بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 يوليو 2024

عمان: ذلك اللغز الجميل!

ذلك الشعور المزعج!

مزعجٌ حقا هذا الشعور. ذلك المرُّ والحتمي، المُغرق في واقعيته، المفعم بالغموض والغياب! أحاول قدر الإمكان أن أغير بوصلة ذهني إلى شيء آخر، شيء بيدي، إلى رحلتي القادمة إلى خريف صلالة، إلى إعلانٍ أكتب له فكرة جديدة، إلى كتاب في علم النفس أكمله، إلى أي شيء سوى الانجذاب القهري إلى مغناطيس هذا الغموض العُماني الواضح!
عجيبة عُمان! بمعنى الكلمة دولة عجيبة! تدهشك في صمتِها الواضح. تستنفر بكامل قوتها، وبصمت! وبهدوء، ثم تقول كلاما قليلا يكفي لوضع النقاط على حروف السياق، ولا أكثر! عجيبة فعلا هذه البلاد! ولا أعتقد أن إنساناً يمتلك الجرأة أن يقول أنه يفهم هذا التكوين العجيب الذي وضعه الله في عُمان! منذ طريقة إسلامها، إلى دعاء النبي، إلى مراحل القوة والضعف والقوة، إلى هذه اللحظات في الزمن الحديث!
مزعج جدا هذا الشعور! أن يبقى كل شيء غامضا، حتى ذلك الذي يُمكن أن يُعلم! ولا ضرر أن يُعلن! ويبقى عقلك في حالةٍ من القلق، وتضرب الأخماس في الأسداس محاولا أن تفهم! وماذا عساك أن تفهم؟ الحدث الكبير؟ أم التكهنات؟ أم إخفاقات البعض في مقاربته!
للغموض فوائد وأضرار، وللوضوح فوائد وأضرار، من هذا الذي به قلبٌ شديد البأس ليحكم أيهما أنفع للبلاد وللناس؟ وما هو المعلوم من عُمان بالضرورة! هذا أيضا من العجائب العُمانية، كلنا نعرف عُمان بشكل ما أو بآخر، بصورة غير منطوقة، لا كلمات تصف فهمنا لعُمان، ومع ذلك، هي عُمان، البلاد قليلة الكلام! حتى في مثل هذه الظروف! تخيل! أن تكون عُمانيا، وأن تفهم ذلك، وأن يفهم الجميع ذلك، ولا أحد يرى ذلك من عجائب الدنيا! ما أجمل وما أصعب أن تكون عُمانيا يكتب!

مزعج جدا هذا الشعور، أن تكون إنسانا يحاول الفهم! أنت تعرف الذي يدور، ومع ذلك لا تعرفه. ما هو المعلوم من عُمان بالضرورة من الأساس؟ كلنا كعمانيين نعلم أن الدولة ككل الآن في حالةٍ من حالاتِ العمل الدؤوب، ولكن أيضا! عمل صامت، لا يشعر به أحد، كحال سياستها الخارجية، قليلة الكلام أيضا، وفجأة تراها أغلقت ملفا دوليا عويصا، وأيضا لأنها عُمان، ستقول ما لديها رسميا، بأقل عدد ممكن من الكلمات، ومن ثم ترحل إلى ملف جديد! كلنا نعلم أن الدولة من أقصاها إلى أقصاها الآن تبحث، وتحلل، وتتقصى، وربما تحقق، وربما تستدعي، وربما ما هو أكثر، وربما تعقد اجتماعات متتالية، بل وربما أن أناسا من أبطال الواجب قد خرجوا من منازلهم ولم يعودوا لها بالأيام المتتالية، كلنا نعلم ذلك، ومع ذلك كلنا كعمانيين لا نعلم عنه أي شيء!

ما أصعب أن تكون عُمانيا يكتب! لا توجد دولة في العالم يمكنها أن تشحذ مهاراتك في الكتابة كعُمان، هذه الدولة العويصة، التي تجعلك تبني فرضيات معقدة جدا، وتجعلك تلفُّ وتدور، وتبحث عن المعلومة بجنون! واقع عُماني في تويتر، وواقع عُماني آخر في الإعلام، وواقع آخر في المجتمع، وواقع في الواتساب، وواقع آخر في الثقافة، كلها [عُمانات] متشابهة ومتضادة! عمان العجيبة فعلا! لا عجب أن نحب هذه البلاد، وأن نحار في شأنها دائما!

شعور مزعجٌ للغاية ألا تملك إجابات، فعلا، ما أصعب أن تكون عمانيا يكتب! ماذا عساك أن تكتب! ويا إلهي، الجميع يعرف، والجميع لا يقول! ما هذه العُمان العجائبية؟ هل توجد بلاد أخرى في العالم بهذه الخصائص والخصال؟ لا أظن، لا أستغرب أن تكون عُمان هي التي تكوَّنت بهذا الشكل، عالية الوعية، انفعالية، مجتمعها أيضا يعرف أكثر مما يقول!

أحاول أن أصرف ذهني، أن أنتبه إلى أي شيء آخر، ولكن عقلي يعيدني بشكل قهري إلى هذه الأحداث، أنبش صفحات الإنترنت، أتابع الأخبار، أبحث عن شيء يروي ظمأ هذا الشعور الحارق بجهل ما يحدث! أشغل نفسي بمعارك جانبية تافهة، ثم أستيقظ، وأعمل عقلي في شيء أظن أنه مفيد أكثر من ضرب الأخماس في الأسداس، ومع ذلك، لأنها عُمان، ستضرب أخماسك في أسداسك، ثم أخماس العالم في أسداس عُمان، ثم أسداس عُمان في أخماس العالم، وهكذا دواليك، دائرة لا نهاية لها من تضاعف المقام، عجيبة يا عُمان، عجيبة يا بلادي التي أحار في حبها ، ولا أحب الحيرة التي تضعني فيها!

أتصالح مع بعض الأشياء التي أظن أنه من الأنفع لي ألا أعرفها، بل من الأنفع ألا يعرفها أي أحد. محظوظ معرفيا بمعنى الكلمة هذا الذي لديه الملف التفصيلي للجناة، ولا أقصد المعلوماتي، الذي به تحركاتهم، أقصد ذلك الملف النفسي، الذي يشير إلى الحقيقة والدوافع! أقول في نفسي: من الخير لي أنني لا أعرف، وفي الوقت نفسه أقول في نفسي: من الذي يعرف؟ يا إلهي! حقا هو محظوظ بمعنى الكلمة. ذلك الشعور المزعج، أن أنسى أنني طالب في مجال علم النفس، وأنني درست سيكولوجية الإعلام، ودرست مادة سيكولوجية المجتمع! ولكن ماذا أجد في المتناثر الرقمي؟ أجد ذلك المأفون لوبون، وحماقته، واستعلائه، وأرى روحه العنجهية في مختلف الخطابات! الثقافي الذي يلغي أحقية أي إنسان في الاجتهاد، والخطابات الأخرى التي تتعبد في محراب الصمت وكأنه هو الإجابة الوحيدة! هل حقا ثمة جهل نافع في هذه المسألة؟ لا أعرف، أشعر أنني حائر بمعنى الكلمة، شكرا يا عمان على هذه الحيرة الجديدة ضمن طابور الأسئلة التي لا تتوقف عن التوالد! ذلك الشعور المزعج، بالقلق الشديد، وفي الوقت نفسه ذلك الشعور أن كل شيء حولك يقودك للطمأنينة، هدوء الناس، وحدتهم، اتفاقهم الحاسم على أنَّ هذه البلاد تستحق كل خير، وتبقى حائرا، لا تعرف بالضبط! كيف تجتمع هذه المتناقضات في أفئدة مجتمع واحد! القلق والطمأنينة! لا تعرف ما الذي يحدث، لكنك مطمئن إليه! هل من بلاد عجيبة هكذا في هذا الكوكب البشري!!! حقا حقا، ما أصعب أن تكون عمانيا يكتب! أحاول وأحاول، وأفشل، أحاول أن أسجِّل أفّيها ضاحكا، أن أركز على اللهو واللعب، أن أشغل نفسي عن الذي يدور. ما هذا الهلع الموجع! هلع ألا تعرف أي شيء! ما هذا الضيق! أنَّك تطوف في المدى المجرَّد، تحاول أن تفهم! ولا تعرف متى ستفهم! وربما تعرف في قلبك أنَّك لن تفهم! ثمَّة طمأنينة تغمر الجميع! تلك الطمأنينة التي بلا لغة، وكأن لسان حالنا العُماني يقول: نجونا، وسننجو! من الصعبِ أن يفرَّق بين أهل عُمان غريب! أما بيننا وبين بعضنا البعض، فأهلا وسهلا بالخصومات. وهذه عُمان مجدداً، لا يريد أن [يستبلي] بها خصم خارجي! لأنها بلاد عنيدة، وشرسة في الدفاع عن نفسها، وقاسية على الخصوم كقسوتنا على بعضنا البعض. تلقت ضربة خسيسة، وكعادتها، تركت كل شيء واضحا في غموضه، وغامضا في وضوحه! فعلا فعلا، ما أصعب أن تكون عُمانيا يكتب! أعود إلى المربع الأبيض الأوَّل، مربع أسئلتي. أحاول أن أعود إلى سياق علم النفس، أن أكتب شيئاً ما، أن أمرن عقلي التخصصي على كتابة شيء مفيد! ثم تجد الدهشة في عُمان، ثباتٌ عجيب! ثباتٌ ذهني عجيب! وصلابة ذهنية بمعنى الكلمة! ثلاثة أيام، يمر فيها حدث غير مسبوق، وماذا يفعل العُماني؟ هل تراه يبكي ويولول؟ هل تراه ينوح وينهزم! ولا كأن شيئا حدث! الذي يعرف صامت، والذي لا يعرف يضرب الأخماس في الأسداس! يا إلهي، ما أصعب أن تكون عمانيا يكتب! أخذ الحدث مجراه، وانتهى، والباقي لعله من الخير ألا يعرفه أحد، لعله من الخير ألا يكون متاحاً، فشل العدو، وخابت مساعيه، وبعد لحظة الوحدة الوطنية التي التف الجميع فيها تحت لواء الوطن، الآن ندخل في هدوء عُمان المعهود، وتبدأ [المناقرة] الاعتيادية بين الطيوف الفكرية، ونعود إلى سابق عهدنا، نتجادل بلا توقف، نضرب الأخماس في الأسداس، نحلم، نطمح إلى عُمان أجمل دائما، وإلى عُمان أقوى. مرَّ الحدث، بسلام، وبقوة، وبشدة، وببأس، والعمانيون كما هُم، يقولون لعدوِّهم "لا تستبلي بشعبٍ مثلنا" لسنا شعبا سهلا، لسنا شعبا مفككا، ولسنا لقمة سائغة! ما هذه المناعة العُمانية! لا أعرف! حقا، لا أعرف، ولا أعرف كيف نتفق كلنا على هذه المناعة، ونحن [نتناقر] بلا توقف ولا نتوقف عن الجدال وعن الاتفاق! مرَّ الحدث، واحتملته الصدور القوية، وكأن لسان الحال يقول: "عُمان أصعب مما تظن أيها العدو الخسيس" ضربة غدر! نعم، ضربة خسَّة، ضربة عدوٍّ صامتٍ قادم من مستنقعات الغدر والنذالة! ضربة عدو متفلت من شرف العدوان، ذلك الواضح، الصريح، المباشر! نعم! سيحترم العُماني جيشا عدوا يحاربهم، سيحترمون عدوهم، ويكرمون جثثه بالدفن اللائق، وسيعلقون رأس قادتهم على مداخل الولايات، ومع ذلك، سيحترمون العدو الواضح الصريح! أما الذي يحدث في عمان! فهو الاحتقار المحض! لم يكن عدوَّا، كان نذلا من أنذال الخفية، لم يحارب جنودا، حارب أبرياء آمنين، لم يكن معه أحد، ولم يكن في صفه أحد، ولم يهتم لشأنه أحد، نكرةٌ في خفاء الخفاء، عاش شبحا، ومات شبحا. حقا! الآن فهمت لماذا عُمان من الأساس لم تحترم هذا العدو! الآن فقط أنتبه إلى هذه النقطة! لم يكن عدواً، كان نذلا، ما أعجب هذه البلاد! يجب أن ترتقي إلى مصافٍ حقيقية لكي تعاملك كعدو! وكأنه هناك قانون لتكون عدوا لعُمان! ما أعجب أن تكون عُمانيا، وأن تخرج بهذه الخلاصة النقية، والصافية، أنها بخير، بكل ما بها من أخطاء، هي بخير، متحدة، قوية، غامضة، ترفع الضغط، تهيم بها حبا، وتنجلط من تناقضها، وصمتها، وتحب أهلها، وروحهم المتفقة على الوحدة. ذلك الشعور المزعج! زال عني! يبدو أنني بدأت الآن مرحلة التجاوز، وبدأت أرى كم فشل العدو! وايضا بدأت أرى لماذا كان عدوا رخيصا، ونذلا، ولماذا لم يعبأ العُمانيون به! يا إلهي كم نحن شعب عجيب!!! يجب أن يحترمك أولا لكي يعاملك كعدو! أشعر ببعض الراحة الآن! يبدو أنني بدأت أتجاوز هذا الحدث، يبدو أن الهدوء العام قد أكسبني بعض الطمأنينة، يبدو أننا بخير، وكل شيء بخير، وأنَّ أقصى ما يمكن أن يحدث، هو بعض القليل، والكثير من الجدال، وانتهت الحكاية، وتعود عُمان إلى سائر وقتها وأيامها، غامضة في وضوحها، وواضحة في غموضها!
 

أيه يا عُمان! أيتها اللغز الذي يُحبُّ ولا يُحل!