلطة، والتي تقتضي جانبا
إنسانا وحفاظا معقولا على الحريات، العامل الشخصي حاضر، فذلك الوسط الذي أصبح
يقمعه ويتدخل فيه هو [وسطه الشخصي]، وهُنا تأتي ألاعبي النفس البشرية لتكمل مسار
المثقف الرقيب.
يتوهم المثقف الرقيب أن له عودةً كبيرة للوسط الذي نشأ فيه، وهذا قد يحدثُ
للرقيب الذي يتولى رئاسة قسمٍ في جامعة من جامعات السلطة، أو رئيس تحرير لجريدة
الحزب الحاكم، أربع سنين ثم يعود. لن يعود كمشروع يراهن عليه الوسط الثقافي من أجل
التغيير للأحسن، سيعود لكي يعاود نشأته السابقة، تليفت أنسجته بعض الشيء، لكنه
قادر على حماية ما تبقى منها بوجوده مع جماعته الأولى، وهُنا ينجو، وتراه ناقدا
ينشر الكتب، وينظِّرُ ويا للعجب! قد يكون مثقفا منتجاً عرفَ ما في داخل السلطة،
وعرف ما في خارجِها وأصبح يتعايشُ مع ماهية دوره السابق، المثقف الرقيب سابقاً يعود
إلى حالةٍ منتجة بشكل جيد للغاية، ما لم تتليف جميع أنسجته ويعود لعالمِه السابق
مثل [الزومبي] الذي لم يتبق له من الحياة في المعنى سوى الجسد، والإناء، وقليل من
التاريخ الذي حاول الحفاظ عليه، هل تتخيل عودةَ رقيب مثقفٍ لعالم الثقافة بعد أن
قضى عشر سنوات في تمجيد مجازر السلطة؟ وإخفائها؟ والتبليغ على كل إنسان قال بعفوية
تامَّة: أرجو أن يتوقف القتلُ في بلادي!
أين ذهب هذا الذي قال ذلك؟ ذهب في زنزانة بيد المثقف الرقيب لأن الحقيقة
[الأكذوبة] التي يدافع عنها هي: لا يوجد قتل ولا مجازر في بلادنا! هذا عدو للوطن!
وتكمل جوقة المتواطئين، والممالئين، والإمَّعات التصفيق لحقائق الوطن الغفور، والقائد
الهمام الذي لا مجازر جماعية في شوارع عاصمته، ولم تتفتت بلادُه باحتلال أجنبي، أو
بعمالة للخارج، أو بفقدان تام للشراعية، المثقف الرقيب يجيد العمل في هذه الظروف،
وهو وحظَّه، هل هو في دولةٍ تسفك الدماء، أم في دولة تنسف أعمار العقول من أجل العقل
الجمعي الكبير؟
معضلة المثقف الرقيب هي معضلة عربية بامتياز. وهو الخطأ الدائم الذي تقع
فيه السلطات. الرقابة شرٌّ لا بدَّ منه بالنسبة لجانب الثقافة، ولكن بالنسبة لجانب
السلطة فالثقافة هي شرٌّ لا بُدَّ منه. والحلُ الوحيد لهذا التوازن هو القانون
المُنصف الخالي من المناطق الرمادية، ذلك الذي يعطي لكل ذي حق حقَّه، ويقوده حبذا
[الرقيب المثقف]، لا المثقف الرقيب، وثمة فارق بين الأمرين.
المثقف الرقيب يتحول من الثقافة إلى الرقابة، فيصبح كابوسا نرجسيا منافساً
لوسطه السابق وقامعا له، وهذا بالذات لا ينفع السلطة في شيء ويجلب لها البغضاء
والكراهية ويجعل محيط الثقافة كارها للسلطة، محاربا لها، والثقافة في كل مكان لها
فطرةُ تحدي السلطات. الرقيبُ المثقف حالةٌ مغايرة، هذا موظف بيروقراطي لا علاقة له
بالتنظير الكبير، يتحول مع الوقت من كائن آلي، يعيش في قلب السلطة من البداية، لم
يلبس ملابس الثقافة، ولم يتزين بأناقتها الخارجية، يستمد المعنى من اتصاله بحقل
المعنى، ومع الوقت يصبحُ هو الرقيب الذي يحبُّه الناس، وتتصالح معه الثقافة.
النماذج على ذلك كثيرة في العالم العربي، ويتعايشُ المثقفون مع هذا الرقيب
البيروقراطي حسبَ مرونة اللائحة والقانون الذي يشتغل فيه، وتجده يتسابقُ لإثباتِ
نفسه، ولخدمة السلطة، ولتحويل السلطة لخدمة الناس، وبالتالي يعود بالشعبية
والإقناع للسلطة نفسها. هذا ما يحدث عندما تحدث عملية الانتقال من [الرقابة] إلى
[الثقافة]. والنماذج كثيرة وهائلة في العالم العربي تحديدا، كما هي النماذج
المزرية والمؤسفة لما آل إليها حال مثقفون كبار بعد أن تورطوا في عالم السلطة.
المثقف ليس ظاهرة سلطوية، ومن ذكاء السلطة أنَّها رغم جمودِه وقسوتها تحاول
دائما أن تكسب الناس. لا تمانع بعض السلطات أن ترسل الجنود لقتل الناس في الشارع، إن
استولى على البلاد حزب دموي يمارس التطهير العرقي، هذه السلطات محكومٌ عليها
بالاستمرار تحت وطأة الحروب، والصراعات، والانقسامات، والشقاق، وهذه هي مسيرة الدم
في أي مجتمع.
