أن تبني صلابتك، ومقاومتك، ومهاراتك لتجنب الأقدار الاجتماعية، أو الوظيفية، أو العائلية السيئة هذه مهمتك أنت. ما أقوله ليس على شاكلة ما يقوله الأغبياء السامّون "أنت جلبت ذلك على نفسك" أو الجملة التي يلوكها المتنصلون: "كله منك" ..
كثيرٌ من الضرر والأذى الذي يحدث في هذه الحياة ليس منك. ثمّة أشياء أقوى منا، وفوق طاقتنا. فما الذي حقا تقع مسؤوليته عليك؟ أشياء كثيرة عليك أن تبدأ بها، وأن تتأملها، وأن تنظر إلى حياتك، وأحداثها، وتستنبط منها ما يجب عليك تغييره أو فعله، وما يجب عليك التوقف عن فعله.
مهمتك أن تبني صلابةً ذهنية، ورؤية فلسفية عميقة تجاه الحياة. تقريع نفسك ليل نهار "ماذا بي؟" انعكاس لأشياء كثيرة، لعل منها رغبتك العميقة في تغيير حياتك للأفضل، ومحاولتك المتكررة لتحدي طبائع أو خصال لصيقة جدا بك، وبسلوكك، وبطريقة تفكيرك. أن تبني صلابةً ذهنية تجه نوائب الدهر، وتجاه الحياة، هذا واجبك، ويجب أن تفعله وأنت بخير، قبل أن تنهمك في زحام الحياة والتحديات والاختلاط بالغرباء، والاندماج في عوالمٍ مشتركة بينك وبين الآخرين، هذه مهمتك، لا تتخل عنها، يجب أن تكون ضمن ساعات تأملك، وضمن خططك الصغيرة وأنت تفكر في نهاية اليوم، هذا الذي يسمى [لحظة إدراك] يجب أن يحدث بشكل مصغر، بين الفينة والأخرى، وتبني به وسائل مقاومتك وصلابتك تجاه حياة قد تخسر فيها من تحب، وقد تخسر فيها طرفا من أطرافك، وقد تمرض، وقد تنجح ويجن عقلك بسبب النجاح، وقد تتحقق أحلامك فلا تعرف ما الذي تفعله بعد تحققها، اسمها صلابة لأنها تتحمل الصدمات، ولا أقول لك ما يقوله كثيرون: [احبب ما شئت فإنك مفارقه] بل أقول لك كن جاهزا للنجاح، أو للفشل. كن جاهزا للفقد أو للوصال، كن جاهزا لحياة هادئة سعيدة لا تعيش قلقا محترقا وأنت خائف من أن تختبرها الحياة، وكن جاهزا لحياة من الكفاح والتعب، هذه مهمتك، أن تجهز نفسك ذهنيا، وأن تختبر مهاراتك في التفكير، وهو شأن داخلي، يجب أن تحسمه داخليا، وألا تناقشه إلا مع الذين يقدمون لك رؤية واضحة، وتستطيع أن تبوح لهم بأخطائك دون أن يحاكموك عليها في وقت لاحق.
بناء الحدود، مهمتك أيضا، صناعتك للظروف التي تستطيع فيها أن تقول [لا]، أن ترفض، أن تنسحب. لوم الآخرين لأنهم لا يعرفون حدودك ليس سلوكا منطقيا لتعيد فعله مرارا وتكرارا، التسليم الأعمى بأن الجميع أنقياء، وأتقياء، هذا شيء، والتسليم الأعمى أن الجميع يعرف جيدا حدودك هذا شيء آخر. قبل أن تلوم الآخرين على أي شيء يجب أن تكوِّن حدودك، وأن تعرف تماما ما الذي لك، وما الذي عليك، وأن تبتكر سياسةً حدودية متوائمة مع حياتك، وستخطئ، وستتعرض للتلاعب، وستتعرض لأخطاء حسن النية، وستتعرض ربما للخداع المتعمد، وربما ستغفل، وربما ستكتشف أن سياستك الحدودية ليست متقنة، وليست مقنعة، الفكرة لا تتعلق بإتقانك لقرار ذهني، الفكرة تتعلق بأن تمايز بين ما هو حق لك، وما هو حق عليك، وما هو الاستحقاق الذي يأتي من المحبة، أو من العائلة، أو ربما الاستحقاق القانوني الذي عليك.
هل يروق لك أن [يكلبشك] إنسانٌ مثلك؟ ويلقي بك في زنزانة؟ هل يروق لك أن تضع نفسك في موقف يتم تفتيشك فيه؟ هل يروق لك أن يكون مصيرك رهنَ قرار شخص آخر، بشر مثلك، قد يخطئ أو يصيب، هل يروق لك أن تعطي توكيلا مطلقاً لشخص آخر؟ وتعيش وأنت في داخلك شعور بالخوف منه؟ هل يروق لك أن تعطي بطاقة البنك لشريك؟ كلها أشياء حدودية، ومساحات ليس من الحكمة ألا نقرر فلسفتنا تجاهها، هل جميع الناس سيئون؟ كلا، قطعا لا، لكن الشر الموجود، والنصاب الذي يسرق مدخرات امرأة عجوز موجود، والذي يضعف أمام ذهبِ سائبٍ ليشتري الخمرة موجود، والذي ينسى موجود، والذي يغفل موجود، ماذا عساك أن تفعل في عالمٍ مليء بأخطاء حسن النية؟ إنها مهمتك أنت أن تبني حدودك، وأن تتعلم من تجاربك وألا تعيد تكرارها، فهذا ما سيسبب لك المرض، والجنون، ومعاندة العالم من أجل أحلام رومانسية غير منطقية.
وحتى وإن فعلتَ ذلك، وكونت مساحتك، وكونت حدودك، وكونت صلابتك الذهنية، عليك أن تشذب حدتها، وأن تتعلم أيضا ألا تندفع في الدفاع عن نفسك بضراوة، وألا تضع السيف موضع الندى، ولا الندى موضع السيف، وستتعلم، سواء جئت من الاستحقاق المفرط الذي يجعلك تتدخل في كل شيء، أو جئت من الاستسلام المفرط الذي يجعلك تفرط بحدودك، تبدأ من الصلابة الذهنية، وتنطلق إلى سلوكٍ منطقي، وبعدها التجربة هي التي تنضجك، ستخطئ، وستتعلم، وستغير بعض الأشياء، وستتعلم، وقد يأخذ البعض شهورا، وقد يأخذ البعض سنوات، وقد يبقى البعض يلف ويدور حتى يجد الخلاص من الحياة، يكتشف قاعدةً ما كان يسير عليها وهي التي تذهب بجهوده إلى الفراغ.
الأمر ليس صعبا، ليس سهلا، ليس مستحيلا، وليس سريعا. أنت تعيش لتبني إنسانا ناضجا، مسؤولا، يتحمل عواقب أفعاله، ويدفع ثمن أخطائه، هذا ما يجعلك إنسانا عاقلا، هذا ما يجعلك تعيش الحياة بنبل حتى وأنت إنسان وخطّاء، كل نظام دفاعي سيبقى ناقصا، وكل استحقاق سيبقى مشكوكا فيه، هناك ما هو داخلك، وما هو خارجك، وأنت لست المسيطر الأعظم على الطرفين، أنت إنسان، يحاول، يحاول أن يكون خيّرا، أو على الأقل يتجنب أن يكون شريرا، إنها مهمتك أنت أن تبني كوكبك الداخلي بما يحميك من نفسك، ويحمي غيرك منك، ويحميك من غيرك، أنت بخير لأنك تستمر في المحاولة، ولأنك تتغير بشكل تدريجي، ولأن سعادتك وشعورك بالحياة وبالخير يتحسن، ستتعب، وقد تسقط، وقد تصل للقاع، لكنك ما دمت تتحرك دائما لمراجعة كوكبك الداخلي والخارجي، وتحاول، أنت حقا بخير مهما كانت كل الظروف التي حولك تعيسة، ومهما كنت تشعر بالكآبة العميقة، أنت بخير ما دمت تحاول، لست بخير لأنك تنجح، أن تحاول، هذا يكفي لتعلن لنفسك أنك بخير، وتسير إلى حياةٍ أجمل تراها في وجدانك مساراً لا ملاذا.
معاوية الرواحي