السلطةُ التي تعيش هدوءا سياسيا تسعى لكسب الناس، إن استشرى فيها الفساد
وساءت أحوال المجتمع الذي تدير شؤونه، يستبد المثقف في إخفاء هذه الحقيقة، وإن
تحسن وضعها فإنَّ المثقف الرقيب يتحول إلى حالةٍ معاكسة من حالات المصلحة السياسية،
فبينما السلطة تعاود مد يدي السلام للمجتمع، وبالذات للثقافة، يبقى هو في حالةِ
ذعرٍ كأي إنسان فقد معناه، وتبدأ تصرفاته [الشخصية] النابعة من نرجسيته، وذاتيته
بجلب الأذى للسلطة، وبإيقاع الفتن بينها وبين الثقافة، هُنا يضمن أنه ضغط على
السلطة بما يكفي لكي لا يفقد مكانه، وسلطته، وضغط على الثقافة بما يكفي ليضمن
لنفسه عودةً تشبه سلطته السابقة، مع مجموعة من مشاريع المثقفين الرقباء، على الأقل
سيحافظ على الوجاهة الاجتماعية بمجلس أدبي، أو بمجموعة من النقاد الذين سيؤلفون
الكتب عن النظرية الرقابية التي مضى عليها والتي أخرجت الكون من الظلمات للنور، وكما
أوردنا أعلاه، هو وحظه، هل يعود لعالم الثقافة متليفا، بلا نسيج حياة ليعيش
منبوذا، ويبقى طوال عمره لصيقا بالسلطة التي ستحميه، وتحافظ عليه، لتطمئن البقية
الذين مضوا في طريقها أنها لن تتخلى عنهم، وفي الوقت نفسه هي جاهزةٌ للفتك فهم إن
أصابتهم لوثة فقدان السلطة، وتحركوا ضدها، وهذا سياق آخر مغاير ضمن نهايات أي
سلطوي.
المثقف لا يصلح لدور الرقابة، والأعباء التي يسببها على المجتمع، والثقافة،
والسلطة تجعل الأمر غير منطقي. وهذا المثقف نفسه عليه أن يعي ذلك جيدا، فله دور
نافع في المجتمع، وقد يكون رسالةَ وعي، وسلام وعليه أن يسعى جاهدا إلى النأي بنفسه
عن دور الرقيب. وجود مهنة الرقابة المنضبطة تصنع نهايات أجمل، ذلك الرقيب الذي
أصبح شاعراً، أو مبدعا، أو كاتباً، هذه نهاية تنفع السلطة أفضل من مثقف يشيع
البغضاء والفتن ويكون عمله منصبا على تدمير وسطه السابق، هذه اللوثة أقوى من أي
إنسان، هي لوثة السلطة الفلسفية، وبينما يعلم قادة السلطة هذه الحقيقة، ويحافظون
على ملمح إنساني، وعلى [المعنى] في طيّات وجودهم، ينفق المثقف الرقيب معناه،
وينثره بجنون، وإسراف، كسادنٍ وككاهنٍ للسلطة، حتى نصل لتلك النهايات المريرة،
لإنسان تحول إلى صنم ذهب إلى السلطة مليئا بالنور، وعاد منها مثل الفرعون المحنط،
فلا هو بخلود الفعل الحسن، ولا هو بالثقة الثقافية، ولا هو بأي شيء سوى تلك الحالة
من البغضاء التي حولته إلى رمز من رموز الخذلان، والكراهية والفشل الذريع في تطبيق
أي رسالة ثقافية كان يحملها قبل أن يدخل عالم السلطة.
في الختام، معظم هذا السرد ينطبق على الدول العربية، وما يشبهها من دولٍ
توصف [بالنامية] والتي يقود التنظير الفلسفي لشؤونها السياسة والاجتماعية نظريات
خارجية. وجود المثقف الرقيب معيقٌ لصناعة الحالة المحليَّة للتنظير الفلسفي، ونعيش
في عالم يستخفُّ بدور الأفكار في المجتمع، والمثقف الرقيب يعي ذلك جيدا. وقد تكون
السلطة هي التي تريد ذلك، وقد تكون السلطة غير مهتمة من الأساس، تستخدم التفويض
والثقة، ليأتي هذا المثقف الذي أصبح رقيبا، والذي إن دخل لساحة الثقافة أفسدها،
وعاث فيها خرابا ينوح على خسارة معناه، وكل يوم يمضي يصعب عليه استعادته.
في رأيي، الرقيب الذي يتحول إلى حقل الثقافة، ويكتسب من فنون المعنى هو
حالة صحية أفضل، وبغض النظر عن التسميات المتداولة [كالتنكنوقراط] وغيرها من
المسميات الأنيقة، أظنُّ أن أخطر شيء يمكن أن يصاب به أي مثقف كان هو أن يتحول إلى
رقيب، فلا هو بمعناه، ولا هو بنفعه للسلطة، ولا هو حتى بنموه الشخصي المعرفي، وكم
خسرت الساحة الثقافية من عقول فذَّة لأنها ظنت أنها ستجمع المستحيلين جمعاً،
الثقافة كفعل اجتماعي، والسلطة كفعلٍ فلسفي. عسى أن نرى الرقيب يتحول إلى مثقف في
المنطقة العربية بدلا من المثقف الذي يتفانى ويجن جنونه ليتحول إلى رقيب. انتهى